الباب الخامس عشر: طبقات الأطباء المشهورين من أطباء الشام: عمي رشيد الدين علي بن خليفة، بدر الدين ابن قاضي بعلبك، شمس الدين محمد الكلي، موفق الدين عبد السلام، موفق الدين المنفاخ، نجم الدين بن المنفاخ، عز الدين بن السويدي، عماد الدين الدنيسري، موفق الدين يعقوب السامري، أبو الفرج بن القف

عمي رشيد الدين علي بن خليفة

هو أبو الحسن علي بن خليفة بن يونس بن أبي القاسم بن خليفة، من الخزرج من ولد سعد بن عبادة، مولده بحلب في سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وكان مولد أبي قبله في سنة خمس وسبعين وخمسمائة بالقاهرة المعزية، ونشأ أيضاً بالقاهرة واشتغلا بها وذلك أن جدي رحمه اللَّه كانت له همة عالية ومحبة للفضائل وأهلها، وله نظر في العلوم، ويعرف بابن أبي أصيبعة، وكان قد توجه إلى الديار المصرية عندما فتحها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وكان في خدمته وخدمة أولاده، وكان من جملة معارف جدي وأصدقائه من دمشق جمال الدين أبي الحوافر الطبيب، وشهاب الدين أبو الحجاج يوسف الكحال وذلك أن مولد جدي كان بدمشق، ونشأ بها وأقام سنين كثيرة، فلما اجتمع بجمال الدين بن أبي الحوافر بمصر وبأبي الحجاج يوسف، وكان قد ترعرع أبي وعمي، وقصد إلى تعليمهما صناعة الطب لمعرفته بشرفها، وكثرة احتياج الناس إليها، وأن صاحبها الملتزم لما يحب من حقوقها يكون مبجلاً حظياً في الدنيا، وله الدرجة العليا في الآخرة، وترك أبي وعمي يلازمان ذينك الشيخين ويغتنمانهما، فلازم أبي أبا الحجاج يوسف واشتغل بصناعة الكحل، وباشر معه أعمالها، وكان أبوالحجاج يكحل في البيمارستان ذلك الوقت في السقطين أسفل القاهرة، وكان جدي يسكن إلى جانبه، فبقي أبي ملازماً لأبي الحجاج يوسف ومتعلماً منه إلى أن أتقن صناعته، وقرأ أيضاً على غيره من أعيان المشايخ الأطباء في ذلك الوقت بمصر مثل الرئيس موسى القرطبي صاحب التصانيف المشهورة ومن هو في طبقته، ولازم عمي لجمال الدين ابن أبي الحوافر واشتغل عليه بصناعة الطب، وأول اشتغال عمي بالعلم أنه كان عند تقي المعلم، وهو أبو التقي صالح بن أحمد إبراهيم بن الحسن بن سليمان العرشي المقدسي، وكان هذا تقي يعرف علوماً كثيرة، وكانت له سيرة حسنة في التعليم في الكتب، وسياسة مشهورة عنه لم يكن أحد يقدر عليها إلا هو، ولما أتقن عمي رحمه اللّه حفظ القرآن عند تقي وعلم الحساب، وشرع في تعلم صناعة الطب والنظر فيه لازم جمال الدين بن أبي الحوافر، وكان في ذلك الوقت رئيس الأطباء بالديار المصرية، وصاحبها الملك العزيز عثمان بن عبد الملك الناصر صلاح الدين، وقرأ عليه شيئاً من كتب جالينوس الستة عشر، وحفظ منها الكتب الأولية في أسرع وقت.

ثم باحث الأطباء ولازم مشاهدة المرضى بالبيمارستان، ومعرفة أمراضهم، وما يصف الأطباء لهم، وكان فيه جماعة من أعيان الأطباء، ثم قرأ في أثناء ذلك علم صناعة الكحل، وباشر أعمالها عند القاضي نفيس الدين الزبير،وكان المتولي للكحل في ذلك الوقت في البيمارستان، وكذلك أيضاً باشر معه في البيمارستان أعمال الجراح، وكان الشيخ موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي يومئذ في القاهرة، وكان صديقاً لجدي وبينهما مودة أكيدة فاشتغل عمي عليه بشيء من العربية والحكمة، وكان يبحث معه في كتب أرسطوطاليس ويناقشه في المواضع المشكلة منها وكان يجتمع أيضاً بسديد الدين، وهو علامة في العلوم الحكمية، ويشتغل عليه. وكان أيضاً قبل ذلك قد اشتغل بعلم النجوم على أبي محمد بن الجعدي، وكان هذا الشيخ فاضلاً في علم النجوم متميزاً في أحكامه، وكان لحق الخلفاء المصريين، ويعد من الخواص عندهم، وكان أبوه من أعيان الأمراء في دولتهم، وأما صناعة الموسيقا فكان قد أخذها عن ابن الديجور المصري، وعن صفي الدين أبي علي بن التبان، ثم بعد ذلك أيضاً اجتمع بأعيان المصنفين في هذا الفن مثل البهاء المصلح الكبير وشهاب الدين النقجوني وشجاع الدين بن الحصن البغدادي ومن هو في طبقتهم وأخذ عنهم كثيراً من تصانيف العرب والعجم، ولم يكن لعمي دأب في سائر أوقاته من صغره إلا النظر في العلوم والاشتغال، وتكميل نفسه بالفضائل، ولما عاد جدي إلى الشام وانتقل إليها، وذلك في سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وكان لعمي في ذلك الوقت من العمر نحو العشرين سنة، شرع عمي في معالجة المرضى والتزيد في صناعة الطب، وكان في دمشق الشيخ رضي الدين يوسف بن حيدرة الرحبي، وكان كثير الصداقة لجدي من السنين الكثيرة، وسمع بعمي ولما شاهده ورأى تحصيله فرح به، وبقي عمي يحضر مجلسه ويقرأ عليه، ويبحث معه في صناعة الطب، وباشر المرضى في البيمارستان الذي أنشأه الملك العادل نور الدين ابن زنكي وكان فيه من الأطباء موفق الدين بن الصرف، والشيخ مهذب الدين عبد الرحيم ابن علي.

واشتغل أيضاً بالحكمة في ذلك الوقت على موفق الدين عبد اللطيف بن يوسف البغدادي، لأنه كان أيضاً قد عاد إلى الشام، وكان بدمشق أيضاً جماعة من أهل الأدب ومعرفة العربية مثل زين الدين بن معطي فلازمه واشتغل عليه، مثل تاج الدين بن حسن الكندي أبي اليمن، وكان صديقاً لجدي، وبينهما مودة سالفة من عند عز الدين فرخشاه، فلازمه عمي أيضاً واشتغل عليه بالعربية، وأتقن عمي هذه العلوم بأسرها، وصار شيخاً يقتدى به في صناعة الطب، ويشتغل عليه بها، وله من العمر دون الخمس وعشرين سنة وكان أيضاً يشعر ويترسل، وكان يتكلم بالفارسية ويعرف تصاريف لغة الفرس وينظم شعراً بالفارسي، وكان أيضا يتكلم بالتركي، ولما كان في يوم الجمعة خامس عشر شهر رمضان سنة خمس وستمائة، استدعاه السلطان الملك المعظم عيسى ابن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب وسمع كلامه، وحسن موقعه عنده وأنعم عليه، وأمر أن ينتظم في خدمته فاتفقت تعاويق من حركات السلطان، وبعد ذلك بأيام سمع به صاحب بعلبك، وهو الملك الأمجد مجد الدين بهرام شاه ابن عز الدين فرخشاه بن شاهان شاه بن أيوب، فبعث إليه يستدعيه ويستدعي جدي لأنه كان يعرفه من عهد أبيه، فلما وصلا إليه تلقاهما وأحسن إليهما غاية الإحسان، وأطلق لهما الجامكية، والجراية والرتب، وحسن موقع عمي عنده جداً حتى كان لا يفارقه في أكثر أوقاته، ولما رأى علمه بالحساب، وجودة تصرفه فيه، طلب منه يريه شيئاً من الحساب فامتثل أمره، وعرفه جملة منه، وألف له كتاباً في الحساب يحتوي على أربع مقالات، وكان للملك الأمجد رحمه اللَّه نظر في الفضائل، ورغبة في أهلها، وينظم شعراً جيداً وله ديوان مشهور.

ولما كان في سنة تسع وستمائة مرضت عيني خادم يقال له سليطة للسطان الملك العادل أبي بكر بن أيوب وهو يعزه كثيراً، وتفاقم المرض في عينيه حتى هلكت ويئس منها، ورآه المشايخ من الأطباء والكحالين، وكل عجز عن مداواته، وأجمعوا أنه قد عمي، وأن المداواة لم يبق لها فيه تأثير أصلاً، لما رآه أبي وتأمل عينيه قال أنا أداوي عيني هذا ويبصر بهما إن شاء اللّه تعالى، وشرع في مداواته وفي علاجه، وعيناه في كل وقت تصلح حتى كملت عافيته وبرأ برءاً تاماً، وركب وعاد إلى ما كان عليه أولاً حتى كان يتعجب منه، وظهرت منه في مداواته معجزة لم يسبق إليها فأحسن الملك العادل ظنه به كثيراً، وأكرمه غاية الإكرام من الخلع وغيرها، وكان له قبل ذلك أيضاً تردد إلى الدور السلطانية بالقلعة بدمشق وداوى بها جماعة كانت في أعينهم أمراض صعبة فصلحوا في أسرع وقت. وعرف بذلك أيضاً الملك العادل وقال مثل هذا يجب أن يكون معي في السفر والحضر، وطلبه للخدمة فسأل أن يعفى، وأن يكون مقيماً بدمشق فلم يجبه إلى ذلك، وأطلق له جامكية وجراية، واستقرت خدمته له في خامس عشر ذي الحجة سنة تسع وستمائة، وكان حظياً عنده وعند جميع أولاده الملوك ويعتمدون عليه في المداواة وله منهم الإحسان الكثير والافتقاد التام، ولم يزل في الخدمة إلى أن توفي الملك العادل رحمه اللَّه وملك دمشق بعده الملك المعظم فأمر أن يستمر في خدمته، وكان له فيه أيضاً من حسن الاعتقاد والرأي مثل أبيه وأكثر وخدم الملك المعظم لاستقبال صفر سنة ست عشرة وستمائة، ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك المعظم رحمه اللَّه، ورسم الملك الناصر داود ابن الملك المعظم بأن يستمر في خدمته، وأن يجري له ما كان مقرراً في أيام والده، فبقي معه إلى أن اتفق توجه الملك الناصر إلى الكرك، فأقام أبي بدمشق وصار يتردد إلى القلعة لخدمة الدور السلطانية لكل من ملك دمشق من أولاد الملك العادل وغيرهم، وكلهم يرون له ويعتمدون عليه في المداواة، وله الجامكية والجراية والإنعام الكثير، ويتردد أيضاً إلى بيمارستان نور الدين الكبير وله الجامكية والجراية، والناس يقصدونه من كل ناحية لما يجدون في مداواته من سرعة البرء، وأن أمراضاً كثيرة مما تكون مداواتها بالحديد يبرئها بذلك على أجود ما يمكن ومنها ما يعالجها بالأدوية ويبرئها بها ويستغني أصحابها عن الحديد، وهذا المعنى قد مدحه جالينوس في كتابه في محنة الطبيب الفاضل وقال رأيت طبيباً يبرئ بالأدوية الأدواء التي يبرئها المعالجون بالحديد بالقطع فعد ذلك على أن له علماً ودربة وحذقاً، قال وأحمد أيضاً من رأيته يبرئ بالأدوية وحدها من أدواء العين ما يعالجه غيره بالقطع، مثل الظفرة والجرب والبرد والماء والغلظ والشعر وزيادة اللحم الذي في المآقي ونقصانه، وأحمد أيضاً من رأيته حلل من العين مادة محتقنة فيها بسرعة، أو رد الطبقة التي يقال لها العنابية بعد أن نتأت نتوءاً كثيراً إلى موضعها حتى لطئت، أو ظهر منه غير ذلك مما هو شبيه في علاج العين بغير حديد، هذا نص جالينوس، وقد رأيت كثيراً من ذلك وأمثاله قد تأتى لأبي في المداواة وكثيراً أيضاً من أمراض العين التي قد يئس من برئها قد صلحت بمداواته، كما قال فيه بعض من عالجه وبرأ على يديه وهو شمس العرب البغدادي

لسديد الدين في الطب يد لـم

 

تزل تنقذ طرفاً مـن قـذى

كم جلت عن مقلة من ظلمة

 

وأماطت عن جفون من أذى

لا يعاني طب عين في الورى

 

قط إلا حـاذق كـان كـذا

يا مسيح الوقت كم من أكمـه

 

بك أضحى مبصراً ذاك وذا

فبآرائك للداء دوا وبـألـفـا

 

ظك لـلــروح غـــذا

لك عندي منـن لـو أنـنـي

 

شاكر أيسـرهـا يا حـبـذا

وشمس العرب هو أبو محمد عبد العزيز بن النفيس بن هبة اللّه بن وهبان السلمي، ولم يزل أبي متردداً إلى الخدمة بقلعة دمشق وإلى البيمارستان الكبير النوري إلى أن توفي رحمه اللّه، وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وستمائة، ودفن ظاهر باب الفريدس في طريق جبل قاسيون، وذلك في أيام الملك الناصر يوسف بن محمد صاحب دمشق، ولما كان عمي عند الملك الأمجد، وأتى إلى بعلبك الملك المعظم لنجدة الملك الأمجد عند عداوته الإسبتار، واجتمعوا كان عمي يجتمع معهم، ولم يكن في زمانه من يعرف الموسيقا واللعب بالعود مثله، ولا أطيب صوتاً منه، حتى أنه شوهد من تأثر الأنفس عند سماعه مثل ما يحكى عن أبي نصر الفارابي، فكثر إعجاب الملك المعظم به جداً وبعد ذلك أخذه إليه واستمر في خدمته من أول جمادى سنة عشر وستمائة، وأطلق له الجامكية والجراية، ولم يزل يواصله بالافتقاد والإنعام، ولا يفارقه في أكثر أوقاته، وكان يعتمد عليه في صناعة الطب، وكذلك كان الملك الكامل محمد والملك الأشرف يعتمدان عليه، وإذا حضر أحدهما عند أخيه الملك المعظم لا يزال عندهما، وكان له منهما الإنعام الكثير،وأعرف مرة قد حضر الملك الكامل عند أخيه الملك المعظم، وكان عمي معهما، وكانوا في مجلس الأنس فأعطى الملك الكامل له في تلك الليلة خلعة كاملة، وخمسمائة دينار مصرية، ولما كان الملك المعظم بدمشق ندبه أن يتولى كتابة الجيش، وأكد عليه في ذلك، فلم يسعه إلا امتثال أمره، وقعد في الديوان وحضر عنده الجماعة والنواب، وشرع في الكتابة أياماً، ثم رأى أن أوقاته تمر بأسرها في الكتابة والحساب، ولم يبق له وقت لنفسه، ولاشتغاله في العلوم العقلية وغيرها، فطلب من السلطان أن يعفيه من ذلك، وتشفع إليه بجماعة من خواصه حتى أقاله.

ولما كان في سنة إحدى عشرة وستمائة حج الملك المعظم، وحج عمي معه، ولم يزل في خدمته إلى أن اتفقت نوبة عمنا في نصف شعبان سنة أربع عشرة وستمائة، وتقدمت الفرنج وتخالف الطريق بين السلطان الكبير الملك العادل وولده المعظم، فمضى عمي صحبة الملك العادل نحو دمشق، ومضى الملك المعظم نحو نابلس، ثم خرج عمي من دمشق صحبة الملك الناصر داود ابن الملك المعظم، ولما وصلوا عجلون أمر برجوع ولده فرجعوا، وبعد ذلك مرض عمي مرضاً وطال إلى آخر السنة المذكورة فرأى أن الحركة تضره، وهو بالطبع يميل إلى الانفراد والاشتغال بالكتب، استدعاه الملك العادل أبو بكر بن أيوب لما سمع بتحصيله وسيرته، وذلك في الخامس من المحرم سنة خمس عشرةوستمائة وولاه طب البيمارستانين بدمشق اللذين وقفهما الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي، فكان يتردد إليهما وإلى القلعة، وقرر له جامكية وجراية، وأطلقت له أيضاً ست الشام أخت الملك العادل جامكية في الطب، وكان يتردد إلى دارها.

ولما أقام بدمشق وجعل له مجلساً عاماً لتدريس صناعة الطب، واشتغل عليه جماعة، وكلهم تميزوا في الطب، وكان يجتمع في ذلك الوقت مع علم الدين قيصر بن أبي القاسم بن عبد الغني، وهو علامة وقته في العلوم الرياضية فقرأ عليه علم الهيئة، وأتقنها في أسرع وقت، ولقد كان علم الدين يوماً عنده،وهو يريه أشكالاً في علم الهيئة وقال له وأنا أسمع واللّه يا رشيد الدين هذا الذي قد علمته في نحو شهر دأب غيرك في خمس سنين حتى يعلمه، واجتمع أيضاً عمي في دمشق بالسيد الإمام العالم شيخ الشيوخ صدر الدين بن حمويه، وألبسه خرقة التصوف، وذلك في العشرين من شهر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة، وهذه نسخة ما كتبه له معها بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أنعم به المولى السيد الأجل، الإمام العالم، شيخ الشيوخ، صدر الدين، حجة الإسلام، علم الموحدين، أبو الحسن محمد ابن الإمام السيد الأجل العالم، شيخ الشيوخ عماد الدين أبي حفص عمر بن أبي الحسن بن محمد بن حموية، أدام اللّه تأييده، من إلباس خرقة التصوف على مريده علي بن خليفة بن يونس الخزرجي الدمشقي وفقه اللّه على الطاعات، ألبسه وأخبره أنه أخذها عن والده المذكور رحمه اللّه، وأن والده أخذها عن أبيه شيخ الإسلام معين الدين أبي عبد اللّه محمد بن حموية رحمه اللّه، وأنه أخذها عن الخضر عليه السلام، والخضر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وأخذها جده أيضاً عن الشيخ أبي علي الفارندي الطوسي، وأخذها المذكور عن شيخ وقته أبي القاسم الكركاني وأخذها أبو القاسم عن الأستاذ الإمام أبي عثمان المغربي، وأخذها أبو عثمان عن شيخ الحرم أبي عمرو الزجاجي، وأخذها المذكور عن سيد الطائفة الجنيد بن محمد، وأخذها الجنيد عن خاله سري السقطي، عن معروف الكرخي، عن علي بن موسى الرضا عليه السلام، وصحيه وتأدب به، وخدمه، وأخذ علي عن أبيه موسى بن جعفر الكاظم، عن أبيه جعفر بن محمد الصادق، عن أبيه محمد بن علي الباقر، عن أبيه علي بن الحسين زين العابدين، عن أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام، وأخذها علي كرم اللّه رجهه عن سيد المرسلين وإمام المتقين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، وأخذ معروف أيضاً عن داود الطائي، عن حبيب العجمي عن سيد التابعين الحسن البصري عن علي عليه السلام، عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكان لباسه الخرقة أعاد اللّه عليه من بركاتها، وعلى جميع من تشرف بها في العشرين من شهر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة بدمشق المحروسة. وبين الأسطر بخط المولى صدر الدين شيخ الشيوخ ما هذا مثاله ألبست الخرقة للمذكور وفقه اللّه تعالى، وكتب ابن حمويه أبو الحسن بن عمر بن أبي الحسن بن محمد في شهر رمضان سنة خمس عشرة وستمائة، حامداً لربه ومصلياً على رسوله، ومستغفراً من ذنوبه، ولما كان في سنة ست عشرة وستمائة ، وصل إلى عمي كتاب من الملك الصالح إسماعيل ابن الملك العادل بخطه، وهو يطلب منه أن يتوجه إليه إلى مدينة بصرى ليعالج والدته، ومرضى أُخر عنده ويعود، وكان قد عرض في بصرى وباء عظيم فتوجه إليه وعالج والدته، فصلحت في مدة يسيرة، وأنعموا عليه بالذهب والخلع، وعرضت لعمي حمى حادة فعاد إلى دمشق، ولم يزل المرض يتزايد به، وأعيان الأطباء ومشايخهم يلازمونه إلى أن انقضت مدة حياته، وكانت وفاته رحمه اللّه في الساعة الثانية من يوم الاثنين سابع عشر شعبان سنةست عشرة وستمائة، وله من العمر ثمان وثلاثون سنة، ودفن عند أبيه وأخيه في ظاهر باب الفراديس، ومن كلامه في الحكمة، مما سمعته منه، رحمه اللّه، فمن ذلك وصية أول النهار قال قد أقبل هذا النهار وأنت فيه مهيأ لكل فعل، فاختر لنفسك أفضلها لتوصلك إلى أفضل الرتب، وعليك بالخير فإنه يقربك من اللّه ويحببك إلى الناس، وإياك والشر فإنه يبعدك عن اللّه ويبغضك إلى الناس، وافعل ما تحاسب نفسك عليه عند انقضاء هذا النهار، والحذر من أن يغلب شرك على خيرك، وليس الفاضل من بقي على حالة الطبيعية مع عدم المؤذيات بل الفاضل من بقي عليها مع وجود المؤذيات، والانقطاع عن الناس أكبر مانع للأذى، واقبل وصايا الأنبياء، واقتد بأفعال الحكماء، وعليك بالصدق فإن الكذب يصغر الإنسان عند نفسه فضلاً عن غيره، واحلم تشكر، وتفضل فإن الحقد يعجل الهم، ويوقع في العداوات والشرور، وكذلك الحسد، وتجنب الأشرار تكفَ الأذى، وابعد عن أرباب الدنبا تكفَ الأشرار، واقنع من دنياك بما تدفع به ضرورة بدنك، واعلم أن نهارك هذا قطعة تذهب من حياتك، فأنفقها فيما يعود عليك نفعه، وإذا اندفعت ضرورة بدنك اقض باقي نهارك في مصلحة نفسك، وافعل بالناس ما تشتهي أن يفعلوه بك، وإياك والغضب والمبادرة إلى الانتقام من المغضب أو الانفصال عنه، فإنه ربما أوقع في الندم، وعليك بالصبر فإنه رأس كل حكمة.

وصية أول الليل قد انقضى نهارك بما فيه، وأقبل عليك هذا الليل، وليس لك فيه فعل بدني ضروري، فاعطف على مصلحة نفسك بالاشتغال في العلم، والفكر في الاطلاع على الحقائق، ومهما استطعت اليقظة في ذلك فافعل، فإذا أردت النوم فاجعل في نفسك ملازمة ما أنت فيه لتكون رؤياك من هذا الجنس، وافعل ما تحاسب نفسك عليه عند الصباح، واحرص أن تكون في غدك أفضل من يومك المنقضي، وإياك أن تجدبك الطباع إلى الفكر فيما عاينته في نهارك من أحوال أرباب الدنيا فتضيع وقتك، وتنفتح لك أبواب الخداع والحيل والمكر في تحصيل أمور الدنيا، وتظلم نفسك، وتفسد حالك، وتبعد عن الحقائق، وتكتسب الأخلاق المذمومة، ويعسر تخلصك منها، لكن اعلم أن هذه أعراض زائلة لا فائدة فيها، وإن ضرورات الإنسان قليلة جداً، وفكر فيما يعود على نفسك نفعه، وتهيأ للقاء اللّه فإن علمك بموتك متى يكون، مستوراً عنك، وما جاؤوك في أن يأتي يوم آخر عليك أقوى من وهمك أن تموت في هذه الليلة، فودع بالثبات على ما تنتفع به بعد المفارقة، والسلام.

وقال احترم المشايخ ولو سكتوا عن جواب سؤالك، فلعل ذلك لبعد العهد وكلال القوى، أو لأنك سألت عما لا يعنيك، أو معرفتهم بعجز فهمك عن الجواب، واعلم أن فوائدك منهم أكثر من ذلك.

وقال اشتغل بكلام المشهورين الجامعة أولاً، فإذا حصلت الصناعة، فاشتغل بالكتب الجزئية من كلام كل قائل عارياً عن محبة أو بغضة، ثم زنه بالقياس، وامتحنه إن أمكن بالتجربة، وحينئذ اقبل الصحيح، وإن أشكل فأشرك غيرك فيه، فإن لكل ذهن خاصية بمعان دون معان.

وقال إذا أقدمك الأفاضل تقدم، وإلا تأخرت.

وقال اطلب الحق دائماً تحظ بالعلم لنفسك، وبالمحبة من الناس.

وقال طابق أعمالك الجزئية ما في ذهنك من القانون الكلي يتيقن علمك، وتجود تجربتك، وتتأكد تقدمة معرفتك، وتكثر منافعك من الناس. وقال اشتغل من الكلام بما قصد قائله التعليم، فإذا حصلت الصناعة فأكدها بالاشتغال بكلام محبي الحق مبطلي الباطل، فإذا تبرهن علمك وتيقن بحيث لا تقدح فيه الشكوك، لا يضرك حينئذ في بعض أوقاتك مطالعة كتب المتشككين والجدليين، فإن قصدهم إظهار قوتهم فيما يدعونه، سواء كانوا يعلمونه علماً يقينا أم لا، وسواء كان ما يدعونه حقاً أم باطلاً .

وقال إذا تطببت فاتق اللّه، واجتهد أن تعمل بحسب ما تعلمه علماً يقيناً، فإن لم تجد فاجتهد أن تقرب منه.

وقال إذا وصلت إلى رتبة المعلمين فلا تمنع مستحقاً وهو العاقل الذكي الخير الحكيم النفس، وامنع من سواه.

وقال إذا رأيت أدوية كثيرة لمرض واحد فاختر أوفقها في حال حال.

وقال الأمراض لها أعمار، والعلاج يحتاج إلى مساعدة الأقدار، وأكثر صناعة الطب حدس وتخمين، وقلما يقع فيه اليقين، وجزآها القياس والتجربة، لا السفسطة وحب الغلبة، ونتيجتها حفظ الصحة إذا كانت موجودة، وردها إذا كانت مفقودة، وفيهما يتبين سلامة الفطر، ودقة الفكر، ويتميز الفاعل عن الجاهل، والمجد في الطلب عن المتكاسل، والعمّال بمقتضى القياس والتجربة، عن المحتال على اقتناء المال وعلو المرتبة.وقال إن بالعلم من الطول وعسر الحصول، ولو سلك فيه الإيجاز والبيان جهد الإمكان، مع طول الأعمار ودقة الأفكار، وتعاون البشر وسلامةالفطر، ما يعجز الناظر ويذبذب الخطر.وقال انظر إلى أفعال الطبيعة إذا لم يعقها عائق، واقتد بها في أفعالك.وقال ما أحسن الصبر لولا أن النفقة عليه من العمر.وقال كلما انتظر الشيء استبعد زمانه، واستقل مقداره.وقال الخير منتظر، فالظن فيه قليل.وقال الظلم في الطباع، وإنمايترك خوف معاد، أو خوف سيف.وقال لا تتم مصلحة إلا بمفاسد. وقال القاصدون مصالحهم أكثر من المشفقين على مخلوقات اللّه تعالى بأضعاف مضاعفة.وقال إن شئت المقام بين الناس مظلوماً فاحترز منهم،أو غير مظلوم فاظلمهم، وأما الحال الوسطى فلا تطمع بها.وقال الانقطاع أفضل أوقات الحياة وقال الانقطاع أفضل السير، وقال الانقطاع نتيجة الحكمة.وقال الأردياء يطلبون مع من يفنون نهارهم في الحديث واللهو والبطالة، وأنهم متى خلوا بأنفسهم تألموا مما يجدونه في أنفسهم من الرداءة، والأخيار على خلاف ذلك لأنهم يأنسون بأنفسهم.وقال أصل كل بلية الرغبة في الدنيا، وقال طالما يلي الناس عن مصالحهم لتشبثهم بالدنيا ففاتتهم. وقال عجبي لمن لا يعلم متى يموت ويعتقد سعادة وشقاء على أي حال كانت كيف يركن إلى الدنيا ويهمل المهم من أمره، وقال ما أكثر الملتذين بالآمال من غير الشروعفي بلوغها.وقال الآمال أحلام اليقظان. وقال لكل وقت أشغال كثيرة فليفعل فيه أهمها. وقال كيف حال من يهمل مهماته في أوقاتها مؤملاً أن ستأتي أوقات أخرى لها مدافعاً من كل وقت إلى غيره، إلى أن يموت مؤملاً، وقال ما دمت في حال تقدر على تدبير جسدك ورياضة نفسك، بحسب استعدادهما، غير مقتر ولا مسرف فلا تنتقل إلى غيره، فإن لك محركاً لو رمت السكون لما أمكنك، وكم من متنقل إلى حال خالها أفضل ألفاها أخس، وقال لا تعاد السعيد فضد السعيد الشقي، وقال إن ألقى كلِّ من عدوين همته على الآخر أسعدهما جداً يقهر عدوه، ولذلك أمر بإجماع الهمم عند طلب الأمور العظيمة لتقوم مقام الهمة الواحدة المعانة بالتأييد السماوي، وقال احرص على اتخاذ الناس إخواناً، وإياك وسهام الهمم فإنها صائبة، وقال احذروا أذية العلماء فإنهم آل اللّه، وقال ما ظلم ذو علم حقيقي إلا كشف اللّه ظلامته ونره، وخذل ظالمه قريباً، وقال إن للّه أحباباً يحرسهم بعينه التي لا تنام هم العلماء، وقال العلماء هم السعداء على الحقيقة، وقال سعداء الدنيا على اصطلاح الجمهور، ما لم تصدر عنهم الخيرات فهم الأشرار، وقال قد ينطق إنسان في وقت ما بالحكمة، فإذا طلب من نفسه ذلك في وقت آخر لم يجده، وقال من صاحب الجهال على جهالتهم، وجذبه حب الدنيا إلى الحضور في مجالسهم فناله شرهم فليسلم نفسه، وقال أصلح الميزان ثم زن به، وقال إذا صرت ذا عقل هيولاني صرت إنساناً بالفعل بقول مطلق، وقال ثق بعلمك إذا لم يقدح فيه الاعتراض، وقال نعم الرأي الواحد، وقال نعم الرأي المتناسب، وقال العمل في الرأي بحسب غاية تصدر به، لا بحسب المصلحة المطلقة، وقال نعم الرأي الحادث بين المستشير الصادق، والمستشار الأمين العاقل، وقال لا تثق إلا بمعتقد في شيء ما يرجوه، ويخافه متيقن أنه لا حق إلا اعتقاده، فأما الشاك فيما يعتقده، أو من لا يعتقد شيئاً البتة فلا تثق به، ولا تتخذه صاحباً، وذلك المعتقد المتيقن اعتقاده إن كان غير أهل ملتك فاحذره أيضاً لأنه يعتقد فيك الكفر بمعتقده فيتخذك عدواً فيفعل بك فعل الأعداء، وقال ثق بالدين من أهل دينك، وقال تيقن أن صحة الاعتقاد سبب لملازمة الأعمال الدينية وملازمة الأعمال الدينية قد تكون دليلاً على تيقن صحة الاعتقاد؛ وقد يفعلها فاعلها تابعاً لغيره، غير عالم بشيء آخر؛ وقد يفعلها تقية، وعلامتها إذا كانت تابعة لتيقن صحة الاعتقاد ظهور الآثار الإلهية عليها، وعدل سائر سيرة فاعلها من نفسه مع جميع المخلوقات،  وقال الحرية نعم العيش، وقال القناعة باب الحرية، وقال من قدر على العيش الكفاف بحسب ضروراته، ثم ملك نفسه لغير رغبة في فضول العيش فهو أحمق الحمقاء، وقال ما أقل ضرورات الإنسان لو أنصف نفسه، وقال، اجتنب الإلف بأهل الدنيا فإنهم يشغلونك إن وجدتهم، ويحزنونك إن فقدتهم، وقال اصحب عند ضجرك من تبعدك صحبته مما كنت فيه، وقال فقد الخليل مؤذن بالرحيل، وقال الحكيم إن أسأت إليه أو توهم أنك أسأت إليه وإن لم تسيء، فقد تنتفع عنده بالتنصل إن كنت بريئاً وبالاعتذار إن كنت مسيئاً، فأما الحقود فمتى أشعرت بأنه توهم منك إساءة، عدم نفع أو مخالفة أمر، فاحذره فإنه لا يزال في خاطره التدبير في أذيتك، وقال الأصدقاء كنفس واحدة في أجساد متفرقة، وقال الطبيب مدبر لبدن الإنسان من حيث هو مقارن لنفسه،و لا من حيث هو بدن إنسان بالقول المطلق، وهذا التركيب من أشرف التراكيب فينبغي أن يكون معانيه من أشرف الناس، وقال المال مغناطيس أنفس الجهلاء، والعلم مغناطيس أنفس العقلاء، وقال رأيت الجهلاء يعظمون أرباب الأموال، مع تيقنهم أنهم لا ينيلونهم منه شيئاً إلا ثمن متاع، أو أجرة صناعة، كما ينالونه من الفقراء، وقال خير العلماء من ناسب علمه عقله، وقال إذا أمكن الانقطاع من الناس بأقل المقنعات فهو أفضل الأحوال، وقال إذا كنت تشفق على مالك فلا تنفق شيئاً منه إلا في المهم، فأحرى أن تفعل ذلك في عمرك، وقال الحكمة الاقتداء باللَّه تعالى، وقال إنما يطلع الإنسان على عيوب نفسه من اطلاعه على عيوب الناس، وقال إذا لزمت نفسك الخلق الجميل فكأنك أكرمتها غاية الكرامة، وذلك أنك إذا لم تغضب مثلاً والناس كلهم يغضبون فأنت أفضل الناس من هذا الوجه، وقال بقدر ما لكل ذات من الكمال لها من اللذة؛ بقدر ما في كل ذات من النقص فيها من الألم، وقال أكثر من مطالعة سير الحكماء واقتد منها بما يمكن الاقتداء به في زمانك، وقال قو نفسك على جسدك، وقال أصلح كيفية الغذاء واقتصد في كميته، وقال اكتف من غذاء الجسم بما يحفظ قواه، وإياك والزيادة فيها واستكثر من غذاء النفس، وقال غذاء النفس بالعلوم على التدريج فابتدئ بالسهل القليل وتدرج، فإنها تشتاق حين تقوى، وتعتاد إلى الصعب الكثير، فإذا صار لها ملكة سهل عليها كل شيء، قال المعدة القوية تهضم جميع ما يرد إليها من أنواع الأغذية؛ والنفس الفاضلة تقبل جميع ما يرد عليها من العلوم، وقال ما لم تطق التوحد فأنت مضطر إلى مصاحبة الناس، وقال صاحب الناس بما يرضيهم، ولا تطرح جانب اللَّه تعالى، وقال كتب بعضهم إلى شيخه يشكو تعذر أموره فكتب إليه إنك لن تنجو مما تكره حتى تصبر عن كثير مما تحب؛ ولن تنال ما تحب حتى تصبر على كثير مما تكره، والسلام، وقال اشكر المحسن ومن لا يسيء، واعذر الناس فيما يظهر منهم ولا تلمهم، فلكل من الموجودات طبع خاص، وقال، استحسن للناس ما تستحسنه لنفسك، واستقبح لنفسك ما تستقبحه لهم، وقال لا تخل فعلاً من أفعالك من تقوى اللَّه تعالى، وقال أطع اللَّه محقاً يطعك الناس، وقال لا شيء أنجع في الأمور من الهمة الصادقة، وقال خذ من كل شيء ما يوصلك إلى الغاية التي وضع من أجلها، وقال كل مايحصل بالعرض فلا تثق به،وقال اخضع للناس وخاصة العلماء والمشايخ، ولا تزدر أحداً، فطالما كتم العالم علمه ليتخير له من يودعه إياه كما يتخير الفلاح الأرض، وقال اشتغل من كل علم بكلام أربابه الأول، وقال استكثر من العناية بالكتب الإلهية المنزلة ففيها كل حكمة، وقال أكثر من صحبة المشايخ فإما أن تستفيد من علمهم وإما من سيرتهم، وقال إذا تأملت حركات الفضلاء وسكناتهم وجدت فيها حكماً جمة، وقال رأيت المهم عند أكثر الناس ما يجتلبون به المال، وقال ما أكثر ما يسمع الناس الوصايا النبوية والحكمية، ولا يستعملون منها إلا ما يجتلبون به المال، وقال ما أشد ركون الناس إلى اللذات الجسمانية، وقال لا تخل وقتك الحاضر من الفكر في الآتي، وقال من لم يفكر في الآتي أتى قبل أن يستعد له، وقال القناعة سبب كل خير وفضيلة، وقال وبالقناعة يتوصل إلى كل مطلوب، وقال القانع مساعد على بلوغ مآربه، وقال اقصد من الكمال الإنساني الغاية القصوى، فإن لم يكن في قوتك الوصول إليها فإنك تصل إلى ما في قوتك أن تصل إليه، وإذا قصدت الكمال التالي لكمالك آملاً إذا وصلته أن تقصد ما يليه، فربما ركنت إلى الراحة وقنعت بدون ما تستحقه، وقال احرص على أن لا تخل بشيء من العبادات البدنية فإنها نعم المعين الموصل إلى العبادات النفسانية، وقال كفى بالوحدة شرفاً أن اللَّه تعالى واحد، وقال كلما تمحضت الوحدة كانت أشرف، لأن وحدة اللَّه تعالى لا يشوبها كثرة من وجه أصلاً، وقال اعتصم باللّه تعالى، وتوكل عليه، وثق به محقاً، يحرسك ويكفيك كل مؤونة، ولا يخيب لك ظناً، وقال اجعل الملة عضدك، وأهلها إخوانك، ولا تركن إلى الدول، فإن الملل هي الباقية، وقال عود نفسك الخير علماً وعملاً تلق الخير من اللَّه تعالى، ومن الناس عاجلاً وآجلاً، وقال لا تطمع بالانقطاع ما دام لك أدنى طمع، وقال لو وقف الضعيف عند قدره لأمن كثيراً من الأخطار، وقال ليت شعري بما أعتذر إذا علمت ولم أعمل، أرجو عفو اللَّه تعالى، ومن شعره وهو مما سمعته من لفظه رحمه اللّه فمن ذلك قال

يا صاحبي سلا الهوى وذرانـي

 

ماذا تريدا من مشوق عـانـي

لا تسألاه عن الفراق وطعـمـه

 

إن الفراق هو الممات الثانـي

نادى الحداة دنا الرحيل فودعـوا

 

ففجعت في قلبي وفي خلانـي

وسرت ركائبهم وقد غسق الدجى

 

فأضاء ممن سار في الأظعـان

ما كنت أعلم أن بعدك قاتـلـي

 

حتى فعلت وغرني سلـوانـي

وبكيت وجداَ بعد ذاك فلـم أجـد

 

أني وقد صار اللقـاء أمـانـي

وقال في صفة مجلس

سقياً ليوم تم السـرور بـنـا

 

فيه وكأس الشمول تجمعنـا

والدهر ولت عنـا حـوادثـه

 

ونحن في لذة ونـيل مـنـى

بمجلس كامل الـمـحـاسـن

 

لو به يحل الجنيد لافتـتـنـا

فكاهة بيننا وفاكـهة وكـأس

 

راح وراحة وغـــنـــا

بين ندامى مثل الشموس لهـم

 

علم وفضل ورفعة وسـنـا

حديثهم لا يمل سامعه لطيبـه

 

الـعـين تـحـسـد الأذنـا

إخوان صدق صفت ضمائرهم

 

أولو عفاف لا يضمرون خنا

أهل سماح ما أن يزال لهـم

 

صنع له في الأنام طيب ثنـا

ننشد أغزالنا ونـلـغـزهـا

 

باسم غزال أضحى يغازلنـا

في يوم دجـن تـهـمــي

 

سحائبه كأنها كف رب منزلنا

وعند مـنـقـل تـلألأ فـي

 

أرجائه الناس فهي تدفـئنـا

تجـاهـه شـادن وفـي يده

 

طير كصب لديه ذاب ضنـا

كأنه إذ غدا يقلبه في الـنـار

 

قلبي الـذي قـد ارتـهـنـا

ظلت كؤوس المـدام طـاردة

 

للهم حيث السرور عكـرنـا

نسر ما بيننـا الـحـديث ولا

 

نبديه خوف الوشاة تسمعـنـا

فما ترانا عين لـذي بـصـر

 

إلا عيون الحباب ترمـقـنـا

وأطيب العيش ما نكـتـمـه

 

خوفاً وإن كان سرنا علـنـاً

يا يومـنـا هـل نـــراك

 

ثانية ببعلبك أم تعـود لـنـا

وقال أيضاً  

أفدي رشيق القد لـيس لـه

 

في الحسن والإحسان من ند

وسنان، ما لجفون عاشـقـه

 

من رائد التسهيد، مـن بـد

وكأن ريقـتـه مـعـتـقة

 

مشمولة بالـمـاء والـنـد

لكنه أضحى يعـارضـنـي

 

بالهجر والإعراض والصد

فلأصبرن على ملالته فعسى

 

عليه تـصـبـري يجـدي

وقال أيضاً

قد رق لي ورق الحمى في لعلع

 

بالنوح في الدوح ففاضت أدمعي

ناحـت مـراء مـن حـنــين

 

قلبها ونحت نوح ثاكل مفـجـع

ودعتهم ثم رجـعـت عـادمـاً

 

قلبي وهـم يا خـيبة الـمـودع

وقلت يا روحي بيني فلقد بانـوا

 

وإن لم يرجعوا لا تـرجـعـي

وقال لغزاً في أبو الكرام

يا سائلي عمن لعينـي حـلا

 

فكر فقد جئتك بالمشـكـل

ذو تسعة تعـد لـهـا شـاء

 

في أعدادها فافهم ولا تغفل

وثامن الأحرف كالرابع المع

 

روف والـرابـع كـالأول

والسابع التاسع في خمـسة

 

وعشرة السادس فأظهره لي

وعشر ثانية إذا كـان فـي

 

خامسه كالثالث الأفـضـل

هذا اسم من أهوى فإن كنت

 

ذا معرفة فأخبر ولا تمطل

وقال لغزاً في أتش

يا سائلي عن الأقمار تحكـيه

 

مهلاً فإني طول الدهر أخفيه

مركب الاسم من تاء ومن ألف

 

وسدس ثالثه نصف لثـانـيه

وأول الاسم عشر الياء فاصغ

 

لما أقول واكتمه إني لا أسميه

وقال

حرم بعد القـوم آرابـه

 

صبُّ غدا يندب ما صابه

ودّع من يهواه ثم انثنـى

 

يعالج الموت وأسبـابـه

قال له صاحبه هـكـذا

 

جزاء من فارق أحبابـه

وقال أيضاً

ثلاثون عاماً من حياتـي مـضـت

 

وما يئست ولا نولت بعض مطالبي

تعاندني الأيام عمداً وإنني صبـور

 

على البلوى منـيع الـجـوانـب

تقربت من حظي بكـل فـضـيلة

 

وفضل فجازاني بضيق المذاهـب

ألا إن يأس النفس أوفق للـفـتـى

 

وأطيب من نجوى الأماني الكواذب

وقال أيضاً

هي الدنيا فلا تغتر منها

 

بشيء إنه عرض يزول

ولعمي رشيد الدين علي بن خليفة من الكتب كتاب الموجز المفيد في علم الحساب، أربع مقالات، ألفه للملك الأمجد صاحب بعلبك، وذلك في شهر صفر سنة ثمان وستمائة، وهم في المخيم بالطور، كتاب في الطب، ألفه للملك المؤيد نجم الدين مسعود بن الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، وقد استقصى فيه ذكر الأمور الكلية من صناعة الطب، ومعرفة الأمراض وأسبابها ومداواتها، كتاب طب السوق، ألفه لبعض تلامذته وهو يشتمل على ذكر الأمراض التي تحدث كثيراً ومداواتها بالأشياء السهلة الوجود التي قد اشتهر التداوي بها، مقالة في نسب النبض وموازنته إلى الحركات الموسيقارية، مقالة في السبب الذي له خلقت الجبال، ألفها للملك الأمجد، كتاب الأسطقسات، تعاليق ومجربات في الطب.

بدر الدين ابن قاضي بعلبك

هو الحكيم الأجل العالم الكامل بدر الدين المظفر ابن القاضي الإمام العالم مجد الدين عبد الرحمن بن إبراهيم، كان والده قاضياً ببعلبك، ونشأ هو بدمشق، واشتغل بها في صناعة الطب، وقد جمع اللّه فيه من العلم الغزير والذكاء المفرط والمروءة الكثيرة ما تعجز الألسن عن وصفه، قرأ صناعة الطب على شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه اللَّه، وأتقنها في أسرع الأوقات، وبلغ في الجزء العلمي والعملي منها إلى الغايات، وله همة عالية في الاشتغال، ونفس جامعة لمحاسن الخلال، ووجدت له في أوقات اشتغاله من الاجتهاد ما ليس لغيره من المشتغلين، ولا يقدر عليه سواه أحد من المتطببين كان لا يخلي وقتاً من التزيد في العلم والعناية في المطالعة والفهم، وحفظ كثيراً من الكتب الطبية والمصنفات الحكمية، ومما شاهدته من علو همته وجودة قريحته أن الشيخ مهذب الدين عبد الرحيم بن علي كان قد صنف مقالة في الاستفراغ، وقرأها عليه كل واحد من تلامذته، وأما هو فإنه شرع في حفظها، وقرأها عليه من خاطره غائباً من أولها إلى آخرها، فأعجب الشيخ مهذب الدين ذلك منه، وكان ملازماً له مواظباً على القراءة والدرس.

ولما خدم الشيخ مهذب الدين الأشرف موسى ابن الملك العادل، وكان في بلاد الشرق، وسافر الحكيم مهذب الدين إلى خدمته وذلك في سنة اثنتين وعشرين وستمائة، وتوجه الحكيم بدر الدين مع الشيخ مهذب الدين، ولم يقطِع الاشتغال عليه، ثم خدم الحكيم بدر الدين بالرقة في البيمارستان الذي بها، وصنف مقالة حسنة في مزاج الرقة وأحوال أهويتها، وما يغلب عليها، وأقاما بها سنين، واشتغل بها في الحكمة على زين الدين الأعمى رحمه اللَّه، وكان إماماً في العلوم الحكمية، ثم أتى بدر الدين إلى دمشق، ولما تمالك الملك الجواد مظفر الدين يونس بن شمس الدين مودود ابن الملك العادل دمشق وذلك في سنة خمس وثلاثين وستمائة استخدمه وكان حظياً عنده مكيناً في دولته معتمداً عليه في صناعة الطب، وولاه الرياسة على جميع الأطباء والكحالين والجرائحيين، وكتب له منشوراً بذلك في شهر صفر سنة سبع وثلاثين وستمائة، فجدد من محاسن الطب ما درس وأعاد من الفضائل ما دثر، وذلك أنه لم يزل محباً لفعل الخيرات، مفكراً في المصالح في سائر الأوقات.

ومما وجدته قد صنعه من الآثار الحسنة التي تبقى مدى الأيام، ونال بها من المثوبة أوفر الأقسام أنه لم يزل مجتهداً حتى اشترى دوراً كثيرة ملاصقة للبيمارستان الكبير الذي أنشأه ووقفه الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي رحمه اللَّه، وتعب في ذلك تعباً كثيراً واجتهد بنفسه وماله حتى أضاف هذه الدور المشتراة إليه وجعلها من جملته، وكبر بها قاعات كانت صغيرة للمرضى، وبناها أحسن البناء، وشيدها، وجعل الماء فيها جارياً، فتكمل بها البيمارستان وأحسن في فعله ذلك غاية الإحسان، ولم يزل يدرس صناعة الطب، وخدم أيضاً الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل، لمداواة الأدر السعيدة بقلعة دمشق، ومن يلوذ بها والتردد إلى البيمارستان ومعالجة المرضى فيه، وكتب له منشوراً برياسته أيضاً على جميع الأطباء، وذلك في سنة خمس وأربعين وستمائة. وخدم أيضاً لمن أتى بعده من الملوك الذين ملكوا دمشق، وله منهم الجاري المستمر، والراتب المستقر، والمنزلة العلية والفواضل السنية، وهو ملازم التردد إلى القلعة والبيمارستان، ودائم التزايد في العلم في سائر الأزمان، ومما وجدته من علو همته وشرف أرومته، أنه تجرد لعلم الفقه فسكن بيتاً في المدرسة القليجية التي وقفها الأمير سيف الدين علي بن قليج رحمه اللَّه، وهي مجاورة لدار الحكيم بدر الدين فقرأ الكتب الفقهية، والفنون الأدبية، وحفظ القرآن حفظاً لا مزيد عليه، وعرف التفسير والقراءات حتى صار فيها هو المشار إليه، واشتغل بذلك على الشيخ الإمام شهاب الدين أبي شامة رحمه اللّه، وليس للحكيم بدر الدين دأب إلى العبادة والدين والنفع لسائر المسلمين، ولم يزل يبلغني تفضله ويصلني إنعامه وتفضله، وكان وصل إلي من تصنيفه كتاب مفرج النفس، فكتبت إليه في رسالة وقف الملوك على ما أودعه مولانا الحكيم الإمام العالم بدر الدين أيد اللَّه سعادته، وأدام سيادته، في كتابه المعجز ولفظه الموجز الموسوم بمفرح النفس، الموجد للسرور والأنس الذي أربى به على القدماء، وعجز سائر الأطباء والحكماء، وتقلبت الأدوية القلبية منه فرقاً، وصار الرئيس مرؤوساً في هذا المرتقى، ولا غرو صدور مثله عن مولانا وهو شيخ الأوان وعلاّمة الزمان، فاللّه يجعل حياته مقروناً بها السعادة، ويملأ الآفاق من تصانيفه لتكثر منها الإفادة.

وكتبت في هذه الرسالة إليه هذه الأبيات ونظمتها بديها

تكـاد لـنـور بـدر الــد

 

ين تخفى طلعة الـشـمـس

حكـيم فـاضـل حـبــر

 

شريف الخـيم والـنـفـس

وأدرى الـنــاس فـــي

 

طب وعلم النبض والحبـس

خبـير بـالـتـداوي عــن

 

يقـين لـيس عـن حـدس

فمـن بـقـراط والـشـيخ

 

من الـيونـان والـفــرس

فكـم أوجـد مـن بـــرء

 

وكم أنـقـذ مـن عـكـس

سمـا فـي الـرأي عــن

 

قيس وفي الألفاظ عن قـس

وقد أهـدى إلـى قـلـبـي

 

كتاب مـفـرح الـنـفـس

كتــاب حـــل تـــأييد

 

به فـي عـالـم الـقـدس

تجـلـى نـور مـعـنــاه

 

لنا في ظـلـمة الـنـفـس

ومـا أحـســن زهـــر

 

الخط في روض من الطرس

بدت أبـكـار أفــكـــار

 

فكان الطرف فـي عـرس

ومـا أكـثـر لـي فـــيه

 

من الــراحة والأنـــس

وقد قـابـلـت مـا يحـويه

 

بالـتـقـبـيل والــدرس

فأجـنـي مـنـه أثـمـاراً

 

حلت من طـيب الـفـرس

مما كتبته إليه أيضاً في كتاب

مولاي بـدر الـدين يا مـن

 

له فضائل تتلى وإحـسـان

ومن علا في المجد حـتـى

 

لقد قصر عن علياه كـيوان

ومن إذا قال فمن لـفـظـه

 

يحسب ذيل العي سحـبـان

شوقي إلى لـقـياك قـد زاد

 

عن حد وصدق الود برهـان

لم تخل عن فكري ومـالـي

 

بما أنعمت طول الدهر نسيان

أدام اللّه أيام المجلس السامي، الأجلي المولوي، الحكيمي العالمي، الفاضلي الصدري، الكبيري المخدومي، علامة عصره، وفريد دهره، بدر الدنيا والدين، عمدة الملوك والسلاطين، خالصة أمير المؤمنين، حرس اللّه معاليه، وبلغه في الدارين نهاية أمانيه، وكبت حسدته وأعاديه، ولا زالت السعادة مخيمة بفنائه، والألسن مجتمعة على شكره وثنائه، المملوك ينهي أن عنده من تزايد الأشواق إلى الخدمة ما لو أن له فصاحة الشيخ الرئيس مع طول عبارة الفاضل جالينوس، لقصر عن ذكر بعض ما يجده من برح لأشواق، ومكابدة ما يشكوه من ألم الفراق، وهو يبتهل إلى اللّه تعالى في تسهيل الاجتماع السار، وتيسير اللقاء على الاختيار والإيثار، ولما اتصل بالملوك ما صار إلى المولى من رياسته على سائر الأطباء، وما خصهم اللّه تعالى بذلك من النعمة، وأسبغ عليهم من زيل الآلاء، وجد نهاية الفرح والسرور، وغاية ما يتوخاه من الحبور، وتحقق أن اللَّه تعالى قد نظر إلى الجماعة بعين رعايته، وشملهم بحسن عنايته؛ وأن هذه الصناعة قد علا مقدارها، وارتفع منارها، وصار لها الفخر الأكبر والفضل الأكثر، والسعد الأسمى، والمجد الأسنى؛ وقد شرف وقتها به على سائر الأوقات، وصارت حال العلم حينئذ على خلاف ما ذكره ابن الخطيب في الكليات، فلله الحمد على ما أولى من نعمه الشاملة، ومننه الكاملة، والمولى هو من جعلت أمور هذه الصناعة لديه، وفوضت رياسة أهلها وأربابها إليه.

ولم تك تصلح إلاَّ له

 

ولم يك يصلح إلا لها

فإن شواهد المجد لم تزل توجد من شمائله، وأعلام السؤدد تدل على فضائله وفواضله، فاللّه تعالى يؤيده فيما أولاه، ويسعده في آخرته وأولاه، إن شاء اللّه تعالى، ومما قلته أيضاً، وكتبت به إليه في سنة خمس وأربعين وستمائة.

لمملوك يقبل اليد المولوية الحكيمية، الأجلية العالمية، والفاضلية الرئيسية، الصدرية الأوحدية البدرية، أدام اللَّه لها التأييد والنعماء، وضاعف من منائحها على أوليائها الآلاء، وكَبَت بدوام سعودها الحسدة والأعداء، ولا زالت في نعم متوالية، وعوارف دائمة وغير زائلة، ما تتابعت الأيام في السنين، وتلازمت حركة القلب والشرايين، ويواظب لمولانا بحسن الدعاء الذي ما زال عرف أنفاسه متضوعاً، والثناء الذي ما انفك أصله الثابت متفرعاً متنوعاً، ويواصل بالمحامد التي ما برح نشرها في مجالس المجد والشكر نافحاً متأرجحاً، والمدائح التي ما فتئ وجه محاسنها أبداً متبرجاً متبلجاً، وينهي ما عنده من كثرة الأشواق والأتواق التي تستوعبها العبارة ولا تسعها الأوراق، غير أنه يعول على إحاطة علم مولانا بصدق محبته وولائه، واعتداده بجزيل أياديه وآلائه، وإن كتاب والد المملوك ورد إليه ببشارة ملأت قلبه سروراً، ونفسه حبوراً بنظر مولانا في سائر الأطباء ورياسته، واشتماله عليهم بحسن رعايته وعنايته، ووصف من إنعام مولانا عليه وإحسانه إليه، ما المعهود من إحسانه، والمشهور من تفضله وامتنانه، ومولانا فهو أعلم بطرق الكرم، وأدرى بأن المعارف في أهل النهي ذمم، فاللَّه يجعل مولانا أبداً فاعلاً للخيرات، بالغاً في المعالي أرفع الدرجات، دائم السعادة موقى من الآفات

وهذا دعاء لو سكت كفـيتـه

 

لأني سألت اللّه فيك وقد فعل

ومولانا فتتجمل به المناصب العالية، وتتشرف بحسن نظره المراتب السامية، فإنه قد سما بفضله وأفضاله، على كل من عرف الفضل واشتهر، وتميز على أبناء زمانه بمحاسن الآداب وميامن الأثر، وهذا هنا عام لسائر الأطباء، وجملة الأولياء والأحباء،

وتقاسم الناس المسرة بينهم

 

قسماً فكان أجلهم حظاً أنا

المملوك يجدد تقبيل اليد المولوية للنعم، ويستعرض الحوائج والخدم،ولبدر الدين ابن قاضي بعلبك من الكتب مقالة في مزاج الرقة، وهي بليغة في المعنى الذي صنفت فيه، كتاب مفرج النفس استقصى فيه ذكر الأدوية والأشياء القلبية على اختلافها وتنوعها، وهو مفيد جداً في فنه، وصنفه للأمير سيف الدين المشد أبي الحسن علي بن عمر بن قزل رحمه اللَّه، كتاب الملح في الطب، ذكر فيه أشياء حسنة، فوائد كثيرة من كتب جالينوس وغيرها.

شمس الدين محمد الكلي

هو الحكيم الأجل الأوحد العالم أبو عبد اللَّه محمد بن إبراهيم بن أبي المحاسن، كان والده أندلسياً من أهل المغرب، وأتى إلى دمشق وأقام بها إلى أن توفي رحمه اللَّه، ونشأ الحكيم شمس الدين محمد بدمشق، وقرأ صناعة الطب على شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي رحمه اللّه، ولازمه حق الملازمة، وأتقن عليه حفظ ما ينبغي أن يحفظ من الكتب الأوائل التي يحفظها المشتغلون في الطب، وبالغ الحكيم شمس الدين في ذلك حتى حفظ أيضاً الكتاب الأول من القانون، وهو الكليات جميعها، حفظاً متقناً لا مزيد عليه، واستقصى فهم معانيه، ولذلك قيل له الكلي، وقرأ أيضاً كثيراً من الكتب العلمية، وباشر أعمال الصناعة الطبية، وهو جيد الفهم، غزير العلم، لا يخلي وقتاً من الاشتغال، ولا يخل بالعلم في حال من الأحوال، حسن المحاضرة، مليح المحاورة، وخدم بصناعة الطب الملك الأشرف موسى بن الملك العادل بدمشق، ولم يزل في خدمته إلى أن توفي الملك الأشرف رحمه اللَّه، ثم خدم بعد ذلك في البيمارستان الكبير الذي أنشأه الملك العادل نور الدين بن زنكي رحمه اللَّه وبقي مدة وهو يتردد إليه ويعالج المرضى فيه.

موفق الدين عبد السلام

لقد جمع الصناعة الطبية، والعلوم الحكمية، والأخلاق الحميدة والآراء السديدة والفضائل التامة والفواضل العامة، أصله من بلد حماة وأقام بدمشق واشتغل على شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي وعلى غيره، وتميز في صناعة الطب، ثم سافر إلى حلب وتزيد في العلم، وخدم الملك الناصر يوسف بن محمد بن غازي صاحب حلب، وأقام عنده، ولم يزل في خدمته إلى أن تملك الملك الناصر يوسف بن محمد دمشق فأتى في صحبته، وكان معتمداً عليه، كثير الإحسان إليه، وقلت هذه القصيدة أتشوق فيها إلى دمشق وأصفها وأمدحه بها

لعل زماناً قد تـقـضـى بـجـلـق

 

يعود وتدنو الدار بـعـد الـتـفـرق

وأن تـسـمـح الأيام مـن بـعــد

 

جورها بعدل وأني بالأحبة نلـتـقـي

فكم لي إلى أطلالهـا مـن تـشـوف

 

وكم لي إلي سكانهـا مـن تـشـوق

ترنحني الذكرى إليه تشـوقـاً كـمـا

 

رنحت صرف المـدام الـمـعـتـق

ومن عجب نار اشتياق بـأضـلـعـي

 

لها لهب من دمعي الـمـتـرقـرق

لقد طال عهدي بالديار وأهلهـا وكـم

 

من صروف البين قلبي قـد لـقـي

ولو كان للمرء اختيار وقـدرة لـقـد

 

كان مـن كـل الـحـوادث يتـقـي

ولكنها الأقدار تحـكـم فـي الـورى

 

وتقضي بأمر كنـهـه لـم يحـقـق

دمشق هي القصوى لمن كان قصـده

 

يرى كل حسن في البلاد وينـتـقـي

فصفها إذا مـا كـنـت بـالـعـقـل

 

حاكماً فوصف سواها من قبيل التحمق

وما مثلها فـي سـائر الأرض جـنة

 

فدعِ شعبَ بوّان وذكر الـخـورنـق

بها الحور والولدان تبـدو طـوالـعـاً

 

شموساً وأقماراً بـأحـسـن رونـق

وأنهارها ما بين مـاد مـسـلـسـل

 

من الريح أو ماء من الدفق مطـلـق

وأشجارها من كل جنـس مـقـسـم

 

وأثمارها من كـل نـوع مـنـمـق

وللطير من فوق الغصـون تـجـاوب

 

فما أسجع الورقاء من فوق مـورق

ولما قصد التردد إلى دمشق وسمع بذلك أهلها، توجه الحكيم موفق الدين إلى مصر، وأقام بها مدة، ثم خدم بعد ذلك الملك المنصور صاحب حماة، وأقام عنده بحماة، وله منه الإحسان الكثير، والفضل الغزير، والآلاء الجزيلة، والمنزلة الجليلة.

موفق الدين المنفاخ

هو الحكيم العالم الأوحد أبو الفضل أسعد بن حلوان، أصله من المزة، واشتغل بصناعة الطب وتمهر فيها وتميز في أعمالها، وخدم الملك الأشرف موسى بن أبي بكر بن أيوب في الشرق وبقي في خدمته سنين وانفصل عنه، وكانت وفاته في حماة سنة اثنتين وأربعين وستمائة.

نجم الدين بن المنفاخ

هو الحكيم الأجل العالم الفاضل أبو العباس أحمد بن أبي الفضل أسعد بن حلوان،ويعرف بابن العالمة لأن أمه كانت عالمة دمشق، وتعرف ببنت دهين اللوز، ونجم الدين مولده بدمشق في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، وكان أسمر اللون نحيف البدن حاد الذهن مفرط الذكاء فصيح اللسان كثير البراعة، لا يجاريه أحد في البحث ولا يلحقه في الجدل، واشتغل على شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي بصناعة الطب حتى أتقنها، وكان متميزاً في العلوم الحكمية، قوياً في علم المنطق، مليح التصنيف، جيد التأليف، وكان فاضلاً في العلوم الأدبية، ويترسل ويشعر، وله معرفة بالعود، حسن الخط، وخدم بصناعة الطب الملك المسعود صاحب آمد، وحظي عنده واستوزره، ثم بعد ذلك نقم عليه وأخذ جميع موجوده، وأتى إلى دمشق وأقام بها، واشتغل عليه جماعة بصناعة الطب، وكان متميزاً في الدولة وكتب إليه الصاحب جمال الدين بن مطروح في جواب كتاب منه

للّه در أنـامـل شـرفـت

 

وسمت فأهدت أنجماً زهرا

وكتابة لو أنها على الـمـل

 

كين ما ادعيا إذن سحـرا

لم أقر سطراً من بلاغتهـا

 

إلا رأيت الآية الكـبـرى

فاعجب لنجم في فضائلـه

 

أنسى الأنام الشمس والبدرا

وكان نجم الدين رحمه اللَّه لحدة مزاجه قليل الاحتمال والمداراة، وكان جماعة يحسدونه لفضله ويقصدونه بالأذية وأنشدني يوماً متمثلاً

وكنت سمعت أن الجـن عـن

 

د استراق السمع ترجم بالنجوم

فلما أن علوت وصرت نجمـا

 

رميت بكل شيطـان رجـيم

وفي آخر عمره خدم الملك الأشرف ابن الملك المنصور صاحب حمص بتل باشر، وأقام عنده مديدة يسيرة، وتوفي رحمه اللَّه في ثالث عشر ذي القعدة سنة اثنتين وخمسين وستمائة، وحكى لي أخوه لأمه القاضي شهاب الدين بن العالمة أنه توفي مسموماً.

ولنجم الدين بن المنفاخ من الكتب كتاب التدقيق في الجمع والتفريق، ذكر فيه الأمراض وما تتشابه فيه، والتفرقة بين كل واحد منها وبين الآخر مما تشابه في أكثر الأمر، كتاب هتك الأستار في تمويه الدخوار تعاليق ما حصل له من التجارب وغيرها، وشرح أحاديث نبوية تتعلق بالطب، كتاب المهملات في كتاب الكليات، كتاب المدخل إلى الطب، كتاب العلل والأعراض، كتاب الإشارات المرشدة في الأدوية المفردة.

عز الدين بن السويدي

هو الحكيم الأجل الأوحد العالم أبو إسحاق إبراهيم بن محمد، من ولد سعد بن معاذ من الأوس مولده في سنة ستمائة بدمشق، ونشأ بها وهو علامة أوانه، وأوحد زمانه، مجموع الفضائل، كثير الفواضل، كريم الأبوة عزيز الفتوة، وافر السخاء حافظ الإخاء، واشتغل بصناعة الطب حتى أتقنها إتقاناً لا مزيد عليه، ولم يصل أحد من أربابها إلى ما وصل إليه، قد حصل كلياتها، واشتمل على جزئياتها، واجتمع مع أفاضل الأطباء، ولازم أكابر الحكماء، وأخذ ما عندهم من الفوائد الطبية، والأسرار الحكمية، مثل شيخنا الحكيم مهذب الدين عبد الرحيم بن علي وغيره، وقرأ أيضاً في علم الأدب حتى بلغ فيه أعلى الرتب، وأتقن العربية وبرع في العلوم الأدبية، وشعره فهو الذي عجز عنه كل شاعر، وقصرت عنه الأوائل والأواخر، لما قد حواه من الألفاظ الفصيحة، والمعاني الصحيحة، والتجنيس الصنيع، والتطبيق البديع، فهو الجامع لأجناس العلوم، الحاوي لأنواع المنثور والمنظوم، وهو أسرع الناس بديهة في قول الشعر، وأحسنهم إنشاداً، ولقد رأيت منه في أوقات ينشد شعراً على البديهة في معان مختلفة لا يقدر عليها أحد سواه، ولا يختص بهذا الفن إلا إياه.

وكان أبوه رحمه اللَّه تاجراً من السويداء بحوران، حسن الأخلاق طيب الأعراق لطيف المقال جميل الأفعال، وكان صديقاً لأبي وبينهما مودة أكيدة وصحبة حميدة، وكنت أنا وعز الدين أيضاً في المكتب عند الشيخ أبي بكر الصقلي رحمه اللّه، فالمودة بيننا من القدم باقية على طول الزمان، نامية في كل حين وأوان، والحكيم عز الدين من أجل الأطباء قدراً، وأفضلهم ذكراً، وأعرف مداواة، وألطف مداراة، وأنجع علاجاً، وأوضح منهاجاً، ولم يزل طبيباً في البيمارستان النوري يحصل به للمرضى نهاية الأغراض في إزالة الأمراض، وأفضل المنحة في اجتلاب الصحة. وخدم أيضاً في البيمارستان بباب البريد، وتردد إلى قلعة دمشق، وكان مدرس الدخوارية، وكان له جامكية في هذه الأربع جهات، وكتب عز الدين بخطه كتباً كثيرة جداً في الطب وغيره فمنها خط منسوب طريقة ابن البواب، ومنهاخط يشابه مولد الكوفي، وكل واحد من خطيه فهو أبهى من الأنجم الزواهر، وأزهى من فاخر الجواهر، وأحسن من الرياض المونقة، وأنور من الشمس المشرقة، وحكى لي أنه كتب ثلاث نسخ من كتاب القانون لابن سينا، ولما كان في سنة اثنتين وثلاثين وستمائة، وصل إلى دمشق تاجر من بلاد العجم، ومعه نسخة من شرح ابن أبي صادق لكتاب منافع الأعضاء لجالينوس، وهي صحيحة معقولة من خط المصنف، ولم يكن قبل ذلك منها نسخة في الشام فحملها أبي فكتب إليه عز الدين بن السويدي قصيدة مديحاً فمما على خاطري منها يقول

وامنن فأنت أخو المكارم والعلى

 

بكتاب شرح منافع الأعضـاء

وإعارة الكتب الـغـربـية لـم

 

تزل من عادة العلماء والفضلاء

فبعث إليه الكتاب وهو في جزءين فنقل منه نسخة في الغاية من حسن الخط وجودة النقط والضبط، ومن شعره وهو مما أنشدني لنفسه، فمن ذلك قال فيما يعانيه ويعنيه من كلفة الخضاب بالكتم

لو أن تغير لون شـيبـي

 

بعيد ما فات من شبابـي

لما وفى لي بما تـلاقـي

 

روحي من كلفة الخضاب

وأنشدني لما ألفت هذا الكتاب في تاريخ المتطببين المعروف بكتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء

موفق الدين بلغـت الـمـنـى

 

ونلت أعلى الرتب الفـاخـرة

حملت في التـاريخ مـن قـد

 

مضى وإن غدت أعظمه ناخرة

فخصك الـلّـه بـإحـسـانـه

 

في هذه الدنيا وفـي الآخـرة

وقال أيضاً

وناسك باطنه فـاتـك يا

 

ويح من يصغي إلى مينه

منزله أحرج من صدره

 

وخلقه أضيق من عينـه

ولعز الدين بن السويدي من الكتب كتاب الباهر في الجواهر، كتاب التذكرة الهادية والذخيرة الكافية في الطب.

عماد الدين الدنيسري

هو الحكيم العالم الأديب الأريب عماد الدين أبو عبد اللَّه محمد بن القاضي الخطيب تقي الدين عباس بن أحمد بن عبيد الربعي، ذو النفس الفاضلة، والمروءة الكاملة، والأريحية التامة، والعوارف العامة، والذكاء الوافر، والعلم الباهر، مولده بمدينة دنيسر في سنة خمس وستمائة، ونشأ بها واشتغل بصناعة الطب اشتغالاً برع به فيها وحصل جمل معانيها، وحفظ الصحة حاصلة واستردها زائلة، وأول اجتماعي به كان بدمشق في شهر ذي القعدة سنة سبع وستين وستمائة، فوجدت له نفساً حاتمية، وشنشنة أخزمية، وخلقاً ألطف من النسيم، ولفظاً أحلى من مزاج التسنيم، وأسمعني من نظمه الشعر البديع معناه، البعيد مرماه، الذي قد جمع أجناس التجنيس، وطبقات التطبيق النفيس، والألفاظ الفصيحة، والمعاني الصحيحة، فهو في علم الطب قد تميز على الأوائل والأواخر، وفي الأدب قد عجّز كل ناظم وناثر، هذا مع ما أنه في علم الفقه على مذهب الإمام الشافعي سيد زمانه وأوحد أوانه، وسافر من دنيسر إلى الديار المصرية ثم رجع إلى الشام وأقام بدمشق، وخدم الآدر الناصرية اليوسفية بقلعة دمشق، ثم خدم في البيمارستان الكبير النوري بدمشق.

ومن شعره وهو مما أنشدني لنفسه فمن ذلك قال

باللّه يا قارئاً شعري وسامعـه

 

أسبل عليه رداء الحكم والكرم

واستر بفضلك ما تلقاه من زللي

 

فإن علمي قد أثرى من العـدم

وقال أيضاً

نعم فليقل من شاء عني فـإنـنـي

 

كلفت بذاك الخال والمقلة الكحـلا

وعذبني بالصد مـنـه وكـلـمـا

 

تجنى فما أشهاه عندي وما أحلـى

وحرمت نومي بعد ما صد معرضاً

 

كما حلل الهجران أن حرم الوصلا

غزال غزا قلبي بـعـامـل قـده

 

ومكّن من أجفانه في الحشا نبـلا

فلا تعذلوني في هـواه فـإنـنـي

 

حلفت بذاك الوجه لا أسمع العذلا

وقال أيضاً

عذارك المخضـر يا مـنـيتـي

 

لما بدا في الخد ثـم اسـتـدار

وأقـام عـذري عـنـد أهــل

 

الهوى وصح ما قيل عن الأعذار

وكـان فـي ذلـك لـنــا أية

 

إذ جمع الليلُ معاً والـنـهـار

وقال أيضاً  

غزال له بين الجوانح والـحـشـا

 

مقيل وفي قلبي مكان وإمـكـان

فلا تطمع العذال مني بـسـلـوة

 

وإن رمت سلوانا فـإنـي خـوان

ففي كبدي من فرط وجدي ولوعتي

 

وفي الجفن نيران علي وطوفـان

وقال من أبيات

عشقت بدراً ملـيحـاً

 

عليه بالحسن هـالـه

مثل الغزال ولـكـن

 

تغار منه الـغـزالة

بعثت من نار وجـدي

 

مني إلـيه رسـالـه

وقلت أنت حـبـيبـي

 

ومالكي لا محـالـه

ولي علـيك شـهـود

 

معروفة بالعـدالـه

جسـمـــي يذوب

 

وجفني دموعه هطاله

وقال أيضاً

أما الحديث فعنهم مـا أجـمـلـه

 

والموت من جور الهوى ما أعدله

قل للعذول أطلت لست بسـامـع

 

بين السلوى وبين قلبي مرحـلـه

لا أنتهي من حب من أحبـبـتـه

 

ما دام قلبي والهوى في منزلـه

ظبي تفيأ بالجمال علـى الـورى

 

يا ليت شعري صدغه من أرسله

قد حل في قلبي وكل جوانـحـي

 

فدمي له في حبه من حـلـلـه

وحياة نـاظـره وعـامـل قـده

 

روحي بعارض خده متملمـلـه

هب أنني متجـنـن فـي حـبـه

 

فعذاره في خده من سلـسـلـه

وقال أيضاً

إن فاض ماء جفوني قلت من فكري

 

عليه أو غاض دمعي قلت من ناري

وكلما رمت أن أسـلـو هـواه أر

 

ى النار في حبه أولى من الـعـار

وقال أيضاً

ولقد سألت وصاله فأجابنـي

 

عنه الجمال إشارة عن قائل

في نون حاجبه وعين جفونه

 

مع ميم مبسمه جواب السائل

وقال أيضاً

في صاد مقلته إذا حققتها مع

 

نون حاجبه وميم المبـسـم

عذر لمن قد ضل فيه مولهاً

 

فعلام يعذل فيه من لم يفهم

وقال في مليح اسمه عيسى

يا من هوى الاسم المسيح وقد حوى

 

كأس الردى في الجفن والأحـداق

خالفت عيسى في الفـعـال وقـد

 

غدا يحيي وأنت تميت بالأشـواق

وقال

يا من نقض العهد مع الميثاق ها

 

حسنك زائل ووجـدي بـاقـي

إن كنت عذرت فالوفا علمني أن

 

أسلك في الهوى مع العشـاق

وقال أيضاً

مولاي وحق مـن قـضـى لـي

 

بهواك ما أسعد يوماً فيه واللَّه أراك

إن كان تلاف مهجتي فيه رضـاك

 

أتلف كبدي فالكل والـلَّـه فـداك

ولعماد الدين الدنيسري من الكتب المقالة المرشدة في درج الأدوية المفردة، كتاب نظم الترياق الفاروق، كتاب في المثروديطوس، كتاب في تقدمة المعرفة لأبقراط، أرجوزة، كتاب ديوان شعر.

موفق الدين يعقوب السامري

هو الحكيم الأجل الأوحد العالم رئيس زمانه وعلامة أوانه، أبو يوسف يعقوب بن غنائم، مولده ومنشؤه بدمشق، بارع في الصناعة الطبية، جامع للعلوم الحكمية، قد أتقن صناعة الطب علماً وعملاً، واحتوى على جملتها تفصيلاً وجملاً، محمود المداواة مشكور، متعين عند الأعيان متميز في سائر الأزمان، مؤيد في اجتلاب الصحة وحفظها في الأبدان، واشتغل عليه جماعة من المتطببين، وانتفع به كثير من المتطلبين وله التصانيف التي هي فصيحة العبارة، صحيحة الإشارة، قوية المباني، بليغة الماني، ولموفق الدين يعقوب السامري من الكتب شرح الكليات من كتاب القانون لابن سينا، وقد جمع فيه ما قاله ابن خطيب الري في شرحه للكليات، وكذلك ما قاله القطب المصري في شرحه لها، وما قاله غيرهما، وحرره في أقوالهم من المباحثات، وقد أجاد في تأليفه، وبالغ في تصنيفه، حل شكوك نجم الدين بن المنفاخ على الكليات، كتاب المدخل إلى علم المنطق والطبيعي والإلهي.توفي في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين وستمائة.

أبو الفرج بن القف

هو الحكيم الأجل العالم أيمن الدولة أبو الفرج ابن الشيخ الأوحد العالم موفق الدين بن إسحاق بن القف من نصارى الكرك، مولده بالكرك في يوم السبت ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاثين وستمائة، كان والده موفق الدين صديقاً لي مستمراً في تأكيد مودته، حافظاً لها طول أيامه ومدته؛ تستحلى نفائس مجالسته، وتستجلى عرائس مؤانسته؛ ألمعي أوانه وأصمعي زمانه، جيد الحفظ للأشعار، علامة في نقل التواريخ والأخبار، متميز في علم العربية، فاضل في الفنون الأدبية، قد اشتمل في الكتابة على أصولها وفروعها، وبلغ الغاية من بعيدها وبديعها، وله الخط المنسوب الذي هو نزهة الأبصار، ولا يلحقه كاتب في سائر الأقطار والأمصار، كان في أيام الملك الناصر يوسف بن محمد كاتباً بصرخد عاملاً في ديوان البر، وكان ولده هذا أبو الفرج تتبين فيه النجابة من صغره، كما تحققت في كبره، حسن السمت كثير الصمت، وافر الذكاء محباً لسيرة العلماء فقصد أبوه تعليمه الطب فسألني ذلك فلازمني حتى حفظ الكتب الأولة المتداولة حفظها في صناعة الطب كمسائل حنين والفصول لأبقراط، وتقدمة المعرفة له، وعرف شرح معانيها، وفهم قواعد مبانيها، وقرأ علي بعد ذلك في العلاج من كتب أبي بكر محمد بن زكريا الرازي، ما عرف به أقسام الأسقام، وجسيم العلل في الأجسام، وتحقق معاجلة المعالجة ومعاناة المداواة، وعرفته أصول ذلك وفصوله، وفهمته غوامضه ومحصوله، ثم انتقل أبوه إلى دمشق المحروسة، وخدم بها في الديوان السامي، وسار ولده معه ولازم جماعة من الفضلاء، فقرأ في العلوم الحكمية والأجزاء الفلسفية على الشيخ شمس الدين عبد الحميد الخسروشاهي وعلى عز الدين الحسن الغنوي الضرير وقرأ أيضاً في صناعة الطب على الحكيم نجم الدين بن منفاخ وعلى موفق الدين يعقوب السامري، وقرأ أيضاً كتاب أوقليدس على الشيخ مؤيد الدين العرضي، وفهم هذا الكتاب فهماً فتح به مقفل أقواله، وحل مشكل أشكاله، وخدم أبو الفرج بن القف بصناعة الطب في قلعة عجلون وأقام بها عدة سنين ثم عاد إلى دمشق وخدم في قلعتها المحروسة لمعالجة المرضى وهو محمود في أفعاله مشكور في سائر أحواله وله من الكتب كتاب الشافي في الطب، شرح الكليات من كتاب القانون لابن سينا ست مجلدات، شرح الفصول كتابين مقالة في حفظ الصحة كتاب العمدة في صناعة الجراح عشرين مقالة علم وعمل يذكر فيه جميع ما يحتاج إليه الجرائحي بحيث لا يحتاج إلى غيره، كتاب جامع الغرض مجلد واحد، حواش على ثالث القانون لم يوجد، شرح الإشارات مسودة ولم يتم، المباحث المغربية ولم تتم، توفي في جمادى الأولى سنة خمس وثمانين وستمائة واللّه أعلم.