الباب الثالث عشر: طبقات الأطباء الذين ظهروا في بلاد المغرب وأقاموا بها: ابن باجة، أبو مروان بن زهر، أبو العلاء بن زهر، أبو مروان بن أبي العلاء بن زهر

ابن باجة

هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ، ويعرف بابن باجة، من الأندلس، وكان في العلوم الحكمية علاّمة وقته وأوحد زمانه، وبلي بمحن كثيرة وشناعات من العوام، وقصدوا هلاكه مرات وسلمه اللّه منهم، وكان متميزاً في العربية والأدب حافظاً للقرآن، ويعد من الأفاضل في صناعة الطب، وكان متقناً لصناعة الموسيقى جيد اللعب بالعود، وقال أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن الإمام، في صدر المجموع الذف نقله من أقاويل أبي بكر محمد بن الصائغ بن باجة ما هذا مثاله هذا مجموع ما قيد من أقوال أبي بكر بن الصائغ رحمه اللّه في العلوم الفلسفية، وكان ذا ثقابة الذهن، ولطف الغوص على تلك المعاني الشريفة الدقيقة أعجوبة دهره، ونادرة الفلك في زمانه، فإن هذه الكتب كانت متداولة بالأندلس، من زمان الحكم مستجلبها، ومستجلب غرائب ما صنف بالمشرق،، ونقل من كتب الأوائل وغيرها، نصر اللّه وجهه، وتردد النظر فيها، فما انتهج فيها الناظر قبله سبيلاً، وما تقيد عنهم فيها إلا ضلالات وتبديل، كما تبدد عن ابن حزم الإشبيلي وكان من أجل نظار زمانه وأكثره لمن تقدم على إثبات شيء من خواطره، وكان أحسن منه نظراً وأثقب لنفسه تمييزاً، وإنما انتهجت سبل النظر في هذه العلوم بهذا الحبر وبمالك بن وهيب الإشبيلي، فإنهما كانا متعاصرين، غير أن مالك لم يقيد عنه إلا قليل نزر في أول الصناعة الذهنية؛ وأضرب الرجل عن النظر ظاهراً في هذه العلوم، وعن التكلم فيها لما لحقه من المطالبات في دمه لسببها، ولقصده الغلبة في جميع محاوراته في فوز المعارف، وأقبل على العلوم الشرعية فرأس فيها أو زاحم ذلك، لكنه لم يلوح على أقواله ضياء هذه المعارف، ولا قيد فيها باطناً شيئاً ألفى بعد موته، وأما أبو بكر فنهضت به فطرته الفائقة، ولم يدع النظر والتنتيج والتقييد لكل ما ارتسمت حقيقته في نفسه على أطوار أحواله، وكيفا تصرف به زمنه، وأثبتت في الصناعة الذهنية في أجزاء العلم الطبيعي ما يدل على حصول هاتين الصناعتين في نفسه صورة ينطق عنها، ويفصل ويركب فيها فعل المستولي على أمدها.

وله تعاليق في الهندسة وعلم الهيئة تدل على بروعه في هذا الفن، وأما العلم الإلهي فلم يوجد في تعاليقه شيء مخصوص به اختصاصاً تاماً إلا نزعات تستقرأ من قوله في رسالة الوداع، واتصال الإنسان العقل الفعال، وإشارات مبددة في أثناء أقاويله لكنها في غاية القوة، والدلالة على نزوعة في ذلك العلم الشريف الذي هو غاية العلوم ومنتهاها، وكل ما قبله من المعارف فهو من أجله وتوطئة له، ومن المستحيل أن ينزع في التوطئات وتنفصل له أنواع الجود على كمالها، ويكون مقصراً في العلم الذي هو الغاية، وإليه كان التشوق بالطبع لكل ذي فطرة بارعه، وذي موهبة إلهية ترقيه عن أهل عصره، وتخرجه من الظلمات إلى النور، كما كان، رحمه اللّه، وقد صدرنا هذا المجموع بقول له في الغاية الإنسانية، على نهاية من الوجازة، تعرب عما أشرنا إليه من إدراكه في العلم الإلهي، وفيما قبله من العلوم الموطئة له، وعسى أنه قد علق فيه ما لم يعثر عليه، ويشبه أنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله في الفنون التي تكلم عليها من تلك العلوم، فإنه إذا قارنت أقاويله فيها بأقاويل ابن سينا والغزالي، وهما اللذان فتح عليهما بعد أبي نصر بالمشرق في فهم تلك العلوم، ودونا فيها، بان لك الرجحان في أقاويله، وفي حسن فهمه لأقاويل أرسطو، والثلاثة أئمة دون ريب، وآتون ما جاء به من قبلهم بارع الحكمة عن يقين تمتاز به أقاويلهم، ويتواردون فيها مع السلف الكريم.

أقول وكان هذا أبو الحسن علي بن الإمام من غرناطة، وكان كاتباً فاضلاً متميزاً في العلوم، وصحب أبا بكر بن باجة مدة واشتغل عليه، وسافر أبو الحسن علي بن الإمام من المغرب، وتوفي بقوص، وكان من جملة تلاميذ ابن باجة أيضاً القاضي أبو الوليد محمد ابن رشد، وتوفي ابن باجة شاباً بمدينة فاس ودفن بها، وأخبرني القاضي أبو مروان الأشبيلي أنه رأى قبر ابن باجة، وقريباً من قبره قبر أبي بكر بن العربي الفقيه، صاحب التصانيف،ومن كلام ابن باجة قال الأشياء التي ينفع تعلمها بعد زمان طويل لا يضيع تذكرها، وقال حسن عملك تفز بخير من اللّه سبحانه،ولابن باجة من الكتب شرح كتاب السمع الطبيعي لأرسطوطاليس، قول على بعض كتاب الآثار العلوية لأرسطوطاليس، قول على بعض كتاب الكون والفساد لأرسطوطاليس، قول على بعض المقالات الأخيرة من كتاب الحيوان لأرسطوطاليس، كلام على بعض كتاب النبات لأرسطوطاليس، قول ذكر فيه التشوق الطبيعي وماهيته، وابتدأ أن يعطي أسباب البرهان وحقيقته، رسالة الوداع، قول يتلو رسالة الوداع، كتاب اتصال العقل بالإنسان، قول على القوة النزوعية، فصول تتضمن القول على اتصال العقل بالإنسان، كتاب تدبير المتوحد، كتاب النفس، تعاليق على كتاب أبي نصر في الصناعة الذهنية فصول قليلة في السياسة المدنية، وكيفية المدن وحال المتوحد فيها، نبذ يسيرة على الهندسة والهيئة، رسالة كتب بها إلى صديقه أبو جعفر يوسف بن أحمد بن حسداي بعد قدومه إلى مصر تعاليق حكمية وجدت متفرقة، جوابه لما سئل عن هندسة ابن سيد المهندس وطرقه، كلام على شيء من كتاب الأدوية المفردة لجالينوس، كتاب التجربتين على أدوية ابن وافد، واشترك في تأليف هذا الكتاب أبو بكر بن باجة، وأبو الحسن سفيان، كتاب اختصار الحاوي للرازي، كلام في الغاية الإنسانية كلام في الأمور التي بها يمكن الوقوف على العقل الفعال، كلام في الاسم والمسمي، كلام في البرهان، كلام في الأسطقسات، كلام في الفحص عن النفس النزوعية وكيف هي ولم تنزع وبماذا تنزع، كلام في المزاج بما هو طبي،

أبو مروان بن زهر

هو أبو مروان عبد الملك بن الفقيه محمد بن مروان بن زهر الأيادي الإشبيلي، كان فاضلاً في صناعة الطب خبيراً بأعمالها مشهوراً بالحذق، وكان والده الفقيه محمد من جملة الفقهاء والمتميزين في علم الحديث بإشبيلية، وقال القاضي صاعد أن أبا مروان بن زهر رحل إلى المشرق ودخل القيروان ومصر وتطبب هناك زمناً طويلاً، ثم رجع إلى الأندلس وقصد مدينة دانية، وكان ملكها في ذلك الوقت مجاهداً، فلما وصل أبو مروان بن زهر إليه أكرمه إكراماً كثيراً، وأمره أن يقيم عنده ففعل وحظي في أيامه، واشتهر في دانية بالتقدم في صناعة الطب، وطار ذكره منها إلى أقطار الأندلس، وله في الطب آراء شاذة منها منعه من الحمام، واعتقاده فيه أنه يعفن الأجسام، ويفسد الأمزجة قال هذا رأي يخالفه فيه الأوائل والأواخر،، ويشهد بخطئه الخواص والعوام بل إذا استعمل على الترتيب الذي يجب بالتدريج الذي ينبغي يكون رياضة فاضلة، ومهنة لتفتيحه للمسام، وتطريقه وتلطيفه لما غلظ من الكيموسات، أقول وانتقل أبو مروان بن زهر من دانية إلى مدينة إشبيلية، ولم يزل بها إلى أن توفي وخلف أموالاً جزيلة، وكان غني إشبيلية محط أنظارها في الرباع والضياع.

أبو العلاء بن زهر

هو أبو العلاء زهر بن أبي مروان عبد الملك بن محمد بن مروان، مشهور بالحذق والمعرفة، وله علاجات مختارة تدل على قوته في صناعة الطب واطلاعه على دقائقها، وكانت له نوادر في مداواته المرضى ومعرفته لأحوالهم وما يجدونه من الآلام من غير أن يستخبرهم عن ذلك بن بنظره إلى قواريرهم، أو عندما يجس نبضهم، وكان في دولة الملثمين، ويعرفون أيضاً بالمرابطين وحظي في أيامهم، ونال المنزلة الرفيعة والذكر الجميل، وكان قد اشتغل بصناعة الطب وهو صغير في أيام المعتضد باللّه أبي عمرو عباد بن عباد، واشتغل أيضاً بعلم الأدب، وهو حسن التصنيف جيد التأليف، وفي زمانه وصل كتاب القانون لابن سينا إلى المغرب، وقال ابن جميع المصري في كتاب التصريح بالمكنون في تنقيح القانون، إن رجلاً من التجار جلب من العراق إلى الأندلس نسخة من هذا الكتاب، وقد بولغ في تحسينها فاتحف بها لأبي العلاء بن زهر تقرباً إليه، ولم يكن هذا الكتاب وقع إليه قبل ذلك فلما تأمله ذمه واطرح، ولم يدخله خزانة كتبه، وجعل يقطع من طرره ما يكتب فيه نسخ الأدوية لمن يستفتيه من المرضى وقال أبو يحيى اليسع ابن عيسى بن حزم بن اليسع في كتاب المغرب عن محاسن أهل المغرب؛ إن أبا العلاء ابن زهر كان مع صغر سنه تصرخ النجابة بذكره، وتخطب المعارف بشكره، ولم يزل يطالع كتب الأوائل متفهماً، ويلقى الشيوخ مستعلماً، والسعد ينهج له مناهج التيسير، والقدر لا يرضى له من الوجاهة باليسير، حتى برز في الطب إلى غاية عجز الطب عن مرامها، وضعف الفم عن إبرامها وخرجت عن قانون الصناعة إلى ضروب من الشناعة؛ يخبر فيصيب، ويضرب في كل ما ينتحله من التعاليم بأوفى نصيب، ويشعر سابق مدى، وبغير في وجوه الفضلاء علماً ومحتداً، ويفوق الجلة سماحة وندى، لولا بذاء لسان، وعجلة إنسان، وأي الرجال تكمل خصاله، وتتناسب أوصاله؟.

ونقلت من خط محمد بن أحمد بن صالح العبدي، وهو من أهل المغرب، وله نظر وعناية بصناعة الطب، قال أبو العيناء المصري، وهو شيخ أبو العلاء بن زهر، ومن قبله انصرف من بغداد وحكايته معه طويلة، قال أخبرني بهذا الشيخ الطبيب أبو القاسم هشام ابن إسماعيل بن محمد بن أحمد بن صاحب الصلاة بداره بإشبيلية حرسها اللّه.

أقول وكان من جملة تلاميذ أبي العلاء بن زهر في الب أبو عامر بن ينق الشاطبي الشاعر، وتوفي أبو العلاء بن زهر ودفن بإشبيلية خارج باب الفتح، ومن شعر أبي العلاء بن زهر، قال في التغزل

يا من كلفت به و ذلت عزتـي

 

لغرامه وهو العزيز القاهـر

رمت التصبر عندما ألقى الجفا

 

ويقول ذاك الحسن مالك ناصر

ما الجاه إلا جاه من ملك القوى

 

وأطاعه قلب عـزيز قـادر

وقال أيضاً

يا راشقي بسهـام مـا لـهـا غـرض

 

إلا الفؤاد وما لـهـا مـنـه عـوض

وممرضي بجفون حـشـوهـا سـقـم

 

صحَّت ومن طبعها التمريض والمرض

منن ولو بخـيال مـنـك يطـرقـنـي

 

فقد يسد مسد الجـوهـر الـعـرض

وقال في ابن منظور قاضي قضاة اشبيلية، وقد وصله عنه أنه قال أيمرض ابن زهر؟ على جهة الاستهزاء:

قالوا ابن منظور تعـجـب دائبـاً

 

أني مرضت فقلت يعثر من مشى

قد كان جالينوس يمـرض دهـره

 

فمن الفقيه المرتضى أكل الرشا

وقال أيضاً:

سمعت بوصف الناس هنداً فلم أزل

 

أخا صبوة حتى نظرت إلى هنـد

فلما أراني اللّـه هـنـداً وزيهـا

 

تمنيت أن ازداد بعداً على بـعـد

ولأبي العلاء بن زهر من الكتب كتاب الخواص، كتاب الأدوية المفردة، كتاب الإيضاح بشواهد الافتضاح في الرد على ابن رضوان فيما رده على حنين بن إسحاق في كتاب المدخل إلى الطب، كتاب حل شكوك الرازي على كتب جالينوس، مجربات، مقالة في الرد على أبي علي بن سينا في مواضع من كتابه الأدوية المفردة، ألفها لابنه أبي مروان، كتاب النكت الطبية، كتب بها إلى ابنه أبي مروان، مقالة في بسطه لرسالة يعقوب بن إسحاق النكدي في تركيب الأدوية، وأمثلة ذلك نسخ له ومجربات أمر بجمعها علي بن يوسف بن تاشفين بعد موت أبي العلاء، فجمعت بمراكش، وبسائر بلاد العدوة والأندلس، وانتسخت في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وخمسمائة.

أبو مروان بن أبي العلاء بن زهر

هو أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء، زهر بن أبي مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر، لحق بأبيه في صناعة الطب، وكان جيد الاستقصاء في الأدوية المفردة والمركبة، حسن المعالجة، قد ذاع ذكره في الأندلس وفي غيرها من البلاد، واشتغل الأطباء بمصنفاته، ولم يكن في زمانه من يماثله في مزاولة أعمال صناعة الطب، وله حكايات كثيرة في تأتيه لمعرفة الأمراض ومداواتها مما لم يسبقه أحد من الأطباء إلى مثل ذلك، وكان قد خدم الملثمين، ونال من جهتهم من النعم والأموال شيئاً كثيراً، وفي الوقت الذي كان فيه أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر دخل المهدي إلى الأندلس وهو أبو عبد اللّه محمد بن عبد اللّه بن تومرت ومعه عبد المؤمن، وشرع في بث الدعوة لعبد المؤمن، وتمهيد أمره إلى أن انتشرت كلمته واتسعت مملكته، وملك البلاد وأطاعه الخلق، وحكاية المهدي في تأتيه إلى أن نال الملك وصفا له الأمر معروفة مشهورة، ولما استقل عبد المؤمن بالمملكة، وعرف بأمير المؤمنين، واستولى على خزائن المغرب، بذل الأموال، وأظهر العدل، وقرب أهل العلم وأكرمهم، ووالى إحسانه إليهم، واختص أبا مروان عبد الملك بن زهر لنفسه، وجعل اعتماده عليه في الطب، وأناله من الإنعام والعطاء فوق أمنيته، وكان مكيناً عنده، علي القدر، متميزاً على كثر من أبناء زمانه، وألف له أبو مروان بن زهر الترياق السبعيني، واختصره عشارياً واختصره سباعياً، ويعرف بترياق الأنتلة، حدثني أبو القاسم المعاجيني الأندلسي أن الخليفة عبد المؤمن احتاج إلى شرب دواء مسهل، وكان يكره شرب الأدوية المسهلة فتلطف له ابن زهر في ذلك، وأتى إلى كرمة في بستانه فجعل الماء الذي يسقيها به ماء قد أكسبه قوة أدوية مسهلة بنقعها فيه، أو بغليانها معه، ولما تشربت الكرمة قوة الأدوية المسهلة التي أرادها، وطلع فيها العنب، وله تلك القوة، احم الخليفة، ثم أتاه بعنقود منها وأشار عليه أن يأكل منه، وكان حسن الاعتقاد في ابن زهر، فلما أكل منه وهو ينظر إليه قال له يكفيك يا أمير المؤمنين فإنك قد أكلت عشر حبات من العنب، وهي تخدمك عشر مجالس،، فاستخبره عن علة ذلك وعرفه به، ثم قام على عدد ما ذكره له ووجد الراحة فاستحسن منه فعله هذا وتزايدت منزلته عنده.

وحدثني الشيخ محيي الدين أبو عبد اللّه بن علي بن محمد بن الربي الطائي الحاتمي من أهل مرسية أن أبا مروان عبد الملك بن زهر، كان في وقت مروره إلى دار أمير المؤمنين باشبيلية، يجد في طريقه عند حمام أبي الخير بالقرب من دار ابن مؤمل مريضاً به سوء قتبه، وقد كبر جوفه، واصفر لونه فكان أبداً يشكوا إليه حاله، ويسأله النظر في أمره، فلما كان بعض الأيام سأله مثل ذلك فوقف أبو مروان بن زهر عنده، ونظر إليه فوجد عند رأسه إبريقاً عتيقاً يشرب منه الماء، فقال اكسر هذا الابريق فإنه سبب مرضك، فقال له لا باللّه يا سيدي فإني ما لي غيره، فأمر بعض خدمه بكسره فكسره فظهر منه لما كسر ضفدع وقد كبر مما له فيه من الزمان، فقال له ابن زهر خلصت يا هذا من المرض انظر ما كنت تشرب، وبرأ الرجل بعد ذلك،وحدثني القاضي أبو مروان حُمد بن أحمد بن عبد الملك اللخمي ثم الباجي قال حدثني من أثق به أنه كان باشبيلية حكيم فاضل في صناعة الطب يعرف بالفار، وله كتاب جيد في الأودية المفردة سفران وكان أبو مروان بن زهر كثيراً ما يأكل التين ويميل إليه، وكان الطبيب المعروف بالفار لا يغتذي منه بشيء، وإن أخذ منه شيئاً فيكون واحدة في السنة، فكان يقول هذا لأبي مروان بن زهر أنه لا بد أن تعرض لك نغلة صعبة بمداومتك أكل التين، والغلة هو الدبيلة بلغتهم، وكان أبو مروان يقول له لا بد لكثرة حميتك وكونك لم تأكل شيئاً من التين أن يصيبك الشناج قال فلم يمت المعروف بالفار إلا بعلة التشنج وكذلك أيضاً عرض لأبي مروان بن زهر دبيلة في جنبه، وتوفي بها، وهذا من أبلغ ما يكون في تقدمة الإنذار، قال ولما عرض لأبي مروان هذه العلة، كان يعالجها وصنع لها مراهم وأدوية، ولم تؤثر نفعاً يعتد به، فكان يقول له ابنه أبو بكر يا أبي لو غيرت هذا الدواء بالدواء الفلاني، ولو زدت من هذا الدواء أو استعملت دواء كذا وكذا، فكان يقول له يا بني إذا أراد اللّه تغيير هذه البنية فإنه لا يقدر لي أن استعمل من الأدوية إلا ما يتم به مشيئته وإرادته.
أقول وكان من أجل تلاميذ أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر في صناعة الطب والآخذين عنه أبو الحسين بن أسدون، شهر بالمصدوم، وأبو بكر بن الفقيه القاضي أبي الحسن قاضي إشبيلية، وأبو محمد الشذوني والفقيه الزاهد أبو عمران بن أبي عمران، وتوفي أبو مروان عبد الملك بن أبي العلاء بن زهر في سنة وخمسمائة، ودفن بإشبيلية خارج باب الفتح.

ولأبي مروان بن أبي العلاء بن زهر من الكتب كتاب التيسير في المداواة والتدبير، ألفه للقاضي أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد، كتاب الأغذية ألفه لأبي محمد عبد المؤمن بن علي، كتاب الزينة تذكرة إلى ولده أبي بكر في أمر الدواء المسهل وكيفية أخذه، وذلك في صغر سنه، وأول سفرة سافرها فناب عن أبيه فيها، مقالة في علل الكلى، رسالة كتب بها إلى بعض الأطباء بإشبيلية في علتي البرص والبهق، كتاب تذكرة ذكر بها لابنه أبي بكر أول ما تعلق بعلاج الأمراض.

الحفيد إبو بكر بن زهر هو الوزير الحكيم الأديب الحسيب أبو بكر محمد بن أبي مروان بن أبي العلاء بن زهر، مولده بمدينة إشبيلية ونشأ بها وتميز في العلوم، وأخذ صناعة الطب عن أبيه، وباشر أعمالها، وكان معتدل القامة صحيح البنية، قوي الأعضاء، وصار في سن الشيخوخة ونضارة لونه وقوة حركاته لم يتبين فيها تغير، وإنما عرض لها في أواخر عمره ثقل في السمع، وكان حافظاً للقرآن، وسمع الحديث، واشتغل بعلم الأدب والعربية، ولم يكن في زمانه أعلم منه بمعرفة اللغة، ويوصف بأنه قد أكمل صناعة الطب والأدب، وعانى عمل الشعر وأجاد فيه، وله موشحات مشهورة ويغني بها، وهي من أجود ما قيل في ذلك. وكان ملازماً للأمور الشرعية، متين الدين، قوي النفس، محباً للخير، وكان مهيباً وله جرأة في الكلام، ولم يكن في زمانه أعلم منه بصناعة الطب، وذكره قد شاع واشتهر في أقطار الأندلس وغيرها من البلاد، وحدثني القاضي أبو مروان محمد بن أحمد بن عبد الملك الباجي من أهل إشبيلية قال، قال لي الشيخ الوزير الحكيم أبو بكر بن زهر أنه لازم لجدي عبد الملك سبع سنين يشتغل عليه، وقرأ عليه كتاب المدونة لسخنون في مذهب مالك، وقرأ أيضاً عليه مسند ابن أبي شيبة، وحدثني أيضاً القاضي أبو مروان الباجي عن أبي بكر بن زهر أنه كان شديد البأس يجذب قوساً مائة وخمسين رطلاً بالاشبيلي، والرطل الذي بإشبيلية ستة عشر أوقية، وكل أوقية عشرة دراهم، وأنه كان جيد اللعب بالشطرنج جداً ولم يكن في زمانه أحد مثله في صناعة الطب، وخدم الدولتين، وذلك أنه لحق دولة الملثمين واستمر في الخدمة مع أبيه في آخر دولتهم، ثم خدم دولة الموحدين وهم بنو عبد المؤمن، وذلك أنه كان في خدمة عبد المؤمن هو وأبوه، وفي أيام عبد المؤمن مات أبوه وبقي هو في خدمته ثم خدم لابن عبد المؤمن أبي يعقوب يوسف، ثم لابنه يعقوب أبي يوسف الذي لقب بالمنصور، ثم خدم ابنه أبا عبد اللّه محمد الناصر، وفي أول دولته توفي أبو بكر بن زهر، وكانت وفاته رحمه اللّه في عام ستة وتسعين وخمسمائة بمراكش وقد أتاها ليزور بها ودفن هناك في الموضع المعروف بمقابر الشيوخ، وعمر نحو الستين سنة، قال وكان أبو بكر بن زهر صائب الرأي، حسن المعالجة، جيد التدبير، وقد عرف هذا منه، حتى أنه يوماً كان قد كتب والده أبو مروان بن زهر نسخة دواء مسهل لعبد المؤمن الخليفة، فلما رآه أبو بكر بعد ذلك، وكان في حال شبيبته قال يجب أن يبدل هذا الدواء المفرد منه بدواء آخر، فلم يتناول عبد المؤمن ذلك الدواء، ولما رآه أبوه قال يا أمير المؤمنين إن الصواب في قوله، وبدل الدواء المفرد بغيره فاثر نفعاً بيناً، وألف أبو بكر ابن زهر الترياق الخمسيني للمنصور أبي يوسف يعقوب، قال وحدثني من أثق به أن رجلاً من بني اليناقي كان صديقاً للحفيد أبي بكر بن زهر، وكان يجالسه كثيراً ويلعب معه بالشطرنج، وأنه كان عند الحفيد أبي بكر يوماً وهما يلعبان بالشطرنج، فرآه الحفيد على غير ما يعهده به من الانبساط، فقال له ما لخاطرك كأنه مشتغل بشيء عرفني ما هو؟ فقال نعم إن لي بنتاً زوجتها لرجل وهو يطلبها، وقد احتجت إلى ثلثمائة دينار فقال له العب وما عليك فإن عندي في وقتنا هذا ثلثمائة دينار إلا خمسة دنانير تأخذها، فلعب معه ساعة واستدعى بالذهب وأعطاه له، فلما كان عن قرب أتاه صاحبه وترك بين يديه ثلثمائة دينار إلا خمسة فقال له ابن زهر ما هذا؟ فقال إنني بعت زيتوناً لي بسبعمائة دينار، وقد أتيت منها بثلثمائة دينار إلا خمسة عوض الذي تفضلت به علي، وأقرضتني إياه،، وقد بقي عندي حاصلاً أربعمائة دينار، فقال له ابن زهر ارفع هذا عندك وانتفع به، فإني ما دفعت لك الذهب على أني أعود آخذه أبداً، فأبى الرجل وقال إنني بحمد اللّه بحال سعة، ولا لي حاجة آخذ هذا ولا غيره من أحد أصلاً، وتفاوضا في ذلك، فقال له ابن زهر يا هذا، أنت صديقي أو عدوي فقال له بل صديقك، وأحب الناس فيك، فقال له ابن زهر واللّه لئن لم تأخذه لأعادينك بسببه، ولا أعود أكلمك أبداً، فأخذه منه، وشكره على فعله،  قال القاضي أبو مروان الباجي وكان المنصور قد قصد أن لا يترك شيئاً من كتب المنطق والحكمة باقياً في بلاده، وأباد كثيراً منها بإحراقها بالنار وشدد في أن لا يبقى أحد يشتغل بشيء منها، وأنه متى وجد أحد ينظر في هذا العلم أو جد عنده شيء من الكتب المصنفة فيه فإنه يلحقه ضرر عظيم، ولما شرع في ذلك جعل أمره مفوضاً إلى الحفيد أبي بكر بن زهر، وأنه الذي ينظر إليه، وأراد الخليفة أنه إن كان عند ابن زهر شيء من كتب المنطق والحكمة لم يظهر، ولا يقال عنه أنه يشتغل بها، ولا يناله مكروه بسببها ولما نظر ابن زهر في ذلك، وامتثل أمر المنصور في جمع الكتب من عند الكتبيين وغيرهم، وأن لا يبقى شيء منها، وأهانة المشتغلين بها، وكان بإشبيلية رجل من أعيانها يعادي الحفيد أبا بكر بن زهر ويحسده وعنده شر، فعلم محضراً في أن ابن زهر دائم الاشتغال بهذا الفن والنظر فيه، وأن عنده في داره شيئاً كثيراً من كتبه، وجمع فيه شهادات عدة وبعث به إلى المنصور، وكان حينئذ في حصن الفرة وهو موضع بناه قريباً من إشبيلية على ميلين منها، صحيح الهواء بحيث بقيت الحنطة فيها ثمانين سنة لم تتغير لصحته، وكان أبو بكر بن زهر هو الذي أشار على المنصور أن يبنيه في ذلك الموضع، ويقيم فيه بعض الأوقات، فلما كان المنصور به، وقد أتاه المحضر نظره، ثم أمر بأن يقبض على الذي عمله وأن يودع السجن ففعل به ذلك، وانهزم جميع الشهود الذين وضعوا خطوطهم فيه، ثم قال المنصور إنني لم أول ابن زهر في هذا إلا حتى لا ينسبه أحد إلى شيء منه ولا يقال عنه، وواللّه لو أن جميع أهل الأندلس وقفوا قدامي وشهدوا على ابن زهر بما في هذا المحضر لم أقبل قولهم، لما أعرفه في ابن زهر من متانة دينه وعقله، وحدثني أبو العباس أحمد بن محمد بن أحمد الاشبيلي قال كان الحفيد أبو بكر ابن زهر قد أتى إليه من الطلبة اثنان ليشتغلا عليه بصناعة الطب فترددا إليه، ولازماه مدة وقرأا عليه شيئاً من كتب الطب، ثم إنهما أتياه يوماً وبيد أحدهما كتاب صغير في المنطق، وكان يحضر معهما أبو الحسين المعروف بالمصدوم، وكان غرضه أن يشتغلوا فيه، فلما نظر ابن زهر إلى ذلك الكتاب قال ما هذا؟ ثم أخذه ينظر فيه، فلما وجده في علم المنطق رمى به ناحية، ثم نهض إليهم حافياً ليضربهم، وانهزموا قدامه، وتبعهم يعدو على حالته تلك وهو يبالغ في شتمهم، وهم يتعادون قدامه إلى أن رجع عنهم عن مسافة بعيدة فبقوا منقطعين عنه أياماً لا يجسرون أن يأتوا إليه، ثم أنهم توسلوا إلى أن حضروا عنده واعتذروا بأن ذلك الكتاب لم يكن لهم، ولا لهم فيه غرض أصلاً، وأنهم إنما رأوه مع حدث في الطريق وهم قاصدون إليه فهزأوا بصاحبه وعبثوا به وأخذوا من الكتاب قهراً وبقي معه ودخلوا إليه، وهم ساهمون عنه، فتخادع لهم، وقبل معذرتهم، واستمروا في قراءتهم عليه صناعة الطب، ولما كان بعد مديدة أمرهم أن يجيدوا حفظ القرآن، وأن يشتغلوا بقراءة التفسير والحديث والفقه، وأن يواظبوا على مراعاة الأمور الشرعية والاقتداء بها، ولا يخلوا بشيء من ذلك، فلما امتثلوا أمره، وأتقنوا معرفة ما أشار به عليهم، وصارت لهم مراعاة الأمور الشرعية سجية وعادة قد ألفوها، كانوا يوماً عنده وإذا به قد أخرج لهم الكتاب الذي كان رآه معهم في المنطق، وقال لهم الآن صلحتم لأن تقرأوا هذا الكتاب وأمثاله علي، وأشغلهم فيه، فتعجبوا من فعله رحمه اللّه، وهذا يدل منه على كمال عقله وتوفر مروءته.

وحدثني القاضي أبو مروان الباجي قال كان أبو زيد عبد الرحمن بن يوجان وزير المنصور يعادي الحفيد أبا بكر بن زهر ويحسده لما يرى من عظم حاله، وعلو منزلته وعلمه، فاحتال عليه في سم صيره مع أحد من كان عند الحفيد بن زهر فقدمه إلى الحفيد ابن زهر في بيض، وكانت مع الحفيد أيضاً بنت أخته، وكانت أخته وابنتها هذه عالمتين بصناعة الطب والمداواة، ولهما خبرة جيدة بما يتعلق بمداواة النساء، وكانتا تدخلان إلى نساء المنصور، ولا يقبل للمنصور وأهله ولداً إلا أخت الحفيد أو بنتها لما توفيت أمها، فما أكل الحفيد من ذلك البيض وبنت أخته ماتا جميعاً ولم ينفع فيهما علاج، قال ولم يمت أبو زيد عبد الرحمن بن يوجان إلا مقتولاً قتله مع بعض أقاربه، أقول وكان من أجل تلامذة الحفيد أبي بكر بن زهر في صناعة الطب، والآخذين عنه أبو جعفر بن الغزال. ومن شعر الحفيد أبي بكر بن زهر أنشدني محيي الدين أبو عبد اللّه محمد بن علي ابن علي بن محمد العربي الحاتمي قال أنشدني الحفيد أبو بكر بن زهر لنفسه يتشوق إلى ولده

نأت عنه داري فيا وحشتـي

 

لذلك الشخيص وذاك الوجيه

تشوقـنـي وتـشـوقـتـه

 

فيبكي علي وأبكي عـلـيه

وقد تعب الشوق ما بيننا فمنه إلي ومني إليه أنشدني القاضي أبو مروان الباجي قال، أنشدني أبو عمران بن عمران الزاهد المرتلي القاطن بإشبيلية قال أنشدني أبو بكر بن زهر لنفسه في آخر عمره:

إني نظـرت إلـى الـمـرآة إذ

 

جليت فأنكرت مقلتاي كلما رأتـا

رأيت فيها شييخاً لست أعـرفـه

 

وكنت أعرف فيها قبل ذاك فتى

فقلت أين الذي مثواه كان هـنـا

 

متى ترحّل عن هذا المكان متى؟

فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت

 

قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتـى

هون عليك فهـذا لا بـقـاء لـه

 

أما ترى العشب يفنى بعدما نبتـا

كان الغواني يَقُلْنَ يا أخَيّ فـقـد

 

صار الغواني يقلن اليوم يا أبتـا

 وأنشدني أيضاً القاضي أبو مروان الباجي عن الحفيد بن زهر له من أبيات:

أعدِ الحديث عليّ من جنباتـه

 

إن الحديث عن الحبيب حبيب

 وأنشدني شيخنا علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني بن مسافر الحنفي المهندس، للحفيد أبي بكر بن زهر، وهي بديعة المعنى كثيرة التجنيس:

للّه ما صنع الغرام بقـلـبـه

 

أودى به لمـا ألـب بـلـبـه

لباه لمـا أن دعـاه وهـكـذا

 

من يدعه داعي الغرام يلـبـه

بأبي الذي لا تستطيع لعجـبـه

 

رد السلام وإن شككت فعج به

ظبي من الأتراك ما ترك الضنا

 

ألحاظه من سلوة لمـحـبـه

إن كنت تنكر ما جنى بلحاظـه

 

في سلبه يوم الغوير فسل بـه

أو شئت أن تلقى غزالاً أغـيداً

 

في سربه أسد العرين فسر به

يا ما اميلحـه وأعـذب ريقـه

 

وأعزه وأذلنـي فـي حـبـه

أو ما أليطف وردة فـي خـده

 

وأرقها وأشد قسوة قـلـبـه

كم من خمار دون خمرة ريقه

 

وعذاب قلب دون رائق عذبـه

نادى بنفسج عارضيه تعـمـداً

 

يا عاشقين تمنعوا من قـربـه

ومن موشحاته مما أنشدني أبو عبد اللّه محمد، سبط الحكيم أبي محمد عبد اللّه ابن الحفيد أبي بكر بن زهر، وكان والد هذا المذكور أبي عبد اللّه، وهو أبو مروان أحمد ابن القاضي أبي عبد اللّه محمد بن أحمد بن عبد الملك الباجي، قد تزوج ببنت أبي محمد عبد اللّه بن الحفيد أبي بكر بن زهر، ورزق منها أبا عبد اللّه محمد، وكان - أعني أبا مروان أحمد - قد ملك إشبيلية، وبقيت في يده تسعة أشهر، ثم قتله ابن الأحمر غدراً في سنة ثلاثين وستمائة، وكان عمره إذ ذاك سبعاً وثلاثين سنة فمن ذلك قال وهي من أول قوله

زعـمـت أنـفـاسـي الـصـــعـــدا

 

ان أفـراح الـــهـــوى نـــكـــد

هام قـلـبـي فــي مـــعـــذبـــه

 

وأنا أشكو لمطلبه إن كتمت الحـب مـت بـه

وإذا مـا صـــحـــت وا كـــبـــدا

 

فرح الأعـــداء وانـــتـــقــــدوا

أيهـا الـبـاكـي عـلـى الـطـــلـــل

 

ومدير الراح بالأمل أنا من عينيك في شـغـل

فدع الـدمـع الـســـفـــوح ســـدى

 

وضـرام الـشـــوق تـــتـــقـــد

مقـلة جـادت بـمـا مـــلـــكـــت

 

عرفت ذلك الهوى فبكت وشكت مما بها ورثت

وفـــؤادي هــــــائم بـــــــدأ

 

ما عـلــيه لـــلـــســـلـــو يد

إن عـــينـــي لا أذنـــبـــهـــا

 

قلبي وأتعبـهـا لـنـجـوم بـت أرقـبـهـا

رمـت أن أحـصـي لــهـــا عـــدداً

 

وهـي لا يحـصـى لــهـــا عـــدد

وغزال يغلب الأسدا جئت لاسنتجاز ما وعدا فانزوى عني وقال غدا

أترى يا قوم أين هو غـدا

 

في أي مكان يسكن أو يجد

وقال أيضاً  

شمس قـارنـت بدرا

 

راح ونــديم

أدر أكؤس الخمرعنبرية النشرإن الروض ذو بشر

 

 

وقد درع النهرا

 

هبوب النسـيم

وسلت على الأفقيد الغرب والشرقسيوفاً من البرق

 

 

وقد أضحك الزهرا

 

بكاء الغيوم

ألا أن لي مولىتحكم فاستولى أمـا أنـه لـولا

 

 

دمع يفضح السر

 

لكنت كتـوم

أن لي كتمان ودمعيطوفانشـبـت فـيه نـيران

 

 

فمن أبصرا الجمرا

 

في لـج يعوم

إذ لا مني فيه منرأى تجنـيهـشـدوت أغـنـيه

 

 

لعل له عذراً

 

وأنت تـلوم

وقال أيضاً

أيها السـاقـي إلـيك المـشـتـكـى

قد دعونـاك وإن لم تـسـمع

ونديم همت في غرته وشربت الراح

 من راحته كلما استيقظ من سكـرتـه

جذب الزق إليه واتكا

وسـقاني أربـعاً في أرب

غصــن بن مال من حيث اسـتوى

بات مـن يهـواه من فرط الجوى

خفـق الأحـشاء موهون الـقوى

 

كلما فكر في البين بكى

ما له يبكي لما لم يقع

ليس لي صبر ولا لي جلد يا لقومي

 عذلوا واجتهدوا أنكروا شكواي مما أجد

مثل حالي حقه أن يشتكي

كمد اليأس وذل الطمع

ما لعين عشيت بالنظر أنكرت  

 بعدك ضوء القمر وإذا ما شئت فاسمع خبري

شقيت عيناي من طول البكا

وبكى بعضـي على بعضـي معي

كبد حرى ودمع يكف يعرف الذنب

 ولا يعترف أيها المعرض عما أصـف

قد نمى حبك عندي وزكا

لا يظن الحـب أني مدعي

وقال أيضاً

يا صاحبي نداء مغتبط بصاحب لله ما ألقاه من قد الحبائب

قلب أحاط به الجوى من كل جانب

أي قلب هاذم لا يستريح من اللواحي

يا من أعانقه بأحناء الضلوع وأقيمه بدلاً من القلب الصديع

أنا للغرام وأنت للحسن البديع

وكلام اللائم شيء يمر مع الرياح

أنحى على رشدي وأفقدني صلاحي ثغر ثنى الأبصار عن نور الصباح

يسقى بختلطين من مسك وراح

كالحباب العائم في صفحة الماء القراح

من لي به بدراً تجلى في الظلام علق من وجناته بدر التمام

وعلقت من أعطافه لدن القوام

كالقضيب الناعم لم يستطع حمل الوشاح

حملتني في الحب ما لا يستطاع شوقاً يراع لذكره من لا يراع

بل أنت أظلم من له حكم مطاع

وقال أيضاً

حي الوجوه المـلاح

وحي كحل العـيون

هل في الهوى من جناح

 وفي نديم وراحرام النصوح صلاحي

وكيف أرجو صلاحاً

بين الهوى والمجون

يا غائباً لا يغيب أنت البعيد

 القريب كم تشتقيك القلوب

أثخنتهن جراحاً واسأل سهام العيون

 

أبكى العيون البواكي تذكار

  أخت السماك حتى حمام الأراك

بكى بشجو وناح

على فروع الـغصون

ألقى إليها زمامهصب يداوي غرامهولا يطيق الملامه

 

غدا بشوق وراحا

ما بـين سـبي الظنون

يا راحلاً لم يودع رحلت بالأنس أجمعوالعجز يعطي ويمنع

 

مروا واخفوا الرواحا

سحراً وما ودعوني

وقال أيضاً

هل ينفع الوجد أو يفيد أم هل على من بكى جنـاح

يا منية القلب غبت عني فالليل عندي بلا صـبـاح

أفديه من معرض تولى لا عـين مـنـه ولا أثـر

عذبني في هواه كـلا لـم يبـق مـنـي ولا يذر

يا عين عيني فليس إلا صبر على الدمع والسـهـر

ويفعل الشوق ما يريد في كبـد كـلـهـا جـراح

يا مخجل اليد لا تسلني عن جور ألحاظك المـلاح

زاد على بهجة النهار من حسنهِ ادهر فـي ازدياد

لحظ له سطوة العقار يفعل في العـقـل مـا أراد

خداه كالورد في البهار يقطف باللـحـظ أم يكـاد

وذلك المبسم البرود حـصـاه در وصـرف راح

أو مثل ما قلت ماء مزن يسقي بـه يانـع الأقـاح

يا من له أبدع الصفات يا غصن يا دعص يا قمـر

غبت فلم يأت منك آت فاستوحش السمع والبصـر

لولا صبا تلكم الجهات لذاب قلبي مـن الـفـكـر

يا أيها النازح البعـيد جـادت بـانـبـائك الـرياح

أن الصبا عنك أخبرتني ما اهتز روض الربى وفاح

يا ساحراً فوق كل ساحر ومن له حسنـه أصـف

وجه له كالصباح باهر أردية الحسـن يلـتـحـف

كالروض حفت به الأزاهر يقطف باللحظ أم قطف

كالبدر في لـيلة الـسـعـود أشـرق لألاؤه ولاح

كالغصن اللدن في التثني تهز أعطـافـه الـرياح

من لي بمخضوبة البنان ممشوقة الـقـد والـدلال

من هجرها مشية الزمان ماض ومستقبـل وحـال

فيها رثى عاذلي لشاني ثم انثنى ضاحـكـاً وقـال

عاشق ومسكين اللّه يريد وارض لمن يعشق الملاح

فدع يهجر أو يصلني ليس على ساحـر اقـتـراح

أبو محمد بن الحفيد أبي بكر بن زهر هو أبو عبد اللّه بن الحفيد أبي بكر محمد بن أبي مروان عبد الملك بن أبي العلاء زهر بن أبي مروان عبد الملك بن محمد بن مروان بن زهر، كان جيد الفطرة، حسن الرأي، جميل الصورة، مفرط الذكاء، محمود الطريقة، محباً للبس الفاخر، وكان كثير الاعتناء بصناعة الطب والنظر فيها، والتحقيق لمعانيها واشتغل على والده ووقفه على كثير من أسرار علم هذه الصناعة وعملها، وقرأ كتاب النبات لأبي حنيفة الدينوري على أبيه واتقن معرفته، وكان الخليفة أبو عبد اللَّه محمد الناصر بن المنصور أبي يعقوب يرى له كثيراً ويحترمه، ويعرف مقدار علمه وبيتوتته.

حدثني القاضي أبو مروان الباجي قال لما توجه أبو محمد عبد اللَّه بن الحفيد إلى الحضرة خرج منه فيما اشتراه لسفره ونفقته في الطريق نحو عشرة آلاف دينار، قال ولما اجتمع بالخليفة الناص بالمهدية لما فتحها الناصر خدمه على ما جرت به العادة وقال له إنني يا أمير المؤمنين بحمد اللَّه بكل خير من إنعامكم وإحسانكم علي وعلى آبائي، وقد وصل إليّ مما كان بيد أبي من إحسانكم ما يغنيني مدة حياتي وأكثر، وإنما أتيت لأكون في الخدمة كما كان أبي، وأن أجلس في الموضع الذي كان يجلس فيه بين يدي أمير المؤمنين، فأكرمه الناصر إكراماً كثيراً، وأطلق إليه من الأموال والنعم ما يفوق الوصف، وإن مجلسه إذا حضر قريباً منه في الموضع الذي كان يجلس فيه والده الحفيد، فكان يجلس إلى جانب الخليفة الناصر الخطيب أبو عبد اللَّه محمد بن الحسن بن أبي يوسف حجاج القاضي، وكان يجلس تلوه القاضي الشريف أبو عبد اللَّه الحسيني، وكان يجلس تلوه أبو محمد عبد اللَّه بن الحفيد أبو بكر بن زهر، وكان يجلس إلى جانبه أبو موسى عيسى بن عبد العزيز الجزولي صاحب المقدمة المشهورة في النحو المعروفة بالجزولية، وكان هذا في النحو يشتغل عليه أبو محمد عبد اللَّه بن الحفيد، ويجلس بين يديه ويتعلم منه.

وكان مولد أبي محمد عبد اللَّه بن الحفيد أبي بكر في سنة سبع وسبعين وخمسمائة بمدينة إشبيلية، وتوفي رحمه اللَّه مسموماً في سنة اثنتين وستمائة في مدينة سلا في الجهة المسماة برباط الفتح ودفن بها، وكان متوجهاً إلى مراكش فاخترمه الأجل دونها، ثم حمل من الموضع الذي دفن فيه إلى إشبيلية، ودفن عند آبائه بإشبيلية خارج باب الفتح فكانت مدة حياته خمساً وعشرين سنة.

ومن أعجب ما حدثني القاضي أبو مروان الباجي عنه قال كنت يوماً عنده وإذا به قد قال لي إنني رأيت البارحة في النوم أختي، وكانت أخته قد ماتت قبله قال وكأني قلت لها يا أختي باللَّه عرفيني كم يكون عمري؟ فقالت لي طابيتين ونصفاً والطابية هي خشبة للبناء معروفة في المغرب بهذا الاسم طولها عشرة أشبار فقلت لها أنا أقول لك جد وأنت تجيبين بالهزء؟ فقالت لا واللَّه ما قلت لك إلا جداً، وإنما أنت ما فهمت، أليس الطابية عشرة أشبار والطابيتين ونصفاً خمسة وعشرون يكون عمرك خمساً وعشرين سنة، قال القاضي أبو مروان فلما قص علي هذه الرؤيا قلت له لا تتوهم من هذا فلعله من أضغاث الأحلام، قال ولم تكمل تلك السنة إلا وقد مات فكان عمره كما قيل له خمساً وعشرين سنة لا أزيد ولا أنقص، وخلف ولدين كل منهما فاضل في نفسه كريم في جنسه، أحدهما يسمى أبا مروان عبد الملك، والآخر أبا العلاء محمد، والأصغر منهما وهو أبو العلاء معتن بصناعة الطب، وله نظر جيد في كتب جالينوس، وكان مقامهما في إشبيلية.