الباب الخامس عشر: طبقات الأطباء المشهورين من أطباء الشام: أبو المجد بن أبي الحكم، ابن البذوخ، حكيم الزمان عبد المنعم الجلياني، أبو الفضل بن أبي الوقار، مهذب الدين بن النقاش، أبو زكريا يحيى البياسي، سكرة الحلبي، عفيف بن سكرة

أبو المجد بن أبي الحكم

هو أفضل الدولة أبو المجد محمد بن أبي الحكم، عبيد اللَّه بن المظفر بن عبد اللَّه الباهلي، ومن الحكماء المشهورين، والعلماء المذكورين، والأفاضل في الصناعة الطبية، والأماثل في علم الهندسة والنجوم، وكان يعرف الموسيقي، ويلعب بالعود، ويجيد الغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات، وعمل أرغناً وبالغ في إتقانه، وكان اشتغاله على والده وعلى غيره بصناعة الطب، وتميز في علمها وعملها، وصار من الأكابر من أهلها، وكان في دولة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه اللَّه، وكان يرى له ويحترمه، ويعرف مقدار علمه وفضله، ولما أنشأ الملك العادل نور الدين البيمارستان الكبير جعل أمر الطب إليه فيه، وأطلق له جامكية وجراية، وكان يتردد إليه ويعالج المرضى فيه، وحدثني شمس الدين أبو الفضل بن أبي الفرج الكحال المعروف بالمطواع، رحمه اللَّه، أنه شاهده في البيمارستان، وأن أبا المجد بن أبي الحكم كان يدور على المرضى به ويتفقد أحوالهم، ويعتبر أمورهم وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة المرضى، فكان جميع ما يكتبه لكل مريض من المداواة والتدبير لا يؤخر عنه ولا يتوانى في ذلك، قال وكان بعد فراغه من ذلك وطلوعه إلى القلعة وافتقاده المرضى من أعيان الدولة يأتي ويجلس في الإيوان الكبير الذي للبيمارستان وجميعه مفروش، ويحضر الاشتغال، وكان نور الدين رحمه اللَّه قد وقف على هذا البيمارستان جملة كبيرة من الكتب الطبية، وكانت في الخرستانين اللذين في صدر الإىوان فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه، ثم تجري مباحث طبية ويقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحثة، نظر في الكتب مقدار ثلاث ساعات، ثم يركب إلى داره، وتوفي أبو المجد بن أبي الحكم بدمشق في خمسمائة،

ابن البذوخ

هو أبو جعفر عمر بن علي بن البذوخ القلعي المغربي، كان فاضلاً خبيراً بمعرفة الأدوية المفردة والمركبة، وله حسن نظر في الاطلاع على الأمراض ومداواتها، وأقام بدمشق سنيناً كثيرة، وكانت له دكان عطر باللبادين يجلس فيها، ويعالج من يأتي إليه أو يستوصف منه، وكان يهيئ عنده أدوية كثيرة مركبة يصنعها من سائر المعاجين والأقراص والسفوفات وغير ذلك، يبيع منها وينتفع الناس بها، وكان معتنياً بالكتب الطبية والنظر فيها وتحقيق ما ذكره المتقدمون من صفة الأمراض ومداواتها، وله حواش على كتاب القانون لابن سينا، وإن له أيضاً اعتناء بعلم الحديث، ويشعر وله رجز كثير إلا أن أكثر شعره ضعيف منحل، وعمّر عمراً طويلاً، وضعف عن الحركة حتى إنه كان لم يأت إلى دكانه إلا محمولاً في محفة، وعمي في آخر عمره بماء نزل في عينه، لأنه كان كثيراً يغتذي باللبن ويقصد بذلك ترطيب بدنه، وتوفي بدمشق في سنة خمس أو ست وسبعين وخمسمائةومن شعر ابن البذوخ قال وهو من قصيدة كبيرة له في ذكر الموت والمعاد فمن مختارها

يا رب سهل لي الخيرات أفعلـهـا

 

مع الأنام بموجودي وإمـكـانـي

فالقبر باب إلى دار البـقـاء ومـن

 

للخير يغرس أثمار المنى جـانـي

وخير أنس الفتى تقوى بصاحـبـه

 

والخير يفعله مـع كـل إنـسـان

يا ذا الجلالة والإكـرام يا أمـلـي

 

اختم بـخـير وتـوحـيد وإيمـان

إن كان مولاي لا يرجوك ذو زلـل

 

بل من أطاعك، من للمذنب الجاني؟

عشر الثمانين يا مولاي قد سلـبـت

 

أنوار عيني وسمعي ثم أسـنـانـي

لا أستطيع قياماً غير مـعـتـمـد

 

ما بين اثنين، شكوائي لرحمـانـي

وما بقي في لـذيذ يسـتـلـذ بـه

 

لي لذة غير تنـصـيت لـقـرآن

أو شرحه أو شروحات الحديث وما

 

يختص بالطب أو تفـكـيه أقـران

فالشيخ تعميره يفضي إلـى هـرم

 

يذلـه أو عـمـى أو داء أزمـان

فموته ستـره إذ لا مـحـيص لـه

 

عن الممات فكم يبقى لنـقـصـان

نعوذ باللَّه من شر الـحـياة ومـن

 

شر الممات وشر الإنس والـجـان

إن الشيوخ كأشجار غدت حطـبـا

 

فليس يرجي لها توريق أغـصـان

لم يبق في الشيخ نفع غير تـجـربة

 

وحسن رأي صفا من طول أزمان

يا خالق الخلق يا من لا شريك لـه

 

قد جئت ضيفاً لتقريني بغـفـران

مولاي مالي سوى التوحيد من عمل

 

فاختم به منعمـاً يا خـير مـنـان

وقال في مدح كتب جالينوس

أكرم بكتب لجالينوس قد جمـعـت

 

ما قال بقراط والماضون في القـدم

كديسقـوريدس عـلـم الـدواء لـه

 

مسلم عند أهل الطب فـي الأمـم

فالطب عن ذين مع بقراط منتشـر

 

من بعدهم كانتشار النور في الظلـم

بطبهم تقتدي الأفـكـار مـشـرقة

 

ترى ضياء الشفا في ظلمة السقـم

لاتبتغي في شفاء الـداء غـيرهـم

 

فإن وجدانه في الطب كـالـعـدم

لأنهم كملوا مـا أصّـلـوه فـمـا

 

يحتاج فيهم إلى إتـمـام غـيرهـم

إلا الدواء فما تحصى مـنـافـعـه

 

وعده كثرة في العرب والـعـجـم

عد النجوم نبات الأرض أجمعـهـا

 

من ذا يعد جميع الـرمـل والأكـم

في كل يوم ترى في الأرض معجزة

 

من التجارب والآيات والـحـكـم

ولابن البذوخ من الكتب شرح كتاب الفصول لأبقراط، أرجوزة، شرح كتاب تقدمة المعرفة لأبقراط أرجوزة، كتاب ذخيرة الألباء، المفرد في التأليف من الأشباه، حواش على كتاب القانون لابن سينا.

حكيم الزمان عبد المنعم الجلياني

هو حكيم الزمان أبو الفضل عبد المنعم بن عمر بن عبد اللّه بن حسان الغساني الأندلسي الجلياني، كان علامة زمانه في صناعة الطب والكحل وأعمالهما بارعاً في الأدب وصناعة الشعر وعمل المديحات، أتى من الأندلس إلى الشام، وأقام بدمشق إلى حين وفاته، وعمر عمراً طويلاً، وكانت له دكان في اللبادين لصناعة الطب، وكان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب يرى له ويحترمه، وله في صلاح الدين مدائح كثيرة، وصنف له كتباً وكان له منه الإحسان الكثير والإنعام الوافر، وكان حكيم الزمان عبد المنعم يعاني أيضاً صناعة الكيمياء، وتوفي بدمشق في ستمائة وخلف ولده عبد المؤمن بن عبد المنعم وكان كحالاً ويشعر أيضاً ويعمل مديحات، وخدم بصناعة الكحل الملك الأشرف أبا الفتح موسى بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب وتوفي بمدينة الرها في عشرين وستمائة.

ومن شعرحكيم الزمان عبد المنعم الجلياني مما نقلته من خطه، وهو أيضاً مما سمعته من أبي قال أنشدني الحكيم عبد المؤمن المذكور، فمن ذلك قال يمدح الملك الناصر صلاح الدين أبا المظفر يوسف بن أيوب ووجهها إليه من مدينة دمشق إلى مخيمه المنصور بظاهر عكا، وهو محاصر للفرنج المحاصرين لمدينة عكا، فعرضت عليه في شهر صفر سنة سبع وثمانين وخمسمائة، وهذه القصيدة تسمى التحفة الجوهرية،

رفاهية الشهـم اقـتـحـام الـعـظـائم

 

طلابـاً لـعـز أو غـلابـاً لـضــائم

فلم يحظ بالعـلـياء مـن هـاب صـدمة

 

فغض عنـانـاً دون قـرع الـصـوارم

فأي اتضاح كـان لا بـعـد مـشـكـل

 

وأي انـفـسـاح بـان لا عـن مـآزم

هي الهمة الـشـمـاء تـلـحـظ غـاية

 

فترمي إليهـا عـن قـسـي الـعـزائم

فما انساح سرب لم يصل سبـب الـعـلا

 

ولا ارتاح ندب لـم يصـل بـصـوارم

فليس بـحـي سـالـك فـي خـسـائس

 

وليس بمـيت هـالـك فـي مـكـارم

وما الـنـاس إلا راحـلـون وبـينـهـم

 

رجال ثوت آثـارهـم كـالـمـعـالـم

بعـزة بـأس، واطـلاع بـصـــيرة

 

وهـزة نـفـس واتـسـاع مـراحـم

حظوظ كمال أظهـرت مـن عـجـائب

 

بمرآة شخص ما اختفى في الـعـوالـم

وما يستطيع المرء يخـتـص نـفـسـه

 

ألا إنما التخـصـيص قـسـمة راحـم

وأعظم أهل الفضل من ساد بـالـقـوى

 

فقاد بسبق الطـبـع أقـوى الأعـاظـم

ترى ضمت الأفلاك ملـكـاً كـيوسـف

 

من الجبل اللاتي خـلـت فـي الأقـادم

فما مثل مـلـك سـاسـه فـي أحـادث

 

ولا مثل حرب هاجهـا فـي مـلاحـم

أباني دار العدل فـي مـارق الـوغـى

 

بمسـرب آن مـن دمـاء الـغـواشـم

فديتك مـن مـعـل لـدينـك مـبـتـن

 

وأفديك مـن مـبـل لـضـدك هـادم

فأنـت الـذي أيقـظـــت حـــزب

 

محمد جهاداً وهم في غفلة المـتـنـاوم

فحـاربـت لـلإيمـان لا لـضـغـائن

 

ورابطت للـرضـوان لا لـمـغـانـم

أجـدك لـن ينـفـك يضـرب هـكـذا

 

قبابك حيث اشـتـك سـدم الـلـهـاذم

وفـي حـجـرات الـنـقـع ســـيح

 

صوارخ كأمواج لج للهضاب مـلاطـم

ومـقـلـعة أمـراسـهـا وشـراعـه

 

عنـان وخـفـاق بـصـعـدة داهــم

فكـيف رسـت فـيهـا خـيامــك إذ

 

جرت سفين كماء في بحـار شـياظـم

فلـم يبـق إلا مـلـتـق بــأســـنة

 

ولا يلـق إلا مـتـق بـــحـــيازم

فلا طـنـب إلا تـوثـب مــقـــدم

 

ولا وتـد إلا تـجــلـــد عـــارم

فدارك والأبـــطـــال ثــــارث

 

حيالها مقر سرور فـي مـفـر مـآثـم

لأنـك فـيهـا إذ هـفـوا جـالـــس

 

على سرير ثبات مـطـمـئن الـقـوائم

وأنـك فـيهـم إذ سـطـوا خـالــس

 

طلي كبير نياب مرجحـن الـشـكـائم

فأنت الـمـلـيك الـنـاصـر الـحـق

 

ممعناً يرى دهم شوك الحرب مهد النواعم

أتـعـشـقـك الـهـيجـاء أم أنـــت

 

عاشق لها في وصال من حبـيبـين دائم

شتـاء وصـيفـاً لا نـــزال نـــرا

 

في مساء وصبـح كـالأذان الـمـلازم

فهجـرت حـتـى قـيل لـيس بـقـائل

 

وبـيت حـتـى قـيل لـيس بـنــائم

وأرجفت رومـاً إذ خـرقـت فـرنـجة

 

فكانوا غـثـاء فـي سـيول الـهـزائم

كددتهم أعلى التلال كـأنـهـم ضـبـاب

 

كدى فـزّت لأضـبـاب حــاطـــم

وفيت لهـم حـتـى أحـبـوك سـاطـيا

 

فهم وفاء العهـد قـيد الـمـخـاصـم

فخانوا فحابوا فـانـتـدوا فـتـلاومـوا

 

فقالوا خذلنـا بـارتـكـاب الـجـرائم

وخـص صـلاح الـدين بـالـنـصـر

 

إذ أتى بقلب سليم راحماً لـلـمـسـالـم

فحطوا بـأرجـاء الـهـياكـل صـورة

 

لك اعتقدوهـا كـاعـتـقـاد الأقـانـم

يدين لهـا قـس ويرقـى بـوصـفـهـا

 

ويكتبه يشـفـى بـه فـي الـتـمـائم

يعجل للـمـرء الـجـزاء بـفـعـلـه

 

فطـوبـى لـصـبـار وبـؤس لآثــم

وقد يفسد الـحـر الـكـريم جـلـيسـه

 

وتـضـعـف بـالإيهـام قـوة حـازم

إذا لـج لـوم مـن سـفـيه لـراشـد

 

توهـم رشـداً فـي سـفـــاهة لائم

عجـبـت مـن الإنـسـان يعـجــب

 

وهو في نقائص أحوال قسيم الـسـوائم

يرى جوهر النفس الطلـيق فـيزدهـي

 

ويذهل عن أعـراض جـسـم لـوازم

ديون اضـطـرار تـقـتـضـي كـل

 

ساعة فتنقرض الأعمار بين المـغـارم

وكل فـمـغـرور بـحـب حـياتـي

 

ويغريه بالأدنـى خـفـاء الـخـواتـم

وجمَّـاع مـال لا انـتـفـاع لـه بـه

 

كما مص مشروطاً زجاج المحـاجـم

يفيض وما أوعـاه يرعـاه مـهـدفـاً

 

لرشـفة صـاد أو لـرشـفة صــادم

ومن عـرف الـدنـيا تـيقـن أنـهـا

 

مطـية يقـظـان وطـيفة حـالــم

فللـه سـاع فـي مـنـاهـج طـاعة

 

لإيلاف عـدل أو لإتـلاف ظـالــم

أفاتح بيت القـدس سـيفـك مـفـتـح

 

لقفل الهدى مغـلاق بـاب الـمـآثـم

حكمت في الضدين غـير مـعـارض

 

فأحكمت في نفر الوغى المتـخـاصـم

فأطلقت تركاً فـي ظـهـور سـوابـح

 

وأغربت شركاً في بطون القـشـاعـم

غداة قَـدَحْـت الـبـيض فـــي آل

 

أصفر فلم يبق زند منهم في معـاصـم

وإذ درجـوا كـالـرمـل أعـجـــز

 

عدة إلى تل عكا كالدبى الـمـتـراكـم

وكـالـنـحـل مـلـتـفـاً كـوارثـه

 

هوى من التل تخشى منهم كالـمـرادم

كأن لهـم فـي تـل عـكـا مـصـادة

 

يحاش لـهـاأسـراب وحـش سـوائم

فسرب كسير مـوبـق فـي حـفـائ

 

وسرب حسير مرهق فـي مـقـاحـم

فكم ملك مـنـهـم أتـاهـا بـكـثـرة

 

فزادهـم نـقـصــاً زيادة عـــادم

يشقون مـن إسـبـان أثـبـاج زاخـر

 

ومن رومة الكبرى فجـاج مـخـارم

فهالـوا بـنـجـدَيْ جـاريات ووخـد

 

وذابوا بحديْ مـخـدم لـك هـاضـم

غلست الطـراز الأخـضـر الـرقـم

 

منهم بصوت نجيع أحمر القطر ساجـم

ولو أنبت المرج النـفـوس لأينـعـت

 

بما ساح فيه عن حـشـا وغـلاصـم

قليب كلى يسـقـى بـأشـطـان ذابـل

 

وعين طلى تجري بـمـيزاب صـارم

وأضلـع فـرسـان نـعـال سـوابـك

 

وأرؤس أعيان غـواشـي الـبـراجـم

كذا فـلـيرصـع جـوهـر الـقـول

 

متحف به لمليك مثل يوسـف عـالـم

فتى ذهنه يرمي بـشـهـب خـواطـر

 

تشق دجون المغمـضـات الـعـواتـم

يهاب رقيق الشـعـر رقة طـبـعـه

 

كما هاب منه اليأس غلب الضـراغـم

وينتحل الـوصـاف رونـق نـعـتـه

 

كما انتحلت جدواه وطـف الـغـمـائم

وما زلت أجلو مـن حـلاه عـرائسـاً

 

يظل بها أهـل الـنـهـى فـي ولائم

بمنتظم التـفـضـيل طـلـق كـأنـه

 

مفلج ثغر مسـتـنـير الـمـبـاسـم

معان كبهر السحر في عـقـد نـاظـر

 

ولفظ كشذرالتبر فـي عـقـد نـاظـم

سما عن حضيض الشـعـر فـي أوج

 

حكمة وجل بصاحي الفكر عن نهج هائم

ستنسى بذكراه أقـاويل مـن مـضـى

 

وينبت نـوراً شـائعـاً فـي الأقـالـم

كما شاع هذا الأمـر فـي الـخـلـق

 

مزرياً بتبع أعراب وكسـرى أعـاجـم

ففرضاً أرى مدحي لـه مـتـجـنـبـاً

 

مديح سواه كاجـتـنـاب الـمـحـارم

وليس اجـتـداء بـل تـحـية شـاكـر

 

وتـأييد آثــار وتـــأييد عـــازم

فيا خـير قـوام عـلـى خـير مــلة

 

يكافح عـنـهـا كـل ألـب مـقـاوم

تمسك بحبل اللّه مـعـتـصـمـاً بـه

 

فليس سواه ناصـر نـصـر عـاصـم

تمسك بمن أعطاك مـا قـد رجـوتـه

 

ويعطيك ما ترجو لحسنى الـخـواتـم

بعثت بها والشوق يقدم ركـبـهـا

 

إلى مجلس فيه منى كـل قـادم

 

بعيد المدى، عدن الجدا نار من عدا

 

مفيد الهدى مروي صدى كل حائم

 

سلام على ذاك المقام الـذي بـه

 

أقيم عمود المكرمات العـظـائم

 

           

وقال أيضاً

أقبل ذو دولة فقـالـوا

 

لمثل ذا فاتخذ مـلاذا

فقلت للحاضرين حولي

 

أجائز أن يموت هـذا

قالوا نعم، قلت فهو طل

 

يعطش من ظنه رذاذا

قد ذل من لاذ بالفواني

 

وعز من بالقـديم لاذا

وقال أيضاً

من لم يسل عنك فلا تسألن

 

عنه ولو كان عزيز النفر

وكن فتى لم تدعه حـاجة

 

إلى امتهان النفس إلا نفر

وقال أيضاً

لا تصدّق عليك عقد صـداق

 

واغن بالمطل فيه عن ترويج

ومتى ما ذكرت يوم الخطب

 

فلتكن خطـبة بـلا تـزويج

وقال أيضاً

قالوا نرى نفراً عند الملـوك سـمـوا

 

وما لهم هـمة تـسـمـو ولا ورع

وأنت ذو همة في الفضـل عـالـية

 

فلم ظمئت وهم في الجاه قد كرعـوا

فقلت باعوا نفوساً واشتـروا ثـمـنـاً

 

وصنت نفسي فلم أخضع كما خضعوا

قد يكرم القرد إعجابـاً بـخـسـتـه

 

وقد يهان لفرط النخـوة الـسـبـع

ولحكيم الزمان عبد المنعم الجلياني عدة من الكتب، فما قاله من منظوم الكلام ومطلقه عشرة دواوين الأول ديوان الحكم وميدان الكلم يشتمل على الإشارة إلى كل غامض المدرك من العلم، وإلى كل صادق المنسك من العمل، وإلى كل واضح المسلك من الفضيلة وهو نظم والثاني ديوان المشوقات إلى الملأ الأعلى وهو نظم، والثالث ديوان أدب السلوك، وهو كلام مطلق يشتمل على مشارع كلمات الحكمة المبصرات، والرابع كتاب نوادر الوحي، وهو يشتمل على كلام حكمة مطلق في غريب معان من القرآن العظيم، ومن حديث الرسول عليه أفضل الصلاة والتسليم والخامس كتاب تحرير النظر، وهو يشتمل على كلمات حكمة مفردات في البسائط والمركبات والقوى والحركات، والسادس كتاب سر البلاغة وصنائع البديع في فصل الخطاب، والسابع ديوان المبشرات القدسيات وهو نظم وتدبيج وكلام مطلق، يشتمل على وصف الحروب والفتوح الجارية على يد صلاح الدين أبي المظفر يوسف بن أيوب فاتح مدينة البيت المقدس في سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، والثامن ديوان الغزل والتشبيب والموشحات والدوبيتي، وما يتصل به منظوماً، والتاسع ديوان تشبيهات وألغاز ورموز وأحاجي وأوصاف وزجريات وأغراض شتى منظوماً، والعاشر ديوان ترسل ومخاطبات في معان كثيرة وأصناف من الخطب والصدور والأدعية، وله أيضاً من الكتب كتاب منادح الممادح وروضة المآثر والمفاخر، من خصائص الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب ألفه في سنة تسع وستين وخمسمائة، تعاليق في وصفات أدوية مركبة.

أبو الفضل بن أبي الوقار

هو الشيخ الأجل العالم أبو الفضل إسماعيل بن أبي الوقار، أصله من المعرة، وأقام بدمشق، وسافر إلى بغداد، وقرأ على أفاضل الأطباء من أهلها، واجتمع بجماعة من العلماء بها، وأخذ عنهم، ثم عاد إلى دمشق وكان متميزاً في صناعة الطب علمها وعملها، كثير الخير، محمود الطريقة، حسن السيرة وافر الذكاء، وكان في خدمة السلطان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي،ويعتمد عليه في صناعة الطب، وكان لايفارقه في السفر والحضر، وله الحظ الوافر والإنعام الكثيرة، وتوفي الملك العادل نور الدين، وهو في حلب، في العشر الأول من شهر ربيع الأول سنة أربع وخمسين وخمسمائة.

مهذب الدين بن النقاش

هو الشيخ الإمام العالم أبو الحسن علي بن أبي عبد اللَّه عيسى بن هبة اللَّه النقاش، مولده ومنشؤه ببغداد، عالم بعلم العربية والأدب، وكان يتكلم الفارسي، واشتغل بصناعة الطب على الأجل أمين الدولة هبة اللَّه بن صاعد بن التلميذ، ولازمه مدة واشتغل بعلم الحديث، سمع ببغداد من أبي القاسم عمر بن الحصين، وحدث عنه، سمع منه القاضي عمر بن القرشي وروى عنه حديثاً في معجمه، وكان أبو عبد اللَّه عيسى بن هبة اللَّه بن النقاش بزازاً أديباً، قال عماد الدين أبو عبد اللَّه محمد بن حامد الأصبهاني الكاتب في كتاب الخريدة أنشدني مهذب الدين أبو الحسن علي بن النقاش لوالده

إذا وجد الشيخ في نفـسـه

 

نشاطاً فذلك موت خـفـي

ألست ترى أن ضوء السراج

 

له لهب قبل أن ينطـفـي

قال وأنا لقيت أبا عبد اللَّه بن النقاش ببغداد، وتوفي رحمه اللَّه في العشرين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة بها بعد مسيري إلى أصبهان قال وقرأت بخط السمعاني أنشدني أبو عبد اللّه النقاش لنفسه

رزقت يساراً فوافيت من

 

قدرت به حين لم يرزق

وأملقت من بعده فاعتذرت

 

إليه اعتذار أخ ممـلـق

وإن كان يشكر فيما مضى

 

بذا فسيعذر فيما بـقـي

قال، قال، وأنشدني لنفسه أيضاً من قطعة

وكـذا الـرئيس فـإنـــه

 

عندي كمجرى الروح يجري

أنـكـرت فـي دلـــف

 

عليه تهتكا من بعد سـتـر

كيف السلو وقـد تـمـلـك

 

مهجتي مـن غـير أمـري

قمـر تـراه إذا اسـتـمـر

 

كمثـل أربـعة وعـشـر

يرفو بـنـجـلاوين يسـقـم

 

من سقامـهـمـا ويبـري

وإذا تـبـسـم فـي دجــا

 

ليل شهدت لـه بـفـجـر

وبورد وجنـتـه وحـسـن

 

عذاره قـد قـام عــذري

أقول ولما وصل مهذب الدين بن النقاش إلى دمشق بقي بها يطلب، وكان أوحد زمانه في صناعة الطب، وله مجلس عام للمشتغلين عليه، ثم توجه إلى الديار المصرية، وأقام بالقاهرة مدة، ثم رجع إلى دمشق، ولم يزل مقيماً إلى حين وفاته، وخدم بصناعة الطب الملك العادل نور الدين بن محمود بن زنكي، وكان يعاني أيضاً كتابة الإنشاء وكتب كثيراً لنور الدين المراسلات والكتب إلى سائر النواحي، وكان مكيناً عنده، وخدم أيضاً في البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين بدمشق، وبقي به سنين، وكتب الأمير مؤيد الدولة أبو المظفر أسامة بن منقذ إلى مهذب الدين بن النقاش يستهدي دهن بلسان

ركبتي تخدم الـمـهـذب فـي

 

العلم وفي كل حـكـمة وبـيان

وهي تشكو إليه تـأثـير طـول

 

العمر في ضعفها وطول الزمان

فلـهـا فـاقة إلــى مـــا

 

يقويها على مشيها من البلسـان

كل هذا علالة من لـمـن جـا

 

ز الثمانين بـالـنـهـوض يدان

رغبة في الحياة من بعـد طـول

 

العمر والموت غاية الإنـسـان

 

 

 

فبعث إليه ما أراد من ذلك، ولم يزل في خدمة نور الدين إلى أن توفي رحمه اللَّه، وكانت وفاة نور الدين في شوال سنة تسع وستين وخمسمائة بدمشق، وخدم مهذب الدين ابن النقاش أيضاً بصناعة الطب بعد ذلك للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، لما ملك دمشق، وحظي عنده، وكان مهذب الدين بن النقاش كثير الإحسان محباً للجميل يؤثر التخصص، ولم يتخذ امرأة ولا خلف ولداًًً، وكانت وفاته رحمه اللَّه بدمشق في يوم السبت ثاني عشر محرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة ودفن بها في جبل قاسيون.

أبو زكريا يحيى البياسي

هو أمين الدين أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الأندلسي البياسي من الفضلاء المشهورين والعلماء المذكورين، قد أتقن الصناعة الطبية، وتميز في العلوم الرياضية، وصل من المغرب إلى ديار مصر، وأقام بالقاهرة مدة، ثم توجه إلى دمشق وقطن بها، وقرأ على مهذب الدين أبي الحسن علي بن علي بن هبة اللَّه المعروف بابن النقاش البغدادي، ولازمه وكتب الستة عشر لجالينوس وقرأها عليه، وكتب بخطه كتباً كثيرة جداً في الطب وغيره، وكان يعرف النجارة، وعمل لابن النقاش آلات كثيرة تتعلق بالهندسة، وكان أبو زكريا يحيى البياسي جيد اللعب بالعود، وعمل الأرغن أيضاً، وحاول اللعب به، وكان يقرأ عليه علم الموسيقا، وخدم الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بصناعة الطب، وبقي معه مدة في البيكار ثم استعفى من ذلك، وطلب المقام بدمشق فأطلق له الملك الناصر جامكية وبقي مقيماً في دمشق وهو يتناولها إلى أن توفي رحمه اللّه.

سكرة الحلبي

كان شيخاً قصيراً من يهود مدينة حلب، وكانت له دربة بالعلاج، وتصرف في المداواة، حدثني الشيخ صفي الدين خليل بن أبي الفضل بن منصور التنوخي الكاتب اللاذقي قال كان الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بحلب، وكانت له في القلعة بها حظية يميل إليها كثيراً، ومرضت مرضاً صعباً، وتوجه الملك العادل إلى دمشق وبقي قلبه عندها، وكل وقت يسأل عنها فتطاول مرضها، وكان يعالجها جماعة من أفاضل الأطباء، وأحضر إليها الحكيم سكرة فوجدها قليلة الأكل متغيرة المزاج، لم تزل جنبها إلى الأرض، فتردد إليها مع الجماعة، ثم استأذن الخادم في الحضور إليها وحده فأذنت له، فقال لها يا ستي أنا أعالجك بعلاج تبرئي به في أسرع وقت إن شاء اللّه تعالى، وما تحتاجي معه إلى شيء آخر، فقالت افعل، فقال أشتهي إن مهما أسألك عنه تخبريني به ولا تخفيني، فقالت نعم، وأخذ منها أماناً فقال تعرفيني ما جنسك؟ فقالت علانية، فقال العلان في بلادهم نصارى، فعرفيني أيش كان أكثر أكلك في بلدك؟ فقالت لحم البقر، فقال يا ستي، وما كنت تشربين من النبيذ الذي عندهم فقالت كذا كان، فقال أبشري بالعافية، وراح إلى بيته واشترى عجلاً وذبحه وطبخ منه، وجاب معه في زبدية منه قطع لحم مسلوق، وقد جعلها في لبن وثوم، وفوقها رغيف خبز فأحضره بين يديها وقال كلي، فمالت نفسها إليه، وصارت تجعل اللحم في اللبن والتوم وتأكل حتى شبعت، ثم بعد ذلك أخرج من كمه برنية صغيرة، وقال ياستي هذا شراب ينفعك فتناوليه فشربته، وطلبت النوم، وغطيت بقرجة فرو سنجاب، فعرقت عرقاً كثيراً وأصبحت في عافية، وصار يجيب لها من ذلك الغذاء والشراب يومين آخرين، فتكاملت عافيتها فأنعمت عليه، وأعطته صينية مملوءة حلياً، فقال أريد مع هذا أن تكتبي لي كتاباً إلى السلطان وتعرفيه ما كنت فيه من المرض وأنك تعافيت على يدي، فوعدته بذلك وكتبت إلى السلطان تشكر منه، وتقول له فيها أنها كانت قد أشرفت على الموت وأن فلاناً عالجني وما وجدت العافية إلا على يديه، وجميع الأطباء الذين كانوا عندي ما عرفوا مرضي، وطلبت منه أن يحسن إليه، فلما قرأ الكتاب استدعاه واحترمه، وقال له هم شاكرون من مداواتك، فقال يا مولانا كانت من الهالكين، وإنما اللَّه، عز وجل، جعل عافيتها على يدي لبقية أجل كان لها، فاستحسن قوله، وقال أيش تريد أعطيك، فقال يا مولانا تطلق لي عشر فدادين خمسة في قرية صمع وخمسة في قرية عندان، فقال نطلقها لك بيعاَ وشراء حتى تبقى مؤبدة لك، وكتب له بذلك وخلع عليه، وعاد إلى حلب وكثرت أمواله بها، ولم يزل في نعمة طائلة بها وأولاده بعده.

عفيف بن سكرة

هو عفيف بن عبد القاهر سكرة يهودي من أهل حلب، عارف بصناعة الطب، مشهور بأعمالها وجودة النظر فيها، له أولاد وأهل أكثرهم مشتغلون بصناعة الطب،ومقامهم بمدينة حلب ولعفيف بن سكرة من الكتب مقالة في القولنج ألفها للملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وذلك في سنة أربع وثمانين وخمسمائة.