الباب العاشر: طبقات الأطباء العراقيين وأطباء الجزيرة وديار بكر: أمين الدولة بن التلميذ

هو الأجل موفق الملك أمين الدولة أبو الحسن هبة اللّه بن أبي العلاء صاعد بن إبراهيم بن التلميذ أوحد زمانه في صناعة الطب، وفي مباشرة أعمالها، ويدل على ذلك ما هو مشهور من تصانيفه وحواشيه على الكتب الطبية، وكثرة من رأيناه ممن قد شاهده، وكان ساعور البيمارستان العضدي ببغداد إلى حين وفاته، وكان في أول أمره قد سافر إلى بلاد العجم،وبقي بها وهو في الخدمة سنيناً كثيرة، وكان جيد الكتابة يكتب خطاً منسوباً، وقد رأيت كثيراً من خطه وهو في نهاية الحسن والصحة، وكان خبيراً باللسان السرياني والفارسي متبحراً في اللغة العربية وله شعر مستطرف، حسن المعاني، إلا أن أكثر ما يوجد له البيتان أو الثلاثة وأما القصائد فلم أجد له منها إلا القليل، وكان أيضاً يترسل، وله ترسل كثير جيد، وقد رأيت له من ذلك مجلداً ضخماً كله يحتوي على إنشاء ومراسلات وأكثر أهله كتّاب،وكان والد أمين الدولة وهو أبو العلاء صاعد طبيباً فاضلاً مشهوراً، وكان أمين الدولة وأوحد الزمان أبو البركات في خدمة المستضيء بأمر اللّه، وكان أبو البركات أفضل من ابن التلميذ في العلوم الحكمية وله فيها كتب جليلة، ولو لم يكن له إلا كتابه المعروف بالمعتبر لكفى، فأما ابن التلميذ فكان أكثر تبصره بصناعة الطب واشتهر بها، وكان بينهما شنآن وعداوة، إلا أن ابن التلميذ كان أوفر عقلاً وأخير طباعاً من أبي البركات،ومن ذلك أن أوحد الزمان كان قد كتب رقعة يذكر فيها عن ابن التلميذ أشياء يبعد جداً أن تصدر عن مثله، ووهب لبعض الخدم شيئاً واستسره أن يرميها في بعض طرق الخليفة من حيث لا يعلم بذلك أحد، وهذا مما يدل على شر عظيم، بعد ذلك رجع إلى رأيه وأشير عليه أن يبحث ويستأصل عن ذلك، وأن يستقر من الخدم من يتهمه بهذا الفعل، ولما فعل ذلك انكشف له أن أوحد الزمان كتبها للوقيعة بابن التلميذ، فحنق عليه حنقاً عظيماً ووهب دمه وجميع ماله وكتبه لأمين الدولة بن التلميذ، ثم أن أمين الدولة كان عنده من كرم الطباع وكثرة الخيرية أنه لم يتعرض له بشيء، وبعد أوحد الزمان بذلك عن الخليفة وانحطت منزلته ومن مطبوع ما لأمين الدولة فيه، قوله

لنا صديق يهودي حماقـتـه

 

إذا تكلم تبدو فيه من فـيه

يتيه والكلب أعلى منه منزلة

 

كأنه بعد لم يخرج من التيه

ولبعضهم في أمين الدولة وأوحد الزمان

أبو الحسن الطبيب ومقتـفـيه

 

أبو البركات في طرفي نقيض

فهذا بالتواضع فـي الـثـريا

 

وهذا بالتكبر في الحضـيض

ونقلت من خط الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي فيما حكاه عن الأجل أمين الدولة بن التلميذ قال كان أمين الدولة حسن العشرة، كريم الأخلاق، عنده سخاء ومروءة، وأعمال في الطب مشهورة، وحدوس صائبه، منها أنه أحضرت إليه امرأة محمولة لا يعرف أهلها في الحياة هي أم في الممات، وكان الزمان شتاء، فأمر بتجريدها وصب الماء المبرد عليها صباً متتابعاً كثيراً، ثم أمر بنقلها إلى مجلس دفيء قد بخر بالعود والند، ودثرت بأصناف الفراء ساعة، فعطست وتحركت وقعدت وخرجت ماشية مع أهلها إلى منزلها، قال ودخل إليه رجل منزف يعرق دماً في زمن الصيف، فسأل تلاميذه وكانوا قدر خمسين نفساً فلم يعرفوا المرض، فأمره أن يأكل خبز شعير مع باذنجان مشوي، ففعل ذلك ثلاثة أيام فبرأ، فسأله أصحابه عن العلة فقال إن دمه قد رق ومسامه قد تفتحت، وهذا الغذاء من شأنه تغليظ الدم وتكثيف المسام قال ومن مروءته أن ظهر داره كان يلي النظامية، فإذا مرض فقيه نقله إليه، وقام في مرضه عليه، فإذا أبل وهب له دينارين وصرفه،ومما حكاه أيضاً عن أمين الدولة بن التلميذ وكأنه قد تجاوز في هذه الحكاية قال وكان أمين الدولة لا يقبل عطية إلا من خليفة أو سلطان، فعرض لبعض الملوك النائية داره مرض مزمن فقيل له ليس لك إلا ابن التلميذ، وهو لا يقصد أحداً فقال أنا أتوجه إليه، فلما وصل أفرد له ولغلمانه دوراً وأفاض عليه من الجرايات قدر الكفاية، ولبث مدة فبرئ الملك وتوجه إلى بلاده وأرسل إليه مع بعض التجار أربعة آلاف دينار وأربعة تخوت عتابي وأربعة مماليك وأربعة أفراس، فامتنع من قبولها وقال علي يميناً أن لا أقبل من أحد شيئاً فقال التاجر هذا مقدار كثير قال لما حلفت ما استثنيت، وأقام شهراً يراوده ولا يزداد إلا إباءً، فقال له عند الوداع ها أنا أسافر ولا أرجع إلى صاحبي، وأتمتع بالمال فتتقلد منته، وتفوتك منفعته، ولا يعلم أحد بأنك رددته، فقال ألست أعلم في نفسي أني لم أقبله، فنفسي تشرف بذلك، عَلِم الناس أو جهلوا.

وحدثني الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي، قال حدثني الشيخ موفق الدين أسعد بن الياس بن المطران، قال حدثني أبي حدثني إسماعيل بن رشيد قال؛ حدثني أبو الفرج بن توما وأبو الفرج المسيحي، قالا كان الأجل أمين الدولة بن التلميذ جالساً ونحن بين يديه إذ استأذنت عليه امرأة ومعها صبي صغير، فأدخلت عليه، فحين رآه بدرها، فقال أن صبيك هذا به حرقة البول، وهو يبول الرمل، فقالت نعم، قال فيستعمل كذا وكذا وانصرفت، قالا فسألناه عن العلامة الدالة على أن به ذلك، وأنه لو أن الآفة في الكبد أو الطحال لكان اللون من الاستدلال مطابقاً، فقال حين دخل رأيته يولع بإحليله ويحكه، ووجدت أنامل يديه مشققة قاحلة، فعلمت أن الحكمة لأجل الرمل، وأن تلك المادة الحادة الموجبة للحكة والحركة ربما لا مست أنامله عند ولوعه بالقضيب فتقحل وتشقق، فحكمت بذلك وكان موافقاً.

ومن نوادر أمين الدولة وحسن إشاراته إنه كان يوماً عند المستضيء بأمر اللّه، وقد أسن أمين الدولة، فلما نهض للقيام توكأ على ركبتيه، فقال له الخليفة كبرت يا أمين الدولة، فقال نعم يا أمير المؤمنين، وتكسرت قواريري، ففكر الخليفة في قول أمين الدولة وعلم أنه لم يقله إلا لمعنى قد قصده وسأل عن ذلك فقيل له إن الإمام المستنجد باللّه كان قد وهبه ضيعة تسمى قوارير وبقيت في يده زماناً، ثم من مدة ثلاث سنين حط الوزير يده عليها، فتعجب الخليفة من حسن أدب أمين الدولة، وأنه لم ينه أمرها إليه ولا عرض بطلبها ثم أمر الخليفة بإعادة الضيعة إلى أمين الدولة، وأن لا يعارض في شيء من ملكه. ومن نوادره إن الخليفة كان قد فوض إليه رئاسة الطب ببغداد، ولما اجتمع إلىه سائر الأطباء ليرى ما عند كل واحد منهم من هذه الصناعة، كان من جملة حضره شيخ له هيئة ووقار وعنده سكينة، فأكرمه أمين الدولة وكانت لذلك دربة ما بالمعالجة، ولم يكن عنده من علم صناعة الطب إلا التظاهر بها، فلما انتهى الأمر إليه قال له أمين الدولة ما السبب في كون الشيخ لم يشارك الجماعة فيما يبحثون فيه حتى نعلم ما عنده من هذه الصناعة؟ فقال يا سيدنا، وهل شيء مما تكلموا فيه إلا وأنا أعلمه، وقد سبق إلى فهي أضعاف ذلك مرات كثيرة؟ فقال له أمين الدولة فعلى من كنت قد قرأت هذه الصناعة؟ فقال الشيخ يا سيدنا إذا صار الإنسان إلى هذه السن ما يبقى يليق به إلا أن يسأل كم له من التلاميذ، ومن هو المتميز فيهم، وأما المشايخ الذين قرأت عليهم فقد ماتوا من زمان طويل، فقال له أمين الدولة يا شيخ، هذا شيء قد جرت العادة به ولا يضر ذكره، ومع هذا، فما علينا، أخبرني أي شيء قد قرأته من الكتب الطبية؟ وكان قصد أمين الدولة أن يتحقق ما عنده، فقال سبحان اللّه العظيم، صرنا إلى حد ما يسأل عن الصبيان، وأي شيء قد قرأته من الكتب، يا سيدنا لمثلي ما يقال إلا أي شيء صنفته في صناعة الطب، وكم لك فيها من الكتب والمقالات؟ ولا بد إنني أعرفك بنفسي، ثم إنه نهض إلى أمين الدولة ودنا منه وقعد عنده، وقال له، فيما بينهما يا سيدي، إعلم أنني قد شخت وأنا أوسم بهذه الصناعة، وما عندي منها إلا معرفة اصطلاحات مشهورة في المداواة، وعمري كله أتكسب بها، وعندي عائلة، فسألتك باللّه ياسيدنا مشي حالي ولا تفضحني بين هؤلاء الجماعة، فقال أمين الدولة على شريطة، وهي أنك لا تهجم على مريض بما تعلمه، ولا تشير بفصد ولا بدواء مسهل إلا لما قرب من الأمراض، فقال الشيخ هذا مذهبي منذ كنت، ما تعديب السكنجبين والجلاب، ثم إن أمين الدولة قال له معلناً، والجماعة تسمع يا شيخ، اعذرنا فإننا ما كنا نعرفك، والآن قد عرفناك، استمر فيما أنت فيه، فإن أحداً ما يعارضك، ثم إنه عاد بعد ذلك فيما هو فيه مع الجماعة، وقال لبعضهم على من قرأت هذه الصناعة وشرع في امتحان، فقال يا سيدنا، أنا من تلامذة هذا الشيخ الذي قد عرفته، وعليه كنت قد قرأت صناعة الطب، ففطن أمين الدولة بما أراد من التعريض بقوله، وتبسم ثم امتحنه بعد ذلك.

وكان لأمين الدولة بن التلميذ أصحاب وجماعة يترددون إليه، فلما كان في بعض الأيام أتى إليه ثلاثة، منجم، ومهندس، وصاحب أدب، فسألوا عن أمين الدولة غلامه قنبر، فذكر له أن سيده ليس في الدار، وأنه لم يأت في ذلك الوقت، فراحوا، ثم إنهم عادوا في وقت آخر، وسألوه عنه، فذكر لهم مثل قوله الأول، وكان لهم ذوق من الشعر فتقدم المنجم وكتب على الحائط عند باب الدار

قد بلينا في دار أسعد قوم، بمدبر

ثم كتب المهندس بعده

بقصير مطول

 

وطويل مقصر

ثم تقدم صاحب الأدب وكان عنده مجون فكتب

كم تقولون قنْـبـراً

 

دحرجوا رأس قنْبرَ

ومضوا، فلما جاء أمين الدولة قال له قنبر يا سيدي جاء ثلاثة إلى ها هنا يطلبونك، ولما لم يجدوك، كتبوا هذا على الحائط، فلما قرأه أمين الدولة قال لمن معه يوشك أن يكون هذا البيت الأول خط فلان المنجم؛ وهذا البيت الثاني خط فلان المهندس؛ وهذا الثالث خط فلان صاحبنا، فإن كل بيت يدل على شيء مما يعانيه صاحبه، وكان الأمر كما حدسه أمين الدولة سواء، وكانت دار أمين الدولة هذه يسكنها ببغداد في سوق العطر مما يلي بابه المجاور لباب الغربة من دار الخلافة المعظمة، بالمشرعة النازلة إلى شاطئ دجلة.

وقال أمين الدولة بن التلميذ فكرت يوماً في أمر المذاهب فرأيت هاتفاً في النوم وهو ينشدني

أعوم في بحرك علي أرى

 

فيه لما أطلبـه قـعـرا

فما أرى فيه سوى موجة

 

تدفعني عنها إلى أخـرى

وحدثني سعد الدين بن أبي السهل البغدادي العواد، وكان قد عمر، قال رأيت أمين الدولة بن التلميذ واجتمعت به، وكان شيخاً ربع القامة، عريض اللحية، حلو الشمائل كثير النادرة، قال وكان يحب صناعة الموسيقى وله ميل إلى أهلها. وحدثني سديد الدين محمود بن عمرو، رحمه اللّه، قال حدثني الإمام فخر الدين محمد بن عبد السلام المارديني وكان صديقاً لأمين الدولة وعاشره مدة، قال كان الأجل أمين الدولة بن التلميذ من المتميزين في العربية، وكان يحضر مجلسه في صناعة الطب خلق كثير يقرؤون عليه، وكان اثنان من النحاة يلازمان مجلسه ولهما منه الإنعام والإفتقاد، فكان من يجده من المشتغلين عليه يلحن كثيراً في قراءته، أو هو ألكن يترك أحد ذينك النحويين يقرأ عنه وهو يسمع، ثم يأمر ذلك التلميذ أيضاً بأن يقرر للنحوي شيئاً يعطيه إياه عن قراءته عنه، وكان لأمين الدولة ولد، ولم يكن مدركاً لصناعة الطب، وكان في سائر أحواله بعيداً عما كان عليه أمين الدولة، ولأمين الدولة فيه

أشكو إلى اللّه صاحباً شكساً

 

تسعفه النفس وهو يعسفها

فنحن كالشمس والهلال معاً

 

تكسبه النور وهو يكسفها

وكان أمين الدولة يؤنب ولده أيضاً بهذا البيت

والوقت أنفس ما عنيت بحفظه،

 

وأراه أسهل ما عليك يضـيع

وحدثني الشيخ الإمام رضي الدين الطبيب الرحبي رحمه اللّه قال اجتمعت في بغداد بابن أمين الدولة، فلما جرى بيننا حديث قال في سياقة كلامه إن في السماء من الجانب الجنوبي مثقباً تطلع فيه الأدخنة، وتنزل منه الأرواح، وبدت منه أشياء كثيرة من هذا القبيل ظهر بها أن ليس عنده شيء من تحقيق العلم، ولا له فطرة سليمة.

وحدثني الشيخ السني البعلبكي الطبيب قال راح من عندنا من دمشق ثلاثة من أطباء النصارى إلى بغداد، سماهم، فلما أقاموا بها سمعوا بابن أمين الدولة فقالوا سمعة والده عظيمة، والمصلحة أننا نروح إليه، ونسلم عليه ونخدمه، ونكون قد اجتمعنا به قبل السفر إلى الشام، فقصدوا داره ودخلوا إليه وسلموا وعرفوه أنهم نصارى، وإن قصدهم التشرف برؤيته، فأكرمهم وأجلسهم عنده، قال السني فحدثوني أنه تبين لهم سخافة عقل وضعف رأي، وذلك أنه من جملة ما حدثهم أنه قال يقولون أن الشام مليح؛ ودمشق طيبة، وأنا قد عزمت أن أبصرها، إلا أنني أعمل من حيث العلم والهندسة شيئاً أكون إذا سافرت إليها يكون بسهولة، ولا أجد كلفة، قالوا فقلنا له يا سيدنا، كيف تعمل؟ فقال أما تعلمون أن الشام منخفض عن إقليم بغداد وأنه مستقل عنه، وذلك مذكور في علم الهيئة وارتفاع المواضع بعضها عن بعض، فقلنا نعم يا سيدنا، فقال أستعمل عجلاً من الخشب ببكر كبار، ويكون فوقهم دفوف مبسوطة مسمرة؛ واجعل فوقهم جميع ما أحتاج إليه؛ وإذا أطلقنا العجل تروح بالبكر بسرعة في الانحدار، ولا نزال كذلك إلى أن نصل إلى دمشق بأهون سعي، قالوا فتعجبنا من غفلته وجهله، ثم قال واللّه ما تروحون حتى أضيفكم وتأكلون عندي طعاماً، وصاح بالفراش فأحضر سفرة فاخرة ومد عليها رقاقاً رفيعاً أبيض لا يكون شيء أحسن منه، كأنه النصافي البغدادية، وهناباً فيه خل وهندباً منقاة جعلها حواليه، ثم قال بسم اللّه كلوا، قالوا فأكلنا شيئاً يسيراً إذ هو على خلاف عادتنا في الأكل، ثم رفع يديه وقال يا غلام هات الطست، فأحضر طستاً مفضضاً وقطعة صابون رقى كبيرة؛ وسكب عليه الماء وهو يغسل يديه فأرغى الصابون ثم مسح به فمه ووجهه ولحيته، حتى بقيت عيناه ووجهه ملآن من ذلك الصابون وهو أبيض، ونظر إلينا، قالوا وكان منا فلان لم يتمالك أن ضحك وزاد عليه وقام فخرج من عنده، فقال ما لهذا؟ فقلنا له يا سيدنا هذا فيه خفة عقل وهذه عادته، فقال لو أقام عندنا داويناه، فتعجبنا منه ثم ودعناه وانصرفنا، ونحن نسأل اللّه العافية مما كان فيه من الجهل، وحدث بعض العراقيين أن أمين الدولة مات، لصديق له ولد، وكان ذا أدب وعلم، ولم يعزه أمين الدولة، فلما اجتمع به بعد ذلك عتب عليه إذ لم يعزه عن ولده للمودة التي بينها، فقال أمين الدولة لا تلمني في هذا، فواللّه أنا أحق بالتعزية منك، إذ مات ولدك وبقي مثل ولدي،ووجدت كلاماً لأمين الدولة في ضمن رسالة كتبها إلى ولده، وكان يعرف برضي الدولة أبي نصر قال والتفت بذهنك عن هذه الترهات إلى تحصيل مفهوم تتميز به، وخذ نفسك من الطريقة بما كررت تنبيهك عليه، وإرشادك إليه، واغتنم الإمكان، واعرف قيمته، وتشاغل بشكر اللّه تعالى عليه، وفز بحظ نفيس من العلم تثق من نفسك بأن عقلته وملكته، لأقرأته ورويته، فإن بقية الحظوظ تتبع هذا الحظ المذكور وتلزم صاحبه، ومن طلبها من دونه، فإما أن لا يجدها، وإما أن لا يعتمد عليها إذا وجدها ولا يثق بدوامها، وأعوذ باللّه أن ترضى لنفسك إلا بما يليق بمثلك أن يتسامى إليه بعلو همته، وشدة أنفته، وغيرته على نفسه، ومما قد كررت عليك الوصاة به أن لا تحرص على أن تقول شيئاً لا يكون مهذباً في معناه ولفظه، ويتعين عليك إيراده، فأما معظم حرصك فتصرفه إلى أن تسمع ما تستفيده لا ما يلهيك ويلذ للأغمار وأهل الجهالة، نزهك اللّّه عن طبقتهم، فإن الأمر كما قال أفلاطن الفضائل مرة الورد حلوة الصدر، والرذائل حلوة الورد مرة الصدر، وقد زاد أرسطو طاليس في هذا المعنى فقال إن الرذائل لا تكون حلوة الورد عند ذي فطرة فائقة، بل يؤذيه تصور قبحها أذى يفسد عليه ما يستلذه غيره منها، وكذلك يكون صاحب الطبع الفائق قادراً بنفسه على معرفة ما يتوخى وما يجتنب، كالتام الصحة يكفي حسه في تعريفه النافع والضار، فلا ترض لنفسك، حفظك اللّه، إلا بما تعلم أنه يناسب طبقة أمثالك، وأغلب خطرات الهوى بعزمات الرجال الراشدين؛ واطح بنفسك إليها تتركك في طاعة عقلك، فإنك تسر بنفسك وتراها في كل يوم مع اعتماد ذلك في رتبة علية، ومرقاة من سماء في السعادة.

وكانت وفاة أمين الدولة ببغداد في الثامن والعشرين من شهر ربيع الأول سنة ستين وخمسمائة، وله من العمر أربع وتسعون سنة، ومات نصرانياً، وخلف نعماً كثيرة وأموالاً جزيلة، وكتباً لا نظير لها في الجودة، فورث جميع ذلك ولده وبقي مدة، ثم إن ولد أمين الدولة خنق في دهليز داره الثلث الأول من الليل، وأخذ ماله، ونقلت كتبه على اثني عشر جملاً إلى دار المجد بن الصاحب، وكان ابن أمين الدولة قد أسلم قبل موته، وقيل إنه كان شيخاً قد ناهز الثمانين سنة،ووجدت في أثناء كتاب كتبه السيد النقيب الكامل بن الشريف الجليل إلى أمين الدولة بن التلميذ وهو يمتدحه فيه بهذه القصيدة

أمـين الـــدولة أســـلـــم لـــلأيادي

علـي رغـم الـمـنـاوي والـمـعـــادي

ولـلـمـعـروف تـنــشـــره إذا مـــا

طواه تـنـاوب الـنـــوب الـــشـــداد

فأنـت الـمـرءُ تُـلـفـى، حـين تـدعــى،

جواداً بـالـطــريف وبـــالـــتـــلاد

وصـولاً لـلـخـلـيل عـلـى الـتـنــائي،

ودوداً لا يحـــول عـــن الــــــوداد

سديد الـــرأي والأقـــوال تـــأبـــى

نهـاه أن يمـــيل عـــن الـــســـداد

ساشـكـر مـا صـنـعــت مـــن الأيادي

إلـيّ عـلـى الـتـدانـي والـبـــعـــاد

وأثـنـي، والـثـنـاء عـلـــيك حـــق،

بمـا أولـيتـنـي فـــي كـــل نـــادي

وهـل شـكـري عـلـى مـر الـلـيالـــي

ينـال مــدى ولائي واعـــتـــقـــادي

دعـوتـك، والـزمــان بـــه حـــران،

فأمـسـى وهـو لـي سـهـل الــقـــياد

اديه فـيسـمـعـــنـــي، وقـــدمـــاً

تجـانـب لـي أصـم عـن الـمــنـــادي

وكم من منة لك لا توازي

  بلا مَنٍّ لدي ولا اعتداد

ومن بيضاء قد عمرت بقلبي

محـلـك مـنـه فـي أقـصــى ســـواد

أرى الأشـواق نـحـوك فـــي فـــؤادي

كمـثـل الـنـار فـي حـجـر الـزنـــاد

متـى ولـعـت بــه ذكـــراك كـــادت

لحـر الـوجـد تـلـفـظـنــي بـــلادي

تحـن ركـائبــي وأحـــن شـــوقـــاً

إذا خـطـر الـلـقـاء عـلــى فـــؤادي

وأطـمـع فـي الـرقـــاد رجـــاء زور

يلـم، وأين طــرفـــي والـــرقـــاد

سأبـعـثـهـا تـثـير الــبـــيد وخـــداً

وتـعـتـسـف الـظـلام بـغـير هـــادي

لو ان الـنـجــم جـــاراهـــا دلـــيلاً

تحـير أو شـكـا طـول الــســـهـــاد

تلـفـت بـــي إلـــى الـــزوراء زوراً

كما الـتـفـتـت إلـى الـمـاء الـصـوادي

ولـو أن الـزمـان جـرى، ومـــن لـــي

بان يجـري الـزمـان عـلــى مـــرادي

وأمـكـنـنـي الـمـزار لـمـا عـدتـنــي

وحـقـك، عـن زيارتـك الـــعـــوادي

فمن لي، أن تسيرني المطـايا

إليك، ولو سريت بـغـير زاد

أقول لصاحب لم يدر جـهـلاً

أغيي ما تحـاول أم رشـادي

إذا واليت فانظر من تـوالـي

وإن عاديت فانظر من تعادي

ودعني والثناء علـى مـبـر

عرفت به صلاحي من فسادي

على متوحد في الفضـل سـام

إلى أمد العلي، مبنـي الأيادي

أخي حكم، شواهدهـا عـلـيه

بواد في الحواضر والبـوادي؛

إذا ما قِيسَ فصرَّ عنـه قـس

وقس ما علـمـنـا فـي إياد

وإن جاورته، جاورت عـيثـاً

يذوب نداه في العام الجـمـاد

أو استنجدته، أعـداك مـنـه

أخو عزم على الأيام عـادي،

جواد بالـذي تـحـوي يداه إذا

نودي ألا هـل مـن جــواد

يجيبك قبـل أن تـدعـو نـداه

ويكفي كل حـادثة بـنـادي،

أخو كرم يقل العـتـب فـيه

وإفضال تقـر بـه الأعـادي

وأخلاق كمثل الراح شـيبـت

بمشمول من الصفو الـبـراد

بأدنى سعيه حاز المـعـالـي

وأخفق غيره بعد اجـتـهـاد

وفي الغايات أن لز المذاكـي

تبَين المقرفات مـن الـجـياد

أبا الحسن استمع مني ثـنـاء

حلا، فخلا من المعنى المعاد

كأنفاس الرياض سرت عليهـا

صبا، فتعطرت غب العهـاد

أنادي فيه باسمك، والقـوافـي

تؤرج لا بسُعدي أو سـعـاد

وقد عرضته لك مسـتـجـيراً

بعدلك فيه من جور انتـقـاد

ومثلك من رأى قصد القوافـي

إليه، وقال فيها باقـتـصـاد

جزيت الصالحات، فأنت أهـل

لها؛ وسقيت أنواء الـغـوادي

ودمت على الزمان، وكل شيء

على مر الزمان إلى نـفـاد

وقال الشريف أبو يعلى محمد بن الهبارية العباسي من قصيدة يمدح بها الأجل أمين الدولة بن التلميذ يقول فيها

يا بني التلميذ لو وافيتكم لم تكن نفسي بأهلي شـغـفـه

وتسليت بكم عن صبيتي، وغدا وسطي ثقيل المنصـفـه

إنما طلقت كرمان بكم، أنكم لي عوض، مـا أشـرفـه

برئيس الحكماء المرتجى، إنه لي جـنة مـخـتـرفـه

عوقتني عن عميد الملك، دنياي، ودنياي ظلوم مجحـفـه

لو رآني هبة اللّه، أبو الحسن، الأوحد كانت مـتـحـفة

فهو من نخلة دهري طلعة حلوة الطعم وكلٌّ حـشـفـه

غدت الدنيا، ومن فيها معاً، لعلاه بالعلي مـعـتـرفـه

فأماني الورى، كلهم، من أيادي جـوده مـغـتـرفـه

وبأبراد معالي ظله، من تصاريف الردى، ملتـحـفـه

شمس مجد لا تراها أبداً، عن سموات العلى، منكسـفـه

جل أن يدرك وصفاً مجده أنه أكبر مـن كـل صـفـه

فهو غدر الدهر، بل إحسانه، والبرايا يبسات قـشـفـه

لو تمكنت لكانت جملتي، في زوايا داره معـتـكـفـه

سن، في دنيا المعالي، سنناً أصبحت معجبة مستظرفـه

فيه تفتخر الدنيا التي أصبحت من غيره مستـنـكـفـه

سيدي، كم غمة جليتها فغدت ظلمتهـا مـنـكـشـفـه

وأياد جمة أوليتها بـيد، مـا بـرحـت مـرتـشـفـه

نثرت منك بروق لم تكن، حين شمناها، بروقاً مخلـفـه

وتراءى منك بر شكره، معجز كـل لـسـان وشـفـه

إنما أحبو بني التلميذ بالمدح إذ كـلـهـم ذو مـعـرفة

فابن يحيى منه محيي الندى زاد في الجود على مَن خلفه

وهو في الفضل له الفضل على كل من أنكره أو عرفه،

حقق الكنية من والده كرمـا فـيه وطـبـعـاً ألـفـه

وهم من صاعد عن سادة، بأبي، مجدهم مـا أنـظـفـه

لا تقسهم بالورى كلهم فتقس ليث الشرى بالجـعـدفـه

فابن إبراهيم، لاهوت العلى، من دعاه بشراً ما أنصفـه

يا رئيس الحكماء استجلها من بنات الفكر بكرا متـرفـه

إنني أنفذت نخلي قاصداً، اشكتي دهراً قليل النـصـفـه

وبإنعامك قد عللتها أنه يجلو الخطـوب الـمـغـدقـه

فابق للمجد ثمالاً ما رغت لغباً جسرة سار مـوجـفـه

كم لكم من نعمة تالدة، تترجى أختـهـا الـمـطـرفة

جددوا إيرادها، يا سادتي بأياد مـنـكـم مـؤتـنـفـه

وكتب أبو إسماعيل الطغرائي إلى أمين الدولة بن التلميذ

يا سيدي، والـذي مـودتـه

 

عندي روح يحيا بها الجسد،

من ألم الظهر أستغيث وهل

 

يألم ظهر إليك يسـتـنـد؟

وكان محمد بن جكينا قد مرض وزاره أمين الدولة فقال فيه ابن جكينا

قصدت ربعي، فتعالـى بـه

 

قدري، فدتك النفس من قاصد

فما رأى العالم، من قبلـهـا،

 

بحراً مشى قـط إلـى وارد

وكان بعض الشعراء ببغداد أتى إلى أمين الدولة وشكى حاله واستوصفه فوصف ما يصلح للمرض الذي شكاه، ثم دفع له صرة فيها دنانير وقال له هذه تصلح بها مزوَّرة زيرباج فأخذها وبرأ بعد أيام فكتب إليه

أتيته أشتكي وبي مـرض

 

إلى التداوي والرفد محتاج

فقلت، إذ برني وأبرانـي

 

هذا طبيب عليه زربـاج

ومن كلام أمين الدولة بن التلميذ، حدثني سديد الدين بن رقيقة، قال؛ حدثني فخر الدين المارديني، قال كان يقول لنا أمين الدولة لا تقدِّروا، إن أكثر الأمراض تحيطون بها خبرة، فإن منها ما يأتيكم من طريق السماوة، وكان يقول أيضاً متى رأيت شوكة في البدن ونصفها ظاهر فلا تشترط أنك تقلعها، فإنها ربما انكسرت.

ومن كلامه قال ينبغي للعاقل أن يختار من اللباس ما لا تحسده عليه العامة، ولا تحقره فيه الخاصة،ومن شعر الأجل أمين الدولة بن التلميذ، وهو مما أنشدني مهذب الدين أبو نصر محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر الحلبي مما سمعه من والده قال أنشدني أمين الدولة بن التلميذ لنفسه

حبي سعيداً جوهرا ثابت،

 

وحبه لي عـرض زائل،

به جهاتي ألست مشغـولة

 

وهو إلى غيري بها مائل،

وأنشدني أيضاً قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه

إذا وجد الشيخ في نفـسـه

 

نشاطاً، فذلك موت خفـي

ألست ترى أن ضوء السراج

 

له لهب قبل أن ينطـفـي

وأنشدني أيضاً قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه

تعس القياس فللغرام قضـية

 

ليست على نهج الحجى تنقاد

منها بقاء الشوق وهو بعرفنا

 

عرض وتفنى دونه الأجساد

وأنشدني أيضاً قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه في الوزير الدركزيني

قالوا فلان قد وزر

 

فقلت كلا لا وزر

واللّه لو حكمت فيه

 

جعلته يرعى البقر

وأنشدني أيضاً قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه

قال الأنام، وقد رأوه

 

مع الـحداثة، قد تـصـدر

من ذا المجاوز قدره؟

 

قلت المقدم بالمؤخر،

 

وأنشدني أيضاً قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه

 

 

قد قلت للشيخ الجليل

 

الأريحي أبي الـمظفر

ذكرّ فلان الدين بي،

 

قال المؤنثْ لا يذكـر

وأنشدني أيضاً قال أنشدني والدي، قال أنشدني المذكور لنفسه لغزا في السمك

لبس الجواشن خوف الـردى

 

وعلين فوق الرؤوس الخوذ،

فلما أتاها الردى أهلـكـت،

 

بشم نسيم الهوا المستـلـذ،

ومن شعر أمين الدولة بن التلميذ أيضاً قال

سق النفس بالعلم نحو الكمال،

 

تواف السعادة من بابـهـا؛

ولا ترج ما لم تسبـب لـه،

 

فإن الأمور بأسـبـابـهـا

وقال أيضاً

لولا حجاب أمام النفس يمنعـهـا

 

عن الحقيقة فيما كان في الأزل،

لأدركت كل شيء عزّ مطلـبـه

 

حتى الحقيقة في المعلول والعلل،

وقال أيضاً

العلم للرجل اللـبـيب زيادة،

 

ونقيصة للأحمق الطـياش،

مثل النهار يزيد أبصار الورى

 

نوراً، ويغشى أعين الخفاش

وقال أيضاً

بزجاجتين قطعت عمري،

 

وعليهما عولت دهـري

بزجاجة ملئت بـحـبـر،

 

وزجاجة ملئت بخمـر،

فبذي أثبَّت حكـمـتـي،

 

وبذي أزيل هموم صدري

وقال أيضاً

واضع كالبدراسـتـنـار لـنـاظ

 

على صفحات الماء، وهو رفـيع

ومن دونه، يسمو إلى المجد صاعداً،

 

سمو دخان النـار وهـو وضـيع

وقال أيضاً  

إذا كنت محموداً فإنك مـرمـد

 

عيون الورى، فأكحلهم بالتواضع

وقال أيضاً:

لا تحقرن عدواً لان جانـبـه

 

ولو يكون قليل البطش والجلد

فللذبابة في الجرح الممـدّ يدٌ

 

تنال ما قصرت عنه يد الأسد

وقال أيضاً:

نفس الكريم الجـواد بـاقـية

 

فيه، وإن مس جلده لعجـف

والـحـرحـر وإن ألـم بـه

 

الضر ففيه العفاف والأنـف

والنذل لا يهتدي لـمـكـرمة

 

لأن ذاك المزاج منـحـرف

فالقطر سم إن احتواه فم الصل

 

ودر إن ضمـه الـصـدف

وقال أيضاً:

كانت بلهنية الشـبـيبة سـكـرة

 

فصحوت، فاستأنفت سيرة مجمل؛

وقعدت أرتقب الفنـاء كـراكـب

 

عرف المحل فبات دون المنـزل

وقال أيضاً

قالوا شباب الفتى خـؤون

 

والشيب واف فليس يرحل

فقلت أبعـدتـم قـياسـاً

 

ذاك حبيب، وذا مـوكـل

وقال أيضاً

وأرى عيوب العالمـين ولا أرى

 

عيباً لنفسي وهو منـي قـريب

كالطرف يستجلي الوجوه ووجهه

 

منه قريب وهو عنه مـغـيب

وقال أيضاً

أجدَّك، إن من شيم الليالي العنيفة أن تجور على اللهيف،

 

كمثل الخلط أغلب ما تراه

 

يصب أذاه في العضـو الضعيف

وقال أيضاً

كأس يُطفي لهب الأوام

 

ثان يعين هاضم الطعام

وللسرور ثالث المـدام،

 

والعقل ينفيه مزيد جام

وقال أيضاً

يامن رماني، عن قوس فرقته

 

بسهم هجر غـلا تـلافـيه

أرض لمن غاب عنك غيبتـه

 

فذاك ذنب عقـابـه فـيه؛

لو لم ينله من العذاب سـوى

 

بعدك عنه لكـان يكـفـيه

وقال أيضاً

عاتبت إذ لم يزر خـيالـك

 

والنوم بشوقي إليه مسلوب

فزارني منعماً وعاتبـنـي

 

كما يقال المنام مقـلـوب

وقال أيضاً

لسيف جفونك فضـل على

 

مواضي السيوف التي في الجفون،

فتلك، مع القتل، لا تستطيع رجع النفوس بدفع المنون

 

 

وعيناك يقتلني شزرها

 

وأحيا بإيماضها في سكون

وقال أيضاً

تمت محاسنه سوى كلف

 

حلو المواقع، زانه بشر

وسموا به لألآء غرتـه

 

عمداً ليعلم أنـه بَـدْرُ

وقال أيضاً

لا تحسبنَّ سواد الخال عن خلل

 

من الطبيعة، أو إحداثه غلطا

وإنما قلم التصوير حين جرى

 

بنون حاجبه، في خده نقطـا

وقال أيضاً

أبصره عاذلـي عـلـيه

 

ولم يكن قـبـلـه رآه،

فقال لي لو عشقت هـذا

 

ما لامك الناس في هواه،

قل لي إلى من عدلت عنه

 

وليس أهل الهوى سـواه

فظل من حيث ليس يدري

 

يأمر بالعشق من نـهـاه

وقال أيضاً

يا من لبست عليه أثواب الضنا

 

صفراً مشهَّرة بحمر الأدمع

أدرك بقية مهجة لو لم تـدوم

 

شوقاً إليك، نفيتها عن أضلعي

وقال أيضاً

أنت شغلي في كل حال، فنومي

 

بخيال، ويقظتـي بـادِّكـار،

طال ليلي بطول هجرك، لا دا

 

م، وشوقي إلى الليالي القصار

وقال أيضاً

براني الهوى بري المدى فـأذابـنـي

 

صدودك، حتى صرت أنحل من أمس

ولست أرى حـتـى أراك، وإنـمـا

 

يبين هباء الذر في أفق الـشـمـس

وقال أيضاً

وغزال، فاق الغزالة حـسـنـاً

 

فاتر الطرف ذي جفون مراض

قال إذ رمته أنالـك سـخـطـاً

 

ليته قالها بـصـفـحة راض

وقال أيضاً

لئن تعوضت عن وصلي بمطرف

 

فلا تظنن أني غير معـتـاض

إني بعزة نفس أنت تعـرفـهـا

 

لسابق سلوة السالي بـإعـراض

وقال أيضاً

قد كنت أعتد حينـاً

 

لقياك أنفس ربـح

فقد بدت عن سلـو

 

سماء عقلي تصحي

مالي أهيم بحـسـن

 

يكون علة قـبـح

وقال أيضاً

لو كان يحسن غصن البان مشيتـهـا

 

تأوداً، لمشاها غـير مـحـتـشـم

في صدرها كوكبا نور أقلـهـمـا

 

ركنان لم يدنوا من كف مسـتـلـم

صانتهما في حرير من غـلائلـهـا

 

فنحن في الحل، والركنان في الحرم

وقال أيضاً

عانقتها، وظلام الليل مـنـسـدل

 

ثم انتبهت ببرد الحلي في الغلس،

فبت أحميه خوفاً أن ينبـهـهـا

 

وأتقي أن أذيب العقد بالنـفـس

وقال أيضاً

لا تظني تـجـنـبـي لـمـلال

 

أنت من خوف سلوتي في أمـان

رب هجر يكون أدعى إلى الوصل

 

ووصل أدعى إلى الـهـجـران

وقال أيضاً

وكان عذار عندها عذر وصـلـهـا

 

فشاب، فصار العذر في صدها عندي

فاعجب بأمر أمسى داعية الـهـوى

 

يحول فيضحي اليوم داعية الـصـد

وقال لغزاً في السحاب

وهاجم ليس له من عدوى

 

مستبدل بكل مثوى مثوى

بكاؤه وضحكه في معنـى

 

إذا بكى أضحك أهل الدنيا

وقال أيضاً لغزاً في الميزان

ما واحد، مختـلـف الأهـواء

 

يعدل في الأرض وفي السماء

يحكم بالـقـسـط بـلا رياء

 

أعمى يرى الرشاد كل رائي

أخـرس لا مـن عـلة وداء

 

يغني عن التصريح بالأيمـاء

يجيب، إن ناداه ذو امـتـراء

 

بالرفع والخفض عن النـداء

وقال أيضاً لغزاً في الدرع

وبيضاء، لا للبيض والسمـر قـدهـا

 

تظاهر في تقويمها الحر والـبـرد؛

تجلت لنا حباً، ولم تجـر فـي رحـا

 

ولكن تولاه لهـا الـدق والـبـرد،

وقيت بها نفسي فكانـت، كـأنـهـا

 

هي الشمس محبوباً بها الكوكب الفرد

وقال أيضاً لغزاً في الإبرة

وكاسـبة رزقـاً سـواهـا يحـوزه

 

وليس لها حمد عـلـيه، ولا أجـر،

مفرقة للشمل، والـجـمـع دأبـهـا

 

وخادمة للناس، تخدمـهـا عـشـر،

إذا خطرت جرت فضـول ذيولـهـا

 

سجية ذي كبر وليس بـهـا كـبـر،

ترى الناس طراً يلبسون الذي نضـت

 

تعمهم جوداً، ولـيس لـهـا وفـر،

لها البيت بعد العـز غـير مـدافـع

 

إلى بأسه تعزى المهنـدة الـبـتـر،

أضر بها مثلي نحول بجـسـمـهـا

 

وإن لم يرعها، مثل ما راعني، هجر،

وقال أيضاً لغزاً في الظل

وشيء من الأجسام، غير مجسم

 

له حركات تارة وسـكـون،

يتم أواني كـونـه وفـسـاده

 

وفي وقت محياه المحاق يكون

إذا بانت الأنوار بأن لنـاظـر

 

وأما إذا بانت فـلـيس يبـين

وقال أيضاً مما يكتب على حصير

أفرشت خدي للضـيوف ولـم يزل

 

خلقي التواضع للـبـيب الأكـيس

فتواضعي أعلا مكـانـي بـينـهـم

 

طو راً، فصرت أحل صدر المجلس

وقال أيضاً في معناه

رب وصل شهدته فتمتعت

 

عناقاً بالعاشقين جميعـا

وجداني للود أهلاً، وللسر

 

مكاناً، وللصديق مطيعا،

وقال أيضاً في مدخنة البخور

إذا الهجر أضرم نار الهوى

 

فقلبي يضرم للهجـر نـار

أبوح بأسراري المضمرات

 

تبدو سراراً، وتبدو جهـارا

إذا ما طوى خبري صاحب

 

أبي طيب عرفي إلا انتشارا

وقال أيضاً فيها

كل نار للشوق تضرم بالهجر

 

وناري تشب عند الوصـال

فإذا الصد راعني سكن الوجد

 

ولم يخطر الغرام ببـالـي

وقال أيضاً فيها

يشكون المحبون الجوى

 

عند التفـرق والـزيال

وأشد ما أصلـى بـنـا

 

والشوق أوقات الوصال

وقال أيضاً فيها

رب حمىً لا ترام عزتـه

 

أبحته النفس غير محجوب

يبدي عياني لمن تأملـنـي

 

نار محب ونشر محبـوب

وقال أيضاً في مغسل الشرب

إذا ما خطبت الود بين معـاشـر

 

فكن لهم مثلي تعد أخـا صـدق

إذا استأثروا من كل كاس بصفوها

 

رضيت بما أبقوه من مشرب رنق

وقال أيضاً  

لا تدع ربك أن يعذب عاشقـاً

 

لقبيح صورتها، بغير وصالها

وقال أيضاً

أكثرت حسو البيض كيما يستديم قيام أيرك

ما لا يقوم ببيضتيك فلا يقوم ببيض غيرك

وقال أيضاً يهجو إنساناً بالعين

مدور العين فاتـخـذه

 

لتل غرس وثل عرش

لو رمقت عينه الثـريا

 

أخرجها في بنات نعش

وقال أيضاً

يا دار، لا تنكري مني التفات فتى

 

فراق أحبابه أجرى مدامـعـه

عهدت فيك قميراً كان يؤنسنـي

 

حيناً فعيناي تستقري مطالـعـه

وقال أيضاً

خليل نأى عني فبـدلـت بـعـده

 

مقيم الجوى من صفو عيش وطيبه

أغار عليه صرف دهر فـغـالـه

 

وعما قليل سوف يلحقـنـي بـه

وقال أيضاً

لا تعجبوا من حنين قلبي

 

إليهم، واعذروا غرامي

فالقوس، مع كونها جماداً

 

تئن من فرقة السـهـام

وقال أيضاً

كيف أُلذ العيش في بلدة

 

سكان قلبي غير سكانها

لو أنها الجنة قد أزلفت

 

أرْضَها إلا برضوانهـا

وقال أيضاً يرثي

كم ذا الوقوف على غرور أماني

 

أأخذت من دنياك عقـد أمـان

هل عيشة بعد الرضى مرضية

 

كلا، ولو كانت خلود جـنـان

إن السماء لفـقـده لـحـزينة

 

فرياحها نفس الكئيب العانـي؛

والغيث أدمعه وما برقـت بـه

 

نار الجوى والرَعد لـلأرنـان،

لو ذاق فقدك من يلوم على البكا

 

لزرى على التبسيم والسلـوان

تبعوك، إذا صلوا عليك، ولم تزل

 

كالنجم تهديهم بـكـل مـكـان

كنت المقدم في الصفوف لجولة

 

الاقران أو لتـلاوة الـقـرآن

لا تبعدن، وما البعيد بمـن نـأى

 

حياً، ولكن البـعـيد الـدانـي

وقال أيضاً يرثي الأمير سيف الدولة صدقة بن منصور دبيس الأسدي لما قتل

لِيَبْك ابنَ منصور عُـفـاة نـوالـه

 

إذا عصفت بالريح نكباء حرجـف

ويذكرَهم من ردهم بـعـبـوسـه

 

فتى كان يلقاهم ببشر ويسـعـف

ولما سما فوق السـمـاء بـهـمة

 

يغض لها طرف الحسود ويطرف،

رمته الليالي، بل رمتـنـا بـرزئه

 

كبدر الدجى في ليلة التم يخسـف

عليك سلام، لا تـزال قـلـوبـنـا

 

على حزن ما هبت الريح توقـف

ولا برحت عين السماء بوبـلـهـا

 

على جدث واراك تهمي وتـذرف

وقال يهنئ بخلعة

لئن شرفت مناسبها وجلـت

 

لقد زفت إلى كفء شريف

إلى من زانها وأزان منهـا

 

كسالفة المليحة والشنـوف

وكتب إليه الرئيس أبو القاسم علي بن أفلح الكاتب وقد نقه من مرض كان به

أنا جوعان فـانـقـذ

 

ني من هذي المجاعه

فرجي في الكسرة ال

 

خبز ولو كانت قطاعه

لا تقل لي ساعة تصب

 

ر، ما لي صبر ساعه

فخواي اليوم ما يقـب

 

ل في الخبز شفـاعة

فكتب إليه أمين الدولة بن التلميذ الجواب

هكذا أضياف مثلـي

 

يتشكَّون المجـاعـه

غير إني ليس عندي

 

لمضر من شفاعـه

فتعـلـل بـسـويق

 

فهو خير من قطاعه

بحياتي قل كما تـر

 

سمه سمعاً وطاعـه

وأهدى إلى الوزير ابن صدقه كتاب المحاضرات للراغب وكتب معه

لما تعذر أن أكـون مـلازمـاً

 

لجناب مولانا الوزير الصاحـب

ورغبت في ذكري بحضرة مجده

 

أذكرته بمحاضرات الـراغـب

وكان أبو القاسم بن الفضل قد عتب على أمين الدولة بن التلميذ عتباً مريباً، فأجابه أمين الدولة بأن خلع عليه قميصاً مصمتاً أسود وكتب إليه

أحبك في السواء تسحب ذيلها

 

خطيباً ولكن لا بذكر مثالبي

وقال أيضا

أتاني كتاب لم يزدني بصـيرة

 

بسؤدد مهديه إليّ وفضـلـه

فقلت وقد أخجلتني بابـتـدائه

 

أبى الفضل إلا أن يكون لأهله

وكتب إلى الوزير سعد الملك نصير الدين في صدر كتاب

لا زال جدك بالإقبال موصولاً وجد ضدك بالإذلال مغلولا

ولا عدمت من الرحمن موهبة تعيد ربعك بالعافين مأهولا

فنعم منطلق الكفين أنت إذا أضحى اللئيم عن المعروف مغلولا

تجود بالمال لا تسأل يداه وأن تسأل فصاحته بذ الورى قيلا

لا يستريح إلى العلات معتذرا إذا الضنين رأى للبخل تأويلا

يبادر الجود سبقاً للسؤال يرىتعجيله بعد بذل الوجه تأجيلا

لا غرو أن كسف شمس الضحى وبدت فأكثر الناس تبجيلاً وتهليلا

فأنت سيفٌ غياث الدين أغمده صونا، وعاد الأعداء مسلولا

فلا خلا الدست من غيث إذا قنطوا ظل نداه لدى الرواد مبذولا

فما يليق بغير السعد مسنده وإن أعاروه إعظاماً وتبجيلا

فأسلم على الدهر في نعماء صافية من النوائب مرهوباً ومأمولا

وكتب في صدر كتاب إلى جمال الرؤساء أبي الفتح هبة اللّه بن الفضل بن صاعد جواباً

ما نشر أنفاس الرياض مريضة عوادها طل الندى وقطار

بدميثة ميثاء حلّى وجهها وحبا عليها حنْوه وعرار

كفلت بثروتها مؤبدة بها وكفى صداها جدول مدرار

بكت السماء فأضحكتها مثل ما أبكي فتضحك بي الغداة نوار

وإذا تعارضها ذكاء تشعشعت فتمازج النوار والنوار

مشت الصبا بفروعها مختالة فصبا المشوق وغيره استعبار

وإذا تغنى الطير في أرجائها أبدي بلابل صدره التذكار

يوماً بأطيب من جوارك شاهداً أو غائباً تدنو بك الأخبار

وكتب إليه جمال الملك أبو القاسم علي بن أفلح في أثناء كتاب

إني، وحقك، منذ ارتـحـلـت

 

نهاري حنين ولـيلـي أنـين

وما كنت أعرف قبلي امـرءاً

 

بجسـم يقـيم وقـلـب يبـين

يقول الخـلـي، إذا مـا رأى

 

ولوعي بذكراك لا تستـكـين

تسل، فقل دهـاك الـفـراق،

 

أتدري جوى البين أنى يكـون

وكيف السبيل إلى سـلـوتـي

 

وحزني وفيّ وصبري خؤون؟

فكتب أمين الدولة في جوابه

وإني، وحبك، مذ بنت عنك قلبي حزين ودمعي هتون

 

وأخلف ظني صبر مُعين،

 

وشاهد شكواي دمع مَعـين

فلله أيامنا الخاليات

 

لو رد سالف دهـر حنـين

وإني لأرعى عهود الصفاء

 

ويكلؤها لك ود مصـون

واحفظ ودك عن قادح

 

وود الأكارم علق ثمـين

ولم لا يكون، ونحن اليدا

 

ن، أنـت بفضلك منهـا اليمين

إذا قلت أسلوك قالوا الغرا

 

م هيهات ذلك ما لا يكون

وهل لي في سلوة مـطمع

 

وصبري خؤون وودي أمين

وكتب في صدر كتاب إلى العزيز أبي نصر بن محمد بن حامد مستوفي الممالك

لعمر أبيك، الخير ليس لواحـد

 

من الناس إلا حامد لابن حامد

كأنهم دانوا الإله بشـكـرهـم

 

علاه ولكن لا كشكر ابن ساعد

هم خيروا عنه فاثنوا بصالـح

 

وعندي بما أثنيت خير المشاهد

وكتب إلى ابن أفلح

أسأت بنفسي حين أزمعت رحلة

 

فهمي مجموع بشملي المفرق

فإن امرءاً سرُّ الموفق قـربـه

 

وفارقه طوعاً لغير مـوفـق

وكتب إلى موفق الدين أبي طاهر الحسن بن محمد لما اجتاز بساوة ودخل إلى دار كتبها التي وقفها المذكور المكتوب إليه

وفقت للخير إذ عممت به طلابه يا مـوفـق الـدين

أزلفت للناس جنة جمعت عيون فضل أشهى من العين

فيها ثمار العقول دانية قطوفهـا حـلـوة الأفـانـين

لا زلت تسمو بكل صالح بمسعدي قدرة وتـمـكـين

ويرحم اللّه كل مستمع شـيع دعـوتـي بـتـأمـين

ولأمين الدولة بن التلميذ من الكتب أقراباذنيه العشرين باباً، وشهرته وتداول الناس له أكثر من سائر كتبه، أقراباذينه الموجز البيمارستاني، وهو ثلاثة عشر باباً، المقالة الأميلية في الأدوية البيمارستانية، اختيار كتاب الحاوي للرازي، اختيار كتاب مسكويه في الأشربة، اختصار شرح جالينوس لكتاب الفصول لأبقراط، اختصار شرح جالينوس لكتاب تقدمة المعرفة لأبقراط، تتمة جوامع الاسكندرانيين لكتاب حيلة البرء لجالينوس، شرح مسائل حنين بن إسحاق على جهة التعليق، شرح أحاديث نبوية تشتمل على طب، كناش، مختصر الحواشي على كتاب القانون للرئيس ابن سينا، الحواشي على كتاب المائة للمسيحي، التعاليق على كتاب المنهاج، وقيل أنها لعلي بن هبة اللّه بن أثردي البغدادي، مقالة في الفصد، كتاب يشتمل على توقيعات ومراسلات، تعاليق استخرجها من كتاب المائة للمسيحي، مختار من كتاب أيدال الأدوية لجالينوس