صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإنجيل

يحنس الحواري يثبت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من الإنجيل قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد كان ، فيما بلغني عما كان وضع عيسى بن مريم فيما جاءه من الله في الإنجيل لأهل الإنجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مما أثبتت يحُنَّس الحواري لهم ، حين نسخ لهم الإنجيل عن عهد عيسى بن مريم عليه السلام في رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم أنه قال ‏‏:‏‏ من أبغضني فقد أبغض الرب ، ولولا أني صنعت بحضرتهم صنائع لم يصنعها أحد قبلي ، ما كانت لهم خطيئة ، ولكن من الآن بطروا وظنوا أنهم يعزونني ، وأيضا للرب ، ولكن لا بد من أن تتم الكلمة التي في الناموس ‏‏:‏‏ أنهم أبغضوني مجَّانا ، أي باطلا ‏‏.‏‏ فلو قد جاء اُلمنْحَمَنَّا هذا الذي يُرسله الله إليكم من عند الرب ، وروح القدس ، هذا الذي من عند الرب خرج ، فهو شهيد علي وأنتم أيضا ، لأنكم قديما كنتم معي في هذا قلت لكم ‏‏:‏‏ لكيما لا تشكوا ‏‏.‏‏ والمنحمنا بالسريانية ‏‏:‏‏ محمد ، وهو بالرومية ‏‏:‏‏ البرَقْلِيطس ، صلى الله عليه و آله و سلم‏‏.‏‏

مبعث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما

أخذ الله الميثاق على الرسل الإيمان به صلى الله عليه وسلم

قال حدثنا أبو محمد عبدالملك بن هشام ، قال ‏‏:‏‏ حدثنا زياد بن عبدالله البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال ‏‏:‏‏ فلما بلغ محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة بعثه الله تعالى رحمة للعالمين ، وكافة للناس بشيرا ، وكان الله تبارك وتعالى قد أخذ الميثاق على كل نبي بعثه قبله بالإيمان به ، والتصديق له ، والنصر له على من خالفه ، وأخذ عليهم أن يؤدوا ذلك إلى كل من آمن بهم وصدقهم ، فأدوا من ذلك ما كان عليهم من الحق فيه ‏‏.‏‏ يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ‏‏:‏‏ ‏‏ {(‏‏ وإذ أخذ الله ميثاق النيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم ، لتؤمنن به ولتنصرنه ، قال ‏‏:‏‏ أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ‏‏)} ‏‏ ‏‏:‏‏ أي ثقل ما حملتكم من عهدي ‏‏ (‏‏ قالوا أقررنا ، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ فأخذ الله ميثاق النبيين ‏جميعا بالتصديق له ، والنصر له ممن خالفه ، وأدوا ذلك إلى من آمن بهم وصدقهم من أهل هذين الكتابين ‏‏.‏‏

الرؤيا الصادقة أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فذكر الزهري عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها أنها حدثته ‏‏:‏‏ أن أول ما بُدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة ، حين أراد الله كرامته ورحمة العباد به ، الرؤيا الصادقة ، لا يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤيا في نومه إلا جاءت كفلق الصبح ‏‏.‏‏ قالت ‏‏:‏‏ وحبب الله تعالى إليه الخلوة ، فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده ‏‏.‏‏ سلام الحجر والشجر عليه صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عبدالملك بن عبيد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي ، وكان واعية ، عن بعض أهل العلم ‏‏:أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أراده الله بكرامته ، وابتدأه بالنبوة ، كان إذا خرج لحاجته أبعد حتى تحسر عنه البيوت ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها ، فلا يمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر ولا شجر إلا قال ‏‏:‏‏ السلام عليك يا رسول الله ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فيلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏حوله وعن يمينه وشماله وخلفه ، فلا يرى إلا الشجر والحجارة ‏‏.‏‏ فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك يرى ويسمع ، ما شاء الله أن يمكث ، ثم جاءه جبريل عليه السلام بما جاءه من كرامة الله ، وهو بحراء في شهر رمضان‏‏.‏‏ ‏

نزول جبريل عليه صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني وهب بن كيسان ، مولى آل الزبير ، قال ‏‏:‏‏ سمعت عبدالله بن الزبير وهو يقول لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي ‏‏:‏‏ حدثنا يا عبيد ، كيف كان بدء ما ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من النبوة ، حين جاءه جبريل عليه السلام ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقال ‏‏:‏‏ عبيد - وأنا حاضر يحدث عبدالله بن الزبير ومن عنده من الناس - ‏‏:‏‏ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهرا ، وكان ذلك مما تحنَّث به قريش في الجاهلية ‏‏.‏‏ والتحنث التبرر ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقال أبو طالب‏‏:‏‏

وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه

 

وراق ليرقى في حراء ونـازلِ

التحنث والتحنف

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ تقول العرب ‏‏:‏‏ التحنث والتحنف ، يريدون الحنيفية فيبدلون الفاء من الثاء ، كما قالوا ‏‏:‏‏ جدف ، وجدث ، يريدون القبر ‏‏.‏‏ قال رؤبة بن العجاج ‏‏:‏‏

لو كان أحجاري مع الأجداف

 

 

يريد ‏‏:‏‏ الأجداث ‏‏.‏‏ وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏ وبيت أبي طالب في قصيدة له ، سأذكرها إن شاء الله في موضعها ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول ‏‏:‏‏ فم ، في موضع ثم ، يبدلون الفاء من الثاء ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ و حدثني وهب بن كيسان قال ‏‏:‏‏ قال عبيد ‏‏:‏‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك يجاور الشهر من كل سنة ، يطعم من جاءه من المساكين ، فإذا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره من شهره ذلك ، كان أول ما يبدأ به ، إذا انصرف من جواره ، الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته ، ‏حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله تعالى به فيه ما أراد من كرامته ، من السنة التي بعثه الله تعالى فيها ؛ وذلك الشهر شهر رمضان ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حراء ، كما كان يخرج لجواره ومعه أهله ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ، ورحم العباد بها ، جاءه جبريل عليه السلام بأمر الله تعالى ‏‏.‏‏  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ فجاءني جبريل ، وأنا نائم ، بنمط من ديباج فيه كتاب ، فقال ‏‏:‏‏ اقرأ ؛ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ ما أقرأ ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فغتَّني به حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني ، فقال ‏‏:‏‏ اقرأ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ ما أقرأ ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني ، فقال ‏‏:‏‏ اقرأ ؛ قال ‏‏:‏‏ قلت ‏‏:‏‏ ماذا أقرأ ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فغتني به حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني ، فقال ‏‏:‏‏ اقرأ ؛ قال ‏‏:‏‏ فقلت ‏‏:‏‏ ماذا أقرأ ‏‏؟‏‏ ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي ؛ فقال ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ اقرأ باسم ربك الذي خلق ‏‏.‏‏ خلق الإنسان من علق ‏‏.‏‏ اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم ‏‏.‏‏ علم الإنسان ما لم يعلم ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقرأتها ثم انتهى فانصرف عني وهببت من نومي ، فكأنما كتبت في قلبي كتابا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتا من السماء يقول ‏‏:‏‏ يا محمد ، أنت رسول الله وأنا جبريل ؛ قال ‏‏:‏‏ فرفعت رأسي إلى السماء أنظر ، فإذا جبريل في صورة رجل صافّ قدميه في أفق السماء يقول ‏‏:‏‏ يا محمد ، أنت رسول الله وأنا جبريل ؛ قال ‏‏:‏‏ فوقفت أنظر إليه فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، قال ‏‏:‏‏ فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا أعلى مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني ذلك ؛ ثم انصرف عني ‏‏.‏‏

الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر خديجة رضي الله عنها بنزول جبريل عليه

وانصرفت راجعا إلى أهلي حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها ‏‏:‏‏ فقالت ‏‏:‏‏ يا أبا القاسم ، أين كنت ‏‏؟‏‏ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ورجعوا لي ، ثم حدثتها بالذي رأيت ، فقالت ‏‏:‏‏ أبشر يا ابن عم واثبت ، فوالذي نفس خديجة بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة ‏‏.‏‏

خديجة رضي الله عنها تخبر ورقة بن نوفل حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم

ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وهو ابن عمها ، وكان ورقة قد تنصر وقرأ الكتب ، وسمع من أهل التوراة والإنجيل ، فأخبرته بما أخبرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه رأى وسمع ؛ فقال ورقة بن نوفل ‏‏:‏‏ قدوس قدوس ، والذي نفس ورقة بيده ، لئن كنت صدقتيني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، وإنه لنبي هذه الأمة ، فقولي له ‏‏:‏‏ فليثبت ‏‏.‏‏ فرجعت خديجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بقول ورقة بن نوفل ، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم جواره وانصرف ، صنع كما كان يصنع بدأ بالكعبة فطاف بها ، فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة فقال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي أخبرني بما رأيت وسمعت ، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال له ورقة ‏‏:‏‏ والذي نفسي بيده ، إنك لنبي هذه الأمة ، وقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ولتكذبنه ولتؤذينه ولتخرجنه ولتقاتلنه ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ، ثم أدنى رأسه منه ، فقبل يافوخه ، ثم انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله ‏‏.‏‏

تثبت خديجة رضي الله عنها من الوحي

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير ‏‏:‏‏ أنه حُدث عن خديجة رضي الله عنها أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ أي ابن عم ، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ؛ قالت ‏‏:‏‏ فإذا جاءك فأخبرني به ‏‏.‏‏فجاءه جبريل عليه السلام كما كان يصنع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخديجة ‏‏:‏‏ يا خديجة ، هذا جبريل قد جاءني ؛ قالت ‏‏:‏‏ قم يا ابن عم فاجلس على فخذي اليسرى ؛ قال ‏‏:‏‏ فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس عليها ؛ قالت ‏‏:‏‏ هل تراه ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ؛ قالت ‏‏:‏‏ فتحولْ فاجلس على فخذي اليمنى ؛ قال ‏‏:‏‏ فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس على فخذها اليمنى ؛ فقالت ‏‏:‏‏ هل تراه ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ‏‏.‏‏ قالت ‏‏:‏‏ فتحول فاجلس في حجري ؛ قالت ‏‏:‏‏ فتحول رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلس في حجرها ؛ قالت ‏‏:‏‏ هل تراه ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ؛ قال ‏‏:‏‏ فتحسرت وألقت خمارها ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في حجرها ، ثم قالت له ‏‏:‏‏ هل تراه ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ لا ؛ قالت ‏‏:‏‏ يا ابن عم ، اُُثبت وأبشر ، فوالله إنه لملك وما هذا بشيطان ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد حدثت عبدالله بن حسن هذا الحديث ، فقال ‏‏:‏‏ قد سمعت أمي فاطمة بنت حسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة ، إلا أني سمعتها تقول ‏‏:‏‏ أدخلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها وبين درعها ، فذهب عند ذلك جبريل ، فقالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ إن هذا لملك وما هو بشيطان ‏‏.‏‏ ‏

ابتداء تنزيل القرآن
متى نزل القرآن

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فابتدىء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنزيل في شهر رمضان ، بقول الله عز وجل‏‏:‏‏ ‏‏ (‏هر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ وقال الله تعالى‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ إنا أنزلناه في ليلة القدر ‏‏.‏‏وما أدراك ما ليلة القدر ‏‏.‏‏ ليلة القدر خير من ألف شهر ‏‏.‏‏ تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ‏‏.‏‏ سلام هي حتى مطلع الفجر ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ وقال الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ حم والكتاب المبين ‏‏.‏‏ إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين ‏‏.‏‏ فيها يفرق كل أمر حكيم ‏‏.‏‏ أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ وقال تعالى‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ وذلك ملتقى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين ببدر ‏‏.‏‏

تاريخ وقعة بدر

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني أبو جعفر محمد بن علي بن حسين ‏‏:‏‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون ببدر يوم الجمعة ، صبيحة سبع عشرة من رمضان ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم تتامّ الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏ وهو مؤمن بالله مصدق بما جاءه منه ، قد قبله بقبوله ، وتحمل منه ما حمله على رضا العباد وسخطهم ، والنبوة أثقال ومؤنة ، لا يحملها ولا يستطيع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه ، لما يلقون من الناس وما يرد عليهم مما جاءوا به عن الله سبحانه وتعالى ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله ، على ما يلقى من قومه من الخلاف والأذى ‏‏.‏‏

إسلام خديجة بنت خويلد
وقوفها بجانبه صلى الله عليه وسلم

وآمنت به خديجة بنت خويلد ، وصدقت بما جاءه من الله ، ووازرته على أمره ، وكانت أول من آمن بالله وبرسوله ، وصدق بما جاء منه ‏‏.‏‏ فخفف الله بذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، لا يسمع شيئا مما يكرهه من رد عليه وتكذيب له ، فيحزنه ذلك ، إلا فرج الله عنه بها إذا رجع إليها ، تثبته وتخفف عليه ، وتصدقه وتهون عليه أمر الناس ، رحمها الله تعالى ‏‏.‏‏

تبشير الرسول لخديجة ببيت من قصب
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني هشام بن عروة ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عبدالله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال ‏‏:‏‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ أمرت أن أُبشِّر خديجة ببيت من قصب ، لا صخب فيه ولانصب ‏‏.‏‏ ‏قال ابن هشام ‏‏:‏‏ القصب ههنا ‏‏:‏‏ اللؤلؤ المجوف ‏‏.
‏‏جبريل يقرىء خديجة السلام من ربها

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وحدثني من أثق به ، أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال‏‏:‏‏ أقرىء خديجة السلام من ربها ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ يا خديجة ، هذا جبريل يقرئك السلام من ربك ، فقالت خديجة ‏‏:‏‏ الله السلام ، ومنه السلام ، وعلى جبريل السلام ‏‏.‏‏

فترة الوحي ونزول سورة الضحى

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم فتر الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فترة من ذلك ، حتى شق ذلك عليه فأحزنه ، فجاءه جبريل بسورة الضحى ، يقسم له ربه ، وهو الذي أكرمه بما أكرمه به ، ما ودعه وما قلاه، فقال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ والضحى والليل إذا سجى ‏‏.‏‏ ما ودعك ربك وما قلى ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ يقول ‏‏:‏‏ ما صرمك فتركك ، وما أبغضك منذ أحبك ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ وللآخرة خير لك من الأولى ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي لما عندي من مرجعك إلي ، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ولسوف يعطيك ربك فترضى ‏‏) ‏‏ من الفُلْج في الدنيا ، والثواب في الآخرة ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ألم يجدك يتيما فآوى ‏‏.‏‏ ووجدك ضالا فهدى ‏‏.‏‏ ووجدك عائلا فأغنى ‏‏) ‏‏ يعرفه الله ما ابتدأه به من كرامته في عاجل أمره ، ومنِّه عليه في يتمه وعيلته وضلالته ، واستنقاذه من ذلك كله برحمته ‏‏.‏‏

تفسير ابن هشام لمفردات سورة الضحى

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ سجى ‏‏:‏‏ سكن ‏‏.‏‏ قال أمية بن أبي الصلت الثقفي ‏‏:‏‏

إذ أتى موهنا وقد نام صحبي

 

وسجا الليل بالظلام الـبـهـيم

وهذا البيت في قصيدة له ، ويقال للعين إذا سكن طرفها ‏‏:‏‏ ساجية ، وسجا طرفها ‏‏.‏‏ قال جرير بن الخطفى ‏‏:‏‏

ولقد رمينك حين رحن بأعين

 

يقتلن من خلل الستور سواجـي

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والعائل ‏‏:‏‏ الفقير ‏‏.‏‏ قال أبو خراش الهذلي ‏‏:‏‏

إلى بيته يأوي الضريك إذا شتا

 

ومستنبح بالي الدريسـين عـائل

وجمعه ‏‏:‏‏ عالة وعيل ‏‏.‏‏ وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها إن شاء الله ‏‏.‏‏ والعائل أيضا ‏‏:‏‏ الذي يعول العيال ‏‏.‏‏ والعائل أيضا ‏‏:‏‏ الخائف ‏‏.‏‏ وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ ذلك أدنى ألا تعولوا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ وقال أبو طالب ‏‏:‏‏

بميزان قسط لا يخس شعيرة

 

له شاهد من نفسه غيرُ عـائل

وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها أن شاء الله في موضعها ‏‏.‏‏ والعائل أيضا ‏‏:‏‏ الشيء المثقل المعيي ‏‏.‏‏ يقول الرجل ‏‏:‏‏ قد عالني هذا الأمر ‏‏:‏‏ أي أثقلني وأعياني ، قال الفرزدق ‏‏:‏‏

ترى الغر الجحاجح من قريش

 

إذا ما الأمر في الحدثـان عـالا

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ فأما اليتيم فلا تقهر ‏‏.‏‏ وأما السائل فلا تنهر ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا تكن جبارا ولا متكبرا ، ولا فحاشا فظا على الضعفاء من عباد الله ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ وأما بنعمة ربك فحدث ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي بما جاءك من الله من نعمته وكرامته ‏من النبوة فحدث ، أي اذكرها وادع إليها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر ما أنعم الله به عليه وعلى العباد به من النبوة سرا إلى من يطمئن إليه من أهله ‏‏.‏‏

ابتداء ما افترض الله سبحانه وتعالى على النبي صلى الله عليه وسلم من الصلاة وأوقاتها

وافتُرضت الصلاة عليه ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وآله ، والسلام عليه وعليهم ورحمة الله وبركاته ‏‏.‏‏

افترضت الصلاة ركعتين ركعتين ثم زيدت

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني صالح بن كيسان عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏‏:‏‏ افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما افترضت عليه ركعتين ركعتين ، كل صلاة؛ ثم إن الله تعالى أتمها في الحضر أربعا ، وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين ‏‏.‏‏جبريل يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم الوضوء والصلاة

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني بعض أهل العلم ‏‏:‏‏ أن الصلاة حين افترضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتاه جبريل وهو بأعلى مكة ، فهمز له بعقبه في ناحية الوادي ، فانفجرت منه عين ، فتوضأ جبريل عليه السلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم كما رأى جبريل توضأ ، ثم قام به جبريل فصلى به ، وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاته ، ثم انصرف جبريل عليه السلام ‏‏.‏‏

الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم خديجة الوضوء والصلاة

فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم خديجة ، فتوضأ لها ليريها كيف الطهور للصلاة كما أراه جبريل ، فتوضأت كما توضأ لها رسول الله عليه الصلاة والسلام ، ثم صلى بها رسول الله عليه الصلاة والسلام كما صلى به جبريل فصلت بصلاته ‏‏.‏‏ جبريل يعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عتبة بن مسلم ، مولى بني تميم ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، وكان نافع كثير الرواية ، عن ابن عباس قال ‏‏:‏‏ لما افترضت الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل عليه السلام ، فصلى به الظهر حين مالت الشمس ، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثله ، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس ، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب الشفق ، ثم صلى به الصبح حين طلع الفجر ، ثم جاءه فصلى به الظهر من غد حين كان ظله مثله ، ثم صلى به العصر حين كان ظله مثليه ، ثم صلى به المغرب حين غابت الشمس لوقتها بالأمس ، ثم صلى به العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل الأول ، ثم صلى به الصبح مسفرا غير مشرق ، ثم قال ‏‏:‏‏ يا محمد ، الصلاة فيما بين صلاتك اليوم وصلاتك بالأمس ‏‏.‏‏

ذكر أن علي بن أبي طالب رضي لله عنه أول ذكر أسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم كان أول ذَكَر من الناس آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى معه وصدق بما جاءه من الله تعالى ‏‏:‏‏ علي بن أبي طالب ابن عبدالمطلب بن هاشم ، رضوان الله وسلامه عليه ، وهو يومئذ ابن عشر سنين ‏‏.‏‏ نعمة الله على علي بنشأته في كنف الرسول وكان مما أنعم الله به على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه كان في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام ‏‏.‏‏ سبب هذه النشأة قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد بن جبر بن أبي الحجاج ، قال ‏‏:‏‏ كان من نعمة الله علي علي بن أبي طالب ، ومما صنع الله له ، وأراده به من الخير ، أن قريشا أصابتهم أزمة شديدة ، وكان أبو طالب ذا عيال كثير ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس عمه ، وكان من أيسر بني هاشم ، يا عباس ‏‏:‏‏ إن أخاك أبا طالب كثير العيال ، وقد أصاب الناس ما ترى من هذه الأزمة ، فانطلق بنا إليه ، فلنخفف عنه من عياله ، آخذ من بنيه رجلا ، وتأخذ أنت رجلا ، فنكلهما عنه؛ فقال العباس ‏‏:‏‏ نعم ‏‏.‏‏ فانطلقا حتى أتيا أبا طالب ، فقالا له ‏‏:‏‏ إنا نريد أن نخفف عنك من عيالك حتى ينكشف عن الناس ما هم فيه ؛ فقال لهما أبو طالب ‏‏:‏‏ إذا تركتما لي عقيلا فاصنعا ما شئتما - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ عقيلا وطالبا - ‏‏.‏‏ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا ، فضمه إليه ، وأخذ العباس جعفرا فضمه إليه ؛ فلم يزل علي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله تبارك وتعالى‏ نبيا ، فاتبعه علي رضي الله عنه ، وآمن به وصدقه ؛ ولم يزل جعفر عند العباس حتى أسلم واستغنى عنه ‏‏.‏‏ الرسول صلى الله عليه وسلم وعلي يخرجان إلى الصلاة في شعب مكة واكتشاف أبي طالب لهماقال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة ، وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفيا من أبيه أبي طالب ، ومن جميع أعمامه وسائر قومه ، فيصليان الصلوات فيها ، فإذا أمسيا رجعا ‏‏.‏‏ فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا ‏‏.‏‏ ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوما وهما يصليان ، فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ‏‏!‏‏ ما هذا الدين الذي أراك تدين به ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أي عم ، هذا دين الله ، ودين ملائكته ، ودين رسله ، ودين أبينا إبراهيم - أو كما قال صلى الله عليه وسلم - بعثني الله به رسولا إلى العباد ، وأنت أي عم ، أحق من بذلت له النصيحة ، ودعوته إلى الهدى ، وأحق من أجابني إليه وأعانني عليه ، أو كما قال ؛ فقال أبو طالب ‏‏:‏‏ أي ابن أخي ، إني لا أستطيع أن أفارق دين آبائي وما كانوا عليه ، ولكن والله لا يخلص إليك بشيء تكرهه ما بقيت‏‏.‏‏

وذكروا أنه قال لعلي ‏‏:‏‏ أي بني ، ما هذا الدين الذي أنت عليه ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ يا أبت ، آمنت بالله وبرسول الله، وصدقته بما جاء به ، وصليت معه لله واتبعته ‏‏.‏‏ فزعموا أنه قال له ‏‏:‏‏ أما إنه لم يدعك إلا إلى خير فالزمه‏‏.‏‏

إسلام زيد بن حارثة ثانيا

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم أسلم زيد بن حارثة بن شرحبيل بن كعب بن عبدالعزى ابن امرئ القيس الكلبي ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أول ذكر أسلم ، وصلى بعد علي بن أبي طالب ‏‏.‏‏ نسب زيد قال ابن هشام ‏‏:‏‏ زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبدالعزى بن امرىء القيس بن عامر بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن بكر بن عوف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة ‏‏.‏‏ وكان حكيم بن حزام بن خويلد قدم من الشام برقيق ، فيهم زيد بن حارثة وصيف ، فدخلت عليه عمته خديجة بنت خويلد ، وهي يومئذ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لها ‏‏:‏‏ اختاري يا عمة أي هؤلاء الغلمان شئت فهو لك ؛ فاختارت زيدا فأخذته ، فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها ، فاستوهبه منها ، فوهبته له ، فأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبناه ، وذلك قبل أن يوحى إليه ‏‏.‏‏ شعر حارثة أبي زيد عندما فقده وكان أبوه حارثة قد جزع عليه جزعا شديدا ، وبكى عليه حين فقده ، فقال ‏‏:‏‏

بكيت على زيد ولم أدر مـا فـعـلْ

 

أحيّ فـيرُجـى أم أتـى دونـه الأجـلْ

فوالـلـه مـا أدرى وإنـي لـسـائل

 

أغالك بعدي السهل أم غالـك الـجـبـل

ويا ليت شعري هل لك الـدهـر أوبة

 

فحسبي من الدنيا رجوعك لـي بـجـل‏

تذكَّرْنيه الشمس عنـد طـلـوعـهـا

 

وتعرض ذكـراه إذا غـربـهـا أفـل

وإن هبت الأرواح هـيجـن ذكـره

 

فيا طول ما حزني عـلـيه ومـا وجـل

سأُعمل نص العيس في الأرض جاهدا

 

ولا أسأم التـطـواف أو تـسـأم الإبـل

حياتي أو تأتـي عـلـي مـنـيتـي

 

فكل امـرىء فـان وإن غـره الأمـل

ثم قدم عليه وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ إن شئت فأقم عندي ، وإن شئت فانطلق مع أبيك ، فقال ‏‏:‏‏ بل أقيم عندك ‏‏.‏‏ فلم يزل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بعثه الله فصدقه وأسلم ، وصلى معه ؛ فلما أنزل الله عز وجل ‏‏:‏‏ ‏‏ {(‏‏ أُدعوهم لآبائهم ‏‏)}‏‏ ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ أنا زيد بن حارثة ‏‏.‏‏

إسلام أبي بكر الصديق رضي الله عنه وشأنه
نسبه قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم أسلم أبو بكر بن أبي قحافة ، واسمه عتيق ، واسم أبي قحافة ‏‏:‏‏ عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ‏‏.‏‏ اسمه ولقبه قال ابن هشام ‏‏:‏‏ واسم أبي بكر ‏‏:‏‏ عبدالله ، وعتيق ‏‏:‏‏ لقب لحسن وجهه وعتقه ‏‏.‏‏ إسلامه قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه ‏‏:‏‏ أظهر إسلامه ، ودعا إلى الله وإلى رسوله ‏‏.‏‏
إيلاف قريش له ودعوته للإسلام

وكان أبو بكر رجلا مألفا لقومه ، محببا سهلا ، وكان أنسب قريش لقريش ، وأعلم قريش بها ، وبما كان فيها من خير وشر ؛ وكان رجلا تاجرا ، ذا خلق ومعروف ، وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر ، لعلمه وتجارته وحسن مجالسته ، فجعل يدعو إلى الله وإلى الإسلام من وثق به من قومه ، ممن يغشاه ويجلس إليه ‏‏.‏‏

ذكر من أسلم من الصحابة بدعوة أبي بكر رضي الله عنه

إسلام عثمان ، و الزبير و عبدالرحمن و سعد و طلحة قال فأسلم بدعائه - فيما بلغني - عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية ابن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ‏‏.‏‏ والزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ وعبدالرحمن بن عوف بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ وسعد بن أبي وقاص ، واسم أبي وقاص ‏‏:‏‏ مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن مرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏‏ وطلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي ، فجاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، فيما بلغني ‏‏:‏‏ ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت فيه عنده كبوة ، ونظر وتردد ، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة ، ما عكم عنه حين ذكرته له ، وما تردد فيه‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ بدعائه ‏‏)‏‏ عن غير ابن إسحاق ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ قوله ‏‏:‏‏ عكم ‏‏:‏‏ تلبث ‏‏.‏‏ قال رؤبة بن العجاج ‏‏:‏‏ وانصاع وثَّاب بها وما عكم قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فكان هؤلاء النفر الثمانية الذين سبقوا الناس بالإسلام ، فصلوا وصدقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما جاءه من الله ‏‏.‏‏ إسلام أبي عبيدة ثم أسلم أبو عبيدة بن الجراح ، واسمه عامر بن عبدالله بن الجراح بن هلال ابن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر ‏‏.‏‏ إسلام أبي سلمة وأبو سلمة ، واسمه عبدالله بن عبدالأسد بن هلال بن عبدالله بن عمر ابن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ إسلام الأرقم والأرقم بن أبي الأرقم ‏‏.‏‏ واسم أبي الأرقم عبد مناف بن أسد - وكان أسد يكنى أبا جندب - بن عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة ابن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ إسلام عثمان بن مظعون وأخويه وعثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ وأخواه قدامة وعبدالله ابنا مظعون بن حبيب ‏‏.‏‏ إسلام عبيدة بن الحارث وعبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ إسلام سعيد بن زيد وامرأته وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل بن عبدالعزى بن عبدالله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي ؛ وامرأته فاطمة بنت الخطاب ابن نفيل بن عبدالعزى بن عبدالله بن قرط بن رياح بن رزاح بن عدي ابن كعب بن لؤي ، أخت عمر بن الخطاب ‏‏.‏‏ إسلام أسماء وعائشة ابنتي أبي بكر ، وخباب بن الأرت وأسماء بنت أبي بكر ‏‏.‏‏ وعائشة بنت أبي بكر ، وهي يومئذ صغيرة ‏‏.‏‏ وخباب بن الأرت ، حليف بني زهرة ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ خباب بن الأرت من بني تميم ، ويقال ‏‏:‏‏ هو من خزاعة ‏‏.‏‏ إسلام عمير وابن مسعود وابن القاري قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وعمير بن أبي وقاص ، أخو سعد بن أبي وقاص ‏‏.‏‏ وعبدالله بن مسعود بن الحارث بن شمخ بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث ابن تميم بن سعد بن هذيل ‏‏.‏‏ ومسعود بن القاري ، وهو مسعود ابن ربيعة بن عمرو بن سعد بن عبدالعزى بن حمالة بن غالب بن محلم بن عائذة بن سبيع بن الهون بن خزيمة من القارة ‏‏.‏‏ شئ عن القارة قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والقارة ‏‏:‏‏ لقب لهم ولهم يقال ‏‏:‏‏

قد أنصف القارة من راماها

 

 

وكانوا قوما رماة ‏‏.‏‏ إسلام سليط وأخيه ، وعياش وامرأته ، وخنيس ، وعامر  قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وسليط بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ؛ وأخوه حاطب بن عمرو ‏‏.‏‏ وعياش بن أبي ربيعة بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي ؛ وامرأته أسماء بنت سلامة بن مخربة التميمية ‏‏.‏‏ وخنيس بن حذافة بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ وعامر بن ربيعة ، من عنز بن وائل ، حليف آل الخطاب بن نفيل بن عبدالعزى ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ عنز بن وائل أخو بكر بن وائل ، من ربيعة بن نزار ‏‏.‏‏ إسلام ابني جحش ، وجعفر وامرأته ، وحاطب وإخوته ونسائهم ، والسائب ، والمطلب وامرأته قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وعبدالله ابن جحش بن رئاب بن يعمر بن صبرة بن مرة بن كبير بن غنم بن دودان بن أسد بن خزيمة ‏‏.‏‏ وأخوه أبو أحمد بن جحش ، حليفا بني أمية بن عبد شمس ‏‏.‏‏ وجعفر بن أبي طالب ؛ وامرأته أسماء بنت عميس بن النعمان بن كعب بن مالك بن قحافة ، من خثعم ، وحاطب بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ؛ وامرأته فاطمة بنت المجلل بن عبدالله بن أبي قيس بن عبد ود بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ، وأخوه حطاب بن الحارث ؛ وامرأته فكيهة بنت يسار ‏‏.‏‏ ومعمر بن الحارث بن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ والسائب بن عثمان بن مظعون بن حبيب بن وهب ‏‏.‏‏ والمطلب بن أزهر بن عبد عوف بن عبد بن الحارث بن زهرة بن كلاب ابن مرة بن كعب بن لؤي ، وامرأته ‏‏:‏‏ رملة بنت أبي عوف بن صبيرة بن سُعيد بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ إسلام نعيم والنحام و النحام ، واسمه نُعيم بن عبدالله بن أسيد ، أخو بني عدي بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ نسب نعيم قال ابن هشام ‏‏:‏‏ هو نعيم بن عبدالله بن أسيد بن عبد عوف بن عبيد بن عويج بن عدي بن كعب بن لؤي ، وإنما سمي النحام ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏‏:‏‏ لقد سمعت نحْمه في الجنة ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ نحمه ‏‏:‏‏ صوته ‏‏.‏‏ و نحمه ‏‏:‏‏ حسه ‏‏.‏‏ إسلام عامر بن فهيرة قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وعامر بن فهيرة ، مولى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ‏‏.‏‏ نسبه قال ابن هشام ‏‏:‏‏ عامر بن فُهيرة مولَّد من مولدي الأسد ، أسود اشتراه أبو بكر رضي الله عنه منهم ‏‏.‏‏ إسلام خالد بن سعيد ونسبه وإسلام امرأته أمينة قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وخالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن مرة بن كعب بن لؤي ؛ وامرأته أُمينة بنت خلف بن أسعد بن عامر بن بياضة بن سبيع بن جعثمة بن سعد بن مليح بن عمرو ، من خزاعة ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ همُينة بنت خلف ‏‏.‏‏ إسلام حاطب وأبي حذيفة قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحاطب بن عمرو بن عبد شمس بن عبد ود بن نصر ابن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر ‏‏.‏‏ وأبو حذيفة ، واسمه مهشم - فيما قال ابن هشام - بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ إسلام واقد وشيء من خبره وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم ، حليف بني عدي بن كعب ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ جاءت به باهلة ، فباعوه من الخطاب بن نفيل ، فتبناه، فلما أنزل الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ ادعوهم لآبائهم ‏‏) ‏‏ قال ‏‏:‏‏ أنا واقد بن عبدالله ، فيما قال أبو عمرو المدني ‏‏.‏‏ إسلام بني البكير قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وخالد وعامر وعاقل وإياس بنو البكير بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة حلفاء بني عدي بن كعب ‏‏.‏‏ إسلام عمار بن ياسر حليف بني مخزوم بن يقظة و عمار بن ياسر ، حليف بني مخزوم بن يقظة ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ عمار بن ياسر عنسي من مذحج ‏‏.‏‏ إسلام صهيب قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ و صهيب بن سنان ، أحد النمر بن قاسط ، حليف بني تميم بن مرة ‏‏.‏‏نسب صهيب قال ابن هشام ‏‏:‏‏ النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار ، ويقال ‏‏:‏‏ أفصى بن دُعْميّ بن جديلة بن أسد ؛ ويقال ‏‏:‏‏ صهيب ‏‏:‏‏ مولى عبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم ، ويقال ‏‏:‏‏ إنه رومي ‏‏.‏‏ فقال بعض من ذكر أنه من النمر بن قاسط ، إنما كان أسيرا في أرض الروم ، فاشتُري منهم ‏‏.‏‏ وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و سلم ‏‏:‏‏ صهيب سابق الروم ‏‏.‏‏ ‏

مباداة رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ، وما كان منهم
أمر الله له صلى الله عليه وسلم بمباداة قومه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم دخل الناس في الإسلام أرسالا من الرجال والنساء ، حتى فشا ذكر الإسلام بمكة ، وتحدث به ‏‏.‏‏ ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدع بما جاءه منه ، وأن يبادي الناس بأمره ، وأن يدعو إليه ؛ وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين - فيما بلغني - من مبعثه ؛ ثم قال الله تعالى له ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ فاصدع بما تؤمر ، وأعرض عن المشركين ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ وقال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وأنذر عشيرتك الأقربين ‏‏.‏‏ واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏

معنى اصدع بما تؤمر

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ اصدع ‏‏:‏‏ افرق بين الحق والباطل ‏‏.‏‏ قال أبو ذؤيب الهذلي ، واسمه خويلد بن خالد ، يصف أُتن وحش وفحلها ‏‏:‏‏

وكأنهـن ربـابة وكـأنـه

 

يَسَر يُفيض على القداح ويصدعُ

أي يفرق على القداح ويبين أنصباءها ‏‏.‏‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وقال رؤبة بن العجاج ‏‏:‏‏

أنت الحليم والأمير المنتقم

 

تصدع بالحق وتنفي من ظلمْ

وهذان البيتان في أرجوزة له ‏‏.‏‏ خروج الرسول صلى الله عليه وسلم بأصحابه للصلاة في الشعب قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ، ذهبوا في الشعاب ، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم ، فبينا سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة ، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون ، فناكروهم ، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم ، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلا من المشركين بِلَحْي بعير ، فشجه ، فكان أول دم هُريق في الإسلام ‏‏.‏‏

عداوة قومه له صلى الله عليه و سلم ، ومساندة أبي طالب له

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله ، لم يبعد منه قومه ، ولم يردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها ؛ فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه ، وأجمعوا خلافه وعداوته ، إلا من عصم الله تعالى منهم بالإسلام ، وهم قليل مستخفون ، وحدب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمُّه أبو طالب ، ومنعه وقام دونه ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر الله ، مظهرا لأمره ، لا يرده عنه شيء ‏‏.‏‏ فلما رأت قريش ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه ، من فراقهم وعيب آلهتهم ، ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه ، وقام دونه ، فلم يسلمه لهم ، مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب ، عتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب ‏‏.‏‏ وأبو سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ واسم أبي سفيان ‏‏:‏‏ صخر ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأبو البختري ، و اسمه العاص بن هشام بن الحارث ابن أسد بن عبدالعزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ أبو البختري ‏‏:‏‏ العاص بن هاشم ‏‏.‏‏قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ والأسود بن المطلب بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ وأبو جهل - واسمه عمرو ، وكان يكنى أبا الحكم - بن هشام بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ والوليد بن المغيرة بن عبدالله ابن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ و نُبيه ومنبه ابنا الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏ والعاص بن وائل ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ العاص بن وائل بن هاشم بن سُعيد بن سهم بن عمرو بن هُصيص بن كعب بن لؤي ‏‏.‏‏

وفد قريش يعاتب أبا طالب في شأن الرسول الله صلى الله عليه و سلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ أو من مشى منهم ‏‏.‏‏ فقالوا ‏‏:‏‏ يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، وعاب ديننا ، وسفه أحلامنا ، وضلل آباءنا ؛ فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلي بيننا وبينه ، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه ، فنكفيكه ؛ فقال لهم أبو طالب قولا رفيقا ، وردهم ردا جميلا ، فانصرفوا عنه ‏‏.‏‏

الرسول صلى الله عليه وسلم يستمر في دعوته

ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على هو عليه ، يظهر دين الله ، ويدعو إليه ، ثم شرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال وتضاغنوا ، وأكثرت قريش ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بينها ، فتذامروا فيه ، وحض بعضهم بعضا عليه ‏‏.‏‏ رجوع الوفد إلى أبي طالب مرة ثانية ثم إنهم مشوا إلى أبي طالب مرة أخرى ، فقالوا له ‏‏:‏‏ يا أبا طالب ، إن لك سنا وشرفا ومنزلة فينا ، وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا ، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آباءنا ، وتسفيه أحلامنا ، وعيب آلهتنا ، حتى تكفه عنا ، أو ننازله وإياك في ذلك ، حتى يهلك أحد الفريقين ، أوكما قالوا له ‏‏.‏‏ ثم انصرفوا عنه ، فعظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم ، ولم يطب نفسا بإسلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم ولا خذلانه ‏‏.‏‏ ما دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأبي طالب قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس أنه حُدث ‏‏:‏‏ أن قريشا حين قالوا لأبي طالب هذه المقالة ، بعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، إن قومك قد جاءوني ، فقالوا لي كذا وكذا ، للذي كانوا قالوا له ، فأبقِ علي وعلى نفسك ، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق ؛ قال ‏‏:‏‏ فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه بداء أنه خاذله ومسلمه ، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام معه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ يا عم ، والله لو وضعوا الشمس في يميني ، و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه ، ما تركته ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبكى ثم قام ؛ فلما ولى ناداه أبو طالب ، فقال ‏‏:‏‏ أقبل يا ابن أخي ؛ قال ‏‏:‏‏ فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏‏:‏‏ اذهب يا بن أخي ، فقل ما أحببت ، فوالله لا أسلمك لشيء أبدا ‏‏.‏‏

قريش تعرض عمارة بن الوليد المخزومي على أبي طالب

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم إن قريشا حين عرفوا أن أبا طالب قد أبى خذلان رسول ‏الله صلى الله عليه وسلم وإسلامه ، وإجماعه لفراقهم في ذلك وعداوتهم ، مشوا إليه بعُمارة بن الوليد بن المغيرة ، فقالوا له - فيما بلغني - ‏‏:‏‏ يا أبا طالب ، هذا عمارة بن الوليد ، أنهد فتى في قريش وأجمله ، فخذه فلك عقله ونصره، واتخذه ولدا فهو لك ، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا ، الذي قد خالف دينك ودين آبائك ، وفرق جماعة قومك، وسفه أحلامهم ، فنقتله ، فإنما هو رجل برجل ؛ فقال ‏‏:‏‏ والله لبئس ما تسومونني ‏‏!‏‏ أتعطونني ابنكم أغذوه لكم ، وأعطيكم ابني تقتلونه ‏‏!‏‏ هذا والله ما لا يكون ابدا ‏‏.‏‏قال ‏‏:‏‏ فقال المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي ‏‏:‏‏ و الله يا أبا طالب لقد أنصفك قومك ، وجهدوا على التخلص مما تكرهه ، فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئا ؛ فقال أبو طالب للمطعم ‏‏:‏‏ والله ما أنصفوني ، ولكنك قد أجمعت خذلاني ومظارهة القوم علي ، فاصنع ما بدا لك ، أو كما قال ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فحقب الأمر ، وحميت الحرب ، وتنابذ القوم ، وبادى بعضهم بعضا ‏‏.‏‏ شعر أبي طالب في التعريض بالمطعم ومن خذله من عبد مناف فقال أبو طالب عند ذلك ، يعرض بالمطعم بن عدي ، ويُعم من خذله من بني عبد مناف ، ومن عاداه من قبائل قريش ، ويذكر ما سألوه ، وما تباعد من أمرهم ‏‏:‏‏

ألا قل لعمرو والولـيد ومـطـعـم

 

ألا ليت حظي من حياطتـكـم بـكْـرُ

من الخور حبحاب كـثـير رُغـاؤه

 

يُرش على الساقين من بولـه قـطـر

تخلف خلف الوِرْد لـيس بـلاحـق

 

إذا ما علا الفـيفـاء قـيل لـه وبـر

أرى أخوينـا مـن أبـينـا وأمـنـا

 

إذا سئلا قـالا إلـى غـيرنـا الأمـر

بلى لهما أمر ولكـن تـجـرجـمـا

 

كما جُرجمت من رأس ذي علق الصخر

أخص خصوصا عبد شمس ونوفـلا

 

هما نبذانا مثل مـا يُنـبـذ الـجـمـر

هما أغمزا للقوم فـي أخـويهـمـا

 

فقد أصبحا منهم أكفـهـمـا صِـفْـرُ

هما أشركا في المجد من لا أبـا لـه

 

من الـنـاس إلا أن يُرس لـه ذكــر

وتيم ومخـزوم وزُهـرة مـنـهـمُ

 

وكانوا لنا مولى إذا بُغـي الـنـصـر

فواللـه لا تـنـفـك مـنـا عـداوة

 

ولا منهمُ ما كان من نسـلـنـا شـفـر

فقد سفهت أحلامهم وعـقـولـهـم

 

وكانوا كجفر بئس ما صنعـت جـفـر

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ تركنا منها بيتين أقذع فيهما ‏‏.‏‏

قريش تظهر عداوتها للمسلمين

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم إن قريشا تذامروا بينهم على من في القبائل منهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا معه ، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم ، ويفتنونهم عن دينهم، ومنع الله رسوله صلى الله عليه وسلم منهم بعمه أبي طالب ، وقد قام أبو طالب ، حين رأى قريشا يصنعون ما يصنعون في بني هاشم وبني المطلب ، فدعاهم إلى ما هو عليه ، من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقيام دونه ؛ فاجتمعوا إليه ، وقاموا معه ، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه ، إلا ما كان من أبي لهب ، عدو الله الملعون ‏‏.‏‏ شعر أبي طالب في مدح قومه لنصرته فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره في جهدهم معه ، وحدبهم عليه ، جعل يمدحهم ويذكر قديمهم ، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم ، ومكانه منهم ، ليشد لهم رأيهم ، وليحدبوا معه على أمره ، فقال ‏‏:‏‏

إذا اجتمعت يوما قريش لمفخر

 

فعبد مناف سرها وصمـيمـهـا

وإن حُصّلت أشراف عبد منافها

 

ففي هاشم أشرافها وقـديمـهـا

وإن فخرت يوما فإن محـمـدا

 

هو المصطفى من سرها وكريمها

تداعت قريش غثها وسمينـهـا

 

علينا فلم تظفر وطاشت حلومهـا

وكنا قديما لا نقـر ظُـلامة إذا

 

ما ثنوا صُعْر الخدود نُقـيمـهـا

ونحمي حماها كل يوم كـريهة

 

ونضرب عن أجحارها من يرومها

بنا انتعش العود الذَّوَاء وإنـمـا

 

بأكنافنا تندى وتنمـى أرومـهـا ‏

الوليد بن المغيرة و كيده للرسول ، وموقفه من القرآن

اجتماعه بنفر من قريش ليبيتوا ضد النبي صلى الله عليه و سلم و اتفاق قريش أن يصفوا الرسول صلى الله عليه و سلم بالساحر ، و ما أنزل الله فيهمثم إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا سن فيهم ، وقد حضر الموسم فقال لهم ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأيا واحدا ، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ، ويرد قولكم بعضه بعضا ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فأنت يا أبا عبد شمس ، فقلْ وأقمْ لنا رأيا نقول به ؛ قال ‏‏:‏‏ بل أنتم فقولوا أسمعْ ؛ قالوا ‏‏:‏‏ نقول كاهن ؛ قال ‏‏:‏‏ لا والله ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فنقول ‏‏:‏‏ مجنون ؛ قال ‏‏:‏‏ ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ، ولا تخالجه ، ولا وسوسته ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فنقول ‏‏:‏‏ شاعر ؛ قال ‏‏:‏‏ ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فنقول ‏‏:‏‏ ساحر ؛ قال ‏‏:‏‏ ما هو بساحر ، لقد رأينا السحار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولا عقدهم ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فما نقول يا أبا عبد شمس ‏‏؟‏‏ قال‏‏:‏‏ والله إن لقوله لحلاوة ، وإن أصله لعذق ، وإن فرعه لجناة - قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ‏ويقال لغَدَق - وما أنتم بقائلين من هذا شيئا إلا عُرف أنه باطل ، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته ‏‏.‏‏ فتفرقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم ، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه ، وذكروا لهم أمره ‏‏.‏‏ فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة و في ذلك من قوله ‏‏:‏‏ ‏‏ {(‏‏ ذرني ومن خلقت وحيدا ، وجعلت له مالا ممدودا وبنين شهودا ، ومهَّدت له تمهيدا ‏‏.‏‏ ثم يطمع أن أزيد ‏‏.‏‏ كلا إنه كان لآياتنا عنيدا ‏‏)}‏‏ ‏‏:‏‏ أي خصيما ‏‏.‏‏ ‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ عنيد ‏‏:‏‏ معاند مخالف ‏‏.‏‏ قال رؤبة بن العجاج ‏‏:‏‏

ونحن ضرابون رأس العُنَّدِ

 

 

وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ سأرهقه صعودا ، إنه فكر وقدر ، فقتل كيف قدر ‏‏.‏‏ ثم قتل كيف قدر ‏‏.‏‏ ثم نظر ، ثم عبس وبسر ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ بسر ‏‏:‏‏ كره وجهه ‏‏.‏‏ قال العجاج ‏‏:‏‏

مضبر اللحيين بسرا منهسا

 

 

يصف كراهية وجهه ‏‏.‏‏ وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ثم أدبر واستكبر فقال إن هذا إلا سحر يؤثر ، إن هذا إلا قول البشر ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ رد القرآن على صحب الوليد قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأنزل الله تعالى ‏‏:‏‏ في النفر الذين كانوا معه يصنفون القول في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيما جاء به من الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ كما أنزلنا على المقتسمين ‏‏.‏‏ الذين جعلوا القرآن عضين ‏‏.‏‏ فوربك لنسئلنهم أجمعين ‏‏.‏‏ عما كانوا يعملون ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ واحدة العضين ‏‏:‏‏ عضة ، يقول ‏‏:‏‏ عضوه ‏‏:‏‏ فرقوه ‏‏.‏‏ قال رؤبة بن العجاج ‏‏:‏‏

وليس دين الله بالمُعَضَّى

 

 

وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏2/ 108‏‏)‏‏

تفرق النفر في قريش يشوهون رسالة الرسول صلى الله عليه و سلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لقوا من الناس، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها ‏‏.‏‏ شعر أبي طالب في معاداة خصومه فلما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه ، قال قصيدته التى تعوذ فيها بحرم مكة وبمكانه منها ، وتودد فيها أشراف قومه ، وهو على ذلك يخبرهم وغيرهم في ذلك من شعره أنه غير مسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه ، فقال ‏‏:‏‏

ولما رأيت القـوم لا ود فـيهـمُ

 

وقد قطعوا كل العرى والـوسـائل

وقد صارحونا بالعـداوة والأذى

 

وقد طاوعوا أمر العدو الـمـزايل

وقد حالفوا قوما علـينـا أظـنّة

 

يعضون غيظا خلفنـا بـالأنـامـل

صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة

 

وأبيض عضب من تراث المقـاول

وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي

 

وأمسكت من أثـوابـه بـالـوصـائل

قياما معا مستـقـبـلـين رتـاجـه

 

لدي حيث يقضي حلفـه كـل نـافـل

وحيث يُنيخ الأشعـرون ركـابـهـم

 

بمفضَى السيول مـن إسـاف ونـائل ‏

موسمَّة الأعضاد أو قـصـراتـهـا

 

مخُـيَّسة بـين الـسَّـديس وبـــازل

ترى الودع فيهـا والـرخـام وزينة

 

بأعناقها مـعـقـودة كـالـعـثـاكـل

أعوذ برب الناس من كـل طـاعـن

 

علينـا بـسـوء أو مُـلـحّ بـبـاطـل

ومن كاشح يسعى لـنـا بـمـعـيبة

 

ومن ملحق في الدين ما لـم نـحـاول

وثور ومن أرسى ثبـيرا مـكـانـه

 

وراق لـيرقـى فـي حـراء ونـازل

وبالبيت ، حق البيت ، من بطن مكة

 

وبالـلـه إن الـلـه لـيس بـغـافـل

وبالحجر المسودّ إذ يمـسـحـونـه

 

إذا اكتنفوه بـالـضـحـى والأصـائل

وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة

 

على قدمـيه حـافـيا غـير نـاعـل ‏

وأشواط بين المروتين إلى الصـفـا

 

وما فيهمـا مـن صـورة وتـمـاثـل

ومن حج بيت الله من كـل راكـب

 

ومن كل ذي نـذر ومـن كـل راجـل

وبالمشعر الأقصى إذا عـمـدوا لـه

 

إلالٌ إلى مُفضَى الشـراج الـقـوابـل

وتوقافهم فوق الـجـبـال عـشـية

 

يقيمون بـالأيدي صـدور الـرواحـل

وليلة جمع والمنـازل مـن مـنـى

 

وهل فوقهـا مـن حـرمة ومـنـازل

وجمع إذا ما المقـربـات أجـزنـه

 

سراعا كما يخرجن مـن وقـع وابـل

وبالجمرة الكبرى إذا صمدوا لـهـا

 

يؤمون قذفـا رأسـهـا بـالـجـنـادل

وكندة إذ هم بالحـصـاب عـشـية

 

تجيز بهم حُـجَّـاج بـكـر بـن وائل

حليفان شدا عقد ما احـتـلـفـا لـه

 

وردَّا علـيه عـاطـفـات الـوسـائل

وحطمهمُ سمُر الصفـاح وسـرحـه

 

وشبرقة وَخْدَ الـنـعـام الـجـوافـل ‏‏

فهل بعد هذا مـن مـعـاذ لـعـائذ

 

وهل من معيذ يتـقـى الـلـه عـاذل

يُطاع بنا أمر العدَّى وودّوا لو انـنـا

 

تُسـد بـنـا أبـواب تـرك وكـابـل

كذبتم وبـيت الـلـه نـتـرك مـكة

 

ونظعـن إلا أمـركـم فـي بـلابـل

كذبتم وبيت الله نُـبـزَى مـحـمـدا

 

ولما نـطـاعـن دونـه ونـنـاضـل

ونسلمه حتـى نـصـرع حـولـه

 

و نذهل عـن أبـنـائنـا والـحـلائل

وينهض قوم في الـحـديد إلـيكـمُ

 

نهوض الروايا تحت ذات الصـلاصـل

وحتى ترى ذا الـضـغـن يركـب

 

رَدْعه من الطعن فعل الأنكب المتحامل

وإنا لعمر الـلـه إنْ جـدَّ مـا أرى

 

لَتلتـبـسـنْ أسـيافـنـا بـالأمـاثـل

بِكفَّيْ فتى مثل الشهـاب سـمـيدع

 

أخي ثقة حامـي الـحـقـيقة بـاسـل

شهورا وأيامـا وحـولا مـجَـرَّمـا

 

علينا وتـأتـي حِـجة بـعـد قـابـل

وما ترك قوم ، لا أبـا لـك ، سـيدا

 

يحوط الذمـار غـير ذرب مـواكـل

وأبيض يستقى الغمـام بـوجـهـه

 

ثمال اليتامـى عـصـمة لـلأرامـل

يلوذ به الهُـلاّف مـن آل هـاشـم

 

فهم عنـده فـي رحـمة وفـواضـل‏

لعمري لقد أجـرى أسـيد وبـكـره

 

إلـى بـغـضـنـا وجـزّآنـا لآكـل

وعثمان لم يربع علـينـا وقـنـفـذ

 

ولكن أطاعا أمـر تـلـك الـقـبـائل

أطاعا أُبيّا وابن عـبـد يغـوثـهـم

 

ولـم يرقـبـا فـينـا مـقـالة قـائل

كما قد لقينا مـن سُـبـيع ونـوفـل

 

وكلٌّ تولى مـعـرضـا لـم يجُـامـل

فإن يُلْقيا أو يمُكن اللـه مـنـهـمـا

 

نكلْ لهما صاعا بـصـاع الـمُـكـايل

وذاك أبو عمرو أبي غير بُغضـنـا

 

ليُظعننـا فـي أهـل شـاء وجـامـل

يناجي بنا في كل ممسى ومصـبـح

 

فناج أبا عـمـرو بـنـا ثـم خـاتـل

ويُؤْلى لنا بالـلـه مـا إن يغـشُّـنـا

 

بلى قـد نـراه جـهـرة غـير حـائل

أضاق عليه بغضـنـا كـل تـلـعة

 

من الأرض بين أخشـب فـمـجـادل

وسائلْ أبا الوليد مـاذا حـبـوتـنـا

 

بسعيك فينا معرضـا كـالـمـخـاتـل

وكنت امرأ مـمـن يُعـاش بـرأيه

 

ورحمته فـينـا ولـسـت بـجـاهـل

فعتبة لا تسمع بنـا قـول كـاشـح

 

حسود كذوب مـبـغـض ذي دغـاول

ومر أبو سفيان عنـي مـعـرضـا

 

كما مر قَيْلٌ من عـظـام الـمـقـاول

يفر إلـى نـجـد وبـرد مـياهـه

 

ويزعم أني لست عـنـكـم بـغـافـل

ويخبرنا فعل الـمـنـاصـح أنـه

 

شفيق ويخفي عـارمـات الـدواخـل

 

أمطعمُ لم أخذلك فـي يوم نـجـدة

 

ولا معظم عنـد الأمـور الـجـلائل

 

ولا يوم خـصـم إذا أتـوك ألـدّة

 

أُولي جدل من الخصوم المـسـاجـل

 

أمطعم إن القوم سـامـوك خـطة

 

وإني متى أُوكـلْ فـلـسـت بـوائل

 

جزى الله عنا عبد شمس ونـوفـلا

 

عقـوبة شـر عـاجـلا غـير آجـل

 

بميزان قسـط لا يخُـسّ شـعـيرة

 

له شاهد من نـفـسـه غـير عـائل

 

لقد سفهت أحلام قـوم تـبـدلـوا

 

بني خلف قيضا بـنـا والـغـياطـل

 

ونحن الصميم مـن ذؤابة هـاشـم

 

وآل قصي في الـخـطـوب الأوائل

 

وسهم ومخزوم تمـالـوا وألَّـبـوا

 

علينا العدا من كل طـمـل وخـامـل

 

فعبد مناف أنتـم خـير قـومـكـم

 

فلا تشركوا في أمركـم كـل واغـل

 

لعمري لقد وهنـتـمُ وعـجـزتـمُ

 

وجئتم بأمر مخطىء للـمـفـاصـل

 

وكنتم حديثا حطب قدر وأنتـم الْ آن

 

حطـاب أَقــدُر ومـــراجـــل

 

ليهنىء بني عبد مناف عقـوقـنـا

 

وخذلاننا وتركنـا فـي الـمـعـاقـل

 

فإن نك قوما نتَّئر ما صـنـعـتـمُ

 

وتحتلبوهـا لـقـحة غـير بـاهـل

 

وسائط كانت في لؤي بن غـالـب

 

نفاهم إلينا كـل صـقـر حُـلاحـل

 

ورهط نفيل شر من وطىء الحصى

 

وألأم حـاف مـن مـعـد ونـاعـل

 

فأبلغ قصيا أن سيُنـشـر أمـرنـا

 

وبشر قصيا بـعـدنـا بـالـتـخـاذل

 

ولو طرقت ليلا قصـيا عـظـيمة

 

إذا ما لجأنا دونهم فـي الـمـداخـل

 

ولو صدقوا ضربا خلال بيوتـهـم

 

لكنا أٌسى عند النسـاء الـمـطـافـل

 

فكل صديق وابـن أخـت نـعـده

 

لعمري وجدنـا غِـبَّـه غـير طـائل

 

سوى أن رهطا من كلاب بن مـرة

 

براء إلـينـا مـن مـعـقَّة خـاذل ‏

 

وهنَّا لهم حتى تبـدد جـمـعـهـم

 

ويحسر عـنـا كـل بـاغ وجـاهـل

 

وكان لنا حوض السـقـاية فـيهـم

 

ونحن الكُدى من غالب والـكـواهـل

 

شباب من المـطـيِّبـين وهـاشـم

 

كبيض السيوف بين أيدي الـصـياقـل

 

فما أدركوا ذحلا ولا سفكـوا دمـا

 

ولا حالـفـوا إلا شـرار الـقـبـائل

 

بضرب ترى الفتيان فيه كـأنـهـم

 

ضواري أسود فـوق لـحـم خـرادل

 

بني أمة مـحـبـوبة هـنـدكـية

 

بني جمح عُبـيد قـيس بـن عـاقـل

 

ولكنـنـا نـسـل كـرام لـسـادة

 

بهم نُعي الأقوام عـنـد الـبـواطـل

 

ونعم ابن أخت القوم غير مـكـذَّب

 

زهير حساما مفـردا مـن حـمـائل

 

أشمُّ من الشم البهالـيل ينـتـمـي

 

إلى حسب في حومة المجد فـاضـل

 

لعمري لقد كُلِّفت وجدا بـأحـمـد

 

وإخوته دأب المحـب الـمـواصـل

 

فلا زال في الدنيا جمالا لأهلـهـا

 

وزينا لمـن والاه رب الـمـشـاكـل

 

فمن مثله في النـاس أي مُـؤمَّـل

 

إذا قاسه الحكام عنـد الـتـفـاضـل

 

حليم رشـيد عـادل غـير طـائش

 

يوالي إلاها لـيس عـنـه بـغـافـل

 

فواللـه لـولا أن أجـيء بـسـنة

 

تجُر على أشياخنا في الـمـحـافـل

 

لكنا اتبعنـاه عـلـى كـل حـالة

 

من الدهر جِدّا غير قول الـتـهـازل

 

لقد علموا أن ابنـنـا لا مـكـذَّب

 

لدينا ولا يُعنـى بـقـول الأبـاطـل ‏

 

فأصبح فينـا أحـمـد فـي أرومة

 

تُقصِّر عنـه سـورة الـمـتـطـاول

 

حدبت بنفسـي دونـه وحـمـيتـه

 

ودافعت عنه بـالـذرا والـكـلاكـل

 

فأيده ربُّ الـعـبـاد بـنـصـره

 

وأظهر دينـا حـقـه غـير بـاطـل

 

رجال كرام غير مِـيل نـمـاهـم

 

إلى الخير آباء كرام الـمـحـاصـل

 

فإن تك كعب من لـؤي صُـقـيبة

 

فلا بـد يومـا مـرة مـن تــزايل

 

             

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ هذا ما صح لي من هذه القصيدة ، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها ‏‏.‏‏ الرسول عليه الصلاة والسلام يستقي لأهل المدينة حين أقحطوا ، فنزل المطر ، وود لو أن أبا طالب حي ، ليرى ذلك  قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وحدثني من أثق به ، قال ‏‏:‏‏ أقحط أهل المدينة ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فشكوا ذلك إليه ، فصعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فاستسقى ، فما لبث أن جاء من المطر ما أتاه أهل الضواحي يشكون منه الغرق ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ اللهم حوالينا ولا علينا ، فانجاب السحاب عن المدبنة فصار حوليها كالإكليل ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ لو أردك أبو طالب هذا اليوم لسره ، فقال له بعض أصحابه ‏‏:‏‏ كأنك يا رسول الله أردت قوله ‏‏:‏‏

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه

 

ثمال اليتامى عصمة للأرامـل

قال ‏‏:‏‏ أجل ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وقوله ‏‏(‏‏ وشبرقة ‏‏)‏‏ عن غير ابن إسحاق ‏‏.‏‏ ذكر الأسماء التى وردت في قصيدة أبي طالب قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ والغياطل ‏‏:‏‏ من بني سهم بن عمرو بن هصيص ، وأبو سفيان بن حرب بن أمية ‏‏.‏‏ ومطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف ‏‏.‏‏ وزهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم ، و أمه عاتكة بنت عبدالمطلب ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأسيد ، وبكره ‏‏:‏‏ عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي ‏‏.‏‏ وعثمان بن عبيد الله ، أخو طلحة بن عبيد الله التيمي ‏‏.‏‏ وقنفذ بن عمير بن جدعان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة ‏‏.‏‏ وأبو الوليد عتبة بن ربيعة ‏‏.‏‏ وأُبيّ الأخنس بن شريق الثقفي ، حليف بني زهرة بن كلاب ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وإنما سمي الأخنس ، لأنه خنس بالقوم يوم بدر ، وإنما اسمه أُبي ، وهو من بني علاج ، وهو علاج بن أبي سلمة بن عوف بن عقبة ‏‏.‏‏ والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب ‏‏.‏‏ وسبيع بن خالد، أخو بلحارث بن فهر ‏‏.‏‏ ونوفل بن خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وهو ابن العدوية ‏‏.‏‏ وكان من شياطين قريش ، وهو الذي قرن بين أبي بكر الصديق وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما في حبل حين أسلما ، فبذلك كانا يُسميان ‏القرينين ؛ قتله علي بن أبي طالب عليه السلام يوم بدر ‏‏.‏‏ وأبو عمرو قُرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ وقوم علينا أظنَّة ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ بنو بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فهؤلاء الذين عدد أبو طالب في شعره من العرب ‏‏.‏‏

انتشار ذكر الرسول في القبائل خارج مكة، و لاسيما في الأوس و الخزرج

فلما انتشر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في العرب ، وبلغ البلدان ، ذكر بالمدينة ، ولم يكن حي من العرب أعلم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر ، وقبل أن يذكر من هذا الحي من الأوس والخزرج ، وذلك لما كانوا يسمعون من أحبار اليهود ، وكانوا لهم حلفاء ، ومعهم في بلادهم ‏‏.‏‏ فلما وقع ذكره بالمدينة ، وتحدثوا بما بين قريش فيه من الاختلاف ‏‏.‏‏ قال أبو قيس بن الأسلت ‏‏.‏‏ أخو بني واقف ‏‏.‏‏

نسب أبي قيس بن الأسلت

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ نسب ابن إسحاق أبا قيس هذا هاهنا إلى بني واقف ، ونسبه في حديث الفيل إلى خطمة، لأن العرب قد تنسب الرجل إلى أخي جده الذي هو أشهر منه ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ حدثني أبو عبيدة ‏‏:‏‏ أن الحكم بن عمرو الغفاري من ولد نُعيلة أخي غفار ‏‏.‏‏ وهو غفار بن مليل ، ونعيلة بن مليل بن ضمرة بن بكر ابن عبد مناة ، وقد قالوا عتبة بن غزوان السلمي ، وهو من ولد مازن بن منصور وسُليم بن منصور‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ فأبو قيس بن الأسلت ‏‏:‏‏ من بني وائل ؛ ووائل ، وواقف ، وخطمة إخوة من الأوس ‏‏.‏‏

شعر ابن الأسلت في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فقال أبو قيس بن الأسلت - وكان يحب قريشا ، وكان لهم صهرا ، كانت عنده أرنب بنت أسد بن عبدالعزى بن قصي ، وكان يقيم عندهم السنين بامرأته - قصيدة يعظم فيها الحرمة ، وينهى قريشا فيها عن الحرب ، ويأمرهم بالكف بعضهم عن بعض ، ويذكر فضلهم وأحلامهم ، ويأمرهم بالكف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويذكرهم بلاء الله عندهم ، ودَفْعَه عنهم الفيل وكيده عنهم ، فقال ‏‏:‏‏

يا راكبا إما عرضت فبلغن

 

مغلغلة عني لؤي بن غالـب

 

رسول امرئ قد راعه ذات بينـكم

 

على النأي محزون بذلـك ناصـب

وقد كان عندي للهموم معـرَّس

 

فلم أقض منها حاجتي ومـآربــي

نُبـيِّتـكـم شرجين كل قبـيلة

 

لها أزمل من بين مُذْك وحـاطـب ‏

أعيذكم بالله من شر صنعكـم

 

وشر تبـاغيكم ودس العقـارب

وإظهـار أخلاق ونجـوى سقـيمة

 

كوخز الأشافـي وقعها حق صائب

فذكِّرهم بالـلـه أول وهـلة

 

وإحلال أحرام الظباء الـشــوازب

وقل لهم والله يحكم حكمه

 

ذروا الحرب تذهب عنكم في المراحب

متـى تبـعثوها تبعثوها ذميمة

 

هي الغُول للأقصَين أو للأقارب

تُقطِّع أرحامـا وتهـلك أمة

 

وتَبـرْي السـديف من سنام وغارب

وتستبـدلوا بالأتحمية بعدها

 

شليلا وأصداء ثياب المحارب

وبالمـسك والكافـور غُبـرْا سوابغا

 

كأن قتـيرَيْهـا عيون الجـنـادب

فإياكـمُ والحـرب لا تعلقـنَّكم

 

و حوضا وخِيم الماء مر المـشـارب

تزين لـلأقوام ثم يرونهـا

 

بعاقـبة إذ بيَّنـت ، أم صـاحـب

تحرق لا تُشوي ضعيفا وتنتحي

 

ذوي العز منكم بالحتوف الصوائب

ألم تعلموا ما كان في حرب داحس

 

فتعتـبروا أو كان في حرب حاطب

وكم قد أصابت من شريف مسـوَّد

 

طويل العماد ضيفُه غـير خـائب

عظيم رماد النار يحُمد أمـره

 

وذي شيمة محض كريم المضارب

وماء هُريق في الضلال كأنما

 

أذاعت به ريح الصبا والجنـائب

يخبركم عنهـا امرؤ حق عالم

 

بأيامهـا والعلم علم التجـارب

فبيعـوا الحراب مِلْمُحارب واذكروا

 

حسابكم والله خير مـحاسـب

وليّ امرىء فاختار دينا فلا يكـن

 

عليكم رقيبـا غير رب الثـواقب

أقيمـوا لنا دينا حنيفا فأنـتم

 

لنا غاية قد يهـتدى بالـذوائب

وأنتم لهذا الناس نور وعصـمة

 

تُؤَمُّون ، والأحلام غير عوازب

وأنتم ، إذا ما حصل الناس ، جوهـر

 

لكم سرة البطحـاء شم الأرانب

تصونون أجسـادا كراما عـتـيقة

 

مهذبة الأنسـاب غير أشـائب

ترى طالب الحاجات نحو بيوتكم

 

عصائب هلكى تهتدي بعصـائب

لقد علم الأقوام أن سـراتكم

 

على كل حال خير أهل الجباجـب

وأفضله رأيا وأعلاه سنة وأَقولُه للحق وسط المواكب

 

 

فقوموا فصلوا ربكم وتمـسحوا

 

بأركان هذا البـيت بين الأخاشـب

فعندكم منه بلاء ومصدق

 

غداة أبي يكسوم هادي الكتـائب

كتيبته بالسهـل تمُسـي ورَجْلُه

 

على القاذفات في رءوس المناقـب

فلما أتاكم نصر ذي العرش ردهم

 

جنود الملـيك بين ساف وحـاصب ‏

فولوا سراعا هاربـين ولم يؤب

 

إلى أهله مِلْحُبْـش غير عصـائب

فإن تهلكـوا نهلكْ وتهلكْ مواسـم

 

يُعاش بهـا ، قول امرئ غـير كاذب

           

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ أنشدني بيته ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ وماء هريق ‏‏)‏‏ ، وبيته ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ فبيعوا الحراب ‏‏)‏‏ ، وقوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ ولي امرىء فاختار ‏‏)‏‏ ، وقوله ‏‏:‏‏

على القاذفات في رءوس المناقب

 

 

أبو زيد الأنصاري وغيره ‏‏.‏‏ حرب داحس والغبراء قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وأما قوله ‏‏:‏‏

ألم تعلموا ما كان في حرب داحس

 

 

فحدثني أبو عبيدة النحوي ‏‏:‏‏ أن داحسا فرس كان لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة بن ربيعة بن الحارث بن مازن بن قُطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان ؛ أجراه مع فرس لحذيفة بن بدر بن عمرو بن زيد بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان ، يقال لها ‏‏:‏‏ الغبراء ‏‏.‏‏ فدس حذيفة قوما وأمرهم أن يضربوا وجه داحس إن رأوه قد جاء سابقا ، فجاء داحس سابقا فضربوا وجهه ، وجاءت الغبراء ‏‏.‏‏ فلما جاء فارس داحس أخبر قيسا الخبر ، فوثب أخوه مالك بن زهير فلطم وجه الغبراء ، فقام حمَل بن بدر فلطم مالكا ‏‏.‏‏ ثم إن أبا الجُنَيْدب العبسي لقي عوف بن حذيفة فقتله ، ثم لقي رجل من بني فزارة مالكا فقتله ، فقال حمل بن بدر أخو حذيفة بن بدر ‏‏:

قتلنا بعوف مالكا وهو ثأرنـا

 

فإن تطلبوا منا سوى الحق تندموا

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ وقال الربيع بن زياد العبسي ‏‏:‏‏

أفبعد مقتل مالك بن زهير

 

ترجو النساء عواقب الأطهار

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ فوقعت الحرب بين عبس وفزارة ، فقتل حذيفة بن بدر وأخوه حمل بن بدر ، فقال قيس بن زهير بن جذيمة يرثي حذيفة ، وجزع عليه ‏‏:‏‏

كم فارس يُدعى وليس بفارس

 

وعلى الهباءة فارس ذو مَصْدَقِ

فابكوا حذيفة لن تُرَثُّوا مثلـه

 

حتى تبيد قبـائل لـم تـخـلـق

وهذان البيتان في أبيات له ‏‏.‏‏ وقال قيس بن زهير ‏‏:‏‏

على أن الفتى حمل بن بدر بغى والظلم مرتعه وخيم

 

 

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ وقال الحارث بن زهير أخو قيس بن زهير‏‏:‏‏

تركت على الهباءة غير فخر

 

حذيفة عنده قصد الـعـوالـي

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ أرسل قيس داحسا والغبراء ، وأرسل حذيفة الخطار والحنفاء ، والأول أصح الحديثين ‏‏.‏‏ وهو حديث طويل منعني من استقصائه قطعه حديث سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏ حرب حاطب قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وأما قوله ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ حرب حاطب ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ فيعني حاطب بن الحارث ابن قيس بن هيشة بن الحارث بن أمية بن معاوية بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، كان قتل يهوديا جارا للخزرج ، فخرج إليه يزيد بن الحارث بن قيس بن مالك بن أحمر بن حارثة بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج - وهو الذي يقال له ‏‏:‏‏ ابن فُسحم ، وفسحم أمه ، وهي امرأة من القين بن جسر - ليلا في نفر من بني الحارث بن الخزرج فقتلوه ، فوقعت الحرب بين الأوس والخزرج فاقتتلوا قتالا شديدا ، فكان الظفر للخزرج على الأوس ، وقتل يومئذ سويد بن صامت بن خالد بن عطية بن حوط بن حبيب بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، قتله المجذَّر بن ذياد البلوي ، واسمه عبدالله ، حليف بني عوف بن الخزرج ‏‏.‏‏ فلما كان يوم أحد خرج المجذر بن ذياد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج معه الحارث بن سويد بن صامت ، فوجد الحارث بن سويد غِرَّة من المجذر فقتله بأبيه ‏‏.‏‏ وسأذكر حديثه في موضعه إن شاء الله تعالى ‏‏.‏‏ ثم كانت بينهم حروب منعني من ذكرها واستقصاء هذا الحديث ما ذكرت في حديث حرب داحس ‏‏.‏‏ شعر حكيم بن أمية في نهي قومه عن عداوة الرسول صلى الله عليه و سلم قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقال حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي ، حليف بني أمية وقد أسلم ، يورّع قومه عما أجمعوا عليه من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فيهم شريفا مطاعا ‏‏:‏‏

هل قائل قولا هو الحق قاعـد

 

عليه وهل غضبان للرشد سامـعُ

وهل سيد ترجو العشيرةُ نفعه

 

لأقصى الموالي والأقارب جامع

تبرأت إلا وجه من يملك الصبا

 

وأهجركم ما دام مُـدْل ونـازع

وأُسلم وجهي للإله ومنطقـي

 

ولو راعني من الصـديق روائع

ذكر ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه
سفهاء قريش يأذونه ، و رميه صلى الله عليه و سلم بالسحر و الجنون
قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم إن قريش اشتد أمرهم للشقاء الذي أصابهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أسلم معه منهم ، فأغروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ سفهاءهم ، فكذبوه وآذوه ، ورموه بالشعر والسحر والكهانة والجنون ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مظهر لأمر الله لا يستخفي به ، مباد لهم بما يكرهون من عيب دينهم ، واعتزال أوثانهم ، وفراقه إياهم كفرهم ‏‏.
‏‏أشد ما أوذي به الرسول صلى الله عليه وسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني يحيى بن عروة بن الزبير ، عن أبيه عروة بن الزبير ، عن عبدالله بن عمرو بن العاص ، قال ‏‏:‏‏ قلت له ‏‏:‏‏ ما أكثر ما رأيت قريشا أصابوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانوا يُظهرون من عداوته ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ حضرتهم ، وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر ، فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا ‏‏:‏‏ ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من أمر هذا الرجل قط ، سفه أحلامنا ، وشتم آباءنا ، وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، لقد صبرنا منه على أمر عظيم ، أو كما قالوا ‏‏:‏‏ فبينا هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأقبل يمشي حتى استلم الركن ، ثم مر بهم طائفا بالبيت ، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم مضى ، فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها ، فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ثم مر الثالثة فغمزوه بمثلها ، فوقف ، ثم قال ‏‏:‏‏ أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بالذبح ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأخذت القوم كلمته حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع ، حتى إن أشدهم فيه وصاة قبل ذلك ليرفَؤُه بأحسن ما يجد من القول ، حتى إنه ليقول ‏‏:‏‏ انصرف يا أبا القاسم ، فوالله ما كنت جهولا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم ؛ فقال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه ، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ‏‏.‏‏ فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوثبوا إليه وثبة رجل واحد ، وأحاطوا به ، يقولون ‏‏:‏‏ أنت الذي تقول كذا وكذا ، لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ؛ فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ نعم ، أنا الذي أقول ذلك ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقام أبو بكر رضي الله عنه دونه ، وهو يبكي ويقول ‏‏:‏‏ أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ‏‏؟‏‏ ثم انصرفوا عنه ، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط ‏‏.‏‏

بعض ما نال أبا بكر في سبيل الرسول صلى الله عليه و سلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني بعض آل أم كلثوم بنت أبي بكر ، أنها قالت ‏‏:‏‏ لقد رجع أبو بكر يومئذ وقد صدعوا فرق رأسه ، مما جبذوه بلحيته وكان كثير الشعر ‏‏.‏‏

أشد ما أوذي به رسول الله صلى الله عليه و سلم

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ حدثني بعض أهل العلم ‏‏:‏‏ أشد ما لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش أنه خرج يوما فلم يلقه أحد من الناس إلا كذبه وآذاه ، لا حر ولا عبد ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله ، فتدثر من شدة ما أصابه ، فأنزل الله تعالى عليه ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ يا أيها المدثر ، قم فأنذر ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏

إسلام حمزة رضي الله عنه

سبب إسلامه قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني رجل من أسلم ، كان واعية ‏‏:‏‏ أن أبا جهل مر برسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا ، فآذاه وشتمه ، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه ، والتضعيف لأمره ؛ فلم يكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومولاة لعبدالله بن جدعان بن عمرو بن كعب بن ‏سعد بن تيم بن مرة في مسكن لها تسمع ذلك ، ثم انصرف عنه فعمد إلى ناد من قريش عند الكعبة ، فجلس معهم ‏‏.‏‏ فلم يلبث حمزة بن عبدالمطلب رضي الله عنه أن أقبل متوشحا قوسه ، راجعا من قنص له ، و كان صاحب قنص يرميه ويخرج له ، وكان إذا رجع من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة ، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم ، وكان أعز فتى في قريش ، وأشد شكيمة ‏‏.‏‏ فلما مر بالمولاة ، وقد رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ، قالت له ‏‏:‏‏ يا أبا عُمارة ، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام ‏‏:‏‏ وجده هاهنا جالسا فآذاه وسبه ، وبلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏

إيقاع حمزة بأبي جهل و إسلامه

فاحتمل حمزةَ الغضبُ لما أراد الله به من كرامته ، فخرج يسعى ولم يقف على أحد ، مُعِدّا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به ؛ فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم ، فأقبل نحوه ، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها فشجه شجة منكرة ، ثم قال ‏‏:‏‏ أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول ‏‏؟‏‏ فرد ذلك علي إن استطعت ‏‏.‏‏ فقامت رجال من بني مخزوم إلى حمزة لينصروا أبا جهل ؛ فقال أبو جهل ‏‏:‏‏ دعوا أبا عمارة ، فإني والله قد سببت ابن أخيه سبا قبيحا ، وتم حمزة رضي الله عنه على إسلامه ، وعلى ما تابع عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله ‏‏.‏‏ فلما أسلم حمزة عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عز وامتنع ، وأن حمزة سيمنعه ، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه ‏‏.‏‏

قول عتبة بن ربيعة في أمر رسول الله صلى الله عليه و سلم

عتبة بن ربيعة يفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي ، قال ‏‏:‏‏ حدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا ، قال يوما وهو جالس في نادي قريش ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ، ويكف عنا ‏‏؟‏‏ وذلك حين أسلم حمزة ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ؛ فقال ‏‏:‏‏ بلى يا أبا الوليد ، قم إليه فكلمه ؛ فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة ، والمكان في النسب ، وإنك أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم وسفهت به أحلامهم وعبت به آلهتهم ودينهم وكفرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها ‏‏.‏‏ ‏‏:‏‏ قال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ قل يا أبا الوليد ، أسمعْ ؛ قال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا ، حتى لا نقطع أمرا دونك ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ؛ وإن كان هذا الذي يأتيك رَئيِّا تراه لا تستيطع رده عن نفسك ، طلبنا لك الطب ، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُداوى منه ، أو كما قال له ‏‏.‏‏ حتى إذا فرغ عتبة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه ، قال ‏‏:‏‏ أقد فرغت يا أبا الوليد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم ، قال ‏‏:‏‏ فاسمع مني ؛ قال ‏‏:‏‏ أفعل ؛ فقال ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏‏.‏‏ {حم ‏‏.‏‏ تنزيل من الرحمن الرحيم ‏‏.‏‏ كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون ‏‏.‏‏ بشيرا ونذيرا ، فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون ‏‏.‏‏ وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ‏‏} )‏‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه ‏‏.‏‏ فلما سمعها منه عتبة ، أنصت لها ، وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه ؛ ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها ، فسجد ثم قال ‏‏:‏‏ قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك‏‏.‏‏ رأي عتبة فقام عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به ‏‏.‏‏ فلما جلس إليهم قالوا ‏‏:‏‏ ما وراءك يا أبا الوليد ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالشعر ، ولا بالسحر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش ، أطيعوني واجعلوها بي ، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم ، فإن تصبه العرب فقد كُفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم ، وكنتم أسعد الناس به ؛ قالوا ‏‏:‏‏ سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ؛ قال ‏‏:‏‏ هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم ‏‏.‏‏
ما دار بين رسول الله صلى الله عليه و سلم و بين رؤساء قريش ، و تفسير لسورة الكهف قريش تفتن المسلمين ، و تستمر على تعذيب من أسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم ان الإسلام جعل يفشو بمكة في قبائل قريش في الرجال والنساء ، وقريش تحبس من قدرت على حبسه ، وتفتن من استطاعت فتنته من المسلمين ، ثم إن أشراف قريش من كل قبيلة ، كما حدثني بعض أهل العلم عن سعيد بن جبير ، وعن عكرمة مولى ابن عباس ، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال ‏‏:‏‏

زعماء قريش تفاوض الرسول صلى الله عليه وسلم

اجتمع عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب ، والنضر ابن الحارث بن كلدة ، أخو بني عبدالدار ، وأبو البختري بن هشام ، والأسود بن المطلب بن أسد ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبو جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أمية ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج السهميان ، وأمية بن خلف ، أو من اجتمع منهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، ثم قال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تُعذروا فيه ، فبعثوا إليه ‏‏:‏‏ إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فأتهم ؛ فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعا ، وهو يظن أن قد بدا لهم فيما كلمهم فيه بداء ، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ، ويعز عليه عنتهم ، ‏حتى جلس إليهم ؛ فقالوا له ‏‏:‏‏ يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنكلمك ، وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه مثل ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وشتمت الآلهة ، وسفهت الأحلام ، وفرقت الجماعة ، فما بقي أمر قبيح إلا جئته فيما بيننا وبينك - أو كما قالوا له - فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا ، وإن كنت إنما تطلب به الشرف فينا، فنحن نسودك علينا ، وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا - فربما كان ذلك ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب لك حتى نبرئك منه ، أونُعذر فيك ؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ما بي ما تقولون ، ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولا ، وأنزل علي كتابا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا ، فبلغتكم رسالات ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به ، فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبرْ لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، فإن كنت غير قابل منا شيئا مما عرضناه عليك فإنك قد علمت أنه ليس من الناس أحد أضيق بلدا ، ولا أقل ماء ، ولا أشد عيشا منا ، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فَلْيُسيِّرْ عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجر لنا فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب ، فإنه كان شيخ صدق ، فنسألهم عما تقول ‏‏:‏‏ أحق هو أم باطل ، فإن صدقوك وصنعت ما سألناك صدقناك ، وعرفنا به منزلتك من الله ، وأنه بعثك رسولا كما تقول ‏‏.‏‏ ‏فقال لهم صلوات الله وسلامه عليه ‏‏:‏‏ ما بهذا بعثت إليكم ، إنما جئتكم من الله بما بعثني به ، وقد بلغتكم ما أُرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى ، حتى يحكم الله بيني وبينكم ‏‏.‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ فإذا لم تفعل هذا لنا ، فخذ لنفسك ، سل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ، ويراجعنا عنك ، وسله فليجعل لك جنانا وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق كما نقوم ، وتلتمس المعاش منا كما تلتمسه ، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم ‏‏.‏‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بُعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا - أو كما قال - فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم ‏‏.‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ فأسقط السماء علينا كسفا كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ، فإنا لا نؤمن لك إلا أن تفعل ‏‏.‏‏قال ‏‏:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ ذلك إلى الله ، إن شاء أن يفعله بكم فعل ‏‏.‏‏ قالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، أفما علم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيتقدم إليك فيعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا ، إذ لم نقبل منك ما جئتنا به ‏‏!‏‏ إنه قد بلغنا أنك إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له ‏‏:‏‏ الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، وإنا والله لا نتركك وما بلغت منا حتى نهلكك ، أو تهلكنا ‏‏.‏‏ وقال قائلهم ‏‏:‏‏ نحن نبعد الملائكة ، وهي بنات الله ‏‏.‏‏ وقال قائلهم ‏‏:‏‏ لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا ‏‏.‏‏

حديث عبدالله بن أبي أمية مع رسول الله صلى الله عليه و سلم

فلما قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قام عنهم ، وقام معه عبدالله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم - وهو ابن عمته ، فهو لعاتكة بنت عبدالمطلب - فقال له ‏‏:‏‏ يا محمد ، عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك من الله كما تقول ، ويصدقوك ويتبعوك فلم تفعل ، ثم سألوك أن تأخذ لنفسك ما يعرفون به فضلك عليهم ، ومنزلتك من الله ، فلم تفعل ، ثم سألوك أن تعجل لهم بعض ما تخوفهم به من العذاب ، فلم تفعل - أو كما قال له - فوالله لا أومن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ، ثم ترقى فيه وأنا أنظر إليك حتى تأتيها ، ثم تأتي معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وأيم الله ، لو فعلت ذلك ما ظننت أني أصدقك ، ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏.‏‏ وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان يطمع به من قومه حين دعوه ، ولما رأى من مباعدتهم إياه ‏‏.‏‏

أبو جهل يتوعد الرسول صلى الله عليه وسلم

فلما قام عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال أبو جهل ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، إن محمدا قد أبى إلا ما ترون من عيب ديننا ، وشتم آبائنا ، وتسفيه أحلامنا ، وشتم آلهتنا ، وإني أعاهد الله لأجلسن له غدا بحجر ما أُطيق حمله - أو كما قال - فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه ، فأسلموني عند ذلك أو امنعوني ، فليصنع بعد ذلك بنو عبد مناف ما بدا لهم ؛ قالوا ‏‏:‏‏ والله لا نسلمك لشيء أبدا ، فامض لما تريد‏‏.‏‏

ما حدث لأبي جهل حين هم بإلقاء الحجر على الرسول صلى الله عليه و سلم

فلما أصبح أبو جهل ، أخذ حجرا كما وصف ، ثم جلس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظره ، وغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يغدو ‏‏.‏‏ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وقبلته إلى الشام ، فكان إذا صلى صلى بين الركن اليماني والحجر الأسود ، وجعل الكعبة بينه وبين الشام ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي وقد غدت قريش فجلسوا في أنديتهم ينتظرون ما أبو جهل فاعل ، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أبو جهل الحجر ، ثم أقبل نحوه ، حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يداه على حجره ، حتى قذف الحجر من يده ، وقامت إليه رجال قريش ، فقالوا له ‏‏:‏‏ ما لك يا أبا الحكم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة ، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل ، لا والله ما رأيت مثل هامته ، ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قط ، فهمَّ بي أن يأكلني ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فذُكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏‏:‏‏ ذلك جبريل عليه السلام ، لو دنا لأخذه ‏‏.‏‏

النضر بن الحارث ينصح قريشا بالتدبر فيما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم

فلما قال لهم ذلك أبو جهل ، قام النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة ابن عبد مناف بن عبدالدار بن قصي ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويقال النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف ‏‏.‏‏قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فقال ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، إنه والله قد نزل بكم‏ أمر ما أتيتم له بحيلة بعد ، قد كان محمد فيكم غلاما حدثا أرضاكم فيكم ، وأصدقكم حديثا ، وأعظمكم أمانة ، حتى إذا رأيتم في صدغيه الشيب ، وجاءكم بما جاءكم به ، قلتم ساحر ، لا والله ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة ونفثهم وعقدهم ؛ وقلتم كاهن ، لا والله ما هو بكاهن ، قد رأينا الكهنة وتخالجهم وسمعنا سجعهم ؛ وقلتم شاعر ، لا والله ما هو بشاعر ، قد رأينا الشعر ، وسمعنا أصنافه كلها ‏‏:‏‏ هزجه ورجزه ؛ وقلتم مجنون ، لا والله ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون فما هو بخنقه ، ولا وسوسته ، ولا تخليطه ، يا معشر قريش ، فانظروا في شأنكم ، فإنه والله لقد نزل بكم أمر عظيم ‏‏.‏‏

أذى النضر بن الحارث للرسول صلى الله عليه وسلم

وكان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينصب له العداوة ، وكان قد قدم الحيرة ، وتعلم بها أحاديث ملوك الفرس ، وأحاديث رستم واسبنديار ، فكان إذا جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسا فذكَّر فيه بالله ، وحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله ، خلفه في مجلسه إذا قام ، ثم قال ‏‏:‏‏ أنا والله يا معشر قريش ، أحسن حديثا منه ، فهلم إلي ، فأنا أحدثكم أحسن من حديثه ، ثم يحدثهم عن ملوك فارس ورستم واسبنديار ، ثم يقول ‏‏:‏‏ بماذا محمد أحسن حديثا مني ‏‏؟‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ وهو الذي قال فيما بلغني ‏‏:‏‏ سأنزل مثل ما أنزل الله ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول - فيما بلغني - ‏‏:‏‏ نزل فيه ثمان آيات من القرآن ‏‏:‏‏ قول الله عز وجل ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ وكل ما ذكر فيه من الأساطير من القرآن ‏‏.‏‏‏

قريش تسأل أحبار اليهود في شأنه عليه الصلاة والسلام

فلما قال لهم ذلك النضر بن الحارث بعثوه ، وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة ، وقالوا لهما ‏‏:‏‏ سلاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، وأخبراهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووصفا لهم أمره ، وأخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم ‏‏:‏‏ إنكم أهل التوراة ، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ‏‏.‏‏ فقالت لهما أحبار يهود ‏‏:‏‏ سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فروا فيه رأيكم ‏‏.‏‏ سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ؛ فإنه قد كان لهم حديث عجب ، وسلوه عن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ، وسلوه ما هي ‏‏؟‏‏ فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه ، فإنه نبي ، وإن لم يفعل ، فهو رجل متقول ، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم ‏‏.‏‏ فأقبل النضر بن الحارث ، وعقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي حتى قدما مكة على قريش ، فقالا ‏‏:‏‏ يا معشر قريش ، قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء أمرونا بها ، فإن أخبركم عنها فهو نبي ، وإن لم يفعل فالرجل متقول ، فرَوْا فيه رأيكم ‏‏.‏‏ ‏

قريش تسأل والرسول يجيب

فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا ‏‏:‏‏ يا محمد ، أخبرنا عن فتية ذهبوا في الدهر الأول قد كانت لهم قصة عجب ؛ وعن رجل كان طوافا قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ؛ وأخبرنا عن الروح ما هي ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ أخبركم بما سألتم عنه غدا ، ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ‏‏.‏‏فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - خمس عشرة ليلة لا يحُدث الله إليه في ذلك وحيا ، ولا يأتيه جبريل ، حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا ‏‏:‏‏ وعدنا محمدا غدا ، واليوم خمس عشرة ليلة ، قد أصبحنا منها لا يخبرنا بشيء مما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مُكْث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة ‏‏:‏‏ ثم جاءه جبريل من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية ، والرجل الطواف ، والروح ‏‏.‏‏

الرد على قريش فيما سألوه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فذكر لي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل حين جاءه ‏‏:‏‏ لقد احتبست عني يا جبريل حتى سُؤت ظنا ؛ فقال له جبريل ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وما نتنزَّل إلا بأمر ربك ، له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ، وما كان ربك نسيا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ فافتتح السورة تبارك وتعالى بحمده وذكر نبوة رسوله ، لما أنكروه عليه من ذلك ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ‏‏) ‏‏ يعني محمدا صلى الله عليه وسلم ، إنك رسول مني ‏‏:‏‏ أي تحقيق لما سألوه عنه من نبوتك ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ولم يجعل له عوجا قيما ‏‏) ‏‏ أي معتدلا ، لا اختلاف فيه ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ لينذر بأسا شديدا من لدنه ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي عاجل عقوبته في الدنيا ‏‏.‏‏ وعذابا أليما في الآخرة ‏‏:‏‏ أي من عند ربك الذي بعث رسولا ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ، ماكثين فيه أبدا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي دار الخلد ‏‏.‏‏ ‏‏(‏‏ لا يموتون فيها ‏‏)‏‏ الذين صدقوك بما جئت به مما كذبك به غيرهم ، وعملوا بما أمرتهم به من الأعمال ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ‏‏) ‏‏ يعني قريشا في قولهم ‏‏:‏‏ إنا نعبد الملائكة ، وهي بنات الله ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ما لهم به من علم ولا لآبائهم ‏‏) ‏‏ الذين أعظموا فراقهم وعيب دينهم ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ كبرت كلمة تخرج من أفواههم ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي لقولهم ‏‏:‏‏ إن الملائكة بنات الله ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ إن يقولون إلا كذبا ، فلعلك باخع نفسك ‏‏) ‏‏ يا محمد ‏‏ (‏‏ على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي لحزنه عليهم حين فاته ما كان يرجو منهم ‏‏:‏‏ أي لا تفعل ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ باخع نفسك ، أي مهلك نفسك ، فيما حدثني أبو عبيدة ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة ‏‏:‏‏

ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه

 

لشيء نحَتْه عن يديه المقادرُ

وجمعه ‏‏:‏‏ باخعون وبخعة ‏‏.‏‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وتقول العرب ‏‏:‏‏ قد بخعت له نصحي ونفسي ، أي جهدت له ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ أي أيهم أتبع لأمري ، وأعمل بطاعتي ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي الأرض ، وإن ما عليها لفان وزائل ، وإن المرجع إلي ، فأجزي كلا بعمله ، فلا تأس ولا يحزنك ما تسمع وترى فيها ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الصعيد ‏‏:‏‏ الأرض ، وجمعه ‏‏:‏‏ صعد ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة يصف ظبيا صغيرا ‏‏:‏‏

كأنه بالضحى ترمي الصعيد به

 

دبَّابة في عظام الرأس خرطـومُ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والصعيد أيضا ‏‏:‏‏ الطريق ‏‏.‏‏ وقد جاء في الحديث ‏‏:‏‏ إياكم والقعود على الصعدات ‏‏.‏‏ يريد الطرق ‏‏.‏‏ والجرز ‏‏:‏‏ الأرض التي لا تنبت شيئا ، وجمعها ‏‏:‏‏ أجراز ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ سنة جرز، وسنون أجراز ، وهي التي لا يكون فيها مطر ، وتكون فيها جُدوبة ويُبْس وشدة ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة يصف إبلا ‏‏:‏‏

طوى النحز والأجراز ما في بطونها

 

فما بقيت إلا الضلـوع الـجـراشـع ‏

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏

ما أنزله الله في قصة أهل الكهف

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم استقبل قصة الخبر فيما سألوه عنه من شأن الفتية ، فقال ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي قد كان من آياتي فيما وضعت على العباد من حججي ما هو أعجب من ذلك ‏‏.‏‏  قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والرقيم ‏‏:‏‏ الكتاب الذي رُقم فيه بخبرهم ، وجمعه ‏‏:‏‏ رُقُم‏‏.‏‏ قال العجاج ‏‏:‏‏

ومستقر المصحف المرقَّمِ

 

 

وهذا البيت في أرجوزة له ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشدا ‏‏.‏‏ فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا ‏‏.‏‏ ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ ثم قال تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ نحن نقص عليك نبأهم بالحق ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي بصدق الخبر عنهم ‏‏ (‏‏ إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى ، وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها ، لقد قلنا إذا شططا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي لم يشركوا بي كما أشركتم بي ما ليس لكم به علم ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ والشطط ‏‏:‏‏ الغلو ومجاوزة الحق ‏‏.‏‏ قال أعشى بني قيس بن ثعلبة ‏‏:‏‏

لا ينتهون ولا ينهى ذوي شطط

 

كالطعن يذهب فيه الزيت والفتلُ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ أي بحجة بالغة ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ‏‏.‏‏ وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، ويهيئ لكم من أمركم مرفقا ‏‏.‏‏ وترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين ، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال ، وهم في فجوة منه ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن هشام‏‏:‏‏ تزاور ‏‏:‏‏ تميل ، وهو من الزور ‏‏.‏‏ وقال امرؤ القيس بن حجر ‏‏:‏‏

وإني زعيم إن رجعت مملكا

 

بسير ترى منه الفُرانق أزورا

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وقال أبو الزحف الكليبي يصف بلدا ‏‏:‏‏

جأب المندَّى عن هوانا أزورُ

 

يُنضي المطايا خمسه العَشَنْزَرُ

وهذان البيتان في أرجوزة له ‏‏.‏‏ و‏‏ (‏‏تقرضهم ذات الشمال‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ تجاوزهم وتتركهم عن شمالها ‏‏.‏‏ قال ذو الرمة ‏‏:‏‏

إلى ظُعْن يقرضن أقواز مشرف

 

شمالا وعن أيمانهـنّ الـفـوارسُ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والفجوة ‏‏:‏‏ السعة ، وجمعها ‏‏:‏‏ الفجاء ‏‏.‏‏ قال الشاعر ‏‏:‏‏

ألبست قومك مخزاة ومنقصة

 

حتى أُبيحوا وخلوا فجوة الـدارِ

‏‏ (‏‏ذلك من آيات الله‏‏) ‏‏ أي في الحجة على من عرف ذلك من أمورهم من أهل الكتاب ، ممن أمر هؤلاء بمسألتك عنهم في صدق نبوتك بتحقيق الخبر عنهم ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ من يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ‏‏.‏‏ وتحسبهم أيقاظا وهم رقود ، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ، وكلبهم باسط ذراعيه بالوصيد ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الوصيد ‏‏:‏‏ الباب ‏‏.‏‏ قال العبسي ، واسمه عُبيد بن وهب ‏‏:‏‏

بأرض فلاة لا يسد وصيدها

 

علي ومعروفي بها غير منكر

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ والوصيد أيضا ‏‏:‏‏ الفناء ، وجمعه ‏‏:‏‏ وصائد ، ووصد ، ووصدان ، وأصد ، وأصدان ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ، ولملئت منهم رعبا ‏‏) ‏‏ ‏إلى قوله ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ قال الذين غلبوا على أمرهم ‏‏) ‏‏ أهل السلطان والملك منهم ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ لنتخذن عليهم مسجدا ، سيقولون ‏‏) ‏‏ يعني أحبار يهود الذين أمروهم بالمسألة عنهم ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ ثلاثة رابعهم كلبهم ، ويقولون خمسة سادسهم كلبهم ، رجما بالغيب ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا علم لهم ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم ، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل ، فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا تكابرهم ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ولا تستفت فيهم منهم أحدا ‏‏) ‏‏ فإنهم لا علم لهم بهم ‏‏.‏‏‏‏ ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله ، واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي ولا تقولن لشيء سألوك عنه كما قلت في هذا ‏‏:‏‏ إني مخبركم غدا ‏‏.‏‏ واستثن شِيْئَة الله ، واذكر ربك إذا نسيت ، وقل عسى أن يهدين ربي لخير مما سألتموني عنه رشدا ، فإنك لا تدري ما أنا صانع في ذلك ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ ولبثوا في كهفهم ثلاث مئة سنين وازدادوا تسعا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي سيقولون ذلك ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ قل الله أعلم بما لبثوا ، له غيب السماوات والأرض ، أبصر به وأسمعْ ما لهم من دونه من ولي ، ولا يشرك في حكمه أحدا ‏‏) ‏‏ أي لم يخف عليه شيء مما سألوك عنه ‏‏.‏‏ ما أنزل الله تعالى في خبر الرجل الطواف ذي القرنين وقال فيما سألوه عنه من أمر الرجل الطواف ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ ويسئلونك عن ذي القرنين ، قل سأتلو عليكم منه ذكرا ‏‏.‏‏ إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا ‏‏.‏‏ فأتبع سببا ‏‏) ‏‏ حتى انتهى إلى آخر قصة خبره ‏‏.‏‏ خبر ذي القرنين وكان من خبر ذي القرنين أنه أوتى ما لم يؤت أحد غيره ، فمدت له الأسباب حتى انتهى من البلاد إلى مشارق الأرض ومغاربها ، لا يطأ أرضا إلا سلط على أهلها ، حتى انتهى من المشرق والمغرب إلى ما ليس وراءه شيء من الخلق ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني من يسوق الأحاديث عن الأعاجم فيما ‏توارثوا من علمه ‏‏:‏‏ أن ذا القرنين كان رجلا من أهل مصر ، اسمه مرزُبان بن مرذبة اليوناني ، من ولد يونان بن يافث بن نوح ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ واسمه الإسكندر ، وهو الذي بنى الإسكندرية فنسبت إليه ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقد حدثني ثور بن يزيد عن خالد بن معدان الكلاعي ، وكان رجلا قد أدرك ‏‏:‏‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ذي القرنين فقال ‏‏:‏‏ ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب ‏‏.‏‏ وقال خالد ‏‏:‏‏ سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقول ‏‏:‏‏ يا ذا القرنين ؛ فقال عمر ‏‏:‏‏ اللهم غفرا ، أما رضيتم أن تسمَّوْا بالأنبياء حتى تسميتم بالملائكة ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ الله أعلم أي ذلك كان ، أقال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم لا ‏‏؟‏‏ فإن كان قاله ، فالحق ما قال ‏‏.‏‏ ما أنزل الله تعالى في أمر الروح وقال تعالى فيما سألوه عنه من أمر الروح ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ ويسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ سؤال يهود المدينة للرسول صلى الله عليه و سلم عن المراد من قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏)‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحُدثت عن ابن عباس ، أنه قال ‏‏:‏‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قالت أحبار يهود ‏‏:‏‏ يا محمد ، أرأيت قولك ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ‏‏) ‏‏ إيانا تريد ، أم قومك ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ كلا ؛ قالوا ‏‏:‏‏ فإنك تتلو فيما جاءك ‏‏:‏‏ أنا ‏قد أوتينا التوراة فيها بيان كل شيء ‏‏.‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ إنها في علم الله قليل ، وعندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فأنزل الله تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام ، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ، إن الله عزيز حكيم ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي أن التوراة في هذا من علم الله قليل ‏‏.‏‏ ما أنزل الله تعالى بشأن طلبهم تسيير الجبال وبعث الموتى قال ‏‏:‏‏ وأنزل الله تعالى عليه فيما سأله قومه لأنفسهم من تسيير الجبال ، وتقطيع الأرض ، وبعث من مضى من آبائهم من الموتى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ ولوأن قرآنا سُيرِّت به الجبال ، أو قُطعت به الأرض ، أو كُلم به الموتى ، بل لله الأمر جميعا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي لا أصنع من ذلك إلا ما شئت ‏‏.‏‏ ما أنزل الله تعالى رداً على قولهم للرسول صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ خذ لنفسك  وأُنزل عليه في قولهم ‏‏:‏‏ خذ لنفسك ، ما سألوه أن يأخذ لنفسه ، أن يجعل له جنانا وقصورا وكنوزا ، ويبعث معه ملكا يصدقه بما يقول ، ويرد عنه ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق لولا أُنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يُلقى إليه كنز ، أو تكون له جنة يأكل منها، وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ‏‏.‏‏ اُنظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ، تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرا من ذلك‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي من أن تمشي في الأسواق وتلتمس المعاش ‏‏ (‏‏ جنات تجري من تحتها الأنهار ، ويجعلْ لك قصورا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي لفعلت وأُنزل عليه في ذلك من قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق ، وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ، أتصبرون وكان ربك بصيرا ‏‏)‏‏ ‏‏:‏‏ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا ، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخُالَفوا لفعلت ‏‏.‏‏ القرآن يرد على ابن أبي أمية وأنزل الله عليه فيما قال عبدالله بن أبي أمية ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ‏‏.‏‏ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرا ‏‏.‏‏ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا ، أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ‏‏.‏‏ أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ، قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ الينبوع ‏‏:‏‏ ما نبع من الماء من الأرض وغيرها ، وجمعه ‏‏:‏‏ ينابيع ‏‏.‏‏ قال ابن هَرْمة ، واسمه إبراهيم بن علي الفهري ‏‏.‏‏

وإذا هرقت بكل دار عبرة

 

نُزف الشئون ودمعك الينبوع

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ والكسف ‏‏:‏‏ القطع من العذاب ، وواحدته ‏‏:‏‏ كسفة ، مثل سدرة وسدر ‏‏.‏‏ وهي أيضا ‏‏:‏‏ واحدة الكسف ‏‏.‏‏ والقبيل ‏‏:‏‏ يكون مقابلة ومعاينة ، وهو كقوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ أو يأتيهم العذاب قبلا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي عيانا ‏‏.‏‏ وأنشدني أبو عبيدة لأعشى بني قيس بن ثعلبة ‏‏:‏‏

أصالحكم حـتى تبوءوا بمـثـلهـا

كصرخة حُبْلى يسَّرتها قبيلُها يعني القابلة ، لأنها تقابلها وتقبل ولدها ‏‏.‏‏ وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ويقال‏‏:‏‏ القبيل ‏‏:‏‏ جمعه قُبُل ، وهي الجماعات ، وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ‏‏) ‏‏ فقُبل ‏‏:‏‏ جمع قبيل ، مثل سبل ‏‏:‏‏ جمع سبيل ، وسرر ‏‏:‏‏ جمع سرير ، و قمص ‏‏:‏‏ جمع قميص ‏‏.‏‏ والقبيل أيضا ‏‏:‏‏ في مثل من الأمثال ، وهو قولهم ‏‏:‏‏ ما يعرف قبيلا من دبير ‏‏:‏‏ أي لا يعرف ما أقبل مما أدبر ؛ قال الكميت بن زيد ‏‏:‏‏

تفـرقـت الأمـور بـوجهتـيهـم

 

فما عـرفـوا الــدَّبير من الـقَـبـيلِ

وهذا البيت في قصيدة له ، ويقال ‏‏:‏‏ إنما أريد بهذا القبيل ‏‏:‏‏ الفتل ، فما فتل إلى الذارع فهو القبيل ، وما فتل إلى أطراف الأصابع فهو الدبير ، وهو من الإقبال والإدبار الذي ذكرت ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ فتل المغزل ‏‏.‏‏ فإذا فُتل المغزل إلى الركبة فهو القبيل ، وإذا فتل إلى الورك فهو الدبير ‏‏.‏‏ والقبيل أيضا ‏‏:‏‏ قوم الرجل ‏‏.‏‏ والزخرف ‏‏:‏‏ الذهب ‏‏.‏‏ والمزخرف ‏‏:‏‏ المزين بالذهب ‏‏.‏‏ قال العجاج ‏‏:‏‏

من طلل أمسى تخال المصحفا

 

رسومه والمذهب المزخـرفـا

وهذان البيتان في أرجوزة له ، ويقال أيضا لكل مزيَّن ‏‏:‏‏ مزخرف ‏‏.‏‏ نفي القرآن أن رجلا من اليمامة يعلمه قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأُنزل في قولهم ‏‏:‏‏ إنا قد بلغنا أنك إنما يعلمك رجل باليمامة ، يقال له الرحمن ، ولن نؤمن به أبدا ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن ، قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت ، وإليه متاب ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏  

ما أنزله الله تعالى في أبي جهل و ما هم به

وأُنزل عليه فيما قال أبو جهل بن هشام ، وما هم به ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ، أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ، أرأيت إن كذب وتولى ، ألم يعلم بأن الله يرى ، كلا لئن لم ينته لنسفعا بالناصية ، ناصية كاذبة خاطئة ، فليدع ناديه ، سندع الزبانية ، كلا لا تطعه واسجد واقترب ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ لنسفعا ‏‏:‏‏ لنجذبن ولنأخذن ‏‏.‏‏ قال الشاعر ‏‏:‏‏

قوم إذا سمعوا الصراخ رأيتهم

 

من بين ملجم مُهْره أو سـافـع

والنادي ‏‏:‏‏ المجلس الذي يجتمع فيه القوم ويقضون فيه أمورهم ، وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وتأتون في ناديكم المنكر ‏‏) ‏‏ وهو الندي ‏‏.‏‏ قال عبيد بن الأبرص ‏‏:‏‏

اذهب إليك فإن من بني أسد

 

أهل الندي وأهل الجود والنادي

وفي كتاب الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وأحسن نديا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏ وجمعه ‏‏:‏‏ أندية ‏‏.‏‏ فليدع أهل ناديه ‏‏.‏‏ كما قال تعالى‏‏:‏‏ ‏‏ (‏واسأل القرية ‏‏) ‏‏ يريد أهل القرية ‏‏.‏‏ قال سلامة ابن جندل ، أحد بني سعد بن زيد مناة بن تميم ‏‏:‏‏

يومان يومُ مقامات وأندية

 

ويوم سير إلى الأعداء تأويبِ

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ وقال الكميت بن زيد ‏‏:‏‏

لا مهاذير في النديّ مكاثيرَ ولا مصمتين بالإفحامِ

 

 

وهذا البيت في قصيدة له ‏‏.‏‏ ويقال ‏‏:‏‏ النادي ‏‏:‏‏ الجلساء ‏‏.‏‏ والزبانية ‏‏:‏‏ الغلاظ الشداد ، وهم في هذا الموضع‏‏:‏‏ خزنة النار ‏‏.‏‏ والزبانية أيضا في الدنيا ‏‏:‏‏ أعوان الرجل الذين يخدمونه ويعينونه ، والواحد ‏‏:‏‏ زِبْنِية ‏‏.‏‏ قال ابن الزبعرى في ذلك ‏‏:‏‏

مطاعيمُ في المقرى مَطاعين في الوغى

 

زبانية غـلـب عـظـام حـلـومـهـا

يقول ‏‏:‏‏ شداد ‏‏.‏‏ وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ وقال صخر بن عبدالله الهذلي ، وهو صخر الغي ‏‏:‏‏

ومن كبير نفر زبانية

 

 

وهذا البيت في أبيات له ‏‏.‏‏ ما أنزله تعالى فيما عرضوه عليه ، عليه الصلاة و السلام من أموالهم قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأنزل الله تعالى عليه فيما عرضوا عليه من أموالهم ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ قل ما سألتكم من أجر فهو لكم ، إن أجري إلا على الله ، وهو على كل شيء شهيد ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏

استكبار قريش عن الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم

فلما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما عرفوا من الحق ، وعرفوا صدقه فيما حدث ، وموقع نبوته فيما جاءهم به من علم الغيوب حين سألوه عما سألوه عنه ، حال الحسد منهم له بينهم وبين اتِّباعه وتصديقه ، فعتوا على الله وتركوا أمره عيانا ، ولجوا فيما هم عليه من الكفر ، فقال قائلهم ‏‏:‏‏ لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ، أي اجعلوه لغوا وباطلا ، واتخذوه هزوا لعلكم تغلبونه بذلك ، فإنكم إن ناظرتموه أو خاصمتموه يوما غلبكم ‏‏.‏‏

تهكم أبي جهل بالرسول صلى الله عليه و سلم و تنفير الناس عنه

فقال أبو جهل يوما و هو يهزأ برسول الله صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الحق ‏‏:‏‏ يا معشر قريش، يزعم محمد أنما جنود الله الذين يعذبونكم في النار و يحبسونكم فيها تسعة عشر ، وأنتم أكثر الناس عددا، وكثرة ، أفيعجز كل مائة رجل منكم عن رجل منهم ‏‏؟‏‏ فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قوله‏‏:‏‏ ‏‏ (‏وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة ، وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ‏‏) ‏‏ إلى آخر القصة ، فلما قال ذلك بعضهم لبعض ، جعلوا إذا جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن وهو يصلي ، يتفرقون عنه ، ويأبون أن يستمعوا له ، فكان الرجل منهم إذا أراد أن يستمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو من القرآن وهو يصلي ، استرق السمع دونهم فرقا منهم ، فإن رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع منه ذهب خشية أذاهم فلم يستمع ، وإن خفض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صوته ، فظن الذي يستمع أنهم لا يستمعون شيئا من قراءته ، وسمع هو شيئا دونهم أصاخ له يستمع منه ‏‏.‏‏ سبب نزول آية ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ و لا تجهر ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ الخ ‏‏)‏‏

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني داود بن الحصين ، مولى عمرو بن عثمان ، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثهم أن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما حدثهم ‏‏:‏‏ إنما أنزلت هذه الآية‏‏:‏‏ ‏‏ (‏ ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ، وابتغ بين ذلك سبيلا ‏‏) ‏‏ من أجل أولئك النفر ‏‏.‏‏ يقول ‏‏:‏‏ لا تجهر بصلاتك فيتفرقوا عنك ، ولا تخافت بها فلا يسمعها من يحب أن يسمعها ممن يسترق ذلك دونهم لعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به ‏‏.‏‏ ‏

أول من جهر بالقرآن

عبدالله بن مسعود و ما ناله من قريش في سبيل جهره بالقرآن

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير ، عن أبيه ، قال ‏‏:‏‏ كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه ، قال ‏‏:‏‏ اجتمع يوما أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا ‏‏:‏‏ والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجُهر لها به قط ، فمن رجل يُسمعهموه ‏‏؟‏‏ فقال عبدالله بن مسعود ‏‏:‏‏ أنا ؛ قالوا ‏‏:‏‏ إنا نخشاهم عليك ، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه ؛ قال ‏‏:‏‏ دعوني فإن الله سيمنعني ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها ، حتى قام عند المقام ثم قرأ ‏‏:‏‏ ‏‏(‏‏ بسم الله الرحمن الرحيم ‏‏)‏‏ رافعا بها صوته ‏‏ {(‏‏ الرحمن علم القرآن ‏‏)} ‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم استقبلها يقرؤها ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فتأملوه فجعلوا يقولون ‏‏:‏‏ ماذا قال ابن أم عبد‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ ثم قالوا ‏‏:‏‏ إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد ، فقاموا إليه ، فجعلوا يضربون في وجهه ، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ ‏‏.‏‏ ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه ، فقالوا له ‏‏:‏‏ هذا الذي خشينا عليك ؛ فقال ‏‏:‏‏ ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن ، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غدا ؛ قالوا ‏‏:‏‏ لا ، حسبك ، قد أسمعتهم ما يكرهون ‏‏.‏‏

قصة استماع قريش إلى قراءة النبي صلى الله عليه وسلم

أبو سفيان و أبو جهل و الأخنس ، و حديث استماعهم للرسول صلى الله عليه و سلم قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أنه حدث ‏‏:‏‏ أن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، حليف بني زهرة ، خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يصلي من الليل في بيته ، فأخذ كل رجل منهم مجلسا يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ‏‏.‏‏ فجمعهم الطريق ، فتلاوموا ، وقال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ لا تعودوا ، فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئا ، ثم انصرفوا ‏‏.‏‏ حتى إذا كانت الليلة الثانية ، عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا‏‏.‏‏ فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قالوا أول مرة ، ثم انصرفوا ‏‏.‏‏ حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل منهم مجلسه ، فباتوا يستمعون له ، حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، فجمعهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض ‏‏:‏‏ لا نبرح حتى نتعاهد ألا نعود ‏‏:‏‏ فتعاهدوا على ذلك ، ثم تفرقوا ‏‏.‏‏ ذهاب الأخنس إلى أبي سفيان يستفهم عما سمعه فلما اصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان في بيته، فقال ‏‏:‏‏ أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ، ولا ما يراد بها ؛ قال الأخنس ‏‏:‏‏ وأنا والذي حلفتَ به كذلك ‏‏.‏‏ ذهاب الأخنس إلى أبي جهل يسأله عن معنى ما سمع قال ‏‏:‏‏ ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ، فدخل عليه بيته ، فقال ‏‏:‏‏ يا أبا الحكم ، ما رأيك فيما سمعت من محمد ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ ماذا سمعت ، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاذبنا على الركب ، وكنا كفرسَيْ رهان ، قالوا ‏‏:‏‏ منا نبي يأتيه الوحي من السماء ؛ فمتى ندرك مثل هذه ، والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقام عنه الأخنس وتركه ‏‏.‏‏  

تعنت قريش عند سماعهم القرآن وما نزل فيهم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكان رسول الله صلى الله عله وسلم إذا تلا عليهم القرآن ، ودعاهم إلى الله ، قالوا يهزءون به ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ‏‏) ‏‏ لا نفقه ما تقول ‏‏ (‏‏ وفي آذاننا وقر ‏‏) ‏‏ لا نسمع ما تقول ‏‏ (‏‏ ومن بيننا وبينك حجاب ‏‏) ‏‏ قد حال بيننا وبينك ‏‏ (‏‏ فاعمل ‏‏) ‏‏ بما أنت عليه ‏‏ (‏‏ إننا عاملون ‏‏) ‏‏ بما نحن عليه ، إنا لا نفقه عنك شيئا ، فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من قولهم ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله ‏‏ (‏‏ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي كيف فهموا توحيدك ربك إن كنت جعلت على قلوبهم أكنة ، و في آذانهم وقرا ، وبينك وبينهم حجابا بزعمهم ؛ أي إني لم أفعل ذلك ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ نحن أعلم بما يستعمون به ، إذ يستمعون إليك ، وإذ هم نجوى ، إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي ذلك ما تواصوا به من ترك ما بعثتك به إليهم ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي أخطئوا المثل الذي ضربوا لك ، فلا يصيبون به هدى ، ولا يعتدل لهم فيه قول ‏‏ (‏‏ وقالوا أءذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لمبعوثون خلقا جديدا ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي قد جئت تخبرنا أنا سنُبعث بعد موتنا إذا كنا عظاما ورفاتا ، وذلك ما لا يكون ‏‏.‏‏ ‏‏ (‏‏ قل كونوا حجارة أو حديدا ، أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا ، قل الذي فطركم أول مرة ‏‏) ‏‏ ‏‏:‏‏ أي الذي خلقكم مما تعرفون ، فليس خَلْقكم من تراب بأعز من ذلك عليه ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ حدثني عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال ‏‏:‏‏ سألته عن قول الله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ أو خلقا مما يكبر في صدوركم ‏‏) ‏‏ ما الذي أراد الله به ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ الموت‏‏.

ذكر عدوان المشركين على المستضعفين ممن أسلم بالأذى والفتنة

قسوة قريش على من أسلم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ ثم إنهم عدوا على من أسلم ، واتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أصحابه ، فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين ، فجعلوا يحبسونهم ، ويعذبونهم بالضرب والجوع والعطش ، وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر ، من استضعفوا منهم ، يفتنونهم عن دينهم ، فمنهم من يُفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ، ومنهم من يصلب لهم ، ويعصمه الله منهم ‏‏.‏‏

ما لقيه بلال بعد إسلامه ، وتخليص أبي بكر له
وكان بلال ، مولى أبي بكر رضي الله عنهما ، لبعض بني جمح ، مولَّدا من مولديهم ، وهو بلال بن رباح ، وكان اسم أمه حمامة ، وكان صادق الإسلام طاهر القلب ، وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخُرجه إذا حميت ‏الظهيرة ، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول له ‏‏:‏‏ لا و الله لا تزال هكذا حتى تموت ، أو تكفر بمحمد ، وتعبد اللات والعزى ؛ فيقول وهو في ذلك البلاء ‏‏:‏‏ أحد أحد ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني هشام بن عروة عن أبيه ، قال ‏‏:‏‏ كان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب بذلك ، وهو يقول ‏‏:‏‏ أحد أحد ؛ فيقول ‏‏:‏‏ أحد أحد والله يا بلال ، ثم يقبل على أمية بن خلف ، ومن يصنع ذلك به من بني جمح ، فيقول ‏‏:‏‏ أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حنانا ، حتى مر به أبو بكر الصديق ابن أبي قحافة رضي الله عنه يوما ، وهم يصنعون ذلك به ، وكانت دار أبي بكر في بني جمح ، فقال لأمية بن خلف ‏‏:‏‏ ألا تتقي الله في هذا المسكين ‏‏؟‏‏ حتى متى ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى ؛ فقال أبو بكر ‏‏:‏‏ أفعل ، عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، على دينك ، أعطيكه به ؛ قال ‏‏:‏‏ قد قبلت ، فقال ‏‏:‏‏ هو لك ‏‏.‏‏ فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه غلامه ذلك ، وأخذه فأعتقه ‏‏.‏‏  
من أعتقهم أبو بكر مع بلال

ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب ، بلال سابعهم عامر بن فهيرة ، شهد بدرا وأُحدا ، وقتل يوم بئر معونة شهيدا ؛ وأم عُبيس وزِنِّيرة ، وأصيب بصرها حين أعتقها ، فقالت قريش ‏‏:‏‏ ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى ؛ فقالت ‏‏:‏‏ كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان ، فرد الله بصرها ‏‏.‏‏ وأعتق النهدية وبنتها ، وكانتا لامرأة من بني عبدالدار ، فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها ، وهي تقول ‏‏:‏‏ والله لا أعتقكما أبدا ، فقال أبو بكر رضي الله عنه ‏‏:‏‏ حل يا أم فلان ؛ فقالت ‏‏:‏‏ حل ، أنت أفسدتهما فأعتقهما ؛ قال ‏‏:‏‏ فبكم هما ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ بكذا وكذا ؛ قال ‏‏:‏‏ قد أخذتهما وهما حرتان ، أرجعا إليها طحينها ، قالتا ‏‏:‏‏ أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ وذلك إن شئتما ‏‏.‏‏ ومر بجارية بني مؤمل ، حي من بني كعب ، وكانت مسلمة ، وعمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام ، وهو يومئذ مشرك وهو يضربها ، حتى إذا مل قال ‏‏:‏‏ إني أعتذر إليك ، إني لم أتركك إلا ملالة ؛ فتقول ‏‏:‏‏ كذلك فعل الله بك ‏‏.‏‏ فابتاعها أبو بكر ، فأعتقها ‏‏.‏‏

أبو قحافة يلوم أبا بكر لعتقه من أعتق فرد عليه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني محمد بن عبدالله بن أبي عتيق ، عن عامر بن عبدالله بن الزبير ، عن بعض أهله ، قال ‏‏:‏‏ قال أبو قحافة لأبي بكر ‏‏:‏‏ يا بني ، إني أراك تعتق رقابا ضعافا ، فلو أنك إذ فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك ‏‏؟‏‏ فقال أبو بكر رضي الله عنه ‏‏:‏‏ يا أبت ، إني إنما أريد ما أريد ، لله ‏عز وجل ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فيُتحدث أنه ما نزل هؤلاء الآيات إلا فيه ، وفيما قال له أبوه ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏‏‏.‏‏‏‏.‏‏ إلى قوله تعالى ‏‏:‏‏ ‏‏ (‏‏ وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ولسوف يرضى‏‏) ‏‏ ‏‏.‏‏

تعذيب قريش لآل ياسر ، و تصبير رسول الله صلى الله عليه و سلم لهم

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وكانت بنو مخزوم يخرجون بعمار بن ياسر ، وبأبيه وأمه ، وكانوا أهل بيت إسلام ، إذا حميت الظهيرة ، يعذبونهم برمضاء مكة ، فيمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ، فيما بلغني ‏‏:‏‏ صبرا آل ياسر ، موعدكم الجنة ‏‏.‏‏ فأما أمه فقتلوها ، وهي تأبى إلا الإسلام ‏‏.‏‏

ما كان يعذب به أبو جهل من أسلم

وكان أبو جهل الفاسق الذي يُغري بهم في رجال من قريش ، إذا سمع بالرجل قد أسلم ، له شرف ومنعة ، أنَّبه وأخزاه ‏‏.‏‏ وقال ‏‏:‏‏ تركت دين أبيك وهو خير منك ، لنسفهن حلمك ، ولَنُفيِّلَنّ رأيك ، ولنضعن شرفك ؛ وإن كان تاجرا قال ‏‏:‏‏ والله لنُكسدنّ تجارتك ، ولنهلكن مالك ؛ وإن كان ضعيفا ضربه وأغرى به‏‏.‏‏

فتنة المسلمين

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني حكيم بن جبير عن سعيد بن جبير ، قال ‏‏:‏‏ قلت لعبدالله بن عباس ‏‏:‏‏ أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم ‏‏؟‏‏ قال ‏‏:‏‏ نعم والله ، إن كانوا ليضربون أحدهم ويجُيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالسا من شدة الضر الذي نزل به ، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة ، حتى يقولوا له ؛ آللات والعزى إلهك من دون الله ‏‏؟‏‏ فيقول ‏‏:‏‏ نعم ، حتى إن الجُعَل ليمر بهم ، فيقولون له ‏‏:‏‏ أهذا الجعل إلهك من دون الله ‏‏؟‏‏ فيقول ‏‏:‏‏ نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده ‏‏.‏‏

هشام يرفض تسليم أخيه الوليد إلى قريش ليقتلوه على إسلامه ، و شعره في ذلك

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني الزبير بن عكاشة بن عبدالله بن أبي أحمد أنه حُدث أن رجالا من بني مخزوم مشوا إلى هشام بن الوليد ، حين أسلم أخوه الوليد بن الوليد بن المغيرة ، وكانوا قد أجمعوا على أن يأخذوا فتية منهم كانوا قد أسلموا ، منهم ‏‏:‏‏ سلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقالوا له وخشوا شرهم ‏‏:‏‏ إنا قدا أردنا أن نعاتب هؤلاء الفتية على هذا الدين الذي أحدثوا ، فإنا نأمن بذلك في غيرهم ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ هذا ، فعليكم به ، فعاتبوه وإياكم ونفسه ، وأنشأ يقول ‏‏:‏‏

ألا لا يُقتلنّ أخي عُييس

 

فيبقى بيننا أبدا تلاحـي

احذروا على نفسه ، فأُقسم بالله لئن قتلتموه لأقتلن أشرفكم رجلا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقالوا ‏‏:‏‏ اللهم العنه ، من يُغرّر بهذا الخبيث ، فوالله لو أصيب في أيدينا لقُتل أشرفنا رجلا ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فتركوه ونزعوا عنه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ وكان ذلك مما دفع الله به عنهم ‏‏.‏‏ ‏