الباب الثالث عشر: طبقات الأطباء الذين ظهروا في بلاد المغرب وأقاموا بها: إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، ابن الجزار، ابن السمينة، أبو القاسم مسلمة بن أحمد، ابن السمح، ابن الصفار، أبو الحسن علي بن سليمان الزهرواي، الكرماني، ابن خلدون، أبو جعفر أحمد بن خميس بن عامر بن دميح

إسحاق بن سليمان الإسرائيلي

كان طبيباً فاضلاً بليغاً عالماً مشهوراً بالحذق والمعرفة، جيد التصنيف عالي الهمة، ويكنى أبا يعقوب، وهو الذي شاع ذكره وانتشرت معرفته بالإسرائيلي، وهو من أهل مصر، وكان يكحل من أوليته، ثم سكن القيروان ولازم إسحاق بن عمران وتتلمذ له، وخدم الإمام أبا محمد عبيد اللّه المهدي صاحب إفريقية بصناعة الطب، وكان إسحاق بن سليمان مع فضله في صناعة الطب بصيراً بالمنطق، متصرفاً في ضروب المعارف، وعمر عمراً طويلاً إلى أن نيف على مائة سنة، ولم يتخذ امرأة ولا أعقب ولداً، وقيل له أيسرّك أن لك ولداً؟ قال أما إذا صار لي كتاب الحميات فلا، يعني أن بقاء ذكره بكتاب الحميات أكثر من بقاء ذكره بالولد.

ويروى أنه قال لي أربعة كتب يحيي ذكري أكثر من الولد وهي كتاب الحميات، وكتاب الأغذية والأدوية وكتاب البول، وكتاب الأسطقسات وتوفي قريباً من سنة عشرين وثلثمائة. وقال أحمد بن إبراهيمم بن أبي خالد المعروف بابن الجزار في كتاب أخبار الدولة يعني ابتداء دولة الإمام أبي محمد عبيد اللّه المهدي الذي ظهر من المغرب حدثني إسحاق بن سليمان المتطبب قال لما قدمت من مصر على زيادة اللّه بن الأغلب وجدته مقيماً بالجيوش في الأريس فرحلت إليه، فلما بلغه قدومي وقد كان بعث في طلبي وأرسل إلي بخمسمائة دينار وتقويت بها على السفر، فأدخلت إليه ساعة وصولي فسلمت بالإمرة، وفعلت ما يجب أن يفعل للملوك من التعبد، فرأيت مجلسه قليل الوقار والغالب عليه حب اللهو، وكل ما حرك الضحك، فابتدأني بالكلام ابن خنيس المعروف باليوناني فقال لي تقول أن الملوحة تجلو؟ قلت نعم، قال وتقول أن الحلاوة تجلو؟ قلت نعم، قال لي فالحلاوة هي الملوحة، والملوحة، والملوحة هي الحلاوة فقلت إن الحلاوة تجلو بلطف وملاءمة، والملوحة تجلو بعنف، فتمادى على المكابرة وأحب المغالطة، فلما رأيت ذلك قلت له تقول أنت حي؟ قال نعم، قلت والكلب حي؟ قال نعم، قلت فأنت الكلب والكلب أنت، فضحك زيادة اللّه ضحكاً شديداً، فعلمت أن رغبته في الهزل أكثر من رغبته في الجد، قال إسحاق فلما وصل أبو عبد اللّه داعي المهدي إلى رقادة أدناني وقرب منزلتي، وكانت به حصاة في الكلى، وكنت أعالجه بدواء فيه العقارب المحرقة، فجلست ذات يوم مع جماعة من كتامة فسألوني عن صنوف من العلل، فكلما أجبتهم فلم يفقهوا قولي، فقلت لهم إنما أنتم بقر وليس معكم من الإنسانية إلا الاسم، فبلغ الخبر إلى أبي عبد اللّه فلما دخلت إليه قال لي تقابل إخواننا المؤمنين من كتامة بما لا يجب، وباللّه الكريم لولا أنك عذرك بأنك جاهل بحقهم، وبقدر ما صار إليهم من معرفة الحق وأهل الحق لأضربن عنقك، قال لي إسحاق فرأيت رجلاً شأنه الجد فيما قصد إليه وليس للهزل عنده سوق، ولإسحاق بن سليمان من الكتب كتاب الحميات، خمس مقالات، ولم يوجد في هذا المعنى كتاب أجود منه، ونقلت من خط أبي الحسن علي بن رضوان عليه ما هذا مثاله أقول أنا علي بن رضوان الطبيب أن هذا الكتاب نافع وجمع رجل فاضل،، وقد عملت بكثير مما فيه فوجدته لا مزيد عليه، وباللّه التوفيق والمعونة، كتاب الأدوية المفردة والأغذية، كتاب البول اختصار كتابه في البول، كتاب الأسطقسات، كتاب الحدود والرسوم، كتاب بستان الحكيم وفيه مسائل من العلم الإلهي، كتاب المدخل إلى المنطق، كتاب المدخل إلى صناعة الطب، كتاب في النبض، كتاب في الترياق كتاب في الحكمة، وهو أحد عشر ميمراً.

ابن الجزار

هو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد، ويعرف بابن الجزار من أهل القيروان طبيب ابن طبيب وعمه أبو بكر طبيب وكان ممن لقي إسحاق بن سليمان وصحبه وأخذ عنه، وكان ابن الجزار من أهل الحفظ والتطلع والدراسة للطب وسائر العلوم، حسن الفهم لها، وقال سليمان بن حسان المعروف بابن جلجل إن أحمد بن أبي خالد كان قد أخذ لنفسه مأخذاً عجيباً في سمته وهديه وتعدده ولم يحفظ عنه بالقيروان زلة قط، ولا أخلد إلى لذة، وكان يشهد الجنائز والعرائس، ولا يأكل فيها؛ ولا يركب قط إلى أحد من رجال إفريقية ولا إلى سلطانهم إلا إلى أبي طالب عم معد، وكان له صديقاً قديماً، فكان يركب إليه يوم جمعة لا غير، وكان ينهض في كل عام إلى رابطة على البحر المستنير، وهو موضع مرابطة مشهور البركة، مذكور في الأخبار، على ساحل البحر الرومي، فيكون هنالك طول أيام القيظ، ثم ينصرف إلى إفريقية، وكان قد وضع على باب داره سقيفة أقعد فيها غلاماً له يسمى برشيق، أعد بين يديه جميع المعجونات والأشربة والأدوية، فإذا رأى القوارير بالغداة أمر بالجواز إلى الغلام وأخذ الأدوية منه نزاهة بنفسه أن يأخذ من أحد شيئاً، قال ابن جلجل، حدثني عنه من أثق به قال كنت عنده في دهليزه وقد غص بالناس إذ أقبل ابن أخي النعمان القاضي وكان حدثنا جليلاً بإفريقية يستخلفه القاضي إذا منعه مانع عن الحكم، فلم يجد في الدهليز موضعاً يجلس فيه إلا مجلس أبي جعفر، فخرج أبو جعفر، فقام له ابن أخي القاضي على قدم فما أقعده ولا أنزله، وأراه قارورة ماء كانت معه لابن عمه ولد النعمان، واستوفى جوابه عليها وهو واقف ثم نهض وركب وما كدح ذلك في نفسه، وجعل يتكرر إليه بالماء في كل يوم حتى برئ العليل، قال، قال الذي حدثني فكنت عنده ضحوة نهار إذ أقبل رسول النعمان القاضي بكتاب شكره فيه على ما تولى من علاج ابنه، ومعه منديل بكسوة وثلثمائة مثقال، فقرأ الكتاب وجاوبه شاكراً، ولم يقبض المال ولا الكسوة، فقلت له يا أبا جعفر رزق ساقه اللّه إليك، قال لي واللّه لا كان لرجال معد قبلي نعمة، وعاش أحمد بن الجزار نيفاً وثمانين سنة ومات عتياً بالقيروان، ووجد له أربعة وعشرون ألف دينار، وخمسة وعشرون قنطاراً من كتب طبية وغيرها، وكان قد هم بالرحلة إلى الأندلس ولم ينفذ ذلك، وكان في دولة معد، وقال كشاجم يمدح أبا جعفر أحمد بن الجزار ويصف كتابه المعروف بزاد المسافر

أبا جعفر أبقيت حـياً ومـيتـاً

 

مفاخر في طهر الزمان عظاما

رأيت على زاد المسافر عندنـا

 

من الناظرين العارفين زحامـا

فأيقنت أن لو كان حياً لوقـتـه

 

يحنا لما سمى التمام تـمـامـا

سأحمد أفعالاً لأحمد لـم تـزل

 

مواقها عند الكـرام كـرامـا

ولابن الجزار من الكتب كتاب في علاج الأمراض، ويعرف بزاد المسافر مجلدان، كتاب في الأدوية المفردة، ويعرف باعتماد، كتاب في الأدوية المركبة، ويعرف بالبغية، كتاب العدة لطول المدة، وهو أكبر كتاب وجدناه له في الطب، وحكى الصاحب جمال الدين القفطي أنه رأى له بقفط كتاباً كبيراً في الطب اسمه قوت المقيم، وكان عشرين مجلداً، كتاب التعريف بصحيح التاريخ، وهو تاريخ مختصر يشتمل على وفيات علماء زمانه، وقطعة جميلة من أخبارهم، رسالة في النفس وفي ذكر اختلاف الأوائل فيها، كتاب في المعدة وأمراضها ومداواتها، كتاب طب الفقراء، رسالة في إبدال الأدوية، كتاب في الفرق بين العلل التي تشتبه أسبابها وتختلف أعراضها، رسالة في التحذر من إخراج الدم من غير حاجة دعت إلى إخراجه رسالة في الزكام وأسبابه وعلاجه، رسالة في النوم واليقظة، مجربات في الطب، مقالة في الجذام وأسبابه وعلاجه، كتاب الخواص، كتاب نصائح الأبرار، كتاب المختبرات، كتاب في نعت الأسباب المولدة للوباء في مصر وطريق الحيلة في دفع ذلك وعلاج ما يتخوف منه، رسالة إلى بعض إخوانه في الاستهانة بالموت، رسالة في المقعدة وأوجاعها، كتاب المكلل في الأدب، كتب البلغة في حفظ الصحة، مقالة في الحمامات، كتاب أخبار الدولة، يذكر فيه ظهور المهدي بالمغرب، كتاب الفصول في سائر العلوم والبلاغات.

ابن السمينة

ومن أطباء الأندلس يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة من أهل قرطبة، قال القاضي صاعد بن أحمد بن صاعد، في كتاب التعريف في طبقات الأمم أنه كان بصيراً بالحساب والنجوم والطب، متصرفاً في العلوم، متفنناً في ضروب المعارف، بارعاً في علم النحو واللغة والعروض ومعاني الشعر والفقه والحديث والأخبار والجدل، وكان معتزلي المذهب، ورحل إلى المشرق، ثم انصرف وتوفي سنة خمس عشرة وثلثمائة.

أبو القاسم مسلمة بن أحمد

المعروف بالمرحيطي من أهل قرطبة، وكان في زمن الحكم، وقال القاضي صاعد في كتاب التريف في طبقات الأمم أنه كان إمام الرياضيين بالأندلس في وقته وأعلم من كان قبله بعلم الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له عناية بأرصاد الكواكب، وشغف بتفهم كتاب بطليموس المعروف بالمجسطي، وله كتاب حسن في تمام علم العدد المعروف عندنا بالمعاملات، وكتاب اختصر فيه تعديل الكواكب من زيج البتاني، وعنى بزيج محمد بن موسى الخوارزمي وصرف تاريخ الفارسي إلى التاريخ العربي، ووضع أوساط الكواكب فيه لأول تاريخ الهجرة وزاد فيه جداول حسنة على أنه اتبعه على خطئه فيه ولم ينبه على مواضع الغلط منه، وقد نبهت على ذلك في كتابي المؤلف في إصلاح حركات الكواكب، والتعريف بخطأ الراصدين.

وتوفي أبو القاسم مسلمة بن أحمد قبل مبعث الفتنة في سنة ثمان وتسعين وثلثمائة، وقد أنجب تلاميذ جلة لم ينجب عالم بالأندلس مثلهم، فمن أشهرهم ابن السمح وابن الصفار والزهراوي والكرماني وابن خلدون،ولأبي القاسم مسلمة بن أحمد من الكتب كتاب المعاملات، اختصار تعديل الكواكب من زيج البتاني.

ابن السمح

هو أبو القاسم أصبغ بن محمد بن السمح المهندس الغرناطي، وكان في زمن الحكم، قال القاضي صاعد أن ابن السمح كان محققاً لعلم العدد والهندسة متقدماً في علم هيئة الأفلاك وحركات النجوم، وكانت له مع ذلك عناية بالطب، وله تآليف حسان منها كتاب المدخل إلى الهندسة في تفسير كتاب أقليدس، ومنها كتاب ثمار العدد المعروف بالمعاملات، ومنها كتاب طبيعة العدد، ومنها كتابه الكبير في الهندسة يقضي فيه أجزاءها من الخط المستقيم والمقوس والمنحني ومنها كتابان في الآلة المساة بالأسطرلاب، أحدهما في التعريف بصورة صنعتها وهو مقسوم على مقالتين، والآخر في العمل بها والتعريف بجوامع ثمرتها وهو مقسم على مائة وثلاثين باباً، ومنها زيجه الذي ألفه على أحد مذاهب الهند المعروف بالسند هند، وهو كتاب كبير مقسم على جزأين أحدهما في الجداول والأخر في رسائل الجداول، قال القاضي صاعد وأخبرني عنه تلميذه أبو مروان سليمان بن محمد بن عيسى بن الناشي المهندس أنه توفي بمدينة غرناطة قاعدة ملك الأمير حبوس بن ماكسن بن زيري بن مناد الصنهاجي، ليلة الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت لرجب سنة ست وعشرين وأربعمائة وهو ابن ست وخمسين سنة شمسية،ولابن السمح من الكتب كتاب المدخل إلى الهندسة، كتاب المعاملات، كتاب طبيعة العدد، كتاب كبير في الهندسة يقضي فيها أجزاءها من الخط المستقيم والمقوس والمنحني، كتاب التعريف بصورة صنعة الأسطرلاب، مقالتان، كتاب العمل بالأسطرلاب والتعريف بجوامع ثمرته، زيج على أحد مذاهب الهند المعروف بالسند هند، وهو كتاب كبير مقسم على جزئين أحدهما في الجداول والآخر في رسائل الجداول.

ابن الصفار

هو أبو القاسم أحمد بن عبد اللّه بن عمر، كان أيضاً متحققاً بعلم العدد والهندسة والنجوم، وقعد في قرطبة لتعليم ذلك، وله زيج مختصر على مذهب السند هند، وكتاب في العمل بالأسطرلاب موجز حسن العبارة قريب المأخذ، وكان من جملة تلامذة أبي القاسم مسلمة بن أحمد المرحيطي، وخرج ابن الصفار عن قرطبة بعد أن مضى صدر من الفتنة، واستقر بمدينة دانية قاعدة الأمير مجاهد العاري من ساحل بحر الأندلس الشرقي وتوفي بها رحمه اللّه، وقد أنجب من أهل قرطبة جماعة، وكان له أخ يسمى محمداً مشهور بعمل الأسطرلاب لم يكن بالأندلس قبله أجمل صنعاً لها منه، ولابن الصفار من الكتب زيج مختصر على مذهب السند هند، كتاب في العمل بالأسطرلاب.

أبو الحسن علي بن سليمان الزهرواي

كان عالماً بالعدد والهندسة، معتنياً بعلم اطب، وله كتاب شريف في المعاملات على طريق البرهان، وهو الكتاب المسمى بكتاب الأركان، وكان قد أخذ كثيراً من العلوم الرياضية عن أبي القاسم مسلمة بن أحمد المعروف بالمرحيطي وصحبه مدة، ولأبي الحسن علي بن سليمان الزهرواي من الكتب كتاب في العاملات على طريق البرهان وهو الكتاب المسمى بكتاب الأركان.

الكرماني

هو أبو الحكم عمرو بن أحمد بن علي الكرماني من أهل قرطبة، أحد الراسخين في علم العدد والهندسة، قال القاضي صاعد أخبرني عن الكرماني تلميذه الحسين بن محمد بن الحسين بن يحيى المهندس المنجم أنه ما لقي أحداً يجاريه في علم الهندسة، ولا يشق غباره في فك غامضها، وتبين مشكلها، واستيفاء أجزائها، ورحل إلى ديار المشرق وانتهى منها إلى حران من بلاد الجزيرة وعني هناك بطلب الهندسة والطب، ثم رجع إلى الأندلس واستوطن مدينة سرقسطة من ثغرها، وجلب معه الرسائل المعروفة برسائل إخوان الصفاء، ولا نعلم أحداً أدخلها الأندلس قبله، وله عناية بالطب ومجريات فاضلة فيه ونفوذ مشهور في الكي والقطع والشق والبط وغير ذلك من أعمال الصناعة الطبية، قال ولم يكن بصيراً بعلم النجوم التعليمي، ولا بصناعة المنطق، أخبرني عنه بذلك أبو الفضل حسداي بن يوسف بن حسداي الإسرائيلي وكان خبيراً به، ومحله في العلوم النظرية المحل الذي لا يجارى فيه عندنا بالأندلس، وتوفي أبو الحكم الكرماني رحمه اللّه بسرقسطة سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وقد بلغ تسعين سنة أو جاوزها بقليل.

ابن خلدون

هو أبو مسلم عمر بن أحمد بن خلدون الحضرمي، من أشراف أهل إشبيلية ومن جملة تلامذة أبي القاسم مسلمة بن أحمد أيضاً، وكان متصرفاً في علوم الفلسفة مشهوراً بعلم الهندسة والنجوم والطب مشبهاً بالفلاسفة في إصلاح أخلاقه وتعديل سيرته وتقويم طريقته، وتوفي في بلده سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وكان من أشهر تلامذة أبي مسلم بن خلدون أبو جعفر أحمد بن عبد اللّه المعروف بابن الصفار المتطبب.

أبو جعفر أحمد بن خميس بن عامر بن دميح

من أهل طليطلة أحد المعتنين بعلم الهندسة والنجوم والطب، وله مشاركة في علوم اللسان، وحظ صالح من الشعر، وهو من أقران القاضي أبي الوليد هشام بن أحمد بن هشام.