الجزء الأول - ذكر يوم المحمل

وهو يوم دوران الجمل يوم مشهود وكيفية ترتيبهم فيه أنه يركب فيه القضاة الأربعة، ووكيل بيت المال والمحتسب وقد ذكرنا جميعهم، ويركب معهم أعلام الفقهاء وأمناء الرؤساء وأرباب الدولة، ويقصدون جميعاً باب القلعة، دار الملك الناصر، فيخرج إليهم المحل على جمل، وأمامه الأمير المعين لسفر الحجاز في تلك السنة، ومعه عسكره والسقاؤون على جمالهم، ويجتمع لذلك أصناف الناس من رجال ونساء، ثم يطوفون بالمحمل وجميع من ذكرنا معه بمدينة القاهرة ومصر، والحداة يحدون أمامهم، ويكون ذلك في رجب فعند ذلك تهيج العزمات، وتنبعث الأشواق، وتتحرك البواعيث، ويلقي الله تعالى العزيمة على الحج في قلب من يشاء من عباده، فيأخذون في التأهب لذلك والاستعداد. ثم كان سفري من مصر على طريق الصعيد برسم الحجاز الشريف. فبت ليلة خروجي بالرباط الذي بناه الصاحب تاج الدين بن حناء بدير الطين، وهو رباط عظيم بناء على مفاخر عظيمة، وآثار كريمة، أودعها فيه وهي قطعة من قصعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والميل الذي كان يكتحل به، والدرفش وهو الأشفا الذي كان يخصف به نعله، ومصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي بخط يده رضي الله عنه. ويقال: إن الصاحب اشترى ما ذكرناه من الآثار الكريمة النبوية بمائة ألف درهم، وبنى الرباط، وجعل فيه الطعام للوارد والصادر، والجراية لخدام تلك الآثار الشريفة، نفعه الله تعالى بقصده المبارك. ثم خرجت من الرباط المذكور، ومررت بمنية القائد، وهي بلدة صغيرة على ساحل النيل. ثم سرت منها إلى مدينة بوش " وضبطها بضم الباء الموحدة واحدة شين معجم " وهذه المدينة أكثر بلاد مصر كتاناً، ومنها يجلب إلى سائر الدنيا المصرية، وإلى إفريقية. ثم سافرت منها، فوصلت إلى مدينة دلاص " وضبط اسمها بفتح الدال المهملة وآخره صاد مهملة "، وهذه المدينة كثيرة الكتان أيضاً، كمثل التي ذكرناها قبلها. ويحمل أيضاً منها إلى ديار مصر وإفريقية. ثم سافرت منها إلى مدينة ببا " وضبط اسمها بباءين موحدتين أولاهما مكسورة ". ثم سافرت منها إلى مدينة البهنسا، وهي مدينة كبيرة وبساتينها كثيرة، " وضبط اسمها بفتح الموحدة وإسكان الهاء وفتح النون والسين " وتصنع بهذه المدينة ثياب الصوف الجيدة. وممن لقيته بها قاضيها العالم شرف الدين، وهو كريم النفس فاضل. ولقيت بها الشيخ الصالح أبا بكر العجمي، ونزلت عنده وأضافني. ثم سافرت منها إلى مدينة منية ابن خصيب ، وهي مدينة كبيرة الساحة متسعة المساحة مبنية على شاطئ النيل. وحق حقيق لها على بلاد الصعيد التفضيل. بها المارس والمشاهد والزوايا والمساجد وكانت في القديم منية عامل مصر الخصيب.

حكاية خصيب

يذكر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي الله عنهم غضب على أهل مصر. فآلى أن يولي عليهم أحقر عبيده، وأصغرهم شأناً، قصداً لإرذالهم والتنكيل بهم وكان خصيب أحقرهم إذ كان يتولى تسخين الحمّام فخلع عليه، وأمّره على مصر، وظنه أنه يسير فيهم سيرة سوء، ويقصدهم بالإذاية، حسبما هو المعهود ممن ولي عن غير عهد بالعز. فلما استقر خصيب بمصر، سار في أهلها أحسن سيرة. وشهر بالكرم والإيثار. فكان أقرب الخلفاء وسواهم يقصدونه، فيجزل العطاء لهم، ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أولاهم. وأن الخليفة افتقد بعض العباسيين وغاب عنه مدة ثم أتاه، فسأله عن مغيبه، فأخبره أنه قصد خصيباً. وذكر له ما أعطاه خصيب. وكان عطاء جزيلاً. فغضب الخليفة، وأمر بسمل عيني خصيب، وإخراجه من مصر إلى بغداد، وأن يطرح في أسواقها. فلما ورد الأمر بالقبض عليه حيل بينه وبين دخوله منزله وكانت بيده ياقوته عظيمة الشأن فخبأها عنده، وخاطها في ثوب له ليلاً وسملت عيناه، وطرح في أسواق بغداد. فمر به بعض الشعراء فقال له يا خصيب: " إني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحاً لك بقصيدة فوافقت انصرافك عنها، وأحب أن تسمعها. فقال: كيف بسماعها وأنا على ما تراه؟ فقال: إنما قصدي سماعك لها. وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيراً قال فافعل فأنشد:

أنت الخصيب وهذه مصر

 

فتدفقا فكلاكمـا بـحـر

فلما أتى علىآخرها قال له: افتق هذه الخياطة، ففعل ذلك. فقال له: خذ الياقوتة. فأبى، فأقسم عليه أن يأخذها. فأخذها وذهب بها إلى سوق الجوهريين. فلما عرضها عليهم قالوا له إن هذه لا تصلح إلا للخليفة. فرفعوا أمرها إلى الخليفة، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة، فأخبره بخبرها. فتأسف على ما فعله بخصيب وأمر بمثوله بين يديه، وأجزل له العطاء، وحكّمه فيما يريد. فرغب أن يعطيه هذه المنية، ففعل ذلك، وسكنها خصيب إلى أن توفي وأورثها عقبه إلى أن انقرضوا. وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النويري المالكي، وواليها شمس الدين أمير خير كريم. دخلت يوماً الحمام بهذه البلدة، فرأيت الناس بها لا يستترون. فعظم ذلك علي وأتيته، فأعلمته بذلك. فأمرني ألا أبرح، وأمر بإحضار المكترين للحمامات، وكتبت عليهم العقود، أنه متى دخل أحد الحمام دون مئزر فإنهم يؤاخذون على ذلك. واشتد عليهم أعظم الاشتداد. ثم انصرفت عنه وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي وهي صغيرة مبنية على مسافة ميلين من النيل " وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الام وكسر الواو ". وقاضيها الفقيه شرف الدين الدميري " بفتح الدال المهمل وكسر الميم " الشافعي. وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل بنى أحدهم جامعاً أنفق فيه صميم ماله. وبهذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر - ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيراً من دخول معصرة منها فيأتي الفقير بالخبزة الحارة، فيطرحها في القدر التي يطبخ السكر فيها، ثم يخرجها، وقد امتلأت سكراً فينصرف بها. وسافرت من منلوي المذكورة إلى مدينة منفلوط وهي مدينة حسن رواؤها، مؤنق بناؤها على ضفة النيل، شهيرة البركة " وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم الام وآخرها طاء مهمل ".

حكاية:

أخبرني أهل هذه المدينة أن الملك الناصر رحمه الله، أمر بعمل منبر عظيم، محكم الصنعة بديع الإنشاء، برسم المسجد الحرام، زاده الله شرفاً وتعظيماً. فلما تم عمله، أمر أن يصعد به في النيل ليجاز إلى بحر جدة، ثم إلى مكة شرفها الله، فلما وصل المركب الذي احتمله إلى منفلوط، وحاذى مسجدها الجامع وقف، وامتنع من الجري مع مساعدة الريح. فعجب الناس من شأنه أشد العجب، وأقاموا أياماً لا ينهض بهم المركب. فكتبوا بخبره إلى الملك الناصر رحمه الله، فأمر أن يجعل ذلك المنبر بجامع مدينة منفلوط، ففعل ذلك. وقد عاينته بها، ويصنع في هذه المدينة شبه العسل، يستخرجونه من القمح ويسمونه النيدا. يباع بأسواق مصر. وسافرت من هذه المدينة إلى مدينة أسيوط. وهي مدينة رفيعة أسواقها بديعة " وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون السين المهملة وضم الياء آخر الحروف واو وطاء مهملة " وقاضيها شرف الدين بن عبد الرحيم الملقب " بحاصل ما ثم "، لقب اشتهر به وأصله أن القضاة بديار مصر والشام بأيديهم الأوقاف والصدقات لأبناء السبيل، فإذا أتى فقير لمدينة من المدن قصد القاضي بها، فيعطيه ما قدر له. فكان القاضي إذا أتاه الفقير يقول له حاصل ما ثم أي لم يبق من المال الحاصل شيء فلقب بذلك ولزمه. وبها من المشايخ الفضلاء الصالح شهاب الدين بن الصباغ، أضافني بزاويته. وسافرت منها إلى مدينة أخميم، وهي مدينة عظيمة أصيلة البنيان عجيبة الشان، بها البربي المعروف باسمه، وهو مبني بالحجارة، في داخله نقوش وكتابة للأوائل، لا تفهم في هذا العهد، وصور الأفلاك والكواكب. ويزعمون أنها بنيت والنسر الطائر ببرج العقرب. وبها صور الحيوانات وسواها. وعند الناس في هذه الصور أكاذيب لا يعرج عليها. وكان بأخميم رجلٌ يعرف بالخطيب، أمر على هدم بعض هذه البرابي، وابنتي بحجارتها مدرسة. وهو رجل موسر معروف باليسار. ويزعم حساده أنه استفاد ما بيده من المال من ملازمته لهذه البرابي. ونزلت من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي العباس بن عبد الظاهر، وبها تربة جده عبد الظاهر. وله من الأخوة ناصر الدين ومجد الدين وواحد الدين. ومن عادتهم أن يجتمعوا جميعاً بعد صلاة الجمعة، ومعهم الخطيب نور الدين المذكور وأولاده، وقاضي المدينة الفقيه مخلص، وسائر أهلها، فيجتمعون للقرآن، ويذكرون الله إلى صلاة العصر. فإذا صلوها، قرأوا سورة الكهف، ثم انصرفوا. وسافرت من أخميم إلى مدينة " هو ": مدينة كبيرة بساحل النيل " وضبطها بضم الهاء ". نزلت منها بمدرسة تقي الدين ابن السراج. ورأيتهم يقرأون بها في كل يوم بعد صلاة الصبح حزباً من القرآن، ثم يقرأون أوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي وحزب البحر. وبهذه المدينة السيد الشريف أبو محمد عبد الله الحسني من كبار الصالحين. كرامة له: دخلت إلى هذا الشريف متبركاً برؤيته والسلام عليه، فسألني عن قصدي، فأخبرته أني أريد البيت الحرام على طريق جدة. فقال لي: لا يحصل لك هذا في هذا الوقت، فارجع. وإنما تحج أول حجة على الدرب الشامي. فانصرفت عنه، ولم أعمل على كلامه. ومضيت في طريقي حتى وصلت إلى عيذاب. فلم يتمكن لي السفر، فعدت راجعاً إلى مصر ثم إلى الشام. وكان طريقي في أول حجاتي على الدرب الشامي، حسبما أحبرني الشريف نفع الله به. ثم سافرت إلى مدينة قنا، وهي صغيرة حسنة الأسواق " وضبط اسمها بقاف مكسورة ونون". وبها قبر الشريف الصالح الولي صاحب البراهين العجيبة والكرامات الشهيرة عبد الرحيم القناوي رحمة الله عليه. ورأيت بالمدرسة السيفية حفيده شهاب الدين أحمد. وسافرت من هذا البلد إلى مدينة قوص " وهي بضم القاف ". مدينة عظيمة لها خيرات عميمة، بساتينها مورقة، وأسواقها مونقة، ولها المساجد الكثيرة، والمدارسة الأثيرة، وهي منزل ولاة الصعيد. وبخارجها زاوية الشيخ شهاب الدين بن عبد الغفار، وزاوية الأفرم ، وبها اجتماع الفقراء المتجردين في شهر رمضان من كل سنة، ومن علمائها القاضي جمال الدين بن السديد، والخطيب بها فتح الدين بن دقيق العيد أحد الفصحاء البلغاء الذين حصل لهم السبق في ذلك، لم أر من يماثله إلا خطيب المسجد الحرام بهاء الدين الطبري، وخطيب مدينة خوارزم حسام الدين المشاطي، وسيقع ذكرهما، ومنهم الفقيه بها ء الدين عبد العزيز المدرس بمدرسة المالكية، ومنهم الفقيه برهان الدين إبراهيم الأندلسي، له زاوية عالية. ثم سافرت إلى مدينة الأقصر " وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الصاد المهمل "، وهي ضغيرة حسنة، وبها قبر الصالح العابد أبي الحجاج الأقصري. وعليه زاوية، وسافرت منها إلى مدينة أرمنت " وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون الراء وميم مفتوحة ونون ساكنة وتاء فوقية "، وهي صغيرة ذات بساتين مبنية على ساحل النيل. أضافني قاضيها، وأنسيت اسمه. ثم سافرت منها إلى مدينة أسنا " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان السين المهمل ونون "، مدينة عظيمة متسعة الشوارع ضخمة المنافع كثيرة الزوايا والمدارس والجوامع، لها أسواق حسان، وبساتين ذات أفنان. قاضيها قاضي القضاة شهاب الدين بن مسكين. أضافني وأكرمني، وكتب إلى نوابه بإكرامي. وبها من الفضلاء الشيخ صالح نور الدين علي، والشيخ الصالح عبد الواحد المكناسي، وهو على هذا العهد صاحب زاوية بقوص. ثم سافرت منها إلى مدينة أدفو " وضبط اسمها بفتح الهمزة وإسكان الدال المهمل وضم الفاء ". وبينها وبين مدينة أسنا مسيرة يوم وليلة في صحراء ثم جزنا النيل من مدينة أدفو إلى مدينة العطواني، ومنها اكترينا الجمال. وسافرنا من طائفة من العرب تعرف بدغيم " بالغين المعجمة " في صحراء لا عمارة بها إلا أنها آمنة السيل. وفي بعض منازلها نزلنا حميثرا حيث قبر ولي الله أبي الحسن الشاذلي، وقد ذكرنا كرامته في أخباره أنه يموت بها. وأرضها كثيرة الضباع. ولم نزل ليلة مبيتنا بها نحارب الضباع. ولقد قصدت رحلي ضبع منها فمزقت عدلاً كان به، واجتزت منه جراب تمر، وذهبت به. فوجدناه لما أصبحنا ممزقاً مأكولاً معظم ما كان فيه. ثم لما سرنا خمسة عشر يوماً وصلنا إلى مدينة عيذاب، وهي مدينة كبيرة كثيرة الحوت واللبن، ويحمل إليها الزرع والتمر من صعيد مصر. وأهلها البجاة ، وهم سود الألوان يلتحفون بملاحف صفراء، ويشدون على رؤوسهم عصائب يكون عرض العصابة أصبعاً وهم لا يورثون البنات. وطعامهم ألبان الإبل ويركبون المهاري، ويسمونها الصهب. وثلث المدينة للملك الناصر وثلثاها لملك البجاة، وهو يعرف بالحدربي " بفتح الحاء المهمل وإسكان الدال وراء مفتوحة وباء موحدة وياء " وبمدينة عيذاب مسجد ينسب للقسطلاني شهير البركة. رأيته وتبركت به. وبها الشيخ الصالح موسى والشيخ المسن محمد المراكشي. زعم أنه ابن المرتضى ملك مراكش، وأن سنه خمس وتسعون سنة. ولما وصلنا إلى عيذاب وجدنا الحدربي سلطان البجاة يحارب الأتراك، وقد خرق المراكب، وهرب الترك أمامه فتعذر سفرنا في البحر. فبعنا ما كنا أعددناه من الزاد، وعدنا مع العرب الذين اكترينا الجمال منهم إلى صعيد مصر، فوصلنا إلى مدينة قوص التي تقدم ذكرها،وانحدرنا منها في النيل، وكان أوان مده، فوصبلنا بعد مسيرة ثمان من قوص إلى مصر، فبت بصر ليلة واحدة، وقصدت بلاد الشام. وذلك في منتصف شعبان سنة ست وعشرين فوصلت إلى مدينة بلبيس ، "وضبط اسمها بفتح الموحدة الأولى وفتحو الثانية ثم ياء آخر الحروف مسكنة وسين مهملة"، وهي مدينة كبيرة، ذات بساتين، كثيرة، ولم ألق بها من يجب ذكره. ثم وصلت إلى الصالحية. ومنها دخلنا الرمال، ونزلنا منازلها، مثل السوادة والورادة والمطيلب والعريش والخروبة. بكل منزل منها فندق. وهم يسمونه الخان. ينزله المسافرون بدوابهم. وبخارج كل خان ساقية للسبيل، وحانوت يشتري منها المسافر ما يحتاجه لنفسه ودابته. ومن منازلها قطيا المشهورة وهي " بفتح القافغ وسكون الطاء وياء آخر الحروف مفتوحة وألف. والناس يبدلون ألفها هاء تأنيث ". وبها تؤخذ الزكاة من التجار، وتفتش أمتعتهم، ويبحث عما لديهم أشد البحث. وفقيها الدواوين والعمال والكتاب، والمشهود.ومجباها في كل يوم ألف دينار من الذهب. ولا يجوز عليها أحد من الشام إلا ببراءة من مصر. ولا إلى مصر إلا ببراءة من الشام، احتياطاً على أموال الناس، وتوقياً من الجواسيس العراقيين. وطريقها في ضمان العرب قد وكلوا بحفظه. فإذا كان اليل مسحوا على الرمل حتى لا يبقى به أثر، ثم يأتي الأمير صباحاً، فينظر إلى الرمل فإن وجد به أثراً طالب العرب بإحضضار مؤثره، فيذهبون في طلبه، فلا يفوتهم فيأتون به الأمير، فيعاقبه بما شاء، وكان بها في عهد وصولي إليها عز الدين أستاذ الداراقماري من خيار الأمراء، أضافني وأكرمنبي وأباح الجواز لمن كان معي. وبين يديه عبد الجليل المغربي والوقاف، وهو يعرف المغاربة وبلادهم، فيسأل من ورد منهم من أي البلاد هو لئلا يلبس عليهم، فإن المغاربة لا يعترضون جوازهم على قطيا. ثم سرنا حتى وصلنا إلى مدينة غزة، وهي أول بلاد الشام مما يلي مصر متسعة الأقطار، كثيرة العمارة حسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها. وكان بها جامع حسن والمسجد الذس تقام الآن به الجمعة فيها بناه الأمير المعظم الجاولي. وهو أنيق البناء محكم الصنعة ومنبره من الرخام الأبيض وقاضي غزة بدر الدين تالسلختي الحوراني ومدرسها علم الدين بن سالم. وبنو سالم كبراء هذه المدينة ومنهم شمس الدين قاضي القدس. ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل صلى الله على نبينا وعليه وسلم تسليماً زهي مدينة صغيرة الساحة كبيرة المقدار مشرقة الأنوار حسنة المنظر عجيبة المخبر، في بطن وادٍ، ومسجدها أنيق الصنعة محكم العمل بديع الحسن سامي الارتفاع، مبني بالصخر المنحوت. في أحد أركانه صخرة أحد أقطارها سبعة وثلاثون شبراً. ويقال إن سليمان عليه السلام امر الجن ببنائه وفي داخل المسجد الغار المكرم المقدس. فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله على نبينا وعليهم. ويقابلهاو قبور ثلاثة، هي قبور أزواجهم. وعن يمين المنبر، بلصق جدار القبلة موضع يهبط منه على درج رخام محكمة العمل إلى مسلك ضيق، يفضي إلى ساحة مفروشة بالرخام، فيها صور القبور الثلاثة. ويقال: إنها محاذية لها. وكان هنالك مسلك إلى الغار المبارك، وهو الآن مسدود. وقد نزلت بهذا الموضع مرات ومما ذكره أهل العلم دليلاً على صحة كون الققبور الثلاثة الشريفة هنالك، ما نقلهمن كتاب علي بن جعفر الرازيالي سماه: المسفر للقلوب عن صحة قبر إبراهيم و إسحاق ويعقوب. أسند فيه إلى أبي هريرؤة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما أسري بي إلى بيت المقدس مر بي جبريل على قبر إبراهيم فقال: انزل فصل ركعتين، فإن هنا قبر أبيك إبراهيم. ثم مر بي على بيت لحم وقال: انزل فصل ركعتين، فإن هنا ولد أخوك عيسى عليه السلام. ثم أتى بي الصخرة " وذكر بقية الحديث. ولما لقيت بهذه المدينة المدرس تالصالح المعمر الإمام الخطيب برهان الدين الجعبري، أحد الصلحاء المرضيين، والأئمة المشهورين. سألته عن صحة كون قبر الخليل عليه السلام هنالك فقال لي: كل من لقيته من أهل العلنم يصححون أن هذه القبور قبور إبراهيم وإسحاق ويعقوب على نبينا وعليهم السلام، وقبور زوجاتهم، ولا يطعن في ذلك إلا أهل البدع وهو نقل الخلف عن السلف لا يشك فيه، ويذكر أن بعض الأئمة دخل إلى الغار، ووقف عند قبر سارة؛ فدخل شيخ فقال له: أي هذه القبور هو قبر إبراهيم ؟ فأشار له إلى قبره المعروف ثم دخل شاب فسأله كذلك، فأشار له إليه. ثم دخل صبي فسأله أيضاً فأشار له إليه فقال الفقيه أشهد أن هذا قبر إبراهيم عليه السلام لا شك. ثم دخل إلى المسجد فصلى به وارتحل من الغد. وبداخل هذا المسجد أيضاً قبر يوسف عليه السبلام. وبشرقي حرم الخليل تربة لوط عليه السلام. وهي تل مرتفع، يشرف منه غور الشام. وعلى قبره أبنية حسنة. وهو في بيت مه احسن البناء مبيض ولا ستور عليه. وهنالك بحيرة لوط ، هي أجاج. يقال أنها موضع ديار قوم لوط وبمقربة من تربة لوط مسجد اليقي، وهو على تل مرتفع له نور وإشراق ليس لسواه ولا يجاوره إلا دار واحدة يسكنها قيمه. وفي المسجد بمقربة من بابه مخوضع منخفض في حجر صلد قد هيئ فيه صورة محراب، لا يسع إلا مصلياً واحداً، ويقال: إن إبراهيم سجد في ذلك الموضع شكراً لله تعالى عند هلاك قوم لوط، فتحرك موضع سجوده،وساخ في الأرض قليلاً. وبالقرب من هذا المسجد مغارة فيها قبر فاطمة بنت الحسين بن علي عليهما السلام وبأعلى القبر وأسفله لوحان من الرخام في أحدهما مكتوب منقوش بخط بديع بسم الله الرحمن الرحيم لله العزة والبقاء وله ما ذرأ وبرأ وعلى خلقه كتب الفناء. وفي رسول الله أسوة. هذا قبر أم سلمة فاطمة بنت الحسين رضي الله عنه. وفي اللوح الآخر منقوش صنعه محمد بن أبي سهل النقاش بمصر. وتحت ذلك هذه الأبيات:  

أسكنت من كان في الأحشاء مسكنه

 

بالرغم مني بين الترب والحجـر

يا قبر فاطمة بنت ابـن فـاطـمة

 

بنت الأئمة بنت الأنجم الـزهـر

يا قبر ما فيك من دين ومـن ورع

 

ومن عفاف ومن صون ومن خفر

ثم سافرت من هذه المدينة إلى القدس. فزرت في طريقي إليه تربة يونس عليه السلام، وعليها أبنية كبيرة ومسجد. وزرت أيضاً بيت لحم، موضع ميلاد عيسى عليه السلام، وبه أثر جذع النخلة، وعليه عمارة كثيرة. والنصارى يعظمونه أشد التعظيم، ويضيفون من نزل به، ثم وصلنا إلى بيت المقدس، شرفه الله، ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفل، ومصعد رسول الله عليه وسلم تسليماً، ومعرجة إلى السماء. والبلدة الكبيرة مبنية بالصخر المنحوت. وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب جزاه الله عن الإسلام خيراً، لما فتح هذه المدينة هدم بض سورها. ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفاً أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها. ولم يكن بهذه المدينة نهر فيما تقدم وجلب لها الماء في هذا العهد الأمير سيف الدين تنكيز أمير دمشق.