الباب الرابع عشر: طبقات الأطباء المشهورين من أطباء ديار مصر: سعيد بن توفيل، خلف الطولوني، نسطاس بن جريج، إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس، البالسي، موسى بن العازار الإسرائيلي، يوسف النصراني، سعيد بن البطريق، عيسى بن البطريق، أعين بن أعين، التميمي، سهلان، أبو الفتح منصور بن سهلان بن مقشر، عمار بن علي الموصلي، الحقير النافع، أبو بشر طبيب العظيمية، ابن مقشر الطبيب، علي بن سليمان

سعيد بن توفيل

كان طبيباً نصرانياً متميزاً في صناعة الطب، وكان في خدمة أحمد ابن طولون من أطباء الخاص يصحبه في السفر والحضر، وتغير عليه قبل موته، وسببه أن أحمد بن طولون، كما تقدم ذكره، كان قد خرج إلى الشام، وقصد الثغور لإصلاحها، وعاد إلى أنطاكية فأدركته هيضة من ألبان الجواميس، لأنه أسرع فيها، واستكثر منها فالتمس طبيبه سعيداً فوجده قد خرج إلى بيعة بأنطاكية فتمكن غيظه عليه فلما حضر أغلظ له في التأخر عنه، وأنف أن يشكو إليه ما وجده، ثم زاد الأمر عليه في الليلة الثانية فطلبه فجاء متنبذاً، فقال له لي من يومين عليل وأنت شارب نبيذ؟ فقال يا سيدي طلبتني أمس وأنا في بيعتي على ما جرت عادتي، وحضرت فلم تخبرني بشيء قال فما كان ينبغي أن تسأل عن حالي؟ قال ظنك يا مولاي سيء، ولست أسأل أحداً من حاشتيك عن شيء من أمرك، قال فما الصواب الساعة؟ قال لا تقرب شيئاً من الغذاء، ولو قرمت إليه الليلة وغداً، قال أنا واللَّه جائع،، وما أصبر، قال هذا جوع كاذب لبرد المعدة، فلما كان في نصف الليل استدعى شيئاً يأكله فجيء بفراريج كردباج حارة وبزماورد من دجاج، وجداء باردة فأكل منها فانقطع الإسهال عنه، فخرج نسيم الخادم، وسعيد في الدار فقال له أكل الأمير خروف كردباج فخفف عنه القيام، قال سعيد اللَّه المستعان ضعفت قوته الدافعة بقهر الغذاء لها، وستتحرك حركة منكرة فواللَّه ما وافى السحر حتى قام أكثر من عشرة مجالس، وخرج من أنطاكية وعلته تتزايد إلا أن في قوته احتمالاً لها، وطلب مصر وثقل عليه ركوب الدواب فعملت له عجلة كانت تجر بالرجال، وطِّئت له، فما وصل الفرما حتى شكا إزعاجها فركب الماء إلى الفسطاط، وضرب له بالميدان قبة نزل فيها.

ولما حل ابن طولون بمصر ظهرت منه نبوة في حق سعيد الطبيب هذا، وشكاه إلى إسحاق بن إبراهيم كاتبه وصاحبه فقال إسحاق بن إبراهيم لسعيد يعاتبه ويحك، أنت حاذق في صناعتك وليس لك عيب إلا أنك مدل بها، غير خاضع أن تخدمه فيها، والأمير، وإن كان فصيح اللسان، فهو أعجمي الطبع، وليس يعرف أوضاع الطب فيدبر نفسه بها وينقاد لك، وقد أفسده علي الإقبال فتلطف له، وارفق به، وواظب عليه، وراع حاله، فقال سعيد واللَّه ما خدمتي له إلا خدمة الفأر للسنور، والسخلة للذئب، وإن قتلي لأحب إلي من صحبته، ومات أحمد بن طولون في علته هذه.

وقال نسيم خادم أحمد بن طولون إن سعيد بن توفيل المتطبب، كان في خدمة الأمير أحمد بن طولون فطلبه يوماً فقيل له مضى يستعرض ضيعة يشتريها فأمسك حتى حضر، ثم قال له يا سعيد اجعل ضيعتك التي تشتريها فتستغلها صحبتي ولا تغفلها، واعلم أنك تسبقني إلى الموت إن كان موتي على فراشي، فإني لا أمكنك بالاستمتاع بشيء بعدي، قال نسيم وكان سعيد بن توفيل آيساً من الحياة لان أحمد بن طولون امتنع من مشاورته ولم يكن يحضر إلا ومعه من يستظهر عليه برأيه ويعتقد فيه أنه فرط في أول أمره وابتداء العلة به حتى فات أمره. وفي التاريخ أن سعيد بن توفيل كان له في أول ما صحب أحمد شاكري قبيح الصورة، كان ينفض الكتان مع أب له واسمه هاشم، وكان يخدم بغلة سعيد ويمسكها له إذا دخل دار أحمد بن طولون، وكان سعيد يستعمله في بعض الأوقات في سحق الأدوية بداره إذا رجع معه، وينفخ النار على المطبوخات، وكان لسعيد بن توفيل ابن حسن الصورة، ذكي الروح، حسن المعرفة بالطب فتقدم أحمد بن طولون إلى سعيد أول ما صحبه أن يرتاد متطبباً يكون لحرمه، ويكون مقيماً بالحضرة في غيبته، فقال له سعيد لي ولد قد علمته وخرجته، قال أرنيه فأحضره، فرأى شاباً رائقاً، حسن الأسباب كلها، فقال له أحمد بن طولون ليس يصلح هذا لخدمة الحرم، أحتاج لهن حسن المعرفة قبيح الصورة، فأشفق سعيد أن ينصّب لهم غريباً فينبو عنه، ويخالف عليه، فأخذ هاشماً وألبسه دراعة وخفين ونصبه للحرم، فذكر جريج بن الطباخ المتطبب قال لقيت سعيد بن توفيل ومعه عمر بن صخر، فقال له عمر ما الذي نصبت هاشماً له؟ قال خدمة الحرم لأن الأمير طلب قبيح الخلقة، فقال له عمر قد كان في أبناء الأطباء قبيح قد حسنت تربيته، وطاب مغرسه يصلح لهذا،ولكنك استرخصت الصنعة، واللَّه يا أبا عثمان إن قويت يده ليرجعن إلى دناءة منصبه، وخساسة محتده، فتضاحك سعيد بغرته من هذا الكلام، وتمكن هاشم من الحرم بإصلاحه لهم ما يوافقهم من عمل أدوية الشحم والحبل، وما يحسن اللون ويغزر الشعر، حتى قدمه النساء على سعيد فلما جمع الأطباء على الغدو إلى أحمد بن طولون في كل يوم عند اشتداد علته قالت مائة ألف أم أبي العشائر قد أحضر جماعة من الأطباء، ولم يحضر هاشم، واللَّه يا سيدي ما فيهم مثله، فقال لها أحضرينيه سراً حتى أشافهه وأسمع كلامه، فأدخلته إليه سراً وشجعته على كلامه، فلما مثل بين يديه نظر وجهه وقال أُغْفِل الأمير حتى بلغ إلى هذه الحالة، لا أسن اللَّه جزاء من كان يتولى أمره، قال له أحمد ابن طولون فما الصواب يا مبارك؟ قال تتناول قميحة فيها كذا وكذا، وعدد قريباً من مائة عقار، وهذه القمائح تمسك وقت أخذها وتعود بضرر بعد ذلك لأنها تتعب القوى، فتناولها أحمد، وأمسك عن تناول ما عمله سعيد والأطباء، ولما أمسكت حسن موقع ذلك عند أحمد وظن أن البرء قد تم له، ثم قال أحمد لهاشم إن سعيداً قد حماني من شهر عن لقمة عصيدة وأنا أشتهيها قال يا سيدي، أخطأ سعيد وهي مغذية ولها أثر حميد فيك، فتقدم أحمد بن طولون بإصلاحها فجيء منها بجام واسع فأكل أكثره وطاب نفساً ببلوغ شهوته ونام ولحجت العصيدة فتوهم أن حاله زادت صلاحاً، وكل هذا يطوى عن سعيد بن توفيل، ولما حضر سعيد قال له ما تقول في العصيدة؟ قال هي ثقيلة على الأعضاء وتحتاج أعضاء الأمير إلى تخفيف عنها، قال له أحمد دعني من هذه المخرقة قد أكلتها ونفعتني والحمد للّه، وجيء بفاكهة من الشام فسأل أحمد بن طولون سعيد بن توفيل عن السفرجل فقال له تمص منه على خلو المعدة والأحشاء فإنه نافع، فلما خرج سعيد من عنده أكل أحمد بن طولون سفرجلاً فوجد السفرجل العصيدة فعصرها فتدافع الإسهال، فدعا سعيداً فقال يا ابن الفاعلة ذكرت أن السفرجل نافع لي وقد عاد إلي الإسهال، فقام فنظر المادة ورجع إليه فقال هذه العصيدة التي حمدتها وذكرت أني غلطت في منعها فإنها لم تزل مقيمة في الأحشاء لا تطيق تغييرها ولا هضمها لضعف قواها، حتى عصرها السفرجل، ولم أكن أطلقت لك أكله، وإنما أشرت بمصه،، ثم سأله عن المقدار ما أكل منه فقال سفرجلتين، فقال سعيد أكلت السفرجل للشبع ولم تأكله للعلاج، فقال يا ابن الفاعلة جلست تنادرني وأنت صحيح سوي، وأنا عليل مدنف، ثم دعا بالسياط فضربه مائتي سوط وطاف به على جمل، ونودي عليه هذا جزاء من ائتمن فخان، ونهب الأولياء منزله ومات بعد يومين، وذلك في سنة تسع وستين ومائتين بمصر، وقيل في سنة تسع وسبعين ومائتين، وهي السنة التي مات ابن طولون في ذي قعدتها، واللّه أعلم.

خلف الطولوني

هو أبو علي مولى أمير المؤمنين، كان مشتغلاً بصناعة الطب،وله معرفة جيدة في علم أمراض العين ومداواتها، ولخلف الطولوني من الكتب كتاب النهاية والكفاية في تركيب العينين وخلقتهما وعلاجهما وأدويتهما، ونقلت من خطه في كتابه هذا، وجملة الكتاب بخطه، إن معاناته كانت لتأليف هذا الكتاب في سنة أربع وستين ومائتين، وفراغه منه في سنة اثنتين وثلثمائة.

نسطاس بن جريج

كان نصرانياً عالماً بصناعة الطب، وكان في دولة الإخشيد بن طغج، ولنسطاس بن جريج من الكتب كناش، رسالة إلى يزيد بن رومان النصراني الأندلسي في البول.

إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس

هو أبو يعقوب، إسحق بن إبراهيم بن نسطاس بن جريج، نصراني فاضل في صناعة الطب، وكان في خدمة الحاكم بأمر اللّه ويعتمد عليه في الطب وتوفي إسحق بن إبراهيم بن نسطاس بالقاهرة في أيام الحاكم، واستطب بعده أبا الحسن علي بن رضوان، واستمر في خدمته وجعله رئيساً على سائر الأطباء .

البالسي

كان طبيباً فاضلاً متميزاً في معرفة الأدوية المفردة وأفعالها، وله من الكتب كتاب التكميل في الأدوية المفردة ألفه لكافور الإخشيدي.

موسى بن العازار الإسرائيلي

مشهور بالتقدم والحذق في صناعة الطب، وكان في خدمة المعز لدين اللّه، وكان في خدمته أيضاً ابنه إسحاق بن موسى المتطبب، وكان جليل القدر عند المعز ومتولياً أمره كله في حياة أبيه وتوفي إسحاق بن موسى لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وستين وثلثمائة، واغتم المعز لموت إسحاق لموضعه منه ولكفايته، وجعل موضعه أخاه إسمعيل بن موسى وابنه يعقوب بن إسحاق، وكان ذلك في حياة أبيهم موسى وتوفي قبل وفاة إسحاق بيوم أخ له مسلم اسمه عون اللّه بن موسى، ولموسى بن العازار من الكتب الكتاب المعزي في الطبيخ، ألفه للمعز، مقالة في السعال، جواب مسألة سأله عنها أحد الباحثين عن حقائق العلوم الراغبين جني ثمارها، كتاب الأقراباذين.

يوسف النصراني

كان طبيباً عارفاً بصناعة الطب فاضلاً في العلوم، وقال يحيى بن سعيد بن يحيى،في كتاب تاريخ الذيل إنه لما كان في السنة الخامسة من خلافة العزيز صير يوسف الطبيب بطريركاً على بيت المقدس، أقام في الرئاسة ثلاث سنين وثمانية أشهر، ومات بمصر ودفن في كنيسة مار ثوادرس مع آباء أخر منطودلا القيسراني.

سعيد بن البطريق

من أهل فسطاط مصر، وكان طبيباً نصرانياً مشهوراً عارفا بعلم صناعة الطب وعملها متقدماً في زمانه، وكانت له دراية بعلوم النصارى ومذاهبهم، ومولده في يوم الأحد لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين ومائتين للهجرة، ولما كان في أول سنة من خلافة القاهر باللّه محمد بن أحمد المعتضد باللّه، صير سعيد بن البطريق بطريركاً على الإسكندرية وسمي أوثوشيوس، وذلك لثمان خلون من شهر صفر سنة إحدى وعشرين وثلثمائة ولسعيد بن البطريق من العمر نحو ستين سنة، وبقي في الكرسي والرئاسة سبع سنين وستة أشهر، وكان في أيامه شقاق عظيم وشر متصل بينه وبين شعبه، واعتل سعيد بن البطريق بمصر بالإسهال، وكان متميزاً في صناعة الطب فحدس أنها علة موته، فصار إلى كرسيه بالإسكندرية، وأقام به أياماً عدة عليلاً، ومات يوم الاثنين سلخ رجب من سنة ثمان وعشرين وثلثمائة، ولسعيد بن البطريق من الكتب كتاب في الطب، علم وعمل، كناش، كتاب الجدل بين المخالف والنصراني، كتاب نظم الجوهر، ثلاث مقالات،كتبه إلى أخيه عيسى بن البطريق المتطبب في معرفة صوم النصارى وفطرهم وتواريخهم وأعيادهم، وتواريخ الخلفاء والملوك المتقدمين؛ وذكر البطاركة وأحوالهم، ومدة حياتهم ومواضعهم، وما جرى لهم في ولايتهم، وقد ذيل هذا الكتاب نسيب لسعيد ابن البطريق يقال له يحيى بن سعيد بن يحيى، وسمى كتابه كتاب تاريخ الذيل.

عيسى بن البطريق

كان طبيباًَ نصرانياً عالماً بصناعة الطب علمها وعملها، متميزاً في جزئيات المداواة والعلاج، مشكوراً فيها وكان مقامه بمدينة مصر القديمة، وكان هذا عيسى بن البطريق أخا سعيد بن البطريق المقدم ذكره ولم يزل عيسى بمدينة مصر طبيباً إلى أن توفي بها.

أعين بن أعين

كان طبيباً متميزاً في الديار المصرية، وله ذكر جميل وحسن معالجة، وكان في أيام العزيز باللّه وتوفي أعين بن أعين في شهر ذي القعدة سنة خمس وثمانين وثلثمائة، وله من الكتب كناش كتاب في أمراض العين ومداواتها.

التميمي

هو أبو عبد اللّه محمد بن سعيد التميمي، كان مقامه أولاً بالقدس ونواحيها وله معرفة جيدة بالنبات وماهياته والكلام فيه، وكان متميزاً أيضاً في أعمال الطب والاطلاع على دقائقها؛ وله خبرة فاضلة في تركيب المعاجين والأدوية المفردة؛ واستقصى معرفة أدوية الترياق الكبير الفاروق وتركيبه وركب منه شيئاً كثيراً على أتم ما يكون من حسن الصنعة، وانتقل إلى الديار المصرية، وأقام بها إلى أن توفي رحمه اللّه، وكان قد اجتمع في القدس بحكيم فاضل راهب يقال له أنبا زخريا بن ثوابة، وكان هذا الراهب يتكلم في شيء من أجزاء العلوم الحكمية والطب، وكان مقيماً في القدس في المائة الرابعة من الهجرة، وكان له نظر في أمر تركيب الأدوية، ولما اجتمع به محمد التميمي لازمه وأخذ عنه فوائد وجملاً كثيرة مما يعرفه، وقد ذكر التميمي في كتابه مادة البقاء، صفة سفوف الرجفان الحادث عن المرة السوداء المحترقة وذكر أنه نقل ذلك عن أنبا زخريا.

وقال الصاحب جمال الدين بن القفطي القاضي الأكرم في كتاب أخبار العلماء بأخبار الحكماء إن التميمي محمد بن أحمد بن سعيد كان جده سعيد طبيباً، وصحب أحمد بن أبي يعقوب مولى ولد العباس، وكان محمد من البيت المقدس، وقرأ علم الطب به وبغيره من المدن التي ارتحل إليها، واستفاد من هذا الشأن جزءاً متوفراً، وأحكم ما علمه منه غاية الإحكام، وكان له غرام وعناية تامة في تركيب الأدوية، وحسن اختيار في تأليفها، وعنده غوص على أمور هذا النوع، واستغراق في طلب غوامضه، وهو الذي أكمل الترياق الفاروق بما زاده فيه من المفردات، وذلك بإجماع الأطباء على أنه الذي أكمله، وله في الترياق عدة تصانيف ما بين كبير ومتوسط وصغير، وقد كان مختصاً بالحسن بن عبد اللّه ابن طغج المستولي على مدينة الرملة، وما انضاف إليها من البلاد الساحلية وكان مغرماً به وبما يعالجه من المفردات والمركبات، وعمل له عدة معاجين ولخالخ طبية ودخناً دافعة للوباء وسطر ذلك في أثناء مصنفاته، ثم أدرك الدولة العلوية عند دخولها إلى الديار المصرية وصحب الوزير يعقوب بن كلس وزير المعز والعزيز وصنف له كتاباً كبيراً في عدة مجلدات سماه مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء، والتحزر من ضرر الأوباء وكل ذلك بالقاهرة المعزية، ولقي الأطباء بمصر وناظرهم واختلط بأطباء الخاص القادمين من أهل المغرب في صحبة المعز عند قدومه والمقيمين بمصر من أهلها، قال وحكى محمد التميمي خبراً عن ولده وهو، قال حدثني والدي رضي اللّه عنه أنه سكر مرة سكراً مفرطاً غلب فيه على عقله فسقط في بعض الخانات من موضع عال من أسفل الخان، وهو لا يعقل فحمله صاحب الخان وخدمه حتى أدخله إلى الحجرة التي كان ساكنها، فلما أصبح قام وهو يجد وجعاً ووهنا ًفي مواضع من جسده، ولا يعرف لذلك سبباً فركب وتصرف في بعض أموره إلى أن تعالى النهار ثم رجع، فقال لصاحب الخان ينبغي أن تحمد اللّه على سلامتك، قال مم ذا؟ قال أو ما علمت ما نالك البارحة؟ قال لا، قال فإنك سقطت من أعلى الخان إلى أسفل وأنت سكران، قال ومن أي موضع؟ فأراه الموضع، فلما رآه حدث به للوقت من الوجع والضربان ما لم يجد معه سبيلاً إلى الصبر، وأقبل يضج ويتأوه إلى أن جاؤوه بطبيب ففصده، وشد على مفاصله المتوهنة جباراً فأقام أياماً كثيرة إلى أن برأ وذهب عنه الوجع. أقول ومما يناسب هذه الحكاية أن بعض التجار كان في بعض أسفاره في مغارة ومعه رفقة له فنام في منزلة نزلها في الطريق ورفقته جلوس فخرجت حية من بعض النواحي، وصادفت رجله فنهشته فيها وذهبت، وانتبه مرعوباً من الألم وبقي يمسك رجله ويتأوه منها، فقال له بعضهم ما عليك، إنك مددت رجلك بسرعة، وقد صادفت رجلك شوكة في هذا الموضع الذي يوجعك، وأظهر له أنه أخرج الشوكة، وقال ما بقي عليك بأس، وتساكن عنه الألم بعد ذلك، ورحلوا فلما كان بعد عودهم بمدة وقد نزلوا في تلك المنزلة قال له صاحبه أتدري ذلك الوجع الذي عرض لك في هذا الموضع من أي شيء كان؟ فقال لا، قال إن حية ضربتك في رجلك ورأيناها وما أعلمناك، فعرض له للوقت ضربان قوي في رجله، وسرى في بدنه إلى أن قرب من قلبه وعرض له غشي، ثم تزايد به إلى أن مات، وإن السبب في ذلك أن الأوهام والأحداث النفسانية تؤثر في البدن أثراً قوياً فلما تحقق أن الآفة التي عرضت له كانت من نهشة الحية تأثر من ذلك وسرى ما كان في ذلك الموضع من بقايا السم في بدنه، ولما وصل إلى قلبه أهلكه،ال الصاحب جمال الدين ولما كان التميمي ببلده البيت المقدس معانياً لصناعة الطب وأحكام التركيبات، صنف وركب ترياقاً سماه مخلص النفوس وقال فيه هذا ترياق ألفته بالقدس وأحكمت تركيبه، مختص، نافع الفعل، دافع لضرر السمومات القاتلة المشروبة والمصبوبة في الأبدان، بلسع ذوات السم من الأفاعي والثعابين وأنواع الحيات المهلكة السم، والعقارب الجرارات وغيرها، وذوات الأربع والأربعين رجلاً، ومن لدغ الرتيلاء والعظايات مجرب ليس له مثل، ثم ساق مفرداته وصورة تركيبه في كتابه المسمى بمادة البقاء، ولما كان بمصر صنف جوارشن وركبه وسماه مفتاح السرور من كل الهموم، ومفرح النفوس، ألفه لبعض إخوانه بمصر، وذكر صورة تركيبه وأسماء مفرداته، غير أنه ركبه بمصر وسماها الفسطاط، اسمها الأول في زمن عمرو بن العاص عند افتتاحها، وذلك مذكور في كتابه مادة البقاء وكان التميمي هذا موجوداً بمصر في سنة سبعين وثلاثمائة.

وللتميمي من الكتب رسالة إلى ابنه علي بن محمد في صنعة الترياق الفاروق والتنبيه على ما يغلظ فيه من أدويته، ونعت أشجاره الصحيحة وأوقات جمعها وكيفية عجنه، وذكر منافعه وتجربته، كتاب آخر في الترياق، وقد استوعب فيه تكميل أدويته وتحرير منافعه، كتاب مختصر في الترياق، كتاب في مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء والتحرر من ضرر الأوباء، صنفه للوزير أبي الفرج يعقوب بن كلس بمصر، مقالة في ماهية الرمد وأنواعه وأسبابه، وعلاجه، كتاب الفاحص والأخبار.

سهلان

هو أبو الحسن سهلان بن عثمان بن كيسان، كان طبيباً نصرانياً من أهل مصر ينتحل رأي الفرقة الملكية، وخدم الخلفاء المصريين، وارتفع جاهه في الأيام العزيزية، ولم يزل مرتفع الذكر محروس الجانب مقتنياً للمال الجزيل إلى أن توفي بمصر في أيام العزيز باللَّه، في يوم السبت لخمس بقين من ذي الحجة سنة ثمانين وثلثمائة وأخرج يوم الأحد بعد صلاة الظهر إلى كنيسة الروم بقصر الشمع، فأخذ بجنازته من داره على النخاسين على الجامع العتيق على المربعة إلى حمام الغارو، بين يديه خمسون شمعة موقودة، وعلى تابوته ثوب مثقل وخلف جنازته المطران أخو السيد، وأبو الفتح منصور بن مقشر طبيب الخاص مشاة، وسائر النصارى تبع لهم، ثم أخرج من الكنيسة بعد أن قسس عليه بقية ليلتهم إلى دير القصير فدفن هناك عند قبر أخيه كيسان بن عثمان بن كيسان، ولم يعترض العزيز لتركته، ولا ترك أحداً يمد يده إليها على كثرتها.

أبو الفتح منصور بن سهلان بن مقشر

كان طبيباً نصرانياً مشهوراً، وله دراية وخبرة بصناعة الطب، وكان طبيب الحاكم بأمر اللَّه، ومن الخواص عنده، وكان العزيز أيضاً يستطبه ويرى له ويحترمه، وكان متقدماً في الدولة، وتوفي في أيام الأكم واستطب الحاكم بعده إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس، ومات إسحاق بن نسطاس أيضاً في أيام الحاكم بعد ذلك.

عمار بن علي الموصلي

كان كحالاً مشهوراً، ومعالجاً مذكوراً، له خبرة بمداواة أمراض العين، ودربة بأعمال الحديد، وكان قد سافر إلى مصر وأقام بها وكان في أيام الحاكم ولعمار بن علي من الكتب كتاب المنتخب في علم العين وعللها ومداواتها بالأدوية والحديد، ألفه للحاكم.

الحقير النافع

كان هذا من أهل مصر، يهودي النحلة في زمن الحاكم، وكان طبيباً جرائحياً، حسن المعالجة ومن ظريف أمره أنه كان يرتزق بصناعة مداواة الجراح، وهو في غاية الخمول واتفق أن عرض لرجل الحاكم عقر أزمن ولم يبرأ، وكان ابن مقشر طبيب الحاكم والحظي عنده، وغيره من أطباء الخاص المشاركين له يتولون علاجه فلا يؤثر ذلك الإشراف في العقر فأحضر له هذا اليهودي المذكور، فلما رآه طرح عليه دواء يابساً فنشفه وشفاه في ثلاثة أيام فأطلق له ألف دينار، وخلع عليه، ولقبه بالحقير النافع؛ وجعله من أطباء الخاص.

أبو بشر طبيب العظيمية

كان في أيام الحاكم، مشهوراً في الدولة، ويعد من الأفاضل في صناعة الطب،

ابن مقشر الطبيب

كان من الأطباء المشهورين والعلماء المذكورين، مكيناً في الدولة، حظياً عند الحاكم، وكان يعتمد عليه في صناعة الطب، وقال عبيد اللَّه بن جبرئيل إن ابن مقشر الطبيب كان في خدمة الحاكم، وبلغ معه أعلى المنازل وأسناها، وكان له منه الصلات الكثيرة، والعطايا العظيمة، قال ولما مرض ابن مقشر الطبيب عاده الحاكم بنفسه، ولما مات أطلق لمخلفيه مالاً وافراً.

علي بن سليمان

كان طبيباً فاضلاً متقناً للحكمة والعلوم الرياضية، متميزاً في صناعة الطب، أوحد في أحكام النجوم، وكان في أيام العزيز باللَّه وولده الحاكم ولحق أيام الظاهر لإعزاز دين اللَّه ولد الحاكم، ولعلي بن سليمان من الكتب اختصار كتاب الحلوى في الطب، كتاب الأمثلة والتجارب والأخبار والنكت والخواص الطبية المنتزعة من كتب أبقراط وجالينوس وغيرهما، تذكرة له ورياضة ووجدت هذا الكتاب بخطه أربع مجلدات وقد ذكر فيه أنه ابتدأ بتأليفه في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة بالقاهرة، كتاب التعاليق الفلسفية ووجدته أيضاً بخطه وهو يقول فيه أنه ابتدأ بتصنفه بحلب في سنة إحدى عشرة وأربعمائة، مقالة في أن قبول الجسم التجزؤ لا يقف ولا ينتهي إلى ما لا يتجزأ، وتعديد شكوك تلزم مقالة أرسطوطاليس في الأبصار، وتعديد شكوك في كواكب الذنب.