الباب الخامس عشر: طبقات الأطباء المشهورين من أطباء الشام: عيسى الرقي، اليبرودي، جابر بن منصور السكري، ظافر بن جابر السكري، موهوب بن الظافر، جابر بن موهوب، أبو الحكم

عيسى الرقي

كان طبيباً مشهوراً في أيامه، عارفاً بالصناعة الطبية حق معرفتها، وله أعمال فاضلة ومعالجات بديعة، وكان في خدمة سيف الدولة بن حمدان ومن جملة أطبائه، وقال عبيد اللَّه بن جبرئيل، حدثني من أثق بقوله أن سيف الدولة كان إذا أكل الطعام حضر على مائدته أربعة وعشرون طبيباً، قال وكان فيهم من يأخذ رزقين لأجل تعاطيه علمين، ومن يأخذ ثلاثة لتعاطيه ثلاثة علوم، وكان من جملتهم عيسى الرقي المعروف بالتفليسي، وكان مليح الطريقة، وله كتب في المذهب وغيرها، وكان ينقل من السرياني إلى العربي ويأخذ أربعة أرزاق رزقاً بسبب الطب، ورزقاً بسبب النقل، ورزقين بسبب علمين آخرين.

اليبرودي

هو أبو الفرج جورجس بن يوحنا بن سهل بن إبراهيم، من النصارى اليعاقبة، وكان فاضلاً في صناعة الطب عالماً بأصولها وفروعها معدوداً من جملة الأكابر من أهلها والمتمرنين من أربابها، دائم الاشتغال، محباً للعلم، مؤثراً للفضيلة.

حدثني شرف الدين بن عنين رحمه اللَّه، أن اليبرودي كان لايمل الاشتغال ولا يسأم منه، قال وكان أبداً سائر أوقاته لا يوجد إلا معه كتاب ينظر فيه.

حدثني أحد النصارى بدمشق، وهو السني البعلبكي الطبيب قال كان مولد اليبرودي ومنشؤه في صدر عمره بيبرود، وهي ضيعة كبيرة قريبة من صيدنايا وبها نصارى كثير، وكان اليبرودي بها كسائر أهلها النصارى من معاناتهم الفلاحة وما يصنعه الفلاحون، وكان أيضاً يجمع الشيح من نواحي دمشق القريبة من جهته ويحمله على دابة ويأتي به إلى داخل دمشق يبيعه للذين يقدونه في الأفران وغيرها، وأنه لما كان في بعض المرات، وقد عبر من باب توما بدمشق ومعه حمل شيح، رأى شيخاً من المتطببين، وهو يفصد إنساناً قد عرض له رعاف شديد من الناحية المسامتة للموضع الذي ينبعث منه الدم فوقف ينظر إليه، ثم قال له لم تفصد هذا ودمه يجري من أنفه بأكثر مما يحتاج إليه بالفصد؟ فعرفه أن ذلك إنما يفعله لينقطع الدم الذي ينبعث من أنفه، لكونه يجتذبه إلى مسامتة الجهة التي ينبعث منها، فقال له إذا كان الأمر على ما تقول فإننا في مواضعنا قد اعتدنا أنه متى كان نهر جار، وأردنا أن نقطع الماء عنه فإننا نجعل له مسيلاً إلى ناحية أخرى مسامتة له فينقطع من ذلك الموضع ويعود إلى الموضع الآخر، فأنت لم لا تفعل هكذا أيضاً وتفصد من الناحية الأخرى؟ ففعل ذلك وانقطع الرعاف عن الرجل، وإن ذلك الطبيب لما رأى من اليبرودي حسن نظر فيما سأل عنه، قال له لو أنك تشتغل بصناعة الطب جاء منك طبيب جيد، فمال اليبرودي إلى قوله، وتاقت نفسه إلى العلم، وبقي متردداً إلى الشيخ في أوقات، وهو يعرفه ويريه أشياء من المداواة. ثم إنه ترك يبرود وما كان يعانيه، وأقام بدمشق يتعلم صناعة الطب، ولما تبصر في أشياء منها، وصارت له معرفة بالقوانين العلمية، وحاول مداواة المرضى، ورأى اختلاف الأمراض وأسبابها وعلاماتها، وتفنن معالجاتها، وسأل عمن هو إمام في وقته بمعرفة صناعة الطب والمعرفة بها جيداً، فذكروا له أن ببغداد أبا الفرج بن الطيب كاتب الجاثليق، وأنه فيلسوف متفنن، وله خبرة وفضل في صناعة الطب وفي غيرها من الصنائع الحكمية، فتأهب للسفر وأخذ سواراً كان لأمه لنفقته، وتوجه إلى بغداد وصار ينفق عليه ما يقوم بأوده ويشتغل على ابن الطيب إلى أن مهر في صناعة الطب وصارت له مباحثات جيدة، ودراية فاضلة في هذه الصناعة، واشتغل أيضاً بشيء من المنطق والعلوم الحكمية، ثم عاد إلى دمشق وأقام بها.

ونقلت أيضاً قريباً من هذه الحكاية المتقدمة، وإن كانت الرواية بينهما مختلفة، عن شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي قال حدثني موفق الدين أسعد بن الياس بن المطران قال حدثني أبي قال حدثني أبو الفرج بن الحديد قال حدثني أبو الكرم الطبيب، عن أبيه أبي الرجاء، عن جده قال كان بدمشق فاصد يقال له أبو الخير، ولم يكن من المهرة، فكان من أمره أن فصد شاباً فوقعت الفصدة في الشريان فتحير وتبلد، وطلب قطع الدم فلم يقدر على ذلك، فاجتمع الناس عليه، وفي أثناء ذلك اطلع صبي عليه فقال يا عماه افصده في اليد الأخرى، فاستراح إلى كلامه وفصده من يده الأخرى فقال شد الفصد الأول، فشده ووضع لازوقاً كان عنده عليه، وشده فوقف جرية الدم، ثم مسك الفصدة الأخرى فوقف الدم وانقطع الجميع، ووجد الصبي يسوق دابة عليها حمل شيح فتشبث به وقال من أين لك ما أمرتني به؟ قال أنا أرى أبي في وقت سقي الكرم، إذا انفتح شق من النهر، وخرج الماء منه بحدة لا يقدر على إمساكه دون أن يفتح فتحاً آخر، ينقص به الماء الأول الواصل إلى ذلك الشق، ثم يسده بعد ذلك، قال فمنعه الجرائحي من بيع الشيح واقتطعه، وعلمه الطب فكان منه اليبرودي من مشاهير الأطباء الفضلاء، أقول وكانت لليبرودي مراسلات إلى ابن رضوان بمصر وإلى غيره من الأطباء المصريين، وله مسائل عدة إليهم طبية ومباحثات دقيقة، وكتب بخطه شيئاً كثيراً جداً من كتب الطب، ولا سيما من كتب جالينوس وشروحها وجوامعها، وحدثني أيضاً السني البعلبكي إن اليبرودي عبر يوماً في سوق جيرون بدمشق، فرأى إنساناً وقد بايع على أن يأكل أرطالاً من لحم فرس مسلوق مما يباع في الأسواق، فلما رآه وقد أمعن في أكله بأكثر مما يحتمله قواه، ثم شرب بعده فقاعاً كثيراً وماء بثلج واضطربت أحواله تفرس فيه أنه لا بد أن يغمى عليه، وأن يبقى في حالة يكون الموت أقرب إليه إن لم يتلاحق، فتبعه إلى المنزل الذي له واستشرف إلى ماذا يؤول أمره، فلم يكن إلا أيسر وقت، وأهله يصيحون ويضجون بالبكاء ويزعمون أنه قد مات فأتى إليهم وقال أنا أبرئه وما عليه بأس، ثم إنه أخذه إلى حمام قريب من ذلك الموضع وفتح فكيه كرهاً بشيء، ثم سكب في حلقه ماء مغلياً وقد أضاف إليه أدوية مقيئة، ولافى الغاية، وقيأه برفق، ثم عالجه وتلطف في مدواته حتى أفاق وعاد إلى صحته، فتعجب الناس منه في ذلك الفعل وحسن تأتيه ألى مدواة ذلك الرجل، واشتهرت عنه هذه القضية، وتميز بعدها. أقول وهذه الحكاية التي قصد اليبرودي أن يتتبع أحوال ذلك الرجل فيها ويشاهد ما يكون من أمره أن يكون عنده من ذلك معرفة بالأعراض التي تحدث له، وأن ينقذه أيضاً مما وقع فيه إن أمكنه معاجلته ومعالجته، ومثل ذلك أيضاً ما حكاه أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي الأشعث رحمه اللّه في كتاب الغاذي والمغتذي، وذلك أنه قال إن إنساناً رأيته يوماً وقد بايع أن يأكل جزراً قدره بحد ما، فحضرت أكله لأرى ما يكون من حاله، لا رغبة مني لمجالسة من هذه حاله، ولا لأن لي بذلك عادة وللّه الحمد؛ بل لأرى إيراد الغذاء على المعدة قسراً إلى ماذا يؤول هذا الفعل فرأيته يأكل من حائط ليرى من حوله ويضاحكهم، حتى إذا مر على الأكثر مما كان بين يديه رأيت الجزر ممضوغاً قد خرج من حلقه ملتفاً متحبلاً متعجناً بريقه؛ وقد جحظت عيناه، وانقطع حسه، وأحمر لونه، ودرت وداجاه وعروق رأسه، واربد وكمد وجهه، وعرض له من التهوع أكثر مما عرض له من القذف، حتى رمى من ذلك الذي أكله شيئاً كثيراً، فزكنت أن انقطاع نفسه لدفع المعدة حجابه إلى نحو الفم ومنعها إياه من الرجوع إلى الانبساط للتنفس، وأما ما عرض للونه من الاحمرار ودرور وداجيه وعروقه فزكنت أنه لإقبال الطبيعة نحو رأسه، كما يعرض لمن شدت يده للفصد أن تقبل الطبيعة نحو الجهة التي استنهضت نحوها، وأما ما عرض بعد ذلك لوجهه من الاربداد والكمودة فزكنت أيضاً لسوء مزاج قلبه، وأنه لو لم يخرج ما خرج، ودافعت المعدة حجابه هذه المدافعة التي قد عاقته البتة عن التنفس، عرض له الموت بالاختناق، كما قد رأينا ذلك في عدد كثير ماتوا بعقب القذف، وأما ما عرض له من التهوع أكثر مما عرض له من القذف فزكنت من ذلك أن التهوع لشدة اضطراب المعدة، قال بن أبي الأشعث بعد ذلك إن الغذاء إذا حصل في المعدة وهو كثير الكمية تمددت تمدداً يبسط سائر غضونها، كما رأيت ذلك في سبع شرحته حياً بحضرة الأمير الغضنفر، وقد استصغر بعض الحاضرين معدته فتقدمت بصب الماء في فيه، فما زلنا نصب في حلقه دورقاً بعد آخر حتى عددنا من الدوارق عدداً كان مقدار ما حوت نحو أربعين رطلاً ماء، فنظرت إذ ذاك إلى الطبقة الداخلة، وقد امتدت حتى صار لها سطح مستو ليس بدون إستواء الخارج، ثم شققتها فلما اجتمعت عند خروج الماء منها عاد غضون الداخلة والبواب يشهد اللّه في جميع ذلك لا يرسل نفسه.

وحدثني الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي قال حدثني موفق الدين أسعد ابن الياس بن المطران قال حدثني أبي، عن خالي أبي الفرج بن حيان قال حدثني أبو الكرم الطبيب قال حدثني أبي، عن أبيه قال كنت يوماً أساير الشيخ أبا الفرج اليبرودي إذ اعترضه رجل فقال يا سيدي كنت في صناعتي هذه في الحمام، وحلقت رأسي وأجد الآن في وجهي كله انتفاخاً وحرارة عظيمة، قالفنظرنا إلى وجهه فوجدناه يربو وينتفخ وتزيد حمرته بغير توقف ولا تدريج، قال فأمره أن يكشف رأسه ويلقي به الماء الجاري من قناة كانت بين يديه، وكان الزمان إذ ذاك صميم الشتاء وغاية البرد، ثم لم يزل واقفاً حتى بلغ ما أراد مما أمر به، ثم أمر الرجل بالانصراف وأشار عليه بالأوفق له، وهو تلطيف التدبير واستعمال النقوع الحامض مبرداً وقطع الزفر، قال فامتنع أن يحدث له شراً ما.

وقال الطرطوشي في كتاب سراج الملوك حدثني بعض الشاميين أن رجلاً خبازاً بينما هو يخبز في تنوره بمدينة دمشق إذ عبر عليه رجل يبيع المشمش فاشترى منه، وجعل يأكله بالخبز الحار فلما فرغ سقط مغشياً عليه، فنظروا فإذا هو ميت فجعلوا يتربصون به ويحملون له الأطباء فيلتمسون دلائله، ومواضع الحياة منه، فلم يجدوا، فقضوا بموته، فغسل وكفن وصلي عليه، وخرجوا به إلى الجبانة، فبينما هم في الطريق على باب البلد، فاستقبلهم رجل طبيب يقال له اليبرودي، وكان طبيباً ماهراً حاذقاً عارفاً بالطب فسمع الناس يلهجون بقضيته، فاستخبرهم عن ذلك فقصوا عليه قصته فقال حطوه حتى أراه، فحطوه، فجعل يقلبه، وينظر في أمارات الحياة التي يعرفها، ثم فتح فمه وسقاه شيئاً، أو قال حقنه فاندفع ما هنالك فسيل، فإذا الرجل قد فتح عينيه وتكلم وعاد كما كان إلى حانوته. وتوفي اليبرودي بدمشق في أربعمائة، ودفن في كنيسة اليعاقبة بها عند باب توما، حدثني الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي عن موفق الدين أسعد بن الياس بن المطران قال حدثني خالي، قال حدثني أبي، قال حدثني عبد اللّه بن رجا بن يعقوب، قال حدثني ابن الكتاني، وهو إذ ذاك متصرف في أعمال السلطان يومئذ بدمشق، قال بلغني أن أبا الفرج جورجس بن يوحنا اليبرودي لما توفي ظهر في تركته ثلثمائة مقطع رومي مجوم لباب واحد وخمسمائة قطعة فضة ألطفها ثلثمائة درهم، قال موفق الدين بن المطران وليس ذلك بكثير لأن الشخص متى تحققت أعماله وصفت نيته، وطلب الحق، وعامل الصحيح، واجتهد في معرفة صناعته كان حقاً على اللّه تعالى أن يرزقه، ومتى كان بالضد عاش فقيراً ومات يائساً، ولليبرودي من الكتب مقالة في أن الفرخ أبرد من الفروج، نقض كلام ابن الموفقي في المسائل ترددت فيما بينهم في النبض.

جابر بن منصور السكري

من أهل موصل، وكان مسلماً ديناً، عالماً بصناعة الطب، من أكبر المتميزين فيها، وكان قد لحق أحمد بن أبي الأشعث وقرأ عليه، ثم لازم محمد ابن ثواب تلميذ ابن أبي الأشعث وقرأ عليه، وذلك في نحو سنة ستين وثلثمائة، واشتهر بصناعة الطب وأعمالها، وعمر وكان أكثر مقامه بمدينة الموصل، وإنما ابنه ظافر انتقل إلى الشام وأقام بها.

ظافر بن جابر السكري

هو أبو حكيم ظافر بن جابر بن منصور السكري، كان مسلماً فاضلاً في الصناعة الطبية، متقناً للعلوم الحكمية، متحلياً بالفضائل وعلم الأدب، محباً للاشتغال والتضلع بالعلوم، وكان قد لقي أبا الفرج بن الطيب ببغداد، واجتمع به، واشتغل معه، وكان ظافر بن جابر قد عمر مثل أبيه، وكان موجوداً في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة وهو موصلي، وإنما انتقل من الموصل إلى مدينة حلب، وأقام بحلب إلى آخر عمره، ومن خلفه جماعة مشتغلين بصناعة الطب ومقامهم بحلب.

ومن شعره

ما زلت أعلـم أولاً فـي أول

 

حتى علمت بأنني لا علم لي

ومن العجائب أن أكون جاهلاً

 

من حيث كوني أنني لا أجهل

ولظافر بن جابر من الكتب مقالة في أن الحيوان يموت مع أن الغذاء يخلف عوض ما يتحلل منه.

موهوب بن الظافر

هو أبو الفضل موهوب بن ظافر بن جابر بن منصور السكري، كان فاضلاً أيضاً في صناعة الطب، مشهوراً متميزاً وكان مقيماً بمدينة حلب، ولموهوب بن ظافر من الكتب اختصار كتاب المسائل لحنين بن إسحق.

جابر بن موهوب

هو جابر بن موهوب بن ظافر بن جابر بن منصور السكري، كان أيضاً مشهوراً في صناعة الطب خبيراً بها، وأقام بحلب.

أبو الحكم

هو الشيخ الأديب الحكيم أبو الحكم عبيد اللّه بن المظفر بن عبد اللّه الباهلي الأندلسي المربي، كان فاضلاً في العلوم الحكمية، متقناً للصناعة الطبية، متعيناً في الأدب، مشهوراً بالشعر، وكان حسن النادرة، كثير المداعبة، محباً للهو والخلاعة، وكثير من شعره يوجد مراثي في أقوام كانوا في زمانه أحياء، وإنما قصد بذلك اللعب والمجون، وكان محباًَ للشراب مدمناً له، ويعاني الخيال، وكان إذا طرب يخرج في الخيال ويغني له : 

يا صياد النحلة جاك الـعـمـل

 

قم اخرج من بكرة هات العسل

وكان يعرف الموسيقا، ويلعب بالعود، ويجلس على دكان في جيرون للطب، ومسكنه في دار الحجارة باللبادين، وله مدائح كثيرة في بني الصوفي الذين كانوا رؤساء دمشق، والمتحكمين فيها، وذلك في أيام مجير الدين أبق بن محمد بن بوري بن أتابك طغتكين، وسافر أبو الحكم إلى بغداد والبصرة وعاد إلى دمشق، وأقام بها إلى حين وفاته، وتوفي رحمه اللّه لساعتين خلتا من ليلة الأربعاء سادس ذي القعدة سنة تسع وأربعين وخمسمائة بدمشق، وقال أبو الفضل بن الملحي، وكتب بها إلى أبي الحكم في أثناء كتاب كتبه إليه شاكراً لفعله

 

إذا ما جزى اللّه امرءاً بفعـالـه

 

فجازى الأخ البر الحكيم أبا الحكم

 

هو الفيلسوف الفرد والفاضل الذي

 

أقر له بالحكمة العرب والعجـم

 

يدبر تدبير المسيح مريضه فـلـو

 

راءه أبقراط زلت بـه الـقـدم

 

فينتاشني من قبضة الدهر بعدمـا

 

ألم بأنواع من الـضـر والألـم

وبوأني مـن رأيه خـير مـعـقـل

 

فبرّأ من ضري وأبرا من الـسـقـم

 

وما زال يهديني إلى كـل مـنـهـج

 

بآراء مفضال له سنّـهـا الـكـرم

 

يضيء سنا أفكـارهـا فـكـأنـهـا

 

شموس جلا إشراقها حندس الظـلـم

 

وقام بأمري إذ تـقـاعـد أسـرتـي

 

مقام أبي في كرمتـي أو مـقـام أم

 

وأنقض ظهري ما تحامـل ثـقـلـه

 

ووكل بي طرفاً إذا نمـت لـم ينـم

 

وضم ولم يمنن لجسـمـي شـفـاءه

 

فلولاه قد أصبحت لحماً على وضـم

 

فأصبح سـلـمـي الـدهـر بـعـد

 

حروبه عليه سلام اللّه ما أورق السلم

 

             

وكان أبو الحكم يهاجي جماعة من الشعراء الذين كانوا في وقته ويهاجونه، وللعرقلة، وهو أبو الندى حسان بن نمير الكلبي، يهجو أبا الحكم

لنا طبيب شاعر أشـتـر

 

أراحنا من شخصه اللّـه

ما عاد في صبحة يوم فتى

 

إلا وفي بـاقـيه رثـاه

وقال أيضاً فيه

يا عين سحي بدمع ساكـب ودم

 

على الحكيم الذي يكنى أبا الحكم

قد كان لا رحم الرحمن شيبـتـه

 

ولا سقى قبره من صيب الـديم

شيخاً يرى الصلوات الخمس نافلة

 

ويستحل دم الحجاج في الحـرم

أقول وصف العرقلة لأبي الحكم في هجوه إياه بأنه أشتر العين له سبب، وهو أن أبا الحكم خرج ليلة وهو سكران من دار زين الملك أبي طالب بن الخياط فوقع فانشج وجهه، فلما أصبح زاره الناس يسألونه كيف وقع فكتب هذه الأبيات، وتركها عند رأسه فكان إذا سأله إنسان يعطيه الأبيات يقرؤها

وقعت على رأسي وطارت عمامـتـي

 

وضاع شِمَشْكي وانبطحت على الأرض

وقمت وأسراب الدمـاء بـلـحـيتـي

 

ووجهي، وبعض الشر أهون من بعض

قضى اللّه أني صـرت فـي الـحـال

 

هتكة ولا حيلة للمرء فيما به يقضـي

ولا خير في قـصـف ولا فـي لـذاذة

 

إذا لم يكن سكر إلى مثل ذا يفـضـي

وأخذ المرآة فرأى الجرح في وجهه غائراً تحت الجفن بعد وقعته فقال

رك النـبـيذ بـوجـنـت

 

جرحاً ككـس الـنـعـجة

ووقعـت مـنـبـطـحـاً

 

على وجهي وطارت عمتي

وبقيت منهـتـكـاً فـلـو

 

لا الليل بانـت سـوءتـي

وعـلـمـت أن جـمـيع

 

ذ لك من تـمـام الـلـذة

من لي بـأخـرى مـثـل

 

تلك ولو بحلق الـلـحـية

ومن شعر أبي الحكم، وديوان شعره هو روايتي عن الشيخ شمس الدين أبي الفضل المطواع الكحال، عن الحكيم أمين الدين أبي زكريا يحيى البياسي، عن أبي المجد، عن والده أبي الحكم المذكور، قال يمدح الرئيس مؤيد الدين أبا الفوارس بن الصوفي

رقت لما بي إذا رأت أوصابـي

 

وشكت فقصر وجدها عما بـي

 

ما ضر يا ذات اللما الممنوع لو

 

ذاويت حر جوى ببرد رضـاب

 

من هائم في حبكم مـتـقـنـع

 

بمرار طيف أو بـرد جـواب

 

أن تسعفي بالقرب منك فإنـمـا

 

تحيين نفسـاً آذنـت بـذهـاب

 

لا تنكري إن بان صبري بعدكـم

 

واعتادني ولهي لعظم مصابـي

 

فالصبر في كل المواطن دائمـاً

 

مستحسن إلا عـن الأحـبـاب

 

هيهات أن يصفو الهوى لمتـيم

 

لا بد من شهد هنـاك وصـاب

 

ما لي وللحدق المراض تذيبنـي

 

أترى لحيني وكلت بـعـذابـي

 

وكذا العيون النجل قدماً لم تـزل

 

من شأنها الفتكات بـالألـبـاب

 

ما لي وحظي لا يني متبـاعـداً

 

أدعو فلا أنفك غير مـجـاب

 

لولا رجاء أبي الفوارس لم أزل

 

ما بين ظفر للخطـوب ونـاب

 

دعني أخبر بعض ما قد حاز من

 

شرف وإن أعيا ذوي الإسهاب

 

فلقد غدا فرضاًَ مديح مؤيد الدين

 

الهـمـام عـلـى ذوي الآداب

 

من قيس عيلان نمتـه هـوازن

 

وسليم البادون فـي الأعـراب

 

 

والبيت من أبناء صعصعة سـمـا

 

بنيانه في جعـفـر بـن كـلاب

 

وبنو ربيعة إن نسـبـت وخـالـد

 

منهم عوف في ذوي الأنـسـاب

 

منهم لبيد والـطـفـيل وعـامـر

 

وأبـو بـراء هـازم الأحـزاب

 

ورث العلا منهم بنو الـصـوفـي

 

إذ قرنوا الأيادي الغر في الأحساب

 

وحوى المسيب ما به افـتـخـروا

 

كما حازت فذلك جمع كل حساب

 

في ذروة الشرف الرفـيع سـمـا

 

به مجد قديم من صمـيم لـبـاب

 

وأحل أندية الـمـكـارم نـاشـئاً

 

فسما على القرنـاء والأضـراب

 

ما مفعـم لـجـب طـمـى آذيه

 

وأمده منهـلّ صـوب سـحـاب

 

بأعم سيبـاً مـن نـوال بـنـانـه

 

أو مزبـد ذو زخـرة وعـبـاب

 

لليث صولـتـه عـلـى أعـدائه

 

بل دونه إن صال لـيث الـغـاب

 

ولـه إلـى أشـيائه وعـداتــه

 

يومـان يوم نـدى ويوم ضـراب

 

يا دولة عبـق الـنـدى والـجـود

 

في أرجائها من فتـية أنـجـاب

 

بشجاعها وجمالـهـا وبـعـزهـا

 

وبزينها تبقى عـلـى الأحـقـاب

 

حسبي بما نسبوا إلـيه وإن غـدت

 

أسماؤهم تغنـي عـن الألـقـاب

 

أكرم بهم عرباً إذ افتخـر الـورى

 

جاؤوا بخـير أرومة ونـصـاب

 

شادوا العلا بـنـدى وعـز بـاذخ

 

ومشارع للمـعـتـفـين عـذاب

 

قوم ترى لذوي النـفـاق لـديهـم

 

ذل العبيد لـسـطـوة الأربـاب

 

يا أيها المولى الـذي نـعـمـاؤه

 

مبذولة للطـارق الـمـتـنـاب

 

إني لأعلـم أن بـرك بـي غـدا

 

لسعادتي مـن أوكـد الأسـبـاب

 

وتيقنت نفسي هـنـاك بـأنـنـي

 

سأرود من نعماك خـير جـنـاب

 

لا زلت ترقى في المكـارم دائمـاً

 

ما لاح برق في خلال سـحـاب

             

وقال أيضاً يمدح الرئيس جمال الدولة أبا الغنائم أخا الممدوح

 

سواء علينا هجرهـا ووصـالـهـا

 

إذا نكثت يوماً ورثـت حـبـالـهـا

 

وما برحت ليلى تجـود بـوعـدهـا

 

ويمنع منـا بـذلـهـا ونـوالـهـا

 

ويطمعنا ميعـادهـا فـي دنـوهـا

 

ولا وصل إلا أن يزور خـيالـهـا

 

أما منك إلا عذرة وتعـلـل لـطـال

 

علينـا عـذرهـا واعـتـلالـهـا

 

سقام بجسمي من جفونـك أصـلـه

 

وقوة عشق نقص جسمي كمالـهـا

 

فإن تسعفي صباً يكـن لـك أجـره

 

بقربك يا من شف جسمي زيالـهـا

 

وما ذكرتك النفـس إلا تـفـرقـت

 

وعاودها من بعد هدي ضـلالـهـا

 

وما برحت تعـتـادنـي زفـرة إذا

 

طمعت لها بالبرء راث اندمـالـهـا

 

ومن عبرات لا يني الدهر كـلـمـا

 

دعا للهوى داع أجـاب أنـا لـهـا

 

تصدى الكرى عن مقلتيّ فتنـثـنـي

 

دموع على الخدين يهمي انسجالهـا

 

وكـيف يؤاتـي الـنـوم أو يطـرق

 

الكرى جفوناً بماء المقلتين اكتحالهـا

 

إذ قلت أنساها عـلـى نـأي دارهـا

 

تصور في عيني وقلبي مثـالـهـا

 

ودويّة تـردي الـمـطـايا تـنـوفة

 

يحار القطا فيهـا إذا خـب آلـهـا

 

قطعت بفتلاء الذراعـين عـرمـس

 

أمون قواها غـير بـاد كـلالـهـا

 

تؤم بنا ربع الـمـسـلـم حـيث لا

 

يخيب لها سعي وينـعـم بـالـهـا

 

ولولا جمال الملـك مـا جـئتـهـا

 

ولا ترامت صحاريها بنا ورمالـهـا

 

إلـى أسـرة لا يجـهـل الـنـاس

 

قدرها ويحمد بين العالمين فعالـهـا

 

إذا أشكـلـت دهـمـاء فـالـرأي

 

رأيها وإن راب خطب فالمقال مقالها

 

أو اضـطـرمـت نـار الـوغـى

 

بكماتها وطال عليهم حميها واشتعالها

 

ترى لهـم بـأسـاً يقـصـر دونـه

 

أسود الشرى قدامهـا ونـزالـهـا

بأيديهم خطـية يَزَنـيَّة تـسـاقـي

 

بأكواب الـمـنـايا نـهـالـهـا

 

وبيض تقـد الـدارعـين صـوارم

 

رهاف جلا الأطباع منها صقالهـا

 

وهم يطعمون الضيف من قـمـع

 

الذرى إذا ناوحت نكباء ريح شمالها

 

فما لبني الصوفي في الناس مشبـه

 

ذوي البأس والأيدي المهاب مصالها

 

سما لهم مجد قـديم ورفـعة شـديد

 

عراها لا يخـاف انـحـلالـهـا

 

بني جعفر في العرب خير قـبـيلة

 

سما في نزار فخرها واختيالـهـا

 

تقابل فيهم من سلـيم ذؤابة كـمـا

 

قابلت يمنى الـيدين شـمـالـهـا

 

أيا ابن علي حزت أرفع رتـبة إذا

 

رامها من رامـهـا لا ينـالـهـا

 

بك الدولة الغراء تزهى على الورى

 

وحق لها إذ أنت فيها جمـالـهـا

 

ولو أنها أمسـت سـنـاء ورفـعة

 

سماء علينا كنت أنت هـلالـهـا

 

إذا ما ذوو الشحناء أموك خـيبـوا

 

وعاد عليهم بعـد ذاك وبـالـهـا

 

سأظفر من دهري بأرغـد عـيشة

 

بنعماك إن فاءت علي ظـلالـهـا

 

فما لذوي الحاجات عنـك تـأخـر

 

لأنك عم المكرمـات وخـالـهـا

 

فدونكها كالدر لا مستعارة فينـكـر

 

منها ضعفـهـا واخـتـلالـهـا

 

ولكن نتاج الفكر عذراء حسنـهـا

 

يروق إذا شان القوافي انتحالـهـا

 

فلا نـعـمة إلا ومـنـك نـوالـه

 

ولا مـدحة إلا إلـيك مـآلـهــا

 

           

وقال يمدح عز الدولة أخا مؤيد الدين

دعا بك داعي الهوى فاستجـب

 

وقصر عتابك عمـن عـتـب

 

فما العيش إن غيض ماء الشباب

 

ولم يقض من طـرفـيه أرب

 

وبـاكـر مـعـتـقة زانـهـا

 

مرور الليالي بها والـحـقـب

 

كأن على كـأسـهـا لـؤلـؤاً

 

إذا ما استدار عليها الحـبـب

 

يطوف بها بابلـي الـلـحـاظ

 

لذيذ المقبل عـذب الـشـنـب

 

يقول الذي راقه حـسـنـهـا

 

أ ذي الخمر من خده تجتلـب؟

 

وإلا فمـن أين ذا الاحـمـرار

 

وهذا الصفاء لبنت العـنـب؟

 

بنات الكروم حـياة الـكـروم

 

وموت الهموم محيا الـطـرب

 

فقل لـلـذي هـمـه أن يرى

 

كريماً ينفس عنـه الـكـرب

 

أكل امرئ يرتـجـي سـيبـه

 

رويدك ما الناس فخر العـرب

 

جواد إذا أنـت وفــيتـــه

 

أمنت به حـادثـات الـنـوب

 

فقد شاع من ذكره فـي الأنـام

 

سوى ما ضمن طي الكـتـب

 

ثنـاء تـأرج مـنـه الـبـلاد

 

وذكر فلـولاه لـم يغـتـرب

 

عفـاف وحـلـم إلـى سـؤدد

 

وفخر بآبـاء صـدق نُـجـب

 

وفضـل وبـشـر وجـود يرا

 

ه فرضاً على نفسه قد وجـب

 

فمن قاسه بفـتـى عـصـره

 

فقد قايس الدر بالمخـتـلـب

 

ومن قـال إن امـرءاً غـيره

 

حوى بعض ما حازه قد كـذب

 

وليس الـذي فـخـره تـالـد

 

كمن فخره طارف مكتـسـب

 

تفاخـر قـيس بـه خـنـدفـاً

 

وتعطيه منها أجـل الـرتـب

 

ولا سـيمـا إن غـدا فـيهـم

 

وسـيطـاً بـأكــرم أم وأب

 

من الجعـفـريين فـي بـاذخ

 

من العز تنحط عنه الشـهـب

 

وعبدك يرغـب فـي خـلـعة

 

ومثلك تشريفـه يحـتـسـب

 

ليرفـع ذلـك مـن قـــدره

 

وإن كان قارب فيما طـلـب

 

ويشحـذ خـاطـره كـلـمـا

 

اشرأب إلي مدحكم وانـتـدب

 

فلي كلما ظـفـرت راحـتـي

 

بجود المظـفـر أوفـى أرب

 

ففي كل دولة أنت عـز لـهـا

 

تنال الأماني بـأدنـى سـبـب

 

لأنك من مـعـشـر مـن يرد

 

حياض مكارمهـم لـم يخـب

 

 

وأعراضهم أبـداً لـم تـزل

 

تصاب وأموالهم تنتـهـب

 

هنيئاً لك العيد فانـعـم بـه

 

ودم ما بدا كوكب واحتجب

 

وما العيد أنت إذا ما حضرت

 

سواء علينا نـأى أو قـرب

 

وإن غيب الغيم عنا الهـلال

 

فلسنا نبالي إذا لـم تـغـب

 

فدونكها حرة تـجـتـلـى

 

يناديك قائلها مـن كـثـب

 

أتاك بها إثـر تـهـذيبـهـا

 

حكيم تنخلهـا وانـتـخـب

 

ولا خير في حكمة لا تـرى

 

مطرزة بـفـنـون الأدب

             

ومن مطبوع قصائده الأرجوزة التي وسمها بمعرة البيت، يذكر فيها ما ينال الإنسان إذا عمل دعوة للندماء من المضرة والغرامة وهي هذه

معرة البيت علـى الإنـسـان

 

تطرا بلا شك مـن الإخـوان

فاصغ إلى قول أخي تجـريب

 

يأتك بالشرح علـى تـرتـيب

جميع ما يحدث في الـدعـوات

 

وكل ما فـيهـا مـن الآفـات

فصاحب الدعوة والـمـسـره

 

لا بد أن يحتمل الـمـضـره

أولـهـا لا بـد مـن ثـقـيل

 

يكرهه القوم وذي تـطـفـيل

صاحبها إن قدم الـطـعـامـا

 

يحتاج أن يحتمل الـمـلامـا

لو أنه ينـدس فـي حـرمـه

 

لا بد أن يشرعـوا فـي ذمـه

يقول بـعـض عـازه أبـزار

 

وبعضهم حافت عليه الـنـار

وآخر هذا قـلـيل الـمـلـح

 

يظهر أني فطـن ذو نـصـح

ينهب مـا بـين يديه نـهـبـا

 

ويشرب الماء القراح العـذبـا

يرى له في ذلك انـتـفـاعـاً

 

وبعد ذلك يطلب الـفـقـاعـا

بالثلج في الصيف وفي الشتـاء

 

يلتمس النار بـلا اسـتـحـياء

وإن يعـزهـم أثـر ذا خـلال

 

قد نسلوا الحصر ولم يبـالـوا

وبعد هذا يحـضـر الـنـبـيذ

 

الطيب المنـتـخـب الـلـذيذ

فواحـد يقـول هـذا خـــل

 

وآخـر ذا قـافـز مـعـتـل

وثم مـن يسـأل عـن راووق

 

يقول لا بد من الـتـصـفـيق

وعند هذا تحضر الـبـواطـي

 

ويمزج النـبـيذ بـاحـتـياط

فواحـد يقـول هـذا صـرف

 

ويقـلـب الـمـاء ولا يكـف

وآخـر يقـول ذا مـمـعـود

 

فاجتنبوا المـاء ولا تـعـودوا

والنقل لا بد مع الـمـشـمـوم

 

فغير مهـجـو ولا مـسـؤوم

فذا له في نـقـلـه اخـتـيار

 

يروقه الـريحـان والـخـيار

وذا يقول الـورد والـتـفـاح

 

أحسن ما دارت علـيه الـراح

وإن خشيت حجة المـغـانـي

 

وخوفهم من ضامـن الـقـيان

عجل وقشقل لـهـم الـدينـارا

 

في الحال إن كنت تخاف العارا

وربما قد حان منهم شطـحـه

 

تعيش إن تنعموا بالصـبـحـه

وإن دعوت القوم في كـانـون

 

لا بد من فحم علـى كـانـون

يطـير مـنـه أبـداً شــرار

 

يثبت في البسـط لـهـا آثـار

ويصبح البساط بـعـد الـجـده

 

منقطعاً كشبه جلد الـفـهـده

فضلاً عن الكباب والـشـرائح

 

لكـل غـاد مـنـهـم ورائح

واعزل لهم عند انقضاء البـرد

 

مراوحاً من بعد مـاء الـورد

ولـلـنـدامـى أبـداً فـنـون

 

يظهرها الخمر فتـسـتـبـين

منعماً جشعاً له بـالـمـضـغ

 

وليس فيهم من إليه يصـغـي

ويمسك الدور وينسى نـفـسـه

 

قد غيب الأدبار عنـه حـسـه

ومنهـم مـن يزن الـكـلامـا

 

تراؤساً ويظهر الإعـظـامـا

ومنهم من يظهر الـوضـاعـه

 

تعمداً كي تضحك الجمـاعـه

ومنهم مـن سـكـره قـبـيح

 

لا يأخـذ الــدور ولا يروح

وثم من يدخل وقت الـسـكـر

 

صاح ويحصي هفوات الخمر

ومنهم مـن فـي يديه خـفـه

 

إذا رأى شيئاً ملـيحـاً لـفـه

منـيدلا لـلـكـم أو سـكِّـينة

 

أو طاسة التكعيب أو قـنـينة

وبعضهـم مـوكـل بـقـلـع

 

سلاسل تسيل فوق الـشـمـع

يوهم أن يكسو بهـا فـتـيلـه

 

وإنمـا ذلـك مـنـه حـيلـه

ولا تقل في الغمـز والإيمـاء

 

إذا مضى القوم لبيت الـمـاء

فإن لقـوا جـارية أو عـبـدا

 

قد قرصوا نهداً وعضوا خـدا

وربمـا تـطـرق الـفـسـاد

 

وكان من عرس الفتى انقـياد

أو أخته أو بـنـتـه أو ابـنـه

 

لاسيما إن راقهم بـحـسـنـه

وعندها قد تسمح الـنـفـوس

 

ويطمع النـديم والـجـلـيس

فإنما الإنسان مـن لـحـم ودم

 

ليس بصخر جامد ولا صـنـم

وإن يكن فيهـم أبـو تـلـور

 

فغير مأمـون ولا مـعـذور

يأكل ما يلـقـاه أكـلاً لـمـا

 

بلا اكتراث أو يجيد اللـقـمـا

لا يشرب الراح مع النـدامـى

 

لأنـه لا يوثـر الـمـدامــا

وإن تقع عـربـدة هـنـاكـا

 

فليس يشقى فـيهـم سـواكـا

تنكسر الأقداح والـقـنـانـي

 

وكلـمـا لاح مـن الأوانـي

وإن تأدى الأمـر لـلـجـيران

 

رموه بالزور والـبـهـتـان

ثم شكوه عاجلاً لـلـشـحـنة

 

وربما تمت عـلـيه مـحـنة

ويربح الإنسان سوء السـمـعة

 

لا سيما إن كان ليل جـمـعة

وإن فشـت بـينـهـم جـراح

 

فليس يرجى للفتـى صـلاح

وإن تردى بـينـهـم قـتـيل

 

فذاك شـيء أرشـه قـلـيل

وشربهم إن كان فـي عِـلِّـية

 

فإنـه يقـرّب الـمـنـــية

ولا تكن تنسى أذى الـنـدمـان

 

والقيء فوق البسط في الأحيان

وبعده يلتمـس الـطـعـامـا

 

ليوصل الشرب مع النـدامـا

ولا الذي يلقى مـن الـنـقـار

 

إذا انتبهت وقت كنـس الـدار

من ربة البيت إذا مـا نـامـت

 

وخلفها الصعب إذا ما قامـت

تذكره عند طلوع الـشـمـس

 

بكل مـا دار لـه بـالأمـس

هذا إذا راحوا فـإن أقـامـوا

 

واقتصدوا الصبوح ثم نـامـوا

فكيف ترجو بعـد ذا فـلاحـا

 

إذا بدا الصبـح لـهـا ولاحـا

لوح على القوم بـخـنـدريس

 

في أثر الجـردق والـرؤوس

واستغن عن بعض أثاث الـدار

 

إن صار رهناً في يد الخمـار

وإن تضع بعـض نـعـال يوم

 

فليس تخلو عاجلاً مـن لـوم

فوص أن يحفظهـا الـغـلام

 

لكي يقل مـنـهـم الـمـلام

ولا تبال ويك بـالـخـسـارة

 

وأكثر السرج على المـنـارة

ومن أراد منـهـم الـرواحـا

 

فإنه يستلب الـمـصـبـاحـا

مستصحـبـاً فـي يده قـرابة

 

مملوءة يرضى بها أصحابـه

ولا تفكر فـي فـراغ الـزيت

 

فكل هذا من خراب الـبـيت

فصاحب الدعوة في خـسـران

 

لاسيما إن لُـز بـالـمـيزان

وصاحب الوقت بغـير شـرب

 

أحق مخلوق بصقع الجـرب

يدل ما يلـزمـه مـن غـرم

 

إن الفتى لا شك دقـن سـرم

وكان مـن ذا كـلـه غـنـياً

 

لو كان شهماً فـطـنـاً ذكـياً

معرة ما مثـلـهـا مـعـرة

 

تنحس من يُصْلى بها في كرة

فالشرب عندي في بيوت الناس

 

أحسن من هذا على الـقـياس

وبعد هذا كـلـه فـالـتـوبة

 

أوفق ما دارت عليه الـنـوبة

وقال في البصرة سنة إحدى وعشرين وخمسائة

أقول وقد أشرفت من نهر معـقـل

 

على البصرة الغراء حييت من مصر

أيا حبذا ساحـاتـهـا ورسـومـهـا

 

وطيب رباها لا عرين من القـطـر

فكم فيك مـن يوم لـهـوت ولـيلة

 

رأيت لها وجهاً ينوب عـن الـبـدر

وقال لغزاً في عبد الكريم

 

بمهجتي يا صاح أفدي الذي

 

تيمني تفـتـير عـينـيه

 

صرت له ثلث اسمه طائعاً

 

وهو بوصلي ضد ثلـثـيه

 

كأنما وجنـتـه إذا بـدت

 

أنجـم خـيلان بـخـديه

هلال تم والـثـريا لـه

 

مقلوب ما يشبه صدغيه

 

             

وقال أيضاً لغزاً في اسم شفتر وهو لقب لأبي المعالي السلمي الشاعر

غزال من بني الأصفر

 

سباني طرفه الأحـور

لقد فـضـلـه الـلّـه

 

بحسن الدل والمنظـر

بحق الشفع والـوتـر

 

وما قد ضمنا كـوثـر

فهذا اسم قضى الرحمن

 

أن يلغـز أو يسـتـر

وقال يهجو الطبيب المفشكل اليهودي على سبيل المرثية

ألا عد عن ذكرى حبيب ومـنـزل

 

وعرِّج على قبر الطبيب المفشكل

فيا رحمة اللَّه استهيني بـقـبـره

 

وكوني عن الشيخ الوضيع بمعزل

ويا منكراً جـود هـديت قـذالـه

 

بمقنعة وأسقله سقل السجـنـجـل

وكبكبه في قعر الجحـيم بـوجـبة

 

كجلمود صخر حطه السيل من عل

فلا زال وكـاف تـزجــيه ديمة

 

عليه بمنهل من السلح مـسـبـل

لقد حاز ذاك اللحد أخـبـث جـيفة

 

وأوضع ميت بين ترب وجـنـدل

سأسبل من بطني عليه مدامـعـي

 

وأورده من مائها شـر مـنـهـل

لعل أبا عمران حن لـشـخـصـه

 

وقال له أسـرع إلـي وعـجـل

فما ضم بطن الأرض أنجس منهما

 

وأنذل من رهط الغوي السمـوأل

وقال يهجو الأديب نصير الحلبي أيضاً على سبيل المرثية، وكان نصير قد اشتغل بالكتابة وتعرض للشعر والطب والنجوم

يا هذه قومي انـدبـي

 

مات نصير الحلبـي

يرحمه الـلّـه لـقـد

 

كان طويل الـذنـب

قد ضجت الأموات في

 

نكهته في الـتـرب

وودهم لو عـوضـوا

 

منه بـلـب أجـرب

والقوم بـين صـارخ

 

وممعن في الهـرب

ومـنـكـر يقـول ذا

 

أوضع ميت مربـي

ما ضم بطـن الأرض

 

بين شرقها والمغرب

أخبث مـنـه طـينة

 

في عجمها والعـرب

يا قوم ما أنـجـسـه

 

نصباً على التعجـب

أوصافه من فحـشـه

 

مسطورة في الكتـب

وقولـه لـمـنـكـر

 

أسرف يا معـذبـي

أما علـمـت أنـنـي

 

شيخ لأهــل الأدب

والنحو والـحـكـمة

 

والمنطق والتطبـب

وقال يهجو ملك النحاة

لقد هب من باذهنك الـورك

 

نسيم على عارضي ذا الملك

وأقبل سـيل عـلـى أثـره

 

فصار على وجهه مرتبـك

كما درج الماء مر الصـبـا

 

ودبج أفق السماء الحـبـك

وقال يهجو أبا الوحش الشاعر

إذا رمت أن أهجو أبا الوحش عاقني

 

خلائق لؤم عنـه لا تـتـزحـزح

تجاوز حـد الـذم حـتـى كـأنـه

 

بأقبح ما يهجى به المـرء يمـدح

 وقال يهجوه أيضاً

إن دام في غـيه وحـيش

 

ولم يدع فكه وظـلـمـه

سلقـت آذانـه بـعـنـز

 

قد أكلوا في الحجاز لحمه

وقال أيضاً

إذا عنيت بمحموم نظـمـت لـه

 

بيتاً فإن زاد شيئاً عاد مفلـوجـا

فقل لقوم رأوا طبي لهم فـرجـاً

 

ليهنهم أن غدا بالشعر ممزوجـا

يفرح الهم عن أحشاء ذي حـرق

 

مضنى ويطعمه في الحال فروجا

وقال في الشجاعة

أرى الحرب تكسبني نجدة

 

إذا خامر القلب تذكارها

فإن أنا في النوم أبصرتها

 

تبين في الفرش آثارهـا

وقال في قصيدته التي سماها ذات المناقب

ومعشر قد جعلونـي قـدوة

 

يرونني فيما أعاني أوحـدا

تركت أعمارهم إذ ركـنـوا

 

إلي في الطب كأعمار الجدا

وقال أيضاً

سأظهر في إصلاح شأني تغافلاً

 

ليعذرني من ظن أني ذو جهـل

وأهزل مهما قلت شعراً فإن بدت

 

به ركة يوماً أحلت على الهزل

وقال أيضاً

وطارق ليل أمّني بعـد هـجـعة

 

فمتعت جنبيه بعجزاء من سـلـم

فلو سمعت أذناك تحـتـي عـواءه

 

لقلت ابن آوى عج في حندس الظلم

وقلت له لولا شقاؤك لـم تـسـر

 

بليل ولم تحلل بربع أبي الحـكـم

وقال لما أدركته الوفاة في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وخمسمائة

يا لهف نفسي إذا أدرجت في الكفن

 

وغيبوني عن الأهلين والـوطـن

وقيل لا يبعدن من كان ينـشـدنـا

 

أنا الذي نظر الأعمى فلم يرنـي

ثم أنشد يوم الثلاثاء قبل وفاته وأمر ولده أبا المجد أن يرويها بعد موته عنه

ندمت على موتي وما كان من أمـري

 

فيما ليت شعري من يرثيكم بـعـدي

وإني لأختار الـرجـوع لـو أنـنـي

 

أرد ولكـن لا سـبـيل إلـى الـرد

ولو كنت أدري أننـي غـير راجـع

 

لما كنت قد أسرعت سيراً إلى اللحـد

ألا هل من الموت المفرق مـن بـد

 

وهل لزمان قد تـسـلـف مـن رد

مضى الأهل والأحباب عني وودعـوا

 

وغودرت في دهماء موحشة وحـدي

لبعض على بعـض لـديكـم مـزية

 

ولا يعرف المولى لدينا من العـبـد

لئن كنت قد أفرحتكـم بـمـنـيتـي

 

وسركم موتي وآنـسـكـم فـقـدي

فدقيوس تلميذي عليكم خـلـيفـتـي

 

رضيت به في الهزل بعدي وفي الجد

فها أنا قد وليته الأمر فـاعـلـمـوا

 

وعما قليل سوف أسكـنـه عـنـدي

ولا تقنطوا من رحمة اللَّـه بـعـد ذا

 

فليس لنا من رحمة اللّـه مـن بـد

وأبي الحكم من الكتب ديوان شعره، وسمي ديوانه هذا نهج الوضاعة.