الجزء الأول - ذكر سلطان تونس

وكان سلطان تونس عند دخولي إليها السلطان أبا يحيى ابن السلطان أبي زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم ابن السلطان أبي زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي حفص رحمه الله. وكان بتونس جماعة من أعلام العلماء، منهم قاضي الجماعة بها أبو عبد الله محمد ابن قاضي الجماعة أبي العباس أحمد بن محمد بن حسن بن محمد الأنصاري الخزرجي البلنسي الأصل، ثم التونسي هو ابن الغماز، ومنهم الخطيب أبو إسحاق إبراهيم بن حسين بن علي بن عبد الرفيع، وولي أيضاً قضاء الجماعة في خمس دول، ومنهم الفقيه أبو علي عمر بن علي بن قداح الهواري، وولي أيضاَ قضاءها وكان من أعلام العلماء. ومن عوائده أنه يستند كل يوم جمعة بعد صلاتها إلى بعض أساطين الجامع الأعظم المعروف بجامع الزيتونة، ويستفتيه الناس في المسائل. فإذا أفتى في أربعين مسألة انصرف عن مجلسه ذلك، وأظلني بتونس عيد الفطر، فحضرت المصلّى، وقد احتفل الناس لشهود عيدهم، وبرزوا في أجمل هيئة وأكمل شارة. ووافى المسجد السلطان أبو يحيى المذكور راكباً وجميع أقاربه وخواصه، وخدم مملكته مشاة على أقدامهم في ترتيب عجيب، وصليت الصلاة، وانقضت الخطبة، وانصرف الناس إلى منازلهم. وبعد مدة تعين لركب الحجاز الشريف شيخه ويعرف بأبي يعقوب السوسي من أهل أقل من بلاد إفريقية، وأكثره المصامدة. فقدموني قاضياً بينهم، وخرجنا من تونس في أواخر شهر ذي القعدة سالكين طريق الساحل، فوصلنا إلى بلدة سوسة، وهي صغيرة حسنة مبنية على شاطىء البحر، بينها وبين مدينة تونس أربعون ميلاً، ثم وصلنا إلى مدينة صفاقس وبخارج هذه البلدة قبر الإمام أبي الحسن اللخمي المالكي مؤلف كتاب التبصرة في الفقه. قال ابن جزي في بلدة صفاقس: يقول علي بن حبيب التنوخي:

 

سقياً لأرض صفـاقـس

 

ذات المصانع والمصلّى

محمى القصير إلى الخليج

 

فقصرها السامي المعلّى

بلـد يكـاد يقـول حـين

 

تزوره أهـلاً وسـهـلا

وكأنه والبـحـر يحـس

 

ر تارة عـنـه ويمـلا

صبّ يريد زيارة

 

فإذا رأى الرقباء ولّـى

 وفي عكس ذلك يقول الأديب البارع أبو عبد الله محمد بن أبي تميم وكان من المجيدين المكثرين:  

صفاقس لا صفا عيش لساكـنـهـا

 

ولا سقى أرضها غيث إذا انسكـبـا

ناهيك من بلدة من حل ساحـتـهـا

 

عانى بها العاديين الروم والعـربـا

كم ضل في البر مسلوباً بضاعـتـه

 

وبات في البحر يشكو الأسر والعطبا

قد عاين البحر من لؤم لقاطـنـهـا

 

فكلما همّ أن يدنـو لـهـا هـربـا

ثم وصلنا إلى مدينة قابس ونزلنا بداخلها، وأقمنا بها عشراً لتوالي نزول الأمطار، قال ابن جزي في ذكر قابس: يقول بعضهم:  

لهفي على طيب ليال خلت

 

بجانب البطحاء من قابس

كأن قلبي عند تذكارها

 

جذوة نار بيد القابس

ثم خرجنا من مدينة قابس قاصدين طرابلس، وصحبنا في بعض المراحل إليها نحو مائة فارس أو يزيد، وكان بالركب قوم رماة فهابتهم العرب، وتحامت مكانهم، وعصمنا الله منهم، وأظلنا عيد الأضحى في بعض تلك المراحل. وفي الرابع بعده وصلنا إلى مدينة طرابلس، فأقمنا بها مدة وكنت عقدت بصفاقس على بنت لبعض أمناء تونس، فبنيت عليها بطرابلس ثم خرجت من طرابلس في أواخر شهر المحرم من عام ستة وعشرين، ومعي أهلي، وفي صحبتي جماعة من المصامدة، وقد رفعت العلم، وتقدمت عليهم، وأقام الركب في طرابلس خوفاً من البرد والمطر، وتجاوزنا مسلاتة ومسراتة وقصور سرت. وهنالك أرادت طوائف العرب الإيقاع بنا ثم صرفتهم القدرة، وحالت دون ما راموه من أذيتنا، ثم توسطنا الغابة، وتجاوزناها إلى قصر برصيصا العابد، إلى قبة سلام، وأدركنا هنالك الركب الذين تخلفوا بطرابلس، ووقع بيني وبين صهري مشاجرة أوجبت فراق بنته وتزوجت بنتاً لبعض طلبة فاس وبنيت بها بقصر الزعافية، وأولمت وليمة حبست لها الركب يوماً وأطعمتهم، ثم وصلنا في أول جمادى الأولى إلى مدينة الإسكندرية حرسها الله، وهي الثغر المحروس، والقطر المأنوس العجيبة الشأن الأصيلة البنيان، بها ما شئت من تحسين وتحصين، ومآثر دنيا ودين، كرمت مغانيها، ولطفت معانيها، وجمعت بين الضخامة والإحكام مبانيها، فهي الفريدة في تجلي سناها، والخريدة تجلى في حلاها، الزاهية بجمالها المُغرِب، والجامعة لمفترق المحاسن، لتوسطها بين المشرق والمغرب، فكل بديعة بها اختلاؤها، وكل طرفة فإليها انتهاؤها. وقد وصفها الناس فأطنبوا، وصنفوا في عجائبها فأغربوا وحسب المشرف إلى ذلك ما سطره أبو عبيد في كتاب المسالك.

ذكر أبوابها ومرساها

ولمدينة الاسكندرية أربعة أبواب: باب السدرة وإليه يشرع طريق المغرب، وباب رشيد، وباب البحر، والباب الأخضر، وليس يفتح إلا يوم الجمعة، فيخرج الناس منه إلى زيارة القبور. ولها المرسى العظيم الشأن ولم أر في مراسي الدنيا مثله إلا ما كان من مرسى كولم وقاليقوط ببلاد الهند، ومرسى الكفار بسرادق ببلاد الأتراك ومرسى الزيتون ببلاد الصين، وسيقع ذكرها.

ذكر المنار

قصدت المنار في هذه الوجهة فرأيت أحد جوانبه متهدماً. وصفته أنه بناء مربع، ذاهب في الهواء، وبابه مرتفع على الأرض وإزاء بابه بناء بقدر ارتفاعه، وضعت بينهما ألواح خشب يعبر عليها إلى بابه، فاذا أزيلت لم يكن له سبيل. وداخل الباب موضع لجلوس حارس المنار. وداخل المنار بيوت كثيرة. وعرض الممر بداخله تسعة أشبار، وعرض الحائط عشرة أشبار، وعرض المنار من كل جهة من جهاته الأربع مائة وأربعون شبراً وهو على تل مرتفع. ومسافة ما بينه وبين المدينة فرسخ واحد في بر مستطيل يحيط به البحر من ثلاث جهات إلى أن يتصل البحر بسور البلد، فلا يمكن التوصل إلى المنار في البر إلا من المدينة وفي هذا البر المتصل بالمنار مقبرة الإسكندرية. وقصدت المنار عند عودي إلى بلاد المغرب عام خمسين وسبعمائة، فوجدته قد استولى عليه الخراب، بحيث لا يمكن دخوله ولا الصعود إلى بابه. وكان الملك الناصر رحمه الله قد شرع في بناء منار مثله بإزائه، فعاقه الموت من إتمامه.

ذكر عمود السواري

ومن غرائب هذه المدينة عمود الرخام الهائل الذي بخارجها، المسمى عندهم بعمود السواري وهو متوسط في غابة نخل. وقد امتاز عن شجراتها سمواً وارتفاعاً. وهو قطعة واحدة محكمة النحت قد أقيم على قواعد حجارة مربعة أمثال الدكاكين العظيمة ولا تعرف كيفية وضعه هنالك ولا يتحقق من وضعه. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخي الرحالين أن أحد الرماة بالإسكندرية صعد إلى أعلى ذلك العمود ومعه قوسه وكنانته واستقر هنالك وشاع خبره، فاجتمع الجمع الغفير لمشاهدته، وطال العجب منه، وخفي على الناس وجه احتياله وأظنه كان خائفاً، أو طالب حاجة، فأنتج له فعله الوصول إلى قصده لغرابة ما أتى به. وكيفية احتياله في صعوده أنه رمى بنشابة قد عقد بفوقها خيطاً طويلاً، وعقد بطرف الخيط حبلاً وثيقاً، فتجاوزت النشابة أعلى العمود معترضة عليه، ووقعت من الجهة الموازية للرامي، فصار الخيط معترضاً على أعلى العمود، فجذبه حتى توسط الحبل أعلى العمود مكان الخيط، فأوثقه من إحدى الجهتين في الأرض، وتعلق به صاعداً من الجهة الأخرى، واستقر بأعلاه وجذب الحبل، واستصحب من احتمله، فلم يهتد الناس لحيلته، وعجبوا من شأنه. وكان أمير الإسكندرية في عهد وصولي إليها يسمى بصلاح الدين وكان فيها أيضاً في ذلك العهد سلطان أفريقية المخلوع، وهو زكرياء أبو يحيى بن أحمد بن أبي حفص المعروف باللحياني. وأمر الملك الناصر بإنزاله بدار السلطنة من إسكندرية، وأجرى له مائة درهم في كل يوم. وكان معه أولاده عبد الواحد ومصري واسكندري وحاجبه أبو زكريا بن يعقوب ووزيره أبو عبد الله بن ياسين. وبالإسكندرية توفي اللحياني المذكور، وولده الاسكندري وبقي المصري بها. قال ابن جزي: من الغريب ما اتفق من صدق الزجر في اسمي ولدي اللحياني الاسكندري والمصري فمات بها، وعاش المصري دهراً طويلاً بها وهي من بلاد مصر. وتحول عبد الواحد لبلاد الأندلس والمغرب وأفريقية، وتوفي هنالك بجزيرة جربة.

ذكر بعض علماء الإسكندرية

فمنهم قاضيها عماد الدين الكندي، إمام من أئمة علم اللسان. وكان يعتم بعمامة خرقت المعتاد للعمائم لم أر في مشارق الأرض ومغاربها عمامة أعظم منها رأيته يوماً قاعداً في صدر محراب، وقد كادت عمامته أن تملأ المحراب ومنهم فخر الدين بن الريغي وهو أيضاً من القضاة بالإسكندرية فاضل من أهل العلم.

حكاية

يذكر أن جد القاضي فخر الدين الريغي من أهل ريغة، واشتغل بطلب العلم، ثم رحل إلى الحجاز، فوصل الإسكندرية بالعشي. وهو قليل ذات اليد، فأحب أن لا يدخلها حتى يسمع فالاً حسناً فقعد قريباً من بابها، إلى أن دخل جميع الناس. وجاء وقت سد الباب ولم يبق هنالك سواه فاغتاظ الموكل بالباب من إبطائه، وقال متهكماً أدخل يا قاضي فقال: قاض إن شاء الله، ودخل إلى بعض المدارس، ولازم القراءة وسلك طريق الفضلاء، فعظم صيته، وشهر اسمه، وعرف بالزهد والورع، واتصلت أخباره بملك مصر. واتفق أن توفي قاضي الإسكندرية وبها إذ ذاك الجم الغفير من الفقهاء والعلماء، وكلهم متشوف للولاية، وهو من بينهم، لا يتشوف لذلك فبعث إليه السلطان بالتقليد، وهو ظهير القضاء، وأتاه البريد بذلك، فأمر خديمه أن ينادى في الناس من كانت له خصومة فليحضر لها وقعد للفصل بين الناس. فاجتمع الفقهاء وسواهم إلى رجل منهم كانوا يظنون أن القضاء لا يتعداه، وتفاوضوا في مراجعة السلطان في أمره، ومخاطبته بأن الناس لا يرتضونه. وحضر لذلك أحد الحذاق من المنجمين فقال لهم: لا تفعلوا ذلك فإني عدلت طالع ولايته، وحققته فظهر لي أنه يحكم أربعين سنة. فأضربوا عما هموا به من المراجعة في شأنه. وكان أمره على ما ظهر للمنجم. وعرف في ولايته بالعدل والنزاهة. ومنهم وجيه الدين الصنهاجي من قضاتها مشتهر بالعلم والفضل. ومنهم شمس الدين ابن بنت التنيسي فاضل شهير الذكر. ومن الصالحين بها الشيخ أبو عبد الله الفاسي من كبار أولياء الله تعالى، يذكر أنه كان يسمع رد السلام عليه إذا سلم من صلاته. ومنهم الإمام العالم الزاهد الخاشع الورع خليفة صاحب المكاشفات. كرامة له: أخبرني بعض الثقات من أصحابه قال رأى الشيخ خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم. فقال يا خليفة: زرنا فرحل إلى المدينة الشريفة، وأتى المسجد الكريم، فدخل من باب السلام، وحيا المسجد، وسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقعد مستنداً إلى بعض سواري المسجد، ووضع رأسه على ركبتيه، وذلك يسمى عند المتصوفة الترفيق. فلما رفع رأسه وجد أربعة أرغفة، وآنية فيها لبن، وطبقاً فيه تمر، فأكل هو وأصحابه وانصرف عائداً إلى الإسكندرية ولم يحج تلك السنة. ومنهم الإمام العالم الزاهد الورع الخاشع برهان الدين الأعرج، من كبار الزهاد وأفراد العباد، لقيته أيام مقامي بالإسكندرية وأقمت في ضيافته ثلاثاً.

ذكر كرامة له: دخلت عليه يوماً فقال لي: أراك تحب السياحة والجولان في البلاد فقلت له: نعم إني أحب ذلك. ولم يكن حينئذ بخاطري التوغل في البلاد القاصية من الهند والصين. فقال لا بد لك إن شاء الله من زيارة أخي فريد الدين بالهند، وأخي ركن الدين زكرياء بالسند، وأخي برهان الدين بالصين. فإذا بلغتهم فأبلغهم مني السلام فعجبت من قوله وألقى في روعي التوجه إلى تلك البلاد ولم أزل أجول حتى لقيت الثلاثة الذين ذكرهم، وأبلغتهم سلامه. ولما ودعته زودني دراهم لم تزل عندي محوطة. ولم أحتج بعد إلى إنفاقها، إلى أن سلبها مني كفار الهنود، فيما سلبوه لي في البحر. ومنهم الشيخ ياقوت الحبشي، من أفراد الرجال. وهو تلميذ أبي العباس المرسي. وأبو العباس المرسي تلميذ ولي الله تعالى أبي الحسن الشاذلي الشهير ذي الكرامات الجليلة والمقامات العالية.

كرامة لأبي الحسن الشاذلي: أخبرني الشيخ ياقوت عن شيخه أبي العباس المرسي أن أبا الحسن كان يحج في كل سنة، ويجعل طريقه على صعيد مصر، ويجاور بمكة شهر رجب وما بعده إلى انقضاء الحج، ويزور القبر الشريف، ويعود على الدرب الكبير إلى بلده. فلما كان في بعض السنين، وهي آخر سنة خرج فيها، قال لخديمه: استصحب فأساً وقفة وحنوطاً، وما يجهز به الميت. فقال له الخديم: ولم ذا يا سيدي ؟ فقال له: في حميثرا سوف ترى. وحميثرا في صعيد مصر في صحراء عيذاب، وبها عين ماء زعاق. وهي كثيرة الضباع. فلما بلغا حميثرا اغتسل الشيخ أبو الحسن، وصلى ركعتين، وقبضه الله عز وجل في آخر سجدة من صلاته، ودفن هناك. وقد زرت قبره وعليه تبرية مكتوب فيها اسمه ونسبه متصلاً بالحسن بن علي رضي الله عنه. ذكر حزب البحر المنسوب إليه: كان يسافر في كل عام كما ذكرناه على صعيد مصر وبحر جدة، فكان إذا ركب السفينة يقرؤه في كل يوم، وتلامذته إلى الآن يقرؤنه في كل يوم، وهو هذا: يا ألله يا علي يا عظيم ياحليم يا عليم، أنت ربي وعليك حسبي، فنعم الرب ربي، ونعم الحسب حسبي، تنصر من تشاء، وأنت العزيز الرحيم. نسألك العصمة في الحركات والسكنات والكلمات والإرادات والخطرات من الشكوك والظنون والأوهام الساترة للقلوب عن مطالعة الغيوب فقد ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً، ليقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً، فثبتنا وانصرنا وسخر لنا هذا البحر، كما سخرت البحر لموسى عليه السلام، وسخرت النار لإبراهيم عليه السلام، وسخرت الجبال والحديد لداوود عليه السلام، وسخرت الريح والشياطين والجن لسليمان عليه السلام، وسخر لنا كل بحر هو لك في الأرض والسماء، والملك والملكوت، وبحر الدنيا وبحر الآخرة، وسخر لنا شيئاً يا من بيده ملكوت كل شيء. كهيعص حم عسق، انصرنا فإنك خير الناصرين، وافتح لنا فإنك خير الفاتحين، واغفر لنا فإنك خير الغفارين، وارحمنا فإنك خير الراحمين، وارزقني فإنك خير الرازقين، واهدنا ونجنا من القوم الظالمين، وهب لنا ريحاً طيبة كما هي في علمك، انشرها علينا من خزائن رحمتك، واحملنا بها حمل الكرامة مع السلامة والعافية في الدين والدنيا والآخرة، إنك على كل شيء قدير. اللهم يسر لنا أمورنا مع الراحة لقلوبنا وأبداننا، والسلامة والعافية في ديننا ودنيانا، وكن لنا صاحباً في سفرنا، وخليفة في أهلنا، واطمس على وجوه أعدائنا، وامسخهم على مكانتهم، فلا يستطيعون المضي ولا المجيء إلينا، " ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضياً ولا يرجعون " " يس " إلى " فهم لا يبصرون " شاهت الوجوه " وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً " طس طسم حم عسق " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " حم حم حم حم حم حم حم حم الأمر، وجاء النصر فعلينا لا ينصرون " حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافرالذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير " باسم الله بابنا، تبارك حيطاننا يس سقفنا. كهيعص كفايتنا. حم عسق حمايتنا: " فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم " ستر العرش مسبول علينا، وعين الله ناظرة إلينا، بحول الله لايقدر علينا " والله من ورائهم محيط بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ " " فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين " " إن وليّي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين " " فإن تولّوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم " بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهوالسميع العليم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم.

حكاية

ومما جرى بمدينة الإسكندرية سنة سبع وعشرين. وبلغنا خبر ذلك بمكة شرفها الله، أنه وقع بين المسلمين وتجار النصارى مشاجرة. وكان والي الإسكندرية رجلاً يعرف بالكركي. فذهب إلى حماية الروم، وأمر المسلمين فحضروا بين فصيلي باب المدينة. وأغلق دونهم الأبواب نكالاً لهم. فأنكر الناس ذلك وأعظموه، وكسروا الباب، وثاروا إلى منزل الوالي، فتحصن منهم، وقاتلهم من أعلاه، وطير الحمام بالخبر إلى الملك الناصر، فبعث أميراً يعرف بالجمالي، ثم أتبعه أميراً يعرف بطوغان، جباراً قاسي القلب متهماً في دينه. يقال:إنه كان يعبد الشمس. فدخلا إسكندرية، وقبضا على كبار أهلها وأعيان التجار بها، كأولاد الكوبك وسواهم. وأخذ منهم ألأموال الطائلة وجعلت في عنق عماد الدين القاضي جامعة حديد. ثم أن الأميرين قتلا من أهل المدينة ستة وثلاثين رجلاً. وجعلوا كل رجل قطعتين، وصلبوهم صفين وذلك في يوم جمعة وخرج الناس على عادتهم من الصلاة لزيارة القبور وشاهدوا مصارع القوم. فعظمت حسرتهم وتضاعفت أحزانهم. وكان في جملة أولئك المصلوبين تاجر كبير القدر يعرف بابن رواحة. وكان له قاعة معدة للسلاح. فمتى كان خوف أو قتال جهز منها المائة والمائتين من الرجال بما يكفيهم من الأسلحة. وبالمدينة قاعات على هذه الصورة لكثير من أهلها. فزل لسانه وقال للاميرين أنا أضمن هذه المدينة وكل ما يحدث فيها أطالب به، وأحوط على السلطان مرتبات العساكر والرجال. فأنكر الأميران قوله، وقالا: إنما تريد الثورة على السلطان وقتلاه. وإنما كان قصده رحمه الله إظهار النصح والخدمة للسلطان فكان فيه حتفه وكنت سمعت أيام إقامتي بالإسكندرية بالشيخ الصالح العابد المنقطع المنفق من الكون أبي عبد الله المرشدي، وهو من كبار الأولياء المكاشفين وأنه منقطع بمنية بني مرشد له هنالك زاوية، هو منفرد فيها، لا خديم له ولا صاحب. ويقصده الأمراء والوزراء، وتأتيه الوفود من طوائف الناس في كل يوم، فيطعمهم الطعام. وكل واحد منهم ينوي أن يأكل عنده طعاماً أو فاكهة أو حلوى فيأتي لكل واحد بما نواه، وربما كان ذلك في غير إبانه. ويأتيه الفقهاء لطلب الخطبة، فيولي ويعزل، وذلك كله أمر مستفيض متواتر. وقد قصده الملك الناصر مرات بموضعه. فخرجت من مدينة الإسكندرية قاصداً هذا الشيخ نفعنا الله به، ووصلت قرية تروجه " وضبطها بفتح التاء الفوقية وواو وجيم مفتوحة "، وهي على مسيرة نصف يوم من مدينة الإسكندرية. وهي قرية كبيرة بها قاضٍ ووالٍ وناظر، ولأهلها مكارم أخلاق ومروءة. صحبت قاضيها صفي الدين وخطيبها فخر الدين وفاضلاً من أهلها يسمى بمبارك، وينعت بزين الدين ونزلت بها على رجل من العباد الفضلاء كبير القدر يسمى عبد الوهاب. وأضافني ناظرها زين الدين بن الواعظ وسألني عن بلدي وعن مجباه، فأخبرته أن مجباه نحو اثني عشر ألفاً من دينار الذهب. فعجب وقال لي: رأيت هذه القرية فإن مجباها اثنان وسبعون ألف دينار ذهباً. وإنما عظمت مجابي ديار مصر لأن جميع أملاكها لبيت المال. ثم خرجت من هذه القرية، فوصلت مدينة دمنهور، وهي مدينة كبيرة، جبايتها كثيرة، ومحاسنها أثيرة، أم مدن البحيرة بأسرها، وقطبها الذي عليه مدار أمرها، " وضبطها بدال مهملة وميم مفتوحتين ونون ساكنة وهاء مضمومة بواو وراء " وكان قاضيها في ذلك العهد فخر الدين بن مسكين من فقهاء الشافعية، وتولى قضاء الإسكندرية لما عزل عنها عماد الدين الكندي بسبب الواقعة التي قصصناها . وأخبرني الثقة أن ابن مسكين أعطى خمسة وعشرين ألف درهم وصرفها من دنانير الذهب ألف دينار على ولاية القضاء بالإسكندرية. ثم رحلنا إلى مدينة فوا. وهذه المدينة عجيبة المنظر، حسنة المخبر، بها البساتين الكثيرة، والفوائد الخطيرة الأثيرة، " وضبطها بالفاء والواو المفتوحين مع تشديد الواو " . بها قبر الشيخ الولي أبي النجاة الشهير الاسم، خبير تلك البلاد، وزاوية الشيخ أبي عبد الله المرشدي الذي قصدته بمقربة من المدينة. يفصل بينها خليج هنالك. فلما وصلت، تعديتها، ووصلت إلى زاوية الشيخ المذكور قبل صلاة العصر، وسلمت عليه، ووجدت عنده الأمير سلف الدين يلملك، وهو من الخاصكية. وأول اسمه ياء وآخر الحروف كاف، ولامه الأولى مسكنة، والثانية مفتوحة، مثل الميم، والعامة تقول فيه الملك فيخطئون. ونزل هذا ألأمير بعسكره خارج الزاوية ولما دخلت على الشيخ رحمه الله قام إلي وعانقني، وأحضر طعاماً فواكلني. وكانت عليه جبة صوف سوداء فلما حضرت صلاة العصر قدمني للصلاة إماماً، وكذلك لكل ما حضرني عنده حين إقامتي معه من الصلاة. ولما أردت النوم قال لي: إصعد إلى سطح الزاوية فنم هنالك وذلك أوان القيظ فقلت للأمير: بسم الله. فقال لي: وما منا إلا له مقام معلوم. فصعدت السطح، فوجدت به حصيراً ونطعاً وآنية للوضوء، وجرة ماء وقدحاً للشرب فنمت هنالك. كرامة لهذا الشيخ: رأيت ليلتي تلك، وأنا نائم بسطح الزاوية، كأني على جناح طائر عظيم يطير بي في سمت القبلة. يتيامن ثم يشرق، ثم يذهب في ناحية الجنوب، ثم يبعد الطيران في ناحية الشرق، وينزل في أرض مظلمة خضراء، ويتركني بها. فعجبت من هذه الرؤيا، وقلت في نفسي: إن كاشفني الشيخ برؤياي فهو كما يحكى عنه. فلما غدوت لصلاة الصبح قدمني إماماً لها. ثم أتاه الأمير يلملك فوادعه وانصرف. ووادعه من كان هناك من الزوار وانصرفوا أجمعين من بعد أن زودهم كعيكات صغاراً. ثم سبحت سبحة الضحى. ودعاني وكاشفني برؤياي، فقصصتها عليه فقال سوف تحج وتزور النبي صلى الله عليه وسلم، وتجول في بلاد اليمن والعراق وبلاد الترك، وتبقى بها مدة طويلة، وستلقى به دلشاد الهندي، ويخلصك ممن شدة تقع فيها. ثم زودني كعيكات ودراهم ووادعته وانصرفت. ومنذ فارقته لم ألق في أسفاري إلا خيراً، وظهرت علي بركاته. ثم لم ألق فيمن لقيته مثله إلا الولي سيدي محمداً الموله بأرض الهند. ثم رحلنا إلى مدينة النحرارية، وهي رحبة الفناء، حديثة البناء، أسواقها حسنة الرؤية، " وضبطها بفتح النون وحاء مهمل مسكن وراءين "، وأميرها كبير القدر يعرف بالسعدي، وولده في خدمة ملك الهند، وسنذكره. وقاضيها صدر الدين سليمان المالكي من كبار المالكية سفر عن الملك الناصر إلى العراق، وولي قضاء البلاد الغربية، وله هيئة جميلة وصورة حسنة. وخطيبها شرف الدين السخاوي من الصالحين. ورحلت منها إلى مدينة أبيار، وهي قديمة البناء، أرجة الأرجاء كثيرة المساجد، ذات حسن زائد " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الباء الموحدة وياء آخر الحروف والف وراء "، وهي بمقربة من النحرارية. ويفصل بينها النيل وتصنع بأبيار ثياب حسان تعلو قيمتها بالشام والعراق ومصر وغيرها. ومن الغريب قرب النحرارية منها. والثياب التي تصنع بها غير معتبرة ولا مستحسنة عند أهلها. ولقيت بأبيار قاضيها عز الدين المليجي الشافعي، وهو كريم الشمائل كبير القدر. حضرت عنده مرة يوم الركبة، وهم يسمون ذلك يوم ارتقاب هلال رمضان. وعادتهم فيه أن يجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر من اليوم التاسع والعشرين لشعبان بدار القاضي، ويقف على الباب نقيب المتعممين، وهو ذو شارة وهيئة حسنة. فإذا أتى أحد الفقهاء أو الوجوه، تلقاه ذلك النقيب، ومشى بين يديه قائلاً: بسم الله، سيدنا فلان الدين فيسمع القاضي ومن معه فيقومون له ويجلسه النقيب في موضع يليق به. فإذا تكاملوا هنالك، ركب القاضي وركب من معه أجمعون، وتبعهم جميع من بالمدينة من الرجال والنساء والصبيان وينتهون إلى موضع مرتفع خارج المدينة، وهو مرتقب الهلال عندهم، وقد فرش ذلك الموضع بالبسط والفرش، فينزل فيه القاضي ومن معه فيرتقبون الهلال، ثم يعودون إلى المدينة بعد صلاة المغرب وبين أيديهم الشمع والمشاعل والفوانيس. ويوقد أهل الحوانيت بحوانيتهم الشمع، ويصل الناس مع القاضي إلى داره، ثم ينصرفون هكذا فعلهم في كل سنة. ثم توجهت إلى مدينة المحلة الكبيرة وهي جليلة المقدار، حسنة الآثار، كثير أهلها، جامع بالمحاسن شملها، واسمها بيّن. ولهذه المدينة قاضي القضاة ووالي الولاة وكان قاضي قضاتها أيام وصولي اليها في فراش المرض ببستان له على مسافة فرسخين من البلد، وهو عز الدين بن الأشمرين، فقصدت زيارته صحبة نائبه الفقيه أبي القاسم ابن بنون المالكي التونسي، وشرف الدين الدميري قاضي محلة منوف. وأقمنا عنده يوماً، وسمعت منه، وقد جرى ذكر الصالحين أن على مسيرة يوم من المحلة الكبيرة بلاد البرلس ونسترو، وهي بلاد الصالحين، وبها قبر الشيخ مرزوق صاحب المكاشفات. فقصدت تلك البلاد، ونزلت بزاوية الشيخ المذكور وتلك البلاد كثيرة النخل والثمار والطير البحري والحوت المعروف بالبوري ومدينتهم تسمى ملطين ، وهي على ساحل البحيرة المجتمعة من ماء النيل وماء البحر المعروفة ببحيرة تنيس . ونسترو بمقربة منها. نزلت هنالك بزاوية الشيخ شمس الدين القلوي من الصالحين، وكانت تنيس بلداً عظيماً شهيراً، وهي الآن خراب. قال ابن جزي " تنيس بكسر التاء المثناة والنون المشددة وياء وسين مهمل "، وإليه ينسب الشاعر المجيد أبو الفتح ابن وكيع، وهو القائل في خليجها:  

قم فاسقني والخليج مضطرب

 

والريح تثني ذوائب القصب

كأنها والرياح تعطـفـهـا

 

صب قنا سندسية العـذب

والجو في حلة ممـسّـكة

 

قد طرّزتها البروق بالذهب

" ونسترو بفتح النون واسكان السين وراء مفتوحة وواو مسكن "، والبرلّس بباء موحدة وراء وآخره سين مهملة، وقيده بعضهم بضم حروفه الأول الثلاث وتشديد اللام . وقيده أبو بكر بن نقطة بفتح الأولين - وهو على البحر ومن غريب ما اتفق به ما حكاه أبو عبد الله الرازي عن أبيه أن قاضي البرلس، وكان رجلا صالحاً، خرج ليلة إلى النيل. فبينما اسبغ الوضوء، وصلى ما شاء الله أن يصلي، إذ سمع قائلاً يقول:

 

لولا رجال لهم سرد يصومونـا

 

وآخرون لهم ورد يقـومـونـا

لزلزلت أرضكم من تحتكم سحراً

 

لأنكم قوم سوء لا تـبـالـونـا

قال: فتجوزت في صلاتي، وأدرت طرفي، فما رأيت أحداً، ولا سمعت حساً، فعلمت أن ذلك زاجر من الله تعالى. ثم سافرت في أرض رملة إلى مدينة دمياط. وهي مدينة فسيحة الأقطار، متنوعة الثمار، عجيبة الترتيب، آخذة من كل حسن بنصيب والناس يضبطون اسمها بإعجام الذال. وكذلك ضبطه الإمام أبو محمد عبد الله بن علي الرشاطي. وكان شرف الدين الإمام العلامة أبو محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام المحدّثين يضبطها بإهمال الدال، ويتبع ذلك بأن يقول خلاف الرشاطي وغيره. وهو أعرف بضبط اسم بلده. ومدينة دمياط على شاطىء النيل، وأهل الدور الموالية يستقون منه الماء بالدلاء وكثير من دورها بها دركات ينزل فيها إلى النيل. وشجر الموز بها كثير، يحمل ثمره إلى مصر في المراكب. وغنمها سائمة هملاً بالليل والنهار. ولهذا يقال في دمياط: سورها حلوى، وكلابها غنم. وإذا دخلها أحد، لم يكن له سبيل إلى الخروج عنها إلا بطابع الوالي فمن كان من الناس معتبراً، طبع له في قطعة كاغد، يستظهر به لحراس بابها. وغيرهم يطبع على ذراعه، فيستظهر به. والطير البحري بهذه المدينة كثير، متناهي السمن. وبها الألبان الجاموسية التي لا مثل لها في عذوبة الطعم وطيب المذاق. وبها الحوت البوري يحمل منها إلى الشام وبلاد الروم ومصر. وبخارجها جزيرة بين البحرين والنيل تسمى البرزخ. بها مسجد وزاوية، لقيت بها شيخها المعروف بابن قفل، وحضرت عنده ليلة جمعة ومعه جماعة من الفقراء الفضلاء المتعبدين الأخيار. قطعوا ليلتهم صلاة وقراءة وذكراً. ودمياط هذه حديثة البناء والمدينة القديمة هي التي خربها الإفرنج على عهد الملك الصالح. وبها زاوية الشيخ جمال الدين الساوي، قدوة الطائفة المعروفة بالقلندرية ، وهم الذين يحلقون لحاهم وحواجبهم. ويسكن الزاوية في هذا العهد الشيخ فتح التكروري.

حكاية

يذكر أن السبب الداعي للشيخ جمال الدين الساوي إلى حلق لحيته وحاجبيه أنه كان جميل الصورة حسن الوجه فعلقت به امرأة من أهل ساوة، وكانت تراسله وتعارضه في الطرق وتدعوه لنفسها، وهو يمتنع ويتهاون، فلما أعياها أمره دست له عجوزاً تصدت له إزاء دار على طريقه إلى المسجد، وبيدها كتاب مختوم. فلما مر بها قالت له: يا سيدي أتحسن القراءة ؟ قال: نعم. قالت له: الكتاب وجهه إليّ ولدي، وأحب أن تقرأه علي. فقال لها، نعم. فلما فتح الكتاب، قالت له: يا سيدي إن لولدي زوجة، وهي بأسطوان الدار، فلو تفضلت بقراءته بين بابي الدار بحيث تسمعها. فأجابها لذلك. فلما توسط بين البابين غلقت العجوز الباب، وأخرجت المرأة حواريّها فتعلقن به. وأدخلنه إلى داخل الدار. وراودته المرأة عن نفسه، فلما رأى أن لا خلاص له، قال لها: إني حيث تريدين. فأريني بيت الخلاء. فأرته إياه. فأدخل معه الماء. وكانت عنده موسى جديدة، فحلق لحيته وحاجيبه، وخرج عليها، فاستقبحت هيئته، واستنكرت فعله، وأمرت بإخراجه وعصمه الله بذلك، فبقى على هيئته فيما بعد، وصار كل من يسلك طريقته أن يحلق رأسه ولحيته و حاجبيه. كرامة لهذا الشيخ: يذكر أنه لما قصد مدينة دمياط لزم مقبرتها. وكان بها قاض يعرف بابن العميد. فخرج يوماً إلى جنازة بعض الأعيان، فرأى الشيخ جمال الدين بالمقبرة فقال له: أنت الشيخ المبتدع. فقال له: وأنت القاضي الجاهل، تمر بدابتك بين القبور، وتعلم أن حرمة الإنسان ميتاً كحرمته حياً. فقال له القاضي: وأعظم من ذلك حلقك للحيتك. فقال له: إياي تعني. وزعق الشيخ، ثم رفع رأسه، فإذا هو ذو لحية سوداء، عظيمة. فعجب القاضي ومن معه، ونزل إليه عن بغلته. ثم زعق ثانياً فإذا هو ذو لحية بيضاء حسنة، ثم زعق ثالثاً ورفع رأسه. فإذا هو بلا لحية كهيئته الأولى فقبل القاضي يده، وتتلمذ له، وبني له الزاوية الحسنة ، وصحبه أيام حياته حتى مات الشيخ. فدفن بزاويته. ولما حضرت القاضي وفاته أوصى أن يدفن بباب الزاوية، حتى يكون كل داخل إلى زيارة الشيخ يطأ قبره. وبخارج دمياط المزار المعروف بشطا، " بفتح الشين المعجمة والطاء المهملة "، وهو ظاهر البركة، يقصده أهل الديار المصرية. وله أيام في السنة معلومة لذلك. وبخارجها أيضاً بين بساتينها موضع يعرف بالمنية، فيه شيخ من الفضلاء يعرف بابن النعمان. قصدت زاويته وبت عنده. وكان بدمياط أيام إقامتي بها والٍ يعرف بالمحسني من ذوي الإحسان والفضل. بنى مدرسة على شاطىء النيل بها. كان نزولي في تلك الأيام. وتأكدت بيني وبينه مودة. ثم سافرت إلى مدينة فارسكور، وهي مدينة على ساحل النيل " والكاف الذي في اسمها مضموم ". ونزلت بخارجها. ولحقني هنالك فارس وجّهه إليّ الأمير المحسني، فقال لي: إن الأمير سأل عنك، وعرف بسيرتك، فبعث إليك بهذه النفقة. ودفع إليّ جملة دراهم، جزاه الله خيراً. ثم سافرت إلى مدينة أشمون الرمان، " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الشين المعجم ". ونسبت إلى الرمان لكثرته بها. ومنها يحمل إلى مصر. وهي مدينة عتيقة كبيرة على خليج من خلج النيل ولها قنطرة خشب ترسو المراكب عندها فإذا كان العصر رفعت تلك الخشب، وجازت المراكب صاعدة ومنحدرة. وبهذا البلد قاضي القضاة ووالي الولاة. ثم سافرت عنها إلى مدينة سمنود، وهي على شاطئ النيل، كثيرة المراكب حسنة الأسواق وبينها وبين المحلة الكبيرة ثلاثة فراسخ " وضبط اسمها بفتح السين المهملة والميم وتشديد النون وضمها وواو ودال مهمل. ومن هذه المدينة ركبت النيل مصعداً إلى مصر، ما بين مدائن وقرى منتظمة، المتصل بعضها ببعض. ولا يفتقر راكب النيل إلى استصحاب الزاد. لأنه مهما أراد النزول بالشاطئ، نزل الوضوء والصلاة وشراء الزاد وغير ذلك. والأسواق متصلة من مدينة الإسكندرية إلى مصر، ومن مصر إلى مدينة أسوان من الصعيد. ثم وصلت إلى مدينة مصر هي أم البلاد، وقرارة فرعون ذي الأوتاد، ذات الأقاليم العريضة والبلاد الأريضة، المتناهية في كثرة العمارة المتناهية بالحسن والنضارة، ومجمع الوارد والصادر، ومحل رحل الضعيف والقادر، وبها ما شئت من عالم وجاهل، وجاد وهازل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكر ومعروف، تموج موج البحر بسكانها، وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها. شبابها يجد على طول العهد، وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزل السعد. قهرت قاهرتها الأمم، وتمكنت ملوكها من نواصي العرب والعجم. ولها خصوصية النيل الذي أجلّ خطرها، وأغناها عن أن يستمد القطر قطرها، وأرضها مسيرة شهر لمجدّ السير. كريمة التربة، مؤنسة لذوي الغربة. قال ابن جزي: وفيها يقول الشاعر:  

لعمرك ما مصرٌ بمصرٍ وإنمـا

 

هي الجنة الدنيا لمن يتبـصّـر

فأولادها الولدان والحور عينهـا

 

وروضتها الفردوس والنيل كوثر

وفيها يقول ناصر الدين بن ناهض:  

شاطئُ مصر جـنة

 

ما مثلها من بلـد

لا سيّما مذ زخرفت

 

بنيلها المـطّـرد

وللـرياح فـوقـه

 

سوابغٌ مـن زرد

مسرودةٌ ما مسّهـا

 

داودها بـمـبـرد

سائلة هـواؤهــا

 

يرعد عاري الجسد

والفلك كالأفلاك بي

 

ن حادر ومصعـد

ويقال: إن بمصر من السقائين على الجمال اثني عشر ألف سقاء، وأن بها ثلاثين ألف مكار، وأن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفاً للسلطان والرعية، تمر صاعدة إلى الصعيد، ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخيرات والمرافق. وعلى ضفة النيل مما يواجه مصر الموضع المعروف بالروضة، وهو مكان النزهة والتفرج، وبه البساتين الكثيرة الحسنة. وأهل مصر ذوو طرب وسرور ولهو. شاهدت بها مرة فرجة بسبب برء الملك الناصر من كسر أصاب يده. فزين كل أهل سوق سوقهم، وعلقوا بحوانيتهم الحلل والحلي وثياب الحرير وبقوا على ذلك أياماً.