الباب الخامس عشر: طبقات الأطباء المشهورين من أطباء الشام: أبو الحجاج يوسف الإسرائيلي، عمران الإسرائيلي، موفق الدين يعقوب بن سقلاب، سديد الدين أبو منصور، رشيد الدين ابن الصوري، سديد الدين بن رقيقة

أبو الحجاج يوسف الإسرائيلي

مغربي الأصل من مدينة فاس، وأتى إلى الديار المصرية، وكان فاضلاً في صناعة الطب والهندسة وعلم النجوم، واشتغل في مصر بالطب على الرئيس موسى بن ميمون القرطبي، وسافر يوسف بعد ذلك إلى الشام، وأقام بمدينة حلب وخدم الملك الظاهر غازي ابن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان يعتمد عليه في الطب، وخدم أيضاً الأمير فارس الدين ميمون القصري، ولم يزل أبو الحجاج يوسف مقيماً في حلب، ويدرس صناعة الطب إلى أن توفي بها، ولأبي الحجاج يوسف الإسرائيلي من الكتب رسالة في ترتيب الأغذية اللطيفة والكثيفة في تناولها، شرح الفصول لأبقراط،

عمران الإسرائيلي

هو الحكيم أوحد الدين عمران بن صدقة، مولده بدمشق في سنة إحدى وستين وخمسمائة، وكان أبوه أيضاً طبيباً مشهوراً واشتغل عمران على الشيخ رضي الدين الرحبي بصناعة الطب، وتميز في علمها، وصار من أكابر المتعينين من أهلها ، وحظي عند الملوك، واعتمدوا عليه في المداواة والمعالجة، ونال من جهتهم من الأموال الجسيمة والنعم ما يفوق الوصف، وحصل من الكتب الطبية وغيرها ما لا يكاد يوجد عند غيره، ولم يخدم أحداً من الملوك في الصحبة، ولا تقيد معهم في سفر، وإنما كل منهم إذا عرض له مرض أو لمن يعز عليه طلبه، ولم يزل يعالجه ويطببه بألطف علاج وأحسن تدبير، إلى أن يفرغ من مداواته، ولقد حرص به الملك العادل أبو بكر بن أيوب بأن يستخدمه في الصحبة فما فعل، وكذلك غيره من الملوك، وحدثني الأمير صارم الدين التبنيني رحمه اللّه إنه لما كان بالكرك، وبه صاحب الكرك يومئذ الملك الناصر داود بن الملك المعظم، وكان الملك الناصر قد توعك مزاجه، واستدعى الحكيم عمران إليه من دمشق فأقام عنده مديدة وعالجه حتى صلح فخلع عليه، ووهب له مالاً كثيراً، وقرر له جامكية في كل شهر ألفا وخمسمائة درهم ناصرية ويكون في خدمته، وأن يسلف منها عن سنة ونصف سبعة وعشرين ألف درهم فما فعل. أقول وكان السلطان الملك العادل لم يزل يصله بالإنعام الكثير، وله منه الجامكية الوافرة والجراية، وهو مقيم بدمشق، ويتردد إلى خدمة الدور السلطانية بالقلعة، وكذلك في أيام الملك المعظم، وكان قد أطلق له أيضاً جامكية وجراية تصل إليه، ويتردد إلى البيمارستان الكبير، ويعالج المرضى، وكان به أيضاً في ذلك الوقت شيخنا مهذب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه اللّه، وكان يظهر من اجتماعهما كل فضيلة، ويتهيأ للمرضى من المداواة كل خير، وكنت في ذلك الوقت أتدرب معهما في أعمال الطب، ولقد رأيت من حسن تأتي الحكيم عمران في المعالجة وتحققه للأمراض ما يتعجب منه، ومن ذلك أنه كان يوماً قد أتى البيمارستان مفلوج والأطباء قد ألحوا عليه باستعمال المغالي وغيرها من صفاتهم، فلما رآه وصف له في ذلك اليوم تدبيراً يستعمله، ثم بعد ذلك أمر بفصده، ولما فصد وعالجه صلح وبرأ برأ تاماً كذلك أيضاً رأيت له أشياء كثيرة من صفات مزاوير وألوان كان يصفها للمرضى على حسب ميل شهواتهم، ولا يخرج عن مقتضى المداواة فينتفعون بها، وهذا باب عظيم في العلاج، ورأيته أيضاً وقد عالج أمراضاً كثيرة مزمنة كان أصحابها قد سئموا الحياة، ويئس الأطباء من برئهم، فبروا على يديه بأدوية غريبة يصفها، ومعالجات بديعة عرفها، وقد ذكرت من ذلك جملاً في كتاب التجارب والفوائد وتوفي الحكيم عمران في مدينة حمص في شهر جمادى الأولي سنة سبع وثلاثين وستمائة، وقد استدعاه صاحبها لمداواته.

موفق الدين يعقوب بن سقلاب

نصراني، كان أعلم أهل زمانه بكتب جالينوس ومعرفتها والتحقيق لمعانيها، والدراية لها، وكان من كثرة اجتهاده في صناعة الطب وشدة حرصه ومواظبته على القراءة والمطالعة لكتب جالينوس، وجودة فطرته وقوة ذكائه، أن جمهور كتب جالينوس وأقواله فيها كانت مستحضرة له في خاطره، فكان مهما تكلم به في صناعة الطب على تفاريق أقسامها، وتفنن مباحثها، وكثرة جزئياتها، إنما ينقل ذلك عن جالينوس، ومهما سئل عنه في صناعة الطب من المسائل والمواضيع المستعصية وغيرها لا يجيب بشيء من ذلك إلا أن يقول قال جالينوس، ويورد فيه أشياء من كلام جالينوس، حتى كان يتعجب منه في ذلك، وربما أنه في بعض الأوقات كان يذكر شيئاً من كلام جالينوس، ويقول هذا ما ذكره جالينوس في كذا وكذا ورقة من المقالة الفلانية من كتاب جالينوس، ويسميه ويعني به النسخة التي عنده، وذلك لكثرة مطالعته إياها وأنسه بها، ومما شاهدته في ذلك من أمره أنني كنت أقرأ عليه في أوائل اشتغالي بصناعة الطب ونحن في المعسكر المعظمي - وكان أبي أيضاً في ذلك الوقت في خدمة الملك المعظم رحمه اللّه - شيئاً من كلام أبقراط حفظاً واستشراحاً، فكنت أرى من حسن تأتيه في الشرح، وشدة استقصائه للمعاني - بأحسن عبارة وأوجزها وأتمها معنى - ما لا يجسر أحد على مثل ذلك ولا يقدر عليه ثم يذكر خلاصة ما ذكره وحاصل ما قاله حتى لا يبقى في كلام بقراط موضع إلا وقد شرحه شرحاًَ لا مزيد عليه في الجودة، ثم إنه يورد نص ما قاله جالينوس في شرحه لذلك الفصل على التوالي إلى آخر قوله، ولقد كنت أراجع شرح جالينوس في ذلك فأجده قد حكى جملة ما قاله جالينوس بأسره في ذلك المعنى، وربما ألفاظ كثيرة من ألفاظ جالينوس يوردها بأعيانها من غير أن يزيد فيها ولا ينقص، وهذا شيء تفرد به في زمانه، وكان في أوقات كثيرة لما أقام بدمشق يجتمع هو والشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي في الموضع الذي يجلس فيه الأطباء عند دار السلطان ويتباحثان في أشياء من الطب، فكان الشيخ مهذب الدين أفصح عبارة، وأقوى براعة، وأحسن بحثاً، وكان الحكيم يعقوب أكثر سكينة، وأبين قولاً، وأوسع نقلاً، لأنه كان بمنزلة الترجمان المستحضر لما ذكره جالينوس في سائر كتبه من صناعة الطب، فأما معالجات الحكيم يعقوب فإنها كانت في الغاية من الجودة والنجح، وذلك أنه كان يتحقق معرفة المرض أولاً تحقيقاً لا مزيد عليه، ثم يشرع في مداواته بالقوانين التي ذكرها جالينوس مع تصرفه هو فيما يستعمله في الوقت الحاضر. وكان شديد البحث واستقراء الأعراض بحيث أنه كان إذا افتقد مريضاً لا يزال يستقصي منه عرضاً عرضاً، وما يشكوه مما يجده، من مرضه حالاً حالاً إلى أن لا يترك عرضا يستدل به على تحقيق المرض إلا ويعتبره، فكانت أبداً معالجاته لا مزيد عليها في الجودة، وكان الملك المعظم يشكر منه هذه الحالة ويصفه ويقول لو لم يكن في الحكيم يعقوب إلا شدة استقصائه في تحقيق الأمراض حتى يعالجها على الصواب، ولا يشتبه عليه شيء من أمرها، وكان الحكيم يعقوب أيضاً متقناً للسان الرومي خبيراً بلغته ونقل معناه إلى العربي، وكان عنده بعض كتب جالينوس مكتوبة بالرومي مثل حيلة البرء والعلل والأعراض وغير ذلك، وكان أيضاً ملازماً لقراءتها والاشتغال بها، وكان مولده بالقدس وأقام بها سنين كثيرة، ولازم بها رجلاً فاضلاً فيلسوفاً راهباً في دير السبق كان خبيراً بالعلم الطبيعي، متقناً للهندسة وعلم الحساب، قوياً في علم أحكام النجوم والاطلاع عليها، وكانت له أحكام صحيحة، وإنذارات عجيبة، وأخبرني الحكيم يعقوب عنه معرفته للحكمة وحسن فطرته وفطنته شيئاً كثيراً، واجتمع أيضاً الحكيم يعقوب في القدس بالشيخ أبي منصور النصراني الطبيب، واشتغل عليه، وباشر معه أعمال صناعة الطب وانتفع به.

وكان الحكيم يعقوب من أتم الناس عقلاً، وأسدهم رأياً، وأكثرهم سكينة، ولما خدم الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب، وصار معه في الصحبة كان حسن الاعتقاد فيه، حتى أنه كان يعتمد عليه في كثير من الآراء الطبية وغيرها فينتفع بها ويحمد عواقبها، وقصد الملك المعظم أن يوليه بعض تدبير دولته والنظر في ذلك، فما فعل، واقتصر على مداومة صناعة الطب فقط، وكان قد عرض للحكيم يعقوب في رجليه نقرس، وكان يثور به في أوقات، ويألم بسببه، وتعسر عليه الحركة، فكان الملك المعظم يستصحبه في أسفاره معه في محفة ويفتقده، ويكرمه غاية الإكرام، وله منه الجامكية السنية والإحسان الوافر، وقال له يوماً يا حكيم لم لا تداوي هذا المرض الذي في رجليك؟ فقال يا مولانا الخشب إذا سوس ما يبقى في إصلاحه حيلة، ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك المعظم، وكانت وفاته رحمه اللّه في الساعة الثالثة من نهاريوم الجمعة سلخ ذي القعدة سنة أربع وعشرين وستمائة بدمشق، وملك بعده وله الملك الناصر داود فدخل إليه الحكيم يعقوب، ودعا له وذكره بقديم صحبته، وسالف خدمته، وأنه قد وصل إلى سن الشيخوخة والهرم والضعف وأنشده

أتيتكم وجلابيب الـصـبـا قـشـب

 

فكيف أرحل عنكم وهي أسـمـال

لي حرمة الضيف والجار القديم ومن

 

أتاكم وكهـول الـحـي أطـفـال

وهذا الشعر لابن منقذ رحمه اللّه، فأحسن إليه الملك الناصر إحساناً كثيراً، وأطلق له مالاً وكسوة وأمر بأن جميع ما قد كان له مقرراً من الملك المعظم يستمر، وأن لا يكلف لخدمة، فبقي كذلك مديدة، ثم توفي بدمشق في عيد الفصح للنصارى، وذلك في شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وستمائة.

سديد الدين أبو منصور

هو الحكيم الأجل العالم أبو منصور بن الحكيم موفق الدين يعقوب بن سقلاب، من أفاضل الأطباء وأعيان العلماء، متميز في علم صناعة الطب وعملها متقن لفصولها وجملها اشتغل على والده وعلى غيره بصناعة الطب، وقرأ أيضاً بالكرك على الإمام شمس الدين الخسروشاهي كثيراً من العلوم الحكمية، وخدم الحكيم سديد الدين أبو منصور الملك الناصر صلاح الدين داود ابن الملك المعظم عيسى بن أبي بكر بن أيوب، وأقام في صحبته بالكرك، وكان مكيناً عنده معتمداً عليه في صناعة الطب، ثم أتى أبو منصور إلى دمشق وتوفي بها.

رشيد الدين ابن الصوري

هو أبو المنصور بن أبي الفضل بن علي الصوري،قد اشتمل على جمل الصناعة الطبية، واطلع على محاسنها الجلية والخفية، وكان أوحداًَ في معرفة الأدوية المفردة وماهياتها واختلاف أسمائها وصفاتها، وتحقيق خواصها وتأثيراتها، ومولده في سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة بمدينة صور ونشأ بها، ثم انتقل عنها واشتغل بصناعة الطب على الشيخ موفق الدين عبد العزبز، وقرأ أيضاً على الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، وتميز في صناعة الطب، وأقام بالقدس سنتين،وكان يطب في البيمارستان الذي كان فيه، وصحب الشيخ أبا العباس الجياني، وكان شيخاً فاضلاً في الأدوية المفردة متفنناً في علوم أخر، كثير الدين، محباً للخير، فانتفع بصحبته له، وتعلم منه أكثر ما يفهمه، واطلع رشيد الدين بن الصوري أيضاً على كثير من خواص الأدوية المفردة حتى تميز على كثير من أربابها، وأربى على سائر من حاولها واشتغل بها هذا مع ما هو عليه من المروءة التي لا مزيد عليها، والعصبية التي لم يسبق إليها، والمعارف المذكورة، والشجاعة المشهورة، وكان قد خدم بصناعة الطب الملك العادل أبا بكر بن أيوب في سنة اثنتي عشرة وستمائة لما كان الملك العادل متوجهاً إلى الديار المصرية واستصحبه معه من القدس، وبقي في خدمته إلى أن توفي الملك العادل رحمه اللّه، ثم خدم بعده لولده الملك المعظم عيسى بن أبي بكر، وكان مكيناً عنده وجيهاً في أيامه، وشهد معه مصافات عدة مع الفرنج لما كانوا نازلوا ثغر دمياط، ولم يزل في خدمته إلى أن توفي المعظم رحمه اللّه؛ وملك بعده ولده الملك الناصر داود بن الملك المعظم فأجراه على جامكيته، ورأى له سابق خدمته، وفوض إليه رياسة الطب، و بقي معه في الخدمة إلى أن توجه الملك الناصر إلى الكرك، فأقام هو بدمشق، وكان له مجلس للطب والجماعة يترددون إليه، ويشتغلون بالصناعة الطبية، وحرر كثيراً في أيام الملك المعظم، وتوفي رشيد الدين بن الصوري رحمه اللّه يوم الأحد أول شهر رجب سنة تسع وثلاثين وستمائة بدمشق، وكان رشيد الدين بن الصوري قد أهدى إلي تأليفاً له يحتوي على فوائد ووصايا طبية فقلت وكتبت بها إليه في رسالة

لعلم رشيد الدين في كل مشـهـد

 

منار علا يأتمه كل مـهـتـدي

حكيم لديه المكرمات بـأسـرهـا

 

توارثها عن سـيد بـعـد سـيد

حوى الفضل عن آبـائه وجـدوده

 

فذاك قديم فـيه غـير مـجـدد

تفرد في ذا العصر عن كل مشبه

 

بخير صفات حصرها لم يجـدد

أتتني وصاياه الحسان التي حـوت

 

بنثر كلام كل فصل مـنـضـد

وأهدى إلى قلبي السرور ولم يزل

 

بإحسانه يسدي لمثـلـي مـن يد

وجدت بها ما أرتجـيه وإنـنـي

 

بها أبداً فيما أحـاول مـقـتـدي

ولا غرومن علم الرشيد وفضلـه

 

إذا كان بعد اللّه في العلم مرشدي

أدام اللّه أيام الحكيم الأوحد الأمجد، العامل، الفاضل الكامل، الرئيس رشيد الدنيا والدين، معتمد الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، بلغه في الدارين نهاية سؤله وأمانيه، وكبت حسدته وأعاديه، ولا زالت الفضائل مخيمة بفنائه، والفواضل صادرة منه إلى أوليائه، والألسن مجتمعة على شكره وثنائه، والصحة محفوظة بحسن مراعاته، والأمراض زائلة بتدبيره ومعالجته، المملوك ينهي مايجده من الأشواق إلى خدمته، والتأسف على الفائت من مشاهدته، ووصلت المشرفة الكريمة التي وجد بها نهاية الأمل، والإرشاد إلى المطالب الطبية الجامعة للعلم والعمل، وقد جعلها المملوك أصلاً يعتمد عليه، ودستوراً يرجع إليه، لا يخليها من فكره، ولا يخل بما تتضمنه في سائر عمره، وليس للمملوك ما يقابل به إحسان مولانا إلا الدعاء الصالح، والثناء الذي يكتسب من محاسنه النشر العطر الفائح، من المملوك صالح أدعيته، ويجزي مولانا كل خير على كمال مروءته، إن شاء.

وأنشدني مهذب الدين أبو نصر محمد بن محمد بن إبراهيم بن الخضر الحلبي يمدح الحكيم رشيد الدين بن الصوري ويشكره على إحسان أسداه إليه،

سرى طيفها والكـاشـحـون

 

هجود فبات قريباً والمزار بعيد

 

 

فيا عجباً من طيفها كـيف زارنـي

 

ومـن دونـه بـيد تـهـول وبـيد

 

وكيف يزور الطيف طرف مسهـدٍ

 

لطيب الكرى عن ناظريه صـدود

 

وفي قلبه نار من الوجـد والأسـى

 

لها بين أحناء الـضـلـوع وقـود

 

وقد أخلق السقم المبرح والـضـنـا

 

لباس اصطباري والـغـرام جـديد

 

وتاللّـه لا عـاد الـخـيال وإنـمـا

 

تخيلـه الأفـكـار لـي فـيعـود

 

فيا لائمي كف الملام ولا تزد فـمـا

 

فوق وجـدي والـغـرام مــزيد

 

ولي كبد حرى وطرف مـسـهـد

 

وقلب يحب الـغـانـيات عـمـيد

 

ألا في سبيل الـحـب مـن مـات

 

صبوة ومن قتلته الغيد فهو شـهـيد

 

ولم تر عيني مثـل أسـمـاء خـلة

 

تضن بوصلـي والـخـيال يجـود

 

تجدد أشجاني بهـا وصـبـابـتـي

 

معاهد أقوت بالـلـوى وعـهـود

 

رعى اللّه بيضاً من ليال وصلتـهـا

 

ببيض حسان والـمـفـارق سـود

 

وبت وجنح اللـيل مـرخ سـدولـه

 

أضم غصون البـان وهـي قـدود

 

وأرشف راحاً روقتهـا مـبـاسـم

 

وأقطف ورداً أنـبـتـتـه خـدود

 

إلى أن تبدى الصبح غـير مـذمـم

 

وزال ظلام اللـيل وهـو حـمـيد

 

وكـيف أذم الـصـبـح أو لا أوده

 

وإن ريع مــودود بـــه وودود

 

وكل صباح فيه للـعـين حـظـوة

 

بوجه رشيد الـدين وهـو سـعـيد

 

هو العالم الصدر الحكيم ومـن لـه

 

كلام يضاهي الدر وهـو نـضـيد

 

رئيس الأطباء ابن سينـا وقـبـلـه

 

حنـين تـلامـيذ لـه وعـبــيد

 

ولو أن جالينوس حـياً بـعـصـره

 

لكـان عـلـيه يبـتـدي ويعــيد

 

فقل لبني الصوري قد سدتم الـورى

 

وما الـنـاس إلا سـيد ومـسـود

 

ومـا حـزتـم إرث الـعـلا عـن

 

كلالة كذلك آبـاء لـكـم وجـدود

 

فيا عالم الدنيا ويا عـلـم الـهـدى

 

ويا من به للمـكـرمـات وجـود

 

ويا من له ربع من الفضـل آهـل

 

وقصر معال بالـثـنـاء مـشـيد

 

ودوح من الإحسان أثمر بالـمـنـى

 

وظل على الـلاجـي إلـيه مـديد

 

ويا من به العاصي الجموح أطاعني

 

وذل لي الجـبـار وهـو عـنـيد

 

فمعقل عزي في حمـاه مـمـنـع

 

حصين وعيشي فـي ذراه رغـيد

 

ومن راشني معروفه واصطنـاعـه

 

وقـام بـأمـري والأنـام قـعـود

 

وأحسن بي فعلاً فأحسـنـت قـائلاً

 

وجاد ففي مـدحـي عـلاه أجـيد

 

فعند نداه حاتـم الـجـود بـاخـل

 

وعندي لبيد فـي الـمـديح بـلـيد

 

تصدى لكسب الحـمـد مـن كـل

 

وجهة وللقوم عن كسب الثناء صدود

 

له ظل ذي فـضـل عـلـى كـل

 

لاجىء مفيء وعلم بالأمور مفـيد

             

ولرشيد الدين الصوري من الكتب كتاب الأدوية المفردة، وهذا الكتاب بدأ بعمله في أيام الملك المعظم، وجعله باسمه واستقصى فيه ذكر الأدوية المفردة، وذكر أيضاً أدوية اطلع على معرفتها ومنافعها لم يذكرها المتقدمون، وكان يستصحب مصوراً، ومعه الأصباغ والليق على إتلافها وتنوعها فكان يتوجه رشيد الدين بن الصوري إلى المواضع التي بها النبات، مثل جبل لبنان وغيره من المواضع التي قد اختص كل منها بشيء من النبات فيشاهد النبات ويحققه، ويريه للمصور فيعتبر لونه ومقدار ورقه وأغصانه وأصوله، ويصور بحسبها ويجتهد في محاكاتها، ثم إنه سلك أيضاً في تصوير النبات مسلكاً مفيداً، وذلك أنه كان يري النبات للمصور في إبان نباته وطراوته فيصوره، ثم يريه إياه أيضاً وقت كماله وظهور بزره فيصوره تلو ذلك، ثم يريه إياه أيضاًََ في وقت ذواه ويبسه، فيصوره، فيكون الدواء الواحد يشاهده الناظر إليه في الكتاب، وهو على أنحاء ما يمكن أن يراه في الأرض فيكون تحقيقه له أتم، ومعرفته له أبين، الرد على كتاب التاج للغاوي في الأدوية المفردة،تعاليق له وفرائد ووصايا طبية كتب بها اليّ.

سديد الدين بن رقيقة

هو أبو الثناء محمود بن عمر بن محمد بن إبراهيم بن شجاع الشيباني الحانوي ويعرف بابن رقيقة ذو النفس الفاضلة والمروءة الكاملة، وقد جمع من صناعة الطب ما تفرق من أقوال المتقدمين، وتميز على سائر نظرائه وأضرابه من الحكماء والمتطببين، هذا مع ما هو عليه من الفطرة الفائقة، والألفاظ الرائقه، والنظم البليغ، والشعر البديع وكثيراً ما له من الأبيات الأمثالية، والفقر الحكمية، وأما الرجز فإنني ما رأيت في وقته من الأطباء أحداً أسرع عملاً له منه، حتى إنه كان يأخذ أي كتاب شاء من الكتب الطبية وينظمه رجزاً في أسرع وقت مع استيفائه للمعاني ومراعاته لحسن اللفظ، ولازم الشيخ فخر الدين محمد بن عبد السلام المارديني وصحبه كثيراً واشتغل عليه بصناعة الطب وبغيرها من العلوم الحكمية، وكان لسديد الدين بن رقيقة أيضاً معرفة بصناعة الكحل والجراح، وحاول كثيراً من أعمال الحديد في مداواة أمراض العين، وقدح أيضاً الماء النازل في العين الجماعة، وأنجب قدحه وأبصروا، وكان المقدح الذي يعانيه مجوفاً وله عطفة ليتمكن في وقت القدح من امتصاص الماء، ويكون العلاج به أبلغ.

وكان قد اشتغل أيضاً بعلم النجوم، ونظر في حيل بني موسى، وعمل منها أشياء مستطرفة، وكان فاضلاً في النحو واللغة، وله أيضاً أخ فاضل يقال له معين الدين، أوحد زمانه في العربية وهي فنه وله شعر كثير، سمع سديد الدين بن رقيقة أيضاً شيئاً من الحديث، ومن ذلك حدثني سديد الدين محمود بن عمر بن محمد الطبيب الحانوي سماعاً من لفظه قال حدثني الإمام الفاضل فخر الدين محمد بن عبد السلام المقدسي، ثم المارديني، قال حدثنا الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد الخضر الجواليقي، قال أخبرنا أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي، قال حدثنا أبو القاسم علي بن عبيد اللَّه الرقي، قال حدثني الرئيس أبو الحسن علي بن أحمد البتي، قال حدثني أبو بكر محمد عبد اللَّه الشافعي، قال حدثنا القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق، قال حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتيناك يا رسول اللّه ولم يبق لنا جمل يئط، ولا صبي يصطبح، ثم أنشده

أتيناك والعذراء تدمـى لـثـاتـهـا

 

وقد شغلت أم الصبي عن الطـفـل

وألقى بكفيه الفـتـى لاسـتـكـانة

 

من الجوع هوناً ما يمر وما يحلـي

ولا شيء مما يأكل الناس عـنـدنـا

 

سوى العلهز العامي والحنظل الفسل

ولـيس لـنـا إلا إلـيك فـرارنـا

 

وأين فرار الناس إلا إلى الـرسـل

قال الرقي العلهز الوبر يعالج بدم الحلم، والحلم القراد إذا كبر ويؤكل في الجدب ويروى والعنقر بضم القاف وفتحها وهو أصل البردي فهذان صحيحان.

ويروى العقهر وهو تصحيف مردود، فقام صلى الله عليه وسلم يجر رداءه حتى رقي المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه، ثم رفع نحو السماء يديه ثم قال اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً مريئاً مريعاً، سحاً سجالاً، غدقاً طبقاً، ديماً عاجلاً غير رائث نافعاً غير ضار، تنبت به الزرع وتملأ به الضرع، وتحيي به الأرض بعد موتها، فواللّه ما رد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يده إلى نحره حتى التقت السماء بأرواقها، وجاءه أهل البطانة يضجون يا رسول اللّه الغرق الغرق، فأومأ بطرفه إلى السماء وضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال اللهم حوالينا ولا علينا فانجاب السحاب عن المدينة حتى أحدق بها كالإكليل ثم قال للّه دُر أبي طالب لو كان حياً قرت عيناه، من ينشدنا قوله فقال علي عليه السلام يا رسول اللّه لعلك أردت

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

 

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

تطوف به الهلاك من آل هاشم

 

فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت اللّه رب محـمـد

 

ولما نقاتل دونه ونـنـاضـل

ولا نسلمه حتى نصرع حولـه

 

ونذهل عن أبنائنا والحـلائل

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أجل، ثم قام رجل من كنانة فأنشده

لك الحمد والحمد ممن شكر  

 سقينا بوجه النبي المطر

دعا اللَّه خالقه دعوة

 إليه وأشخص منه البصر 

فمـا كـان إلا كـمـا سـاعة

وأسرع حتـى رأينـا الـذرر

دفـاق الـعـزالـى، وجــم

البعاق أغاث به اللّه عَليا مضر

فكـان كـمـا قـال عـمـه

أبو طـالـب ذا رواء غـرر

به يسّـر الـلّـه صـــوب

الغمام فهذا العيان لذاك الأثـر

فمن يشكر اللّه يلقى الـمـزيد

ومن يكفر اللّه يلقى الـغـير

فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم اجلس إن يك شاعراً أحسن فقد أحسنت، وأخبرني سديد الدين بن رقيقة أن مولده في سنة أربع وستين وخمسمائة بمدينة حيني ونشأ بها، ولما كان فخر الدين المارديني بمدينة حيني، وصاحبها نور الدين بن جمال الدين بن أرتق كان قد عرض لنور الدين مرض في عينيه فداواه الشيخ فخر الدين مدة أيام، ثم عزم على السفر وأشار على نور الدين بن أرتق بأن يداويه سديد الدين بن رقيقة فعالجه سريعاً، وبرأ برءاً تاماً وأطلق له جامكية وجراية في صناعة الطب، وقال لي سديد الدين أن عمره يومئذ كان دون العشرين سنة، واستمر في خدمته، ثم خدم بعد ذلك الملك المنصور محمد صاحب حماه ابن تقي الدين عمر وبقي معه مدة ثم سافر إلى خلاط وكان صاحبها في ذلك الوقت الملك الأوحد نجم الدين أيوب بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وخدم صلاح الدين بن ياغيسان وكان هذا صلاح الدين قد تزوج الملك الأوحد ابن الملك العادل بأخته، وكان سديد الدين بن رقيقة يتردد إلى خدمتها أيضاً، وكانت كثيرة الإحسان إليه، وأقام بخلاط مدة إلى أن توفي الملك الأوحد في ملازكرد بعلة ذات الجنب، وذلك في يوم السبت ثامن عشر ربيع الأول سنة تسع وستمائة،، وكان يعالجه هو وصدقة السامري، وخدم أيضاً بعد ذلك الملك الأشرف أبا الفتح موسى ابن الملك العادل، وأقام بميافارقين سنين كثيرة، ولما كان في ثالث جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وصل سديد الدين بن رقيقة إلى دمشق إلى السلطان الملك الأشرف فأكرمه واحترمه، وأمر بأن يتردد إلى الدور السلطانية بالقلعة، وأن يواظب أيضاً معالجة المرضى بالبيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين بن زنكي، وأطلق له جامكية وجراية.

وكان لي أيضاً في ذلك الوقت مقرر جامكية وجراية لمعالجة المرضى في هذا البيمارستان، وتصاحبنا مدة فوجدت من كمال مروءته، وشرف أرومته، وغزارة علمه، وحسن تأتيه في معرفة الأمراض ومداواتها، ما يفوق الوصف، لم يزل بدمشق وهو يشتغل بصناعة الطب إلى أن توفي رحمه اللَّه في سنة خمس وثلاثين وستمائة، وكنت أنا قد انتقلت إلى صرخد في خدمة صاحبها الأمير عز الدين المعظمي في شهر ربيع الأول سنة أربع وثلاثين وستمائة.

ومن شعر سديد الدين بن رقيقة، وهو مما أنشدني لنفسه فمن ذلك قال

 

يا ملـبـسـي بـالـنـطـق ثـوب

 

كرامة ومكملي جواد به ومقـومـي

 

خذنـي إذا أجـلـي تـنـاهـــى

 

وانقضى عمري على خط إليك مقوم

 

واكشف بلطفك يا إلهـي غـمـتـي

 

واجل الصدا عن نفس عبدك وارحـم

 

فعساي من بعد المهـانة أكـتـسـي

 

حلل المهابة في المـحـل الأكـرم

 

وأبوء بالفردوس بـعـد إقـامـتـي

 

في منزل بادي السمـاجة مـظـلـم

 

فقـد اجـتـويت ثـواي فـيه ومـن

 

تكن دار الغرور له مـحـلاً يسـأم

 

دار يغادر بـؤسـهـا وشـقـاءهـا

 

من حلـهـا وكـأنـه لـم ينـعـم

 

ويديل صـافـي عـيشـه وحـياتـه

 

كدراً فلا تجنـح إلـيهـا تـسـلـم

 

فبك المعاذ إلـهـنـا مـن شـرهـا

 

وبك الملاذ من الغواية فـاعـصـم

 

وعليك متكلـي وعـفـوك لـم يزل

 

قصدي فوا خسراه إن لـم تـرحـم

 

يا نفس جدي وأدأبي وتـمـسـكـي

 

بعرى الهدى وعرى الموانع فافصمي

 

لا تهملي يا نـفـس ذاتـك إن فـي

 

نسيانها نسيان ربـك فـاعـلـمـي

 

وعلـيك بـالـتـفـكـير فـي آلائه

 

لتبـوّئي جـنـاتـه وتـنـعـمـي

 

وتيمـمـي نـهـج الـهـداية إنـه

 

منج وعن لقم الضلالة أحـجـمـي

 

لا ترتضي الدنيا الـدنـية مـوطـنـاً

 

تعلي على رتب السواري الأنـجـم

وتعايني ما لا رأت عين ولا

 

أذن وعت فإليه جدي تغنمي

 

وتشاهدي ما ليس يدرك كنهه

 

بالفكر أو يتوهم المتـوهـم

 

           

وأنشدني أيضاً لنفسه

لا يغرنك من زمانك بشره

 

فالبشر منه لا محالة حائل

فقطوبه طبع وليس تطبعاً

 

والطبع باق والتطبع زائل

وأنشدني أيضاً لنفسه

لست من يطلب التكسب بالـسـخ

 

ف ولو كنت مت عرياً وجوعـا

ولو أني ملكت ملـك سـلـيمـا

 

ن لما اخترت عن وقاري رجوعا

وقال اقتداء بقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال

لا تكن ناظراً إلى قائل القو

 

ل بل انظر إليه ماذا يقول

وخذ القول حين تلقيه معقو

 

لا ولو قاله غبي جهـول

فنباح الكلاب مع خسة فيها

 

على منزل الكريم دلـيل

وكذاك النضار معدنه الأر

 

ض ولكنه الخطير الجليل

وأنشدني أيضاً لنفسه

توقّ صحبة أبناء الـزمـان ولا

 

تأمن إلى أحد منهم ولا تـثـق

فليس يسلم منهم من تصاحـبـه

 

طبعاً من المكر والتمويه والملق

وأنشدني أيضاً لنفسه

أرى كل ذي ظلم إذا كان عاجزاً

 

يعف ويبدي ظلمه حين يقـدر

ومن نال من دنياه ما كان زائداً

 

على قدره أخلاقه تتـنـكـر

وكل امرئ تلفيه للشر مؤثـراً

 

فلا بد أن يلقى الذي كان يؤثر

وأنشدني أيضاً لنفسه

لما رأيت ذوي الفضائل والحجا

 

لا ينفقون وكل فـدم ينـفـق

ألزمت نفسي اليأس علماً أن لي

 

رباً يجود بـمـا أروم ويرزق

ولزمت بيتي واتخذت مسامري

 

سفراً بأنواع الفضائل ينطـق

لي منه أنى جئته متصـفـحـاً

 

عما حوى روض نضير مونق

 وأنشدني أيضاً لنفسه

ما ضر خلقي إقلالي ولا شيمـي

 

ولا نهاني عن نهج النهى عدمي

وكيف والعلم حظي وهو أنفس ما

 

أعطى المهيمن من مال ومن نعم

العلم بالعلـم يزكـو دائمـاً أبـداً

 

والمال إن أدمن الإنفاق لـم يدم

فالمال صاحبـه الأيام يحـرسـه

 

والعلم يحرس أهليه من النـقـم

وأنشدني أيضاً لنفسه

خلقت مشاركاً في النوم قوماً

 

وقد خالفتهم إذ ذاك شخصـا

أريدكمالهم والنفع جـهـدي

 

وهم يبغون لي ضراً ونقصا

إذا عددت ما فيهـم عـيوبـاً

 

فقد حاولت شيئاً ليس يحصى

وأنشدني أيضاً لنفسه

وإن أشد أهل الأرض حزناً

 

وغماً منهما لا يستـفـيق

كريم حل موضعه المعلى

 

سواه وأنه لبه الخـلـيق

وأنشدني أيضاً لنفسه

وضع العوارف عند النذل يتـبـعـه

 

على معاودة الإلحاح في الطـلـب

ويحمل الفاضل الطبع الكريم عـلـى

 

حسن الجزاء لمولى العرف عن كثب

فالناس كالأرض تسقى وهي واحـدة

 

عذباً وتنبت مثل الشري والـرطـب

وقال أيضاً

إذا كان رزق المرء من قدر أتـى

 

فما حرصه يغنيه في طلب الرزق

كذا موته إن كـان ضـربة لازب

 

فإخلاده نحو الدنا غاية الحـمـق

فإن شئت أن تحيا كريماً فكن فتـى

 

يؤوساً فإن اليأس من كرم الخلـق

فيأس الكريم الطبع حلـو مـذاقـه

 

لديه إذا ما رام مسألة الـخـلـق

وقال أيضاً

أرى وجودك هذا لم يكن عـبـثـاً

 

ألا لتكمل منك النفس فانـتـبـه

فاعدل عن الجسم لا تقبل عـلـيه

 

ومل إلى رعاية ما الإنسان أنت به

فمؤيس النفس عن أهوائهـا يقـظ

 

ومطمع النفس فيها غير منتـبـه

فاسلك سبيل الهدى تحمد مغبـتـه

 

فمنهج الحق بادر غير مشتـبـه

وأنشدني أيضاً لنفسه

وما صاحب السلطان إلا كراكب

 

بلجة بحر فهو يستشعر الغرق

فإن عاد منه سالم الجسم ناجـياً

 

فما نفسه فيه يفارقها الفـرق

وأنشدني أيضاً لنفسه  

يا ناظرا ً في ما قصدت لجمـعـه

 

اعذر فإن أخا الفـضـيلة يعـذر

علماً بأن المرء لو بلـغ الـمـدى

 

في العمرلاقى الموت وهو مقصر

وأنشدني أيضاً لنفسه مما كتبه على كأس في وسطه طائر على قبة مخرمة، إذا قلب في الكأس ماء دار دوراناً سريعاً، وصفر صفيراً قوياً، ومن إذا وقف بإزائه الطائر حكم عليه بالشرب فإذا شربه وترك فيه شيئاً من الشراب صفر الطائر، وكذلك لو شربه في مائه مرة فمتى شرب جميع ما فيه ولم يبق فيه درهم واحد فإن صفيره ينقطع

ولا عند الخوى والجوع حـتـى

 

تلهـن بـالـيسـير مـن الادام

وخذ منه القليل ففيه نفـع لـذي

 

العطـش الـمـبـرح والأوام

وهضمك فاصلحنه فهـو أصـل

 

وأسهل بـالإبـارج كـل عـام

وفصد العرق نكب عنه إلا لـذي

 

مرض رطيب الطبع حـامـي

ولا تتحـركـن عـقـيب أكـل

 

وصير ذاك بنـد الانـهـضـام

لئلا ينزل الـكـيلـوس فـجـا

 

فيلحج في المنافذ والـمـسـام

ولا تدم السكـون فـإن مـنـه

 

تولد كـل خـلـط فـيك خـام

وقلل ما استطعت المـاء بـعـد

 

الرياضة واجتنب شرب المـدام

وعدل مزج كـأسـك فـهـي

 

تبقي الحرارة فيك دائمة الضرام

وخل السكر واهـجـره مـلـياً

 

فإن السكر من فعل الطـغـام

وأحسن صون نـفـسـك عـن

 

هواها تفز بالخلد في دار السلام

وقال أيضاً

أيهـا الـشـادن الـذي طــاب

 

هتكي وافتضاحي بعد الصيانة فيكا

علة الجفن فيك عـلة سـقـمـي

 

وشفاي ارتشاف خمـرة فـيكـا

وأنشدني أيضاً لنفسه يمدح صلاح الدين محمد بن باغيبسان:

ومدلل ساجي الجفون مهفهـف

 

جمع الملاحة ذو الجلال لـديه

وأحلها فيه فأصـبـح ربـهـا

 

وأمـال أفـئدة الأنـام إلــيه

من جفنـه سـيف الـصـلاح

 

محمد باد ومن جفني سحب يديه

وأنشدني أيضاً لنفسه يهنئ الصاحب جلال الدين أبا الفتح محمد بن نباتة ببناء داره:

يا أيها الصاحب الصدر الكبير جل

 

ل الدين ابن الكرام السادة الشرفا

بنيت داراً على الجوزاء مشـرفة

 

كما قديماً بنيت المجد والشرفـا

دامت محل سرور لا يحـول ول

 

زالت رؤوس أعاديكم لها شرفـاً

شرفت أصلاً وأخلاقاً وشنـشـنة

 

فلست ممن بأصل وحده شرفـا

وأنشدني أيضاً لنفسه، وقد كتبها لي شيخه فخر الدين محمد بن عبد السلام المارديني:

يا سائقاً نحو مـيافـارقـين أنـخ

 

بها الركاب وبلغ بعض أشواقـي

وما أعانيه من وجد ومـن كـمـد

 

ولـوعة وصـبـابـات وإيراق

إلى الذي فاق أبناء الزمان نـهـى

 

ومحتداً ثنـاهـم طـيب أعـراق

وقل محب لكم قد شفـه مـرض

 

وما سواك لـه مـن دائه راقـي

صل الطبيعة لا ينـفـك يلـدغـه

 

فاصرف نكايته عنـه بـتـرياق

شطر الحياة مضى والنفس ناقصة

 

فكن مكملها في شطرها الباقـي

فأنت أولى بتهذيبي وتبـصـرتـي

 

بما يهذب أوصافـي وأخـلاقـي

وما يخلص نفسي من موانعـهـا

 

الوصول عند التفاف الساق بالساق

مشكاة ذهني قد أمست زجاجتهـا

 

صديئة فأجلها بالواحد الـواقـي

وأنشدني أيضاً لنفسه يرثي ولداً له:

بنـي لـقـد غـادرت بـــين

 

جوانحي لفقدك ناراً حرّها يتسعر

وأغريت بالأجفان بـعـد رقـاده

 

سهاداً فلن تنفك بعدك تسـهـر

فلست أبالي حين بنت بمن ثـوى

 

ولم أر من أخشى عليك وأحـذر

وقال أناس يصغر الحزن كلـمـا

 

تمادى وحزني الدهر ينمي ويكبر

وكنت صبوراً عند كـل مـلـمة

 

تلم فمذ أرديت عز التـصـبـر

كملت فوافتك المنون وهـكـذا

 

يوافي الخسوف البدر إبان يبدر

وقال أيضاً:

أيا فاعـلاً خـل الـتـطـبـب واتـئد

 

فكم تقتل المرضى المساكين بالجهـل

فتركـيب أجـسـام الأنـام مـؤجـل

 

فلم لا كلاك اللّه تعـجـل بـالـحـل

كأنـك يا هـذا خـلـقـت مـوكـلا

 

على رجع أرواح الأنام ألـى الأصـل

بهرت الـوبـا إذ قـتـلـك الـنـاس

 

دائماً وذلك في الأحيان يحدث في فصل

كفى الوصب المسكـين شـخـصـل

 

قاتلاً إذا عدته قبل التعرض للفـعـل

ولسديد الدين بن رقيقة من الكتب؛ كتاب لطف السائل وتحف المسائل، وهذا الكتاب قد نظم فيه مسائل حنين، كليات القانون لابن سينا رجزاً، ومعاني أخر ضرورية يحتاج إليها في صناعة الطب، وشرح هذا الكتاب، وله أيضاً عليه حواش مفيدة، كتاب موضحة الأشباه في أدوية الباه كتاب الفريدة الشاهية، والقصيدة الباهية، وهذه القصيدة صنعها بميافارقين في سنة خمس عشرة وستمائة للملك الأشرف، شاه أرمن، موسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب، وذكر لي أنه نظمها في يومين وهي بيت، وصنع لها أيضاً شرحاً مستقصى بليغاً في معناه، كتاب قانون الحكماء وفردوس الندماء، كتاب الغرض المطلوب في تدبير المأكول والمشروب، مقالة مسائل وأجوبتها في الحميات، أرجوزة في الفصد.