الباب الرابع عشر: طبقات الأطباء المشهورين من أطباء ديار مصر: بليطيان، إبراهيم بن عيسى، الحسن بن زيرك

بليطيان

كان طبيباً مشهوراً بديار مصر، نصرانياً عالماً بشريعة النصارى الملكية، قال سعيد بن البطريق في كتاب نظم الجوهر، لما كان في السنة الرابعة من خلافة المنصور من الخلفاء العباسيين صير بليطيان بطريركاً على الإسكندرية وكان طبيباً أقام ستاً وأربعين سنة ومات، قال ولما كان في أيام الرشيد هرون وولى الرشيد عبيد اللَّه بن المهدي مصر، أهدى عبيد اللَّه إلى الرشيد جارية من أهل البيما من أسفل الأرض، وكانت حسنة جميلة، وكان الرشيد يحبها حباً شديداً فاعتلت علة عظيمة فعالجها الأطباء، فلم تنتفع بشيء، فقالوا له ابعث الى عبيد اللَّه عاملك بمصر ليوجه إليك واحداً من أطباء مصر فإنهم أبصر بعلاج هذه الجارية من أطباء العراق، فبعث الرشيد إلى عبيد اللَّه بن المهدي يختار له من أحذق أطباء مصر من يعالج الجارية فدعا عبيد اللَّه بليطيان بطريرك الإسكندرية وكان حاذقاً بالطب فأعلمه بحب الرشيد الجارية وعلتها، وحمله إلى الرشيد، وحمل بليطيان معه من كعك مصر الخشن والصير، فلما دخل إلى بغداد ودخل إلى الجارية أطعمها الكعك والصير فرجعت إلى طبعها، وزالت عنها العلة فصار من ذلك الوقت يحمل من مصر إلى خزانة السلطان الكعك الخشن والصير، ووهب الرشيد لبليطيان البطريرك مالاً كثيراً، وكتب له منشوراً في كل كنيسة في يد اليعقوبية مما أخذوها، وتغلبوا عليها أن ترد إليه فرجع بليطيان إلى مصر واسترد من اليعقوبية كنائس كثيرة، وتوفي بليطيان في سنة ستة وثمانين ومائة للهجرة.

إبراهيم بن عيسى

كان طبيباً فاضلاً معروفاً في زمانه متميزاً في أوانه، صحب يوحنا ابن ماسويه ببغداد وقرأ عليه وأخذ عنه، وخدم بصناعة الطب الأمير أحمد بن طولون، وتقدم عنده وسافر معه إلى الديار المصرية، واستمر في خدمته ولم يزل إبراهيم بن عيسى مقيماً في فسطاط مصر إلى أن توفي، وكانت وفاته في نحو سنة ستين ومائتين،

الحسن بن زيرك

كان طبيباً في مصر أيام أحمد بن طولون يصحبه في الإقامة، فإذا سافر صحبه سعيد بن توفيل، ولما توجه ابن طولون إلى دمشق في شهور سنة تسع وستين ومائتين، وامتد منها إلى الثغور لإصلاحها، ودخل أنطاكية عائداً عنها أكثر من استعمال لبن الجواميس فأدركته هيضة لم ينجع فيها معاناة سعيد بن توفيل، وعاد بها إلى مصر وهو ساخط على سعيد بن توفيل، فلما دخل الفسظاط أحضر الحسن بن زيرك وشكا إليه سعيداً فسهل عليه ابن زيرك أمر علته، وأعلمه أنه يرجو له السلامة منها عن قرب، وخففت عنه علته بالراحة والطمأنينة واجتماع الشمل، وهدوء النفس، وحسن القيام، وبر الحسن ابن زيرك، وكان يسر التخليط مع الحرم فازدادت علته، ثم دعا بالأطباء فأرهبهم وخوفهم وكتمهم ما أسلفه من سوء التدبير والتخليط، واشتهى على بعض حظاياه سمكاً قريصاً فأحضرته إياه سراً فما تمكن من معدته، حتى تتابع الإسهال فأحضر الحسن بن زيرك وقال له أحسب الذي سقيتنيه اليوم غير صواب، قال له الحسن بن زيرك يأمر الأمير أيده اللّه بإحضار جماعة أطباء الفسطاط داره في غداة كل يوم، حتى يتفقوا على ما يأخذه كل غداة، وما سقيتك إلا أشياء تولى عجنها ثقتك، وجميعها تنهض القوة الماسكة في معدتك وكبدك، فقال أحمد واللَّه لئن لم تنجحوا في تدبيركم لأضربن أعناقكم فإنما تجربون على العليل، ولا يحصل منكم على شيء في الحقيقة، فخرج الحسن بن زيرك من بين يديه وهو يرعد، وكان شيخاً كبيراً فحميت كبده من سوء فكره وخوفه، وتشاغله عن المطعم والنوم فاعتراه إسهال سريع، واستولى الغم عليه فخلط وكان يهذي بعلة أحمد بن طَولون، حتى مات في غد ذلك اليوم.

ابن جميع

هو الشيخ الموفق شمس الرياسة أبو العشائر هبة اللَّه بن زين بن حسن ابن إفرائيم بن يعقوب بن إسماعيل بن جميع الإسرائيلي، من الأطباء المشهورين، والعلماء المذكورين، والأكابر المتعينين، وكان متفنناً في العلوم، جيد المعرفة بها، كثير الاجتهاد في صناعة الطب، حسن المعالجة، جيد التصنيف، وقرأ صناعة الطب على الشيخ الموفق أبي نصر عدنان بن العين زربي ولزمه مدة، وكان مولد ابن جميع ومنشؤه بفسطاط مصر، وخدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وحظي في أيامه وكان رفيع المنزلة عنده، عالي القدر، نافذ الأمر، يعتمد عليه في صناعة الطب وركب الترياق الكبير الفاروق وكان لابن جميع مجلس عام للذين يشتغلون عليه بصناعة الطب، وذكر أنه كان كثير التحصيل في صناعة الطب، متصرفاً في علمها، فاضلاً في أعمالها.

أقول ومما يؤيد ذلك ما نجده في مصنفاته، فإنها جيدة التأليف، كثيرة الفوائد، منتخبة العلاج، وكان له نظر في العربية، وتحقيق للألفاظ اللغوية، وكان لا يقرأ إلا وكتاب الصحاح للجوهري حاضر بين يديه، ولا تمر كلمة لغة لم يعرفها حق المعرفة إلا ويكشفها منه، ويعتمد على ما أورده الجوهري في ذلك، وكنت يوماً عند الصاحب جمال الدين يحيى بن مطروح في داره بدمشق، وكان ذلك في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب صاحب البلاد المصرية والشامية، والصاحب جمال الدين يومئذ وزيره في سائر البلاد، وهو صاحب السيف والقلم، وفي خدمته مائتا فارس، وتجارينا الحديث وتفضل وقال لي ما سبقك إلى تأليف كتابك في طبقات الأطباء أحد ، ثم قال لي وذكرت أصحابنا الأطباء المصريين؟ فقلت له نعم، فقال وكأني بك قد أشرت إلى أن ما في الأطباء المتقدمين منهم مثل ابن رضوان، وفي المتأخرين مثل ابن جميع، فقلت له صحيح يا مولانا. وحدثني بعض المصريين أن ابن جميع كان يوماً جالساً في دكانه عند سوق القناديل بفسطاط مصر وقد مرت عليه جنازة فلما نظر إليها صاح بأهل الميت، وذكر لهم أن صاحبهم لم يمت، وأنهم إن دفنوه فإنما يدفنوه حياً، قال فبقوا ناظرين إليه كالمتعجبين من قوله، ولم يصدقوه فيما قال، ثم إن بعضهم قال لبعض هذا الذي يقوله ما يضرنا، إننا نمتحنه فإن كان حقاً فهو الذي نريده، وإن لم يكن حقاً فما يتغير علينا شيء؟ فاستدعوه إليهم وقالوا بين الذي قد قلت لنا، فأمرهم بالمسير إلى البيت، وأن ينزعوا عن الميت أكفانه، وقال لهم احملوه إلى الحمام، ثم سكب عليه الماء الحار، وأحمى بدنه ونطله بنطولات، وغطسه، فرأوا فيه أدنى حس، وتحرك حركة خفيفة، فقال أبشروا بعافيته ثم تمم علاجه إلى أن أفاق وصلح، فكان ذلك مبدأ اشتهاره بجودة الصناعة والعلم، وظهرت عنه كالمعجزة، ثم إنه سئل بعد ذلك من أين علمت أن ذلك الميت، وهو محمول وعليه الأكفان أن فيه روحاً؟ فقال إني نظرت إلى قدميه فوجدتهما قائمتين، وأقدام الذين قد ماتوا منبسطة، فحدست أنه حي، وكان حدسي صائباً أقول وكان بمصر ابن المنجم المصري، وكان شاعراً مشهوراً خبيث اللسان، وله أهاجي كثيرة في ابن جميع ومن ذلك مما أنشدت له فيه

لابن جميع في طبـه حـمـق

 

يسب طب المسيح من سبـبـه

وليس يدري ما في الزجاجة من

 

بول مريض ولو تمخض بـه

وأعجـب الأمـر أخـذه أبـداً

 

أجرة قتل المريض من عصبه

وله أيضاً فيه

دعوا ابن جميع وبهتـانـه

 

ودعواه في الطب والهندسة

فما هـو إلا رقـيع أتـى

 

وإن حل في بلد أنحـسـه

وقد جعل الشرب من شأنـه

 

ولكن كما تشرب النرجسه

وله أيضاً فيه

كذبت وصحفت فيما ادعيت

 

وقلت أبوك جميع اليهودي

وليس جميع اليهودي أبـاك

 

ولكن أباك جميع اليهـود

ونقلت من خط يوسف بن هبة اللّه بن مسلم قصيدة لنفسه، وهو يرثي بها الشيخ الموفق بن جميع وهي

أعيني بما تحوي من الدمع فاسجعي وإن نفذت منك الدموع فبالدم

فحق بأن تذرفي على فقد سيد فقدنا به فضل العلا والـتـكـرم

وأفضل أهل العصر علماً وسؤدداً وأفضلهم في مشكل القول مبهم

وأهداهم بالرأي والأمر مبهم وأعلمهم بالغـيب عـلـم تـفـهـم

وأرحبهم صدراً وكفاً ومنزلاً ووجهاً كمثل الصبح عند التـبـسـم

وأنجد من يممته لمـلـمة وأنـجـد مـن أمـلـتـه لـتـألـم

ولو كان يفدى من حمام فديته بنفس متى تقدم على الموت تقـرم

وبطش أسود كالأساود ترتمي بهـزة هـنـدي وعـزة لـهـذم

ولكن قضاء اللّه في الخلق نافذ فلا دافع للآمر الـمـتـحـكـم

وما رد بقراطاً عن الموت طبه وقد كان من أعيانه في التـقـدم

ولا حاد جالينوس عن حتف يومه فسلم ما أعياه للـمـتـسـلـم

لا كسر كسرى ثم تابع تبعاً وعاد بـعـاد ثـم جـر بـجـرهـم

فقل معلناً للشامتين بيومه ذروا الجهل إن الجهل منكم بـمـأتـم

تمر سفيهات الرياح عواصفاً فهل زعزعت ضعفاً نبات يلمـلـم

وما سرح السرح الضعيف حراكه بأرض فكان الليث فيها بمجثم

ألم يك ذا ورد النفوس بأسرها فكل أخير تـابـع الـمـتـقـدم

فلا فرح إلا ويعقبه الأسى ولا غاية البـنـيان غـير الـتـهـدم

فقبحاً لدهر ردنا بعد فقده حيارى بلا هـاد حـلـيف الـتـيتـم

أما عجب إذ غاله الحتف رامياً وقد كان أرمى للخطوب بأسهـم

وأهدى إلى الداء الخفي بعلمه إذا جال بين اللحم والعظـم والـدم

وأرفع بيتاً في القبيل مكارما كما لاح بدر التم مـا بـين أنـجـم

فيا أيها المولى الموفق أينما رأيناه من در الكـلام الـمـنـظـم

وما غال ذاك النطق أفصح مقول ينير دجى ليل من الشك مظلـم

وما أخمد الحس الذكي توقداً وقد كان يهدي كـل سـار مـيمـم

لعمرك ما قلب الشجي كغيره ولا محرق الأحشاء كالمتـجـشـم

ولا كل من أجرى المدامع ثاكل وأين جميل في الأسى من متمـم

فلا تعذلوني إن بكيت تأسفاًَ فقدر عظيم الحزن قدر المـعـظّـم

وواللّه ما وفيت واجب حقه ولو أن جسمي كل عـين بـمـرزم

وإني لأفني مدة العمر والهاً تـصـرم أيامـي ولـم يتـصـرم

فويح المنايا ما درت كنه حادث رمت سيداً يحيا به كل مـنـعـم

ثوى بين أحجار الثرى ولقد غدى

يضوع به النادي ذكي التنـسـم

وطلق المحيا رائق البشر باسماً

وليس بفظ الخلق كالمتجـهـم

وقد كنت أهديه الثناء مبـجـلاً

فها أنا أهديه الرثا جهد معـدم

فيا قبره الوضاح لم يدر ما حوى

ترابك من جود ومجد مـخـيم

سقاك من الوسمي كل سحـابة

تحيل عليك العين ذات تـوسـم

ولا زال منك النشر يأرج عرفه

فيهديه أنفاس الصبا بمـسـلـم

ولابن جميع من الكتب كتاب الإرشاد لمصالح الأنفس والأجساد أربع مقالات، كتاب التصريح بالمكنون في تنقيح القانون، رسالة في طبع الإسكندرية وحال هوائها ومياهها ونحو ذلك من أحوالها وأحوال أهلها، رسالة إلى القاضي المكين أبي القاسم علي ابن الحسين فيما يعتمده حيث لا يجد طبيباً، مقالة في الليمون وشرابه ومنافعه، مقالة في الراوند ومنافعه، مقالة في الحدبة، مقالة في علاج القولنج، واسمها الرسالة السيفية في الأدوية الملوكية.

أبو البيان بن المدور

لقب بالسديد، وكان يهودياً قراءً عالماً بصناعة الطب، حسن المعرفة بأعمالها وله مجربات كثيرة، وآثار محمودة، وخدم الخلفاء المصريين في آخر دولتهم وبعد ذلك خدم الملك الناصر صلاح الدين، وكان يرى له ويعتمدعلى معالجته، وله فيه حسن ظن، وكانت له منه الجامكية الكثيرة والافتقاد المتوفر، وعمر الشيخ أبو البيان بن المدور وتعطل في آخر عمره من الكبر والضعف، من كثرة الحركة والتردد إلى الخدمة، فأطلق له الملك الناصر صلاح الدين رحمه اللّه في كل شهر أربعة وعشرين ديناراً مصرية تصل إليه، ويكون ملازماً لبيته، ولا يكلف خدمة، وبقي على تلك الحال وجامكيته تصل إليه نحو عشرين سنة، وكان في مدة انقطاعه في بيته لا يخل بالاشتغال في صناعة الطب، ولا يخلو موضعه من التلاميذ والمشتغلين عليه والمستوصفين منه، وكان لا يمضي إلى أحد لمعالجته في تلك المدة إلا من يعز عليه جداً، ولقد بلغني عنه من ذلك أن الأمير ابن منقذ لما وصل من اليمن، وكان قد عرض له استسقاء بعث إليه ليأتيه ويعالجه بالمعالجة فاعتذر إليه على قرب موضعه منه، ولم يمض إليه دون أن بعث إليه القاضي الفاضل وكيله ابن سناء الملك، وقصده في ذلك حتى مضى إليه ووصف له ما يعتمد عليه في المداواة، وعاش أبو البيان بن المدور ثلاثاً وثمانين سنة، وتوفي في سنة ثمانين وخمسمائة بالقاهرة، وكان من تلاميذه زين الحساب، ولأبي البيان بن المدور من الكتب مجرباته في الطب.