الباب الثالث عشر: طبقات الأطباء الذين ظهروا في بلاد المغرب وأقاموا بها: حمدين بن أبان، جواد الطبيب النصراني، خالد بن يزيد بن رومان النصراني، ابن ملوكة النصراني، عمران بن أبي عمرو، محمد بن فتح طملون، الحراني، أحمد وعمر ابنا يونس بن أحمد الحراني، اسحاق الطبيب، يحيى بن إسحاق، سليمان أبو بكر بن تاج، ابن أم البنين، سعيد بن عبد ربه، عمر بن حفص بن برتق، أصبغ بن يحيى، محمد بن تمليح

حمدين بن أبان

كان في أيام الأمير محمد بن عبد الرحمن الأوسط، وكان طبيباً حاذقاً مجرباً، وكان صهر بني خالد، وله بقرطبة أصول ومكاسب، وكان لا يركب الدواب إلا من نتاجه، ولا يأكل إلا من زرعه، ولا يلبس إلا من كتان ضيعته، ولا يستخدم إلا بتلاده من أبناء عبيده.

جواد الطبيب النصراني

كان في أيام الأمير محمد أيضاً، وله اللعوق المنسوب إلى جواد، وله دواء الراهب والشرابات والسفوفات المنسوبة إليه وإلى حمدين، وبني حمدين كلها شجارية،

خالد بن يزيد بن رومان النصراني

كان بارعاً في الطب، ناهضاً في زمانه فيه، وكان بقرطبة وسكنه عند بيعة سبت أخلج، وكانت داره الدار المعروفة بدار ابن السطخيري الشاعر، وكسب بالطب مبلغاً جليلاً من الأموال والعقار وكان صانعاً بيده، عالماً بالأدوية الشجارية، وظهرت منه في البلد منافع، وكتب إليه نسطاس بن جريج الطبيب المصري رسالة في البول، وأعطب خالد ابناً سماه يزيد، ولم يبرع في الطب براعة أبيه،

ابن ملوكة النصراني

كان في أيام الأمير عبيد اللّه، وأول دولة الأمير عبد الرحمن الناصر وكان يصنع بيده ويفصد العروق، وكان على باب داره ثلاثون كرسياً لقعود الناس،

عمران بن أبي عمرو

كان طبيباً نبيلاً، خدم الأمير عبد الرحمن بالطب، وهو الذي ألف له حب الأنيسون، وكان عالماً فهماً،ولعمران بن أبي عمرو من الكتب كناش.

محمد بن فتح طملون

كان مولى لعمران بن أبي عمرو، وبرع في الطب براعة علا بها من كان في زمانه، ولم يخدم بالطب، وطلب ليلحق فاستعفى من ذلك واستعان على الأمير حتى عفي، ولم يكن أحد من الأشراف في وقته إلا وهو يحتاج إليه، قال ابن جلجل، حدثني أبو الأصبغ بن حوى قال كنت عند الوزير عبد اللّه بن بدر وقد عرض لابنه محمد قرح شمل بدنه، وبين يديه جماعة من الأطباء فيهم طملون، فتكلم كل واحد منهم في تلك القروح، وطملون ساكت، فقال له الوزير ما عندك في هذا فإني أراك ساكتاً فقال عندي مرهم ينفع هذه القروح من يومه، فمال إلى كلامه وأمره بإحضار المرهم، فأحضره وطلى على القروح فجفت من ليلتها؛ فوصله عبد اللّه بن بدر بخمسين ديناراً وانصرف الأطباء دونه بغير شيء.

الحراني

الذي ورد من المشرق، كان في أيا الأمير محمد بن عبد الرحمن، وكانت عنده مجربات حسان بالطب، فاشتهر بقرطبة وحاز الذكر فيها، قال ابن جلجل رأيت حكاية عند أبي الأصبغ الرازي بخط أمير المؤمنين المستنصر، وهي أن هذا الحراني أدخل الأندلس معجوناً كان يبيع الشربة منه بخمسين ديناراً لأوجاع الجوف، فكسب به مالاً، فاجتمع خمسة من الأطباء مثل حمدين وجواد وغيرهما وجمعوا خمسين ديناراً واشتروا منه شربة من ذلك الدواء، وانفرد كل واحد منهم بجزء يشمه ويذوقه ويكتب ما تأدى إليه منه بحسه، ثم اجتمعوا واتفقوا على ما حدسوه وكتبوا ذلك، ثم نهضوا إلى الحراني وقالوا له قد نفعك اللّه بهذا الدواء الذي انفردت به، ونحن أطباء اشترينا منك شربة وفعلنا كذا وكذا، وتأدى إلينا كذا وكذا وكذا، فإن يكن ما تأدى إلينا حقاً فقد أصبنا، وإلا فاشركنا في علمه فقد انتفعت، فاستعرض كتابهم فقال ما أعديتم من أدويته دواء، لكن لم تصيبوا تعديل أوزانه، وهو الدواء المعروف بالمغيث الكبير، فأشركهم في علم وعرف حينئذ بالأندلس.

أحمد وعمر ابنا يونس بن أحمد الحراني

رحلا إلى المشرق في دولة الناصر في سنة ثلاثين وثلثمائة، وأقام نالك عشرة أعوام، ودخلا بغداد وقرأا فيها على ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة الصابئ، كتب جالينوس عرضاً، وخدما ابن وصيف في عمل علل العين، وانصرفا إلى الأندلس في دولة المستنصر باللّه، وذلك في سنة إحدى وخمسين وثلثمائة وغزوا معه غزواته إلى سنة اثنتين، وانصرفا وألحقهما في خدمته بالطب، واسكنهما مدينة الزهراء واستخلصها لنفسه دون غيرهما ممن كان في ذلك الوقت من الأطباء، ومات عمر بعلة المعدة، ورمت له فلحقه ذبول من أجلها ومات، وبقي أحمد مستخلصاً، وأسكنه المستنصر في قصره بمدينة الزهراء، وكان لطيف المحل عنده، أميناً مؤتمناً، يطلعه على العيال والكرائم، وكان رجلاً حليماً، صحيح العقل، عالماً بما شاهد علاجه ورآه عياناً بالمشرق، وتوجه عند المستنصر باللّه لأن المستنصر كان نهماً في الأكل، وكان يحدث له في أكله تخمة لكثرة ما كان يتناول من الأكل، وكان صنع له الجوارشنات الجادة العجيبة وكان وافقه في ذلك موافقة وأفاد مالاً عظيماً، وكان ألكن اللسان، رديء الخط، لا يقيم هجاء حروف كتابه، وكان بصيراً بالأدوية المفردة، وصانعاً للأشربة والمعجونات، ومعالجاً لما وقف عليه.

قال ابن جلجل ورأيت له اثني عشر صبياً صقالبة، طباخين للأشربة، صنّاعين للمعجونات ما بين يديه، وكان قد استأذن أمير المؤمنين المستنصر أن يعطي منها ما احتاج من المساكين والمرضى، فأباح له ذلك، وكان يداوي العين مداواة نفيسة، وله بقرطبة آثار في ذلك، وكان يواسي بعلمه صديقه وجاره والمساكين والضعفاء، وولاه هشام المؤيد باللّه خطة الشرطة وخطة السوق، ومات بحمى الربع وعلة الإسهال، وخلف عما قيمته أزيد من مائة ألف دينار،

اسحاق الطبيب

والد الوزير ابن إسحاق، مسيحي النحلة، وكان مقيماً بقرطبة، وكان صانعاً بيده، مجرباً، يحكى له منافع عظيمة وآثار عجيبة، وتحنك فاق به جميع أهل دهره، وكان في أيام الأمير عبد اللّه الأموي.

يحيى بن إسحاق

كان طبيباً ذكياً عالماً بصيراً بالعلاج صانعاً بيده، وكان في صدر دولة عبد الرحمن الناصر لدين اللّه، واستوزره وولي الولايات والعمالات، وكان قائد بطليوس زماناً، وكان له من أمير المؤمنين الناصر محل كبير، كان ينزله منزلة الثقة ويتطلع على الكرائم والخدم، وألف في الطب كتاباً يشتمل على خمسة أسفار ذهب فيها مذهب الروم، وكان يحيى قد أسلم، وأما أبوه إسحاق فكان نصرانياً كما تقدم ذكره، قال ابن جلجل حدثني عن يحيى بن إسحاق ثقة، أنه كان عنده غلام للحاجب موسى أو للوزير عبد الملك قال، قال بعثني إليه مولاي بكتاب، فأنا قاعد عند داره بباب الجوز إذ أقبل رجل بدوي على حمار وهو يصيح، فأقبل حتى وقف بباب الدار، فجعل يتضرع ويقول أدركوني وتكلموا إلى الوزير بخبري، إذ خرج إلى صراخ الرجل ومعه جواب كتابه، فقال للرجل ما بالك يا هذا؟ فقال له أيها الوزير ورم في إحليلي منعني البول منذ أيام كثيرة وأنا في الموت، فقال له اكشف عنه، قال فكشف عنه فإذا هو وارم، فقال لرجل كان أقبل مع العليل اطلب لي حجراً أملس، فطلبه فوجده وأتاه به، فقال ضعه في كفك وضع عليه الإحليل، قال، فقال المخبر لي فلما تمكن إحليل الرجل من الحجر جمع الوزير يده وضرب على الإحليل ضربة غشي على الرجل منها، ثم اندفع الصديد يجري فما استوفى الرجل جري صديد الورم حتى فتح عينيه ثم بال البول في أثر ذلك، فقال له اذهب فقد برئت من علتك، وأنت رجل عائث واقعت بهيمة في دبرها فصادفت شعيرة من علفها لحجت في عين الإحليل، فورم لها وقد خرجت في الصديد، فقال له الرجل قد فعلت هذا، وأقر بذلك، وهذا يدل على حدس صحيح وقريحة صادقة حسناء.

وقال ابن جلجل وله نادر محفوظ في علاج الناصر قال عرض للناصر وجع في أذنه والوزير يومئذ قائد بطليوس، فعولج منه فل يفتر، فأمر الناصر في الخروج فيه فرانقا، فلما وصل إليه الفرانق استنطقه عن الحاجة التي أوجبت الخروج فيه، فقال له أمير المؤمنين عرض له في أذنه وجع أعيا الأطباء فعرج في طريقه إلى أديار النصارى وسأل عن عالم هناك، فوجد رجلاً مسناً فسأله هل عندك من تجربة لوجع الأذن؟ فقال الشيخ الراهب دم الحمار حاراً، فوصل إلى أمير المؤمنين وعالجه بدم الحمار حاراً كما يسفح وبراً وهذا بحث واستقصاء ودؤوب على التعليم، وليحيى بن إسحاق من الكتب كتاب كبير في الطب.

سليمان أبو بكر بن تاج

كان في دولة الناصر، وخدمه بالطب، وكان طبيباً نبيلاً وعالج أمير المؤمنين الناصر من رمد عرض له من يومه بشيافه، وطلب منه نسخته بعد ذلك فأبى أن يمليها وعالج سععاً صاحب البريد من ضيق النفس بلعوق فبرأ من يومه بعد أن أعيا علاجه الأطباء، وكان يعالج وجع الخاصرة بحب من حبه فيبرأ الوقت، وكان ضنيناً بنسخ الأدوية، وله نوادر في الطب كثيرة، وكان أديباً فاضلاً، حسن المحاضرة والمذاكرة، وأدركه في آخر أيامه مرض القروح في أحليله فلم يمكنه دواؤه وعرّفه اللّه القادر عجزه فقطع إحليله، وولاّه أمير المؤمنين الناصر قضاء شذونة.

ابن أم البنين

سمي بالأعرف، وكان من أهل مدينة قرطبة، وخدم أمير المؤمنين الناصر بصناعة الطب، وكان ينادمه وكانت معه فطنة في الطب، وله نوادر أنذر بها، وكان معجباً بنفسه، وكان الناصر ربما استثقله لذلك وربما اضطر إليه لجودة فطنته،

سعيد بن عبد ربه

هو أبو عثمان سعيد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن محمد بن سالم مولى الأمير هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل بالأندلس، وهو ابن أخي أبي عمرو وأحمد بن محمد بن عبد ربه الشاعر صاحب كتاب العقد، وكانت وفاة عمه هذا أحمد بن محمد بن عبد ربه في شهر جمادى الأولى من سنة ثمان وعشرين، ومولده في سنة ست وأربعين ومائتين لعشر خلون من شهر رمضان، وكان سعيد ابن عبد ربه طبيباً فاضلاً وشاعراً محسناً، وله في الطب رجز جليل محتو على جملة حسنة منه دل به على تمكنه من العلم وتحققه لمذاهب القدماء وكان له مع ذلك بصر بحركات الكواكب وطبائعها، ومهاب الرياح وتغير الأهوية، وكان مذهبه في مداواة الحميات أن يخلط بالمبردات شيئاً من وله في ذلك مذهب جميل ولم يخدم بالطب سلطاناً، وكان بصيراً بتقدمة المعرفة، وتغيير الأهوية، ومهب الرياح، وحركة الكواكب، قال ابن جلجل حدثني عنه سليمان بن أيوب الفقيه قال، قال اعتللت بحمة فطاولتني وأشرفت منها، إذ مر بأبي وهو ناهض إلى صاحب المدينة أحمد بن عيسى، فقام إليه وقضى واجب حقه بالسلام عليه، وسأله عن علتي واستخبر أبي عما عولجت به، فسفه علاج من عالجني وبعث إلى أبي بثمان عشرة حبة من حبوب مدورة، وأمر أن أشرب منها كل يوم حبة فما استوعبتها حتى أقلعت الحمى وبرئت برأ تاماً، وعمي سعيد في آخر أيامه، ومن شعر سعيد بن عبد ربه أنه افتصد يوماً فبعث إلى عمه أحمد بن محمد بن عبد ربه الشاعر الأديب راغباً إليه في أن يحضر عنده مؤانساً له، فلم يجبه عمه إلى ذلك وأبطأ عنه فكتب إليه

لما عدمت مؤانساً وجلـيسـاً

 

نادمت بقراطاً وجالينـوسـا

وجعلت كتبهما شفاء تفـردي

 

وهما الشفاء لكل جرح يوسا

ووجدت علمها إذا حصلتـه

 

يذكي ويحيى للجسوم نفوسا

فلما وصل الشعر إلى عمه جاوبه بأبيات منها

ألفيت بقراطاً وجالـينـوسـا

 

لا يأكلان ويرزآن جلـيسـا

فجعلتهم دون الأقارب جـنة

 

ورضيت منهم صاحبا وأنيسا

وأظن بخلك لا يرى لك تاركاً

 

حتى تنادم بعدهم إبـلـيسـا

وقال سعيد بن عبد ربه أيضاً في آخر عمره، وكان جميل المذهب منقبضاً عن الملوك

أمن بعد غوصي في علوم الحقـائق

 

وطول ابنساطي في مواهب خالقـي

وفي حين إشرافي على ملـكـوتـه

 

أرى طالباً رزقاً إلى غير رازقـي

وأيام عُمر المـرء مـتـعة سـاعة

 

تجيء حثيثاً مثـل لـمـحة بـارق

وقد أذنت نفسي بتقويض رحـلـهـا

 

وأسرع في سوقي إلى الموت سائقي

وإني وإن أوغلت أو سرت هـاربـاً

 

من الموت في الآفاق فالموت لاحقي

ولسعيد بن عبد ربه من الكتب كتاب الأقراباذين، تعاليق ومجربات في الطب، أرجوزة في الطب.

عمر بن حفص بن برتق

كان طبيباً فاضلاً قارئاً للقرآن مطرب الصوت، وكان له رحلة إلى القيروان إلى أبي جعفر بن الجزار لزمه ستة أشهر لا غير، وهو أدخل إلى الأندلس كتاب زاد المسافر، ونبل بالأندلس وخدم بالطب الناصر، وكان نجم بن طرفة البيازرة قد استخلصه لنفسه وقام به وأغناه وشاركه في كل دنياه ولم يطل عمره.

أصبغ بن يحيى

كان متقدماً في صناعة الطب، وخدم بها الناصر، وألف له حب الأنيسون، وكان شيخاً وسيماً بهياً سريا معظماً عند الرؤساء.

محمد بن تمليح

كان رجلاً ذا وقار وسكينة ومعرفة بالطب والنحو واللغة والرواية، وخدم الناصر بصناعة الطب، وكان المقيم برئاسته أحمد بن إلياس القائد، وولاه الناصر خطبة الردّ وقضاء شذونة، وله في الطب تأليف حسن الأشكال، وأدرك صدراً من دولة الحكم المستنصر باللّه وكان حظياً عنده وخدمه بصناعة الطب، قال القاضي صاعد وولاه النظر في بنيان الزيادة من قبلي الجامع بقرطبة، فتولى ذلك وكملت تحت إشرافه وأمانته، ورأيت اسمه مكتوباً بالذهب وقطع الفسيفساء على حائط المحراب بها، وإن ذلك البنيان كمل على يديه عن أمر الخليفة الحكم في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة ولمحمد بن تمليح من الكتب كتاب في الطب.