الجزء الأول - ذكر مدينة مكة المعظمة

وهي مدينة كبيرة متصلة البنيان مستطيلة، في بطن وادٍ تحف به الجبال، فلا يراها قاصدها حتى يصل إليها. وتلك الجبال الملطة عليها ليست بمفرطة الشموخ. والأخشبان من جبالها هما جبل أبي قبيس، وهو في جهة الجنوب والشرق منها، وجبل قعيقعان، وهو في جهة الغرب منها، وفي الشمال منها الجبل الأحمر. ومن جهة أبي قبيس أجياد الأكبر، وأجياد الأصغر، وهما شعبان والخندمة، وهي جبل، وستذكر. " والمناسك كلها: منى وعرفة والمزدلفة " بشرقي مكة شرفها الله. ولمكة من الأبواب ثلاثة: باب المعلى بأعلاها، وباب الشبيكة من أسفلها، ويعرف أيضاً بباب العمرة، وهو إلى جهة المغرب، وعليه طريق المدينة الشريفة، ومصر والشام وجدة. ومنه يتوجه إلى التنعيم، وسيذكر ذلك،وباب المسفل، وهو من جهة الجنوب، ومنه دخل خالد بن الوليد رضي الله عنه يوم فتح مكة شرفها الله، كما أخبر الله في كتابه العزيز حاكياً عن نبيه الخليل بوادٍ غير ذي زرع. ولكن سبقت لها الدعوة المباركة، فكل طرفة تجلب إليها، وثمرات كل شيء تجبى لها. ولقد أكلت بها من الفواكه العنب والتين والخوخ والرطب ما لا نظير له في الدنيا، وكذلك البطيخ المجلوب إليها لا يماثله سواه طيباً وحلاوة، واللحوم بها سمان لذيذات الطعوم. وكل ما يفترق في البلاد من السلع، فيها اجتماعه. وتجلب لها الفواكه والخضر من الطائف ووادي نخلة وبطن مر، لطفاً من الله بسكان حرمه الأمين ومجاوري بيته العتيق.

ذكر المسجد الحرام شرفه الله وكرمه

والمسجد الحرام في وسط البلد. وهو متسع الساحة. طوله من شرق إلى غرب أزيد من أربعمائة ذراع، حكى ذلك الأزرقي، وعرضه يقرب من ذلك. والكعبة العظمى في وسطه. ومنظره بديع. ومرآه جميل. لا يتعاطى اللسان وصف بدائعه، ولا يحيط الواصف بحسن كماله. وارتفاع حيطانه نحو عشرين ذراعاً؛ وسقفه على أعمدة طوال مصطفة ثلاثة صفوف، بأتقن صناعة وأجملها. وقد انتظمت بلاطاته الثلاثة انتظاماً عجيباً كأنها بلاط واحد وعدد سواريه الرخامية أربعمائة وإحدى وتسعون سارية ما عدا الجصية التي في دار الندرة المزيدة في الحرم، وهي داخلة في البلاط الآخذ في الشمال. ويقابلها المقام مع الركن العراقي. وفضاؤها متصل، يدخل من هذا البلاط إليه، ويتصل بجدار هذا البلاط مساطب تحت قسي " حنايا " يجلس بها المقرئون والنساخون والخياطون. وفي جدار البلاط الذي يقابله مساطب تماثلها. وسائر البلاطات تحت جدرانها مساطب بدون حنايا. وعند باب إبراهيم مدخل من البلاط الغربي فيه سواري جصية. وللخليفة المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور رضي الله عنهما آثار كريمة في توسيع المسجد الحرام وإحكام بنائه. وفي أعلى جدار البلاط الغربي مكتوب أمر عبد الله محمد المهدي أمير المؤمنين أصلحه الله بتوسعة المسجد الحرام لحاج بيت الله وعمارته في سنة سبع وستين ومائة.

ذكر الكعبة المعظمة الشريفة

زادها الله تعظيماً وتكريماً  والكعبة مائلة في وسط المسجد، وهي بنية مربعة ارتفاعها في الهواء من الجهات الثلاث ثمانٍ وعشرون ذراعاً، ومن الجهة الرابعة التي بين الحجر الأسود والركن اليماني تسع وعشرون ذراعاً، وعرض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الحجر الأسود أربعة وخمسون شبراً وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن اليماني إلى الركن الشامي، وعرض صفحتها التي من الركن العراقي إلى الركن الشامي من داخل الحجر ثمانية وأربعون شبراً، وكذلك عرض الصفحة التي تقابلها من الركن الشامي إلى الركن العراقي، وأما خارج الحجر فإنه مائة وعشرون شبراً والطواف إنما هو خارج الحجر وبناؤها بالحجر الصم السمر، وقد ألصقت بأبدع الإلصاق وأحكمه وأشده، فلا تغيرها الأيام، ولا تؤثر فيها الأزمان وباب الكعبة المعظمة في الصفح الذي بين الحجر الأسود والركن العراقي، وبينه وبين الحجر الأسود عشرة أشبار، وذلك الموضع هو المسمى بالملتزم، حيث يستجاب الدعاء. وارتفاع الباب عن الأرض أحد عشر شبراً ونصف شبر وسعته ثمانية أشبار، وطوله ثلاثة عشر شبراً وعرض الحائط الذي ينطوي عليه خمسة أشبار، وهو مصفح بصفائح الفضة، بديع الصنعة وعضادتاه وعتبته العليا مصفحات بالفضة، وله نقارتان كبيرتان من فضة عليهما قفل، ويفتح الباب الكريم في كل يوم جمعة بعد الصلاة، ويفتح في يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم ورسمهم في فتحة أنم يضعوا كرسياً شبه المنبر، له درج وقوائم خشب، لها أربع بكرات يجري الكرسي عليها، ويلصقونه إلى جدار الكعبة الشريفة، فيكون درجه الأعلى متصلاً بالعتبة الكريمة، ثم يصعد كبير الشيبين وبيده المفتاح الكريم ومعه السدنة، فيمسكون الستر المسبل على باب الكعبة المسمى بالبرقع، بخلال ما يفتح رئيسهم الباب، فإذا فتحه قبل العتبة الشريفة، ودخل البيت وحده، وسد الباب، وأقام قدر ما يركع ركعتين، ثم يدخل سائر الشيبين، ويسدون الباب أيضاً، ويركعون، ثم يفتح الباب، ويبادر الناس بالدخول، وفي أثناء ذلك يقفون مستقبلين الباب الكريم بأبصار خاشعة وقلوب ضارعة وأيدٍ مبسوطة إلى الله، فإذا فتح كبروا ونادوا: اللهم افتح لنا أبواب رحمتك ومغفرتك يا أرحم الراحمين وداخل الكعبة الشريفة مفروش بالرخام المجزع، وحيطانه كذلك وله أعمدة ثلاثة طوال مفرطة الطول من خشب الساج، بين كل عمود منها وبين ألاخر أربع خطاً وهي متوسطة في الفضاء داخل الكعبة الشريفة، يقابل الأوسط منها نصف عرض الصفح الذي بين الركنين العراقي والشامي وستور الكعبة الشريفة من الحرير الأسود، مكتوب فيها بالأبيض، وهي تلألأ عليها نوراً وإشراقاً، وتكسو جميعها من الأعلى إلى الأرض. ومن عجائب الآيات في الكعبة الشريفة أن بابها يفتح، والحرم غاص بأمم لا يحصيها إلا الله الذي خلقهم ورزقهم، فيدخلونها أجمعين ولا تضيق عنهم، ومن عجائبها أنها لا تخلو عن طائف أبداً ليلاً ولا نهاراً، ولم يذكر أحد أنه رآها قط دون طائف. ومن عجائبها أن حمام مكة وسواه من الطير، لا ينزل عليها ولا يعلوها في الطيران وتجد الحمام يطير على أعلى الحرم كله فإذا حاذى الكعبة الشريفة عرج عنها إلى إحدى الجهات ولم يعلها ويقال لا ينزل عليها طائر إلا إذا كان به مرض فإما أن يموت لحينه أو يبرأ من مرضه فسبحان االذي خصها بالتشريف والتكريم وجعل لها المهابة والتعظيم.

ذكر الميزاب المبارك

والميزاب في اعلى الصفح الذي على الحجر، وهو من الذهب، وسعته شبر واحد، وهو بارز بمقدار ذراعين. والموضع الذي تحت الميزاب مظنة استجابة الدعاء. وتحت الميزاب في الحجر هو قبر إسيماعيل عليه السلام، وعليه رخامة خضراء مستطيلة على شكل محراب، متصلة برخامة خضراء مستديرة، وكلتاهما سعتها مقدار شبر، وكلتاهما غريبة الشكل رائقة المنظر. وإلى جانبه مما يلي الركن العراقي قبر أمه هاجر عليها السلام، وعلامته رخامة خضراء مستديرة سعتها مقدار شبر ونصف وبين القبرين سبعة أشبار.

ذكر الحجر الأسود  

وأما الحجر الأسود فارتفاعه عن الأرض ستة أشبار فالطويل من الناس يتطامن لتقبيله، والصغير يتطاول إليه وهو ملصق في الركن الذي إلى جهة المشرق، وسعته ثلثا شبر، وطوله شبر وعقد، ولا يعلم قدر ما دخل منه في الركن وفيه أربع قطع ملصقة ويقال: إن القرمطي لعنه الله كسره وقيل: إن الذي كسره سواه، ضربه بدبوس فكسره، وتبادر الناس إلى قتله وقتل بسببه جماعة من المغاربة. وجوانب الحجر مشدودة بصفيحة من فضة، يلوح بياضها على سواد الحجر الكريم، فتنجلي منه العيون حسناً باهراً، ولتقبيله لذة يتنعم بها الفم، ويود لاثمه أن لا يفارق لثمه، خاصية مودعة فيه، وعناية ربانية به وكفى قول النبي صلى الله عليه وسلم إنه يمين الله في أرضه ، نفعنا الله باستلامه ومصافحته، وأوفد عليه كل شيق إليه. وفي القطعة الصحيحة من الحجر الأسود، مما يلي جانبه الموالي ليمين مستلمه، نقطة بيضاء صغيرة مشرقة، كأنها خال في تلك الصحيفة البهية وترى الناس إذا طافوا بها يتساقط بعضهم على بعض ازدحاماً على تقبيله فقلما يتمكن أحد من ذلك إلا بعد المزاحمة الشديدة، وكذلك يصنعون عند دخول الحرم، ومن عند الحجر الأسود ابتداء الطواف وهو أول الأركان التي يلقاها الطائف، فإذا استلمه تقهقر عنه قليلاً وجعل الكعبة الشريفة عن يساره، ومضى في طوافه، ثم يلقى بعده الركن العراقي، وهو إلى جهة الشمال، ثم يلقى الركن الشامي، وهو إلى جهة الغرب، ثم يلقى الركن اليماني، وهو إلى جهة الجنوب، ثم يعود إلى الحجر الأسود، وهو إلى جهة الشرق.

ذكر المقام الكريم

إعلم أن بين باب الكعبة شرفها الله وبين الركن العراقي موضعاً طوله اثنا عشر شبراً وعرضه نحو النصف من ذلك، وارتفاعه نحو شبرين وهو موضع المقام في مدة إبراهيم عليه السلام ثم صرفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الموضع الذي هو الآن مصلى، وبقي ذلك الموضع شبه الحوض، وإليه ينصب ماء البيت الحرام إذ غسل، وهو موضع مبارك يزدحم الناس للصلاة فيه. وموضع المقام الشريف يقابل ما بين الركن العراقي والباب الشريف، وهو إلى الباب أميل، وعليه قبة تحتها اشباك حديد، متجافٍ عن المقام الشريف قدر ما تصل أصابع الإنسان إذا أدخل يده من ذلك الشباك إلى الصندوق، والشباك مقفل ومن ورائه موضع محوز قد جعل مصلى لركعتي الطواف. وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد أتى البيت فطاف به سبعاً، ثم أتى المقام فقرأ: " واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى " وركع خلفه ركعتين وخلف المقام مصلى إمام الشافعية في الحطيم الذي هنالك.
ذكر الحجر والمطاف ودور جدار الحجر تسع وعشرون خطوة، وهي أربعة وتسعون شبراً من داخل الدائرة، وهو بالرخام البديع المجزع المحكم الإلصاق، وارتفاعه خمسة أشبار ونصف شبر، وسعته أربعة أشبار ونصف شبر. وداخل الحجر بلاط واسع مفروش بالرخام المنظم المعجز الصنعة البديع الإتقان. وبين جدار الكعبة الشريفة الذي تحت الميزاب وبين ما يقابله من جدار الحجر على خط استواء أربعون شبراً، وللحجر مدخلان أحدهما بينه وبين الركن العراقي، وسعته ستة أذرع، وهذا الموضع هو الذي تركته قريش من البيت حين بنته، كما جاءت الآثار الصحاح، والمدخل الآخر عند الركن الشامي، وسعته أيضاً ستة أذرع وبين المدخلين ثمانية وأبعون شبراً وموضع الطواف مفروش بالحجارة السود محكمة الإلصاق، وقد اتسعت عن البيت بمقدار تسع خطاً إلا في الجهة التي تقابل المقام الشريف، فإنها امتدت إليه حتى أحاطت به وسائر الحرم مع البلاطات مفروش برمل أبيض وطواف النساء في آخر الحجارة المفروشة.

ذكر زمزم  وقبة بئر زمزم

تقابل الحجر الأسود وبينهما أربع وعشرون خطوة والمقام الشريف عن يمين القبة. ومن ركنها إليه عشر خطاً. وداخل القبة مفروش بالرخام الأبيض، وتنور البئر المباركة في وسط القبة، مائلاً إلى الجدار المقابل للكعبة الشريفة. وهو من الرخام البديع الإلصاق مفروغ بالرصاص. ودوره أربعون شبراً، وارتفاعه أربعة أشبار ونصف شبر، وعمق البئر إحدى عشرة قامة وهم يذكرون أن ماءها يتزايد في كل ليلة جمعة وباب القبة إلى جهة الشرق وقد استدارات بداخل سقاية سعتها شبر، وعمقها مثل لك، وارتفاعها عن الأرض نحو خمسة أشبار، تملأ ماء للوضوء، وحولها مسطبة يقعد الناس عليها للوضوء ويلي قبة زمزم قبة الشراب المنسوبة إلى العباس رضي الله عنه، وبابها إلى جهة الشمال. وهي الآن يجعل بها ماء زمزم في قلال يسمونها الدوارق، وكل دورق له مقبض واحد وتترك بها ليبرد فيها الماء، فيشربه الناس وبها اختزان المصاحف الشريفة، والكتب التي للحرم الشريف وبها خزان تحتوي على تابوت مبسوط متسع، فيه مصحف كريم بخط زيد بن ثابت رضي الله عنه، منتسخ سنة ثماني عشرة من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً. وأهل مكة إذا أصابهم قحط أو شدة أخرجوا هذا المصحف الشريف، وفتحوا باب الكعبة، ووضعوه على العتبة الشريفة، ووضعوه في مقام إبراهيم عليه وسلم، واجتمع الناس كاشفين رؤوسهم، داعين متضرعين متوسلين بالمصحف العزيز والمقام الشريف، فلا ينفصلون إلا وقد تداركهم الله برحمته، وتغمدهم بلطفه. ويلي قبة العباس رضي الله تعالى عنه على انحراف منها القبة المعروفة بقبة اليهودية.

ذكر أبواب المسجد الحرام وما دار به من المشاهد الشريفة وأبواب المسجد الحرام

شرفه الله تعالى تسعة عشر باباً، وأكثرها مفتحة على أبواب كثيرة، فمنها باب الصفا، وهو مفتح على خمسة أبواب، وكان قديماً يعرف بباب بني مخزوم، وهو أكبر أبواب المسجد، ومنه يخرج إلى المسعى، ويستحب للوافد على مكة أن يدخل المسجد الحرام شرفه الله من باب بني شيبة، ويخرج بعد طوافه من باب الصفا جاعلاً طريقه بين الأسطوانتين اللتين اقامهما أمير المؤمنين المهدي رحمه الله، علماً على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصفا، ومنها باب أجياد الأصغر مفتح على بابين ومنها باب الخياطين مفتح على بابين ومنها باب العباس رضي الله عنه مفتح على ثلاثة أبواب، ومنها باب النبي صلى الله عليه وسلم مفتح على بابين، ومنها باب بني شيبة، وهو في ركن الجدار الشرقي من جهة الشمال، أمام باب الكعبة الشريفة متياسراً، وهو مفتح على ثلاثة أبواب، وهو باب بني عبد شمس، ومنه كان دخول الخلفاء، ومنها باب صغير إزاء باب بني شيبة لا اسم له، وقيل: يسمى باب الرباط، لأنه يدخل منه لرباط السدرة، ومنها باب الندوة ويسمى بذلك ثلاثة أبواب: اثنان منتظمان، والثالث في الركن الغربي من دار الندوة، ودار الندوة قد جعلت مسجداً شارعاً في الحرم مضافاً إليه، وهي تقابل الميزاب، ومنها باب صغير لدار العجلة محدث، ومنها باب السدرة واحد، وباب العمرة واحد، وهو من أجمل أبواب الحرم، وباب إبراهيم واحد، والناس مختلفون في نسبته، فبعضهم ينسبه إلى إبراهيم الخليل عليه السلام، والصحيح أنه منسوب إلى إبراهيم الخوزي من الأعاجم، وباب الحزورة مفتح على بابين، وباب ثالث ينسب إليه مفتح على بابين، ويتصل لباب الصفا ومن الناس من ينسب البابين من هذه الأربعة المنسوبة لأجياد إلى الدقاقين. وصوامع المسجد الحرام خمس: إحداهن على ركن أبي قبيس عند باب الصفا، والأخرى على ركن باب بني شيبة، والثالثة على باب دار الندوة، والرابعة على ركن باب السدرة، والخامسة على ركن أجياد. وبمقربة من باب العمرة مدرسة عمرها السلطان المعظم يوسف بن رسول ملك اليمن المعروف بالملك المظفر التي تنسب إليه الدراهم المظفرية باليمن، وهو كان يكسو الكعبة، إلى أن غلبه على ذلك الملك المنصور قلاوون - وبخارج باب إبراهيم زاوية كبيرة فيها دار إمام المالكية الصالح أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن المدعو بخليل وعلى باب إبراهيم قبة عظيمة مفرطة السمو، قد صنع في داخلها من غرائب صنع الجص ما يعجز عنه الوصف. وبإزاء هذا الباب عن يمين الداخل إليه كان يقعد الشيخ العابد جلال الدين محمد بن أحمد الأفشهري، وخارج باب إبراهيم بئر تنسب كنسبته، وعنده أيضاً دار الشيخ الصالح دانيال العجمي الذي كانت صدقات العراق في أيام السلطان أبي سعيد تأتي على يديه. وبمقربة منه رباط الموفق، وهو من أحسن الرباطات، سكنته أيام مجاورتي بمكة المعظمة. وكان به في ذلك العهد الشيخ الصالح الطيار سعادة الجراني، ودخل يوماً إلى بيته بعد صلاة العصر فوجد ساجداً مستقبل الكعبة الشريفة ميتاً من غير مرض كان به رضي الله عنه وسكن به الشيخ الصالح شمس الدين محمد الشامي نحواً من أربعين سنة. وسكن به الشيخ الصالح شعيب المغربي من كبار الصالحين دخلت عليه يوماً فلم يقع بصري في بيته على شيء سوى حصير فقلت له في ذلك فقال لي: أستر على ما رأيت.

وحول الحرم الشريف دور كثيرة لها مناظر وسطوح يخرج منها إلى سطح الحرم، وأهلها في مشاهدة البيت الشريف على الدوام، ودور لها أبواب تفضي إلى الحرم، منها دار زبيدة زوجة الرشيد أمير المؤمنين، ومنها دار العجلة، ودار الشرابي وسواها. ومن المشاهد المقدسة بمقربة من المسجد الحرام قبة الوحي وهي في دار خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بمقربة من باب الرسول صلى الله عليه وسلم وفي البيت قبة صغيرة حيث ولدت فاطمة عليها السلام، وبمقربة منها دار أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويقابلها جدار مبارك فيه حجر مبارك بارز، طرفه من الحائط يستلمه الناس ويقال: إنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ويذكر ان النبي صلى الله عليه وسلم سأل عن رجل فنطق ذلك الحجر، وقال: يا رسول الله إنه ليس بحاضر.

ذكر الصفا والمروة ومن باب الصفا الذي هو من أبواب المسجد الحرام إلى الصفا ست وسبعون خطوة، وسعة الصفا سبع عشرة خطوة، وله اربع عشرة درجة علياهن كأنها مسطبة، وبين الصفا والمروة أربعمائة وثلاث وتسعون خطوة، منها من الصفا إلى الميل الأخضر ثلاث وتسعون خطوة، ومن الميل الأخضر إلى الميلين الأخضرين خمس وسبعون خطوة، ومن الميلين الأخضرين إلى المروة ثلاثمائة وخمس وعشرون خطوة. وللمروة خمس درجات، وهي ذات قوس واحد كبير وسعة المروة سبع عشرة خطوة. والميل الأخضر هو سارية خضراء مثبتة مع ركن الصومعة التي على الركن الشرقي من الحرم عن يسار الساعي إلى المروة، والميلان الأخضران هما ساريتان خضراوان إزاء باب علي من أبواب الحرم، أحدهما في جدار الحرم عن يسار الخارج من الباب، والأخرى تقابلها، وبين الميل الأخضر والميلين الأخضرين يكون الرمل ذاهباً وعائداً، وبين الصفا والمروة مسيل فيه سوق عظيمة، يباع فيها الحبوب واللحم والتمر والسمن وسواها من الفواكه. والساعون بين الصفا والمروة لا يكادون يخلصون لازدحام الناس على حوانيت الباعة، وليس بمكة سوق منتظمة سوى هذه إلا البزازون والعطارون عند باب شيبة وبين الصفا والمروة دار العباس رضي الله عنه. وهي الآن رباط يقطنه المجاورون عمره الملك الناصر رحمه الله، وبنى أيضاً دار وضوء فيما بين الصفا والمروة سنة ثمان وعشرين، وجعل لها بابين أحدهما في السوق المذكور والآخر في العطارين. وعليها ربع يسكنه خدامها، وتولى بناء ذلك الأمير علاء الدين بن هلال، وعن يمين المروة دار أمير مكة سيف الدين عطيفة بن أبي نمي وسنذكره.

ذكر الجبانة المباركة وجبانة مكة خارجة باب المعلى، ويعرف ذلك الموضع بالحجون وإياه عنى الحارث ابن مضاض الجرهمي بقوله:  

كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا

 

أنيسٌ ولم يسمر بمـكة سـامـر

بلى نحن كنا أهلهـا فـأبـادنـا

 

صروف الليالي والجدود العواثر

 وبهذه الجبانة مدفن الجم الغفير من الصحابة والتابعين والعلماء والصالحين والأولياء، إلا أن مشاهدهم دثرت، وذهب عن أهل مكة علمها فلا يعرف منها إلا القليل، فمن المعروف منها قبر أم المرمنين، ووزير سيد المرسلين خديجة بنت خويلد أم أولاد النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم ما عدا إبراهيم، وجدة السبطين الكريمين صلوات الله وسلامه على النبي صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين. وبمقربة منه قبر الخليفة أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس رضي الله عنهم أجمعين، وفيها الموضع الذي صلب فيه عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما. وكان به بنية هدمها أهل الطائف غيرة منهم لما كان يلحق حجاجهم المبير ، من اللعن وعن يمين مستقبل الجبانة مسجد خراب، يقال إنه المسجد الذي بايعت الجن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذه الجبانة طريق الصاعد إلى عرفات وطريق الذاهب إلى الطائف وإلى العراق.

ذكر بعض المشاهد خارج مكة

فمنها الحجون وقد ذكرناه، ويقال أيضاً: إن الحجون هو الجبل المطل على الجبانة ومنها المحصب، وهو أيضاً الأبطح، وهو يلي الجبانة المذكورة، وفيه خيف بني كنانة الذي نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها ذو الطوى وهو وادٍ يهبط على قبور المهاجرين التي بالحصحاص دون ثنية كداء، ويخرج منه إلى الأعلام الموضوعة حجزاً بين الحل والحرام. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه إذا قدم مكة شرفها الله تعالى يبيت بذي طوى ثم يعتسل منه ويغدو إلى مكة، ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. ومنها ثنية كدي " بضم الكاف "، وهي بأعلى مكة، ومنها دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع إلى مكة. ومنها ثنية كداء " بفتح الكاف "، ويقال لها الثنية البيضاء، وهي بأسفل مكة، ومنها خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الوداع، وهي بين جبيلين. وفي مضيقها كوم حجارة موضوع على الطريق، وكل من يمر به يرجمه بحجر. ويقال: إنه قبر أبي لهب وزوجه حمالة الحطب. وبين هذه الثنية وبين مكة بسيط سهل ينزله الركب إذا صدروا عن منى، وبمقربة من هذا الموضع على نحو ميل من مكة شرفها الله مسجد بإزائه حجر موضوع على الطريق كأنه مصطبة يعلوه حجر آخر، كان فيه نقش فدثر رسمه. يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم قعد بذلك الموضع مستريحاً عند مجيئه من عمرته. فيتبرك الناس بتقبيله ويستندون إليه. ومنها التنعيم، وهو على فرسخ من مكة، ومنه يعتمر أهل مكة، وهو أدنى الحل إلى الحرام، ومنه اعتمرت أم المرمنين عائشة رضي الله عنها حين بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مع أخيها عبد الرحمن رضي الله عنه، وأمره أن يعمرها من التنعيم. وبنيت هنالك مساجد ثلاثة على الطريق تنسب كلها إلى عائشة رضي الله عنها. وطريق التنعيم طريق فسيح، والناس يتحرون كنسه في كل يوم رغبة في الأجر والثواب. لأن من المعتمرين من يمشي فيه حافياً. وفي هذا الطريق الآبار العذبة التي تسمى الشبيكة، ومنها الزاهر، وهو على نحو ميلين من مكة، على طريق التنعيم، وهو موضع على جانبي الطريق فيه أثر دور وبساتين وأسواق.

وعلى جانب الطريق دكان مستطيل تصف عليه كيزان الشرب وأواني الوضوء، يملأها خديم ذلك الموضع من آبار الزاهر، وهي بعيدة القعر جداً. والخديم من الفقراء المجاورين وأهل الخير يعينونه على ذلك لما فيه من المرفقة للمعتمرين من الغسل والشرب والوضوء، وذو طوى يتصل بالزاهر.

ذكر الجبال المطيفة بمكة

فمنها جبل أبي قبيس وهو في جهة الجنوب والشسرق من مكة حرسها الله، وهو أحد الأخشبين، وأدنى الجبال من مكة شرفها الله، ويقابل ركن الحجر الأسود. وبأعلاه مسجد وأثر رباط وعمارة. وكان الملك الظاهر رحمه الله أراد أن يعمره. وهو مطل على الحرم الشريف، وعلى جميع البلد. ومنه يظهر حسن مكة شرفها الله وجمال الحرم واتساعه والكعبة المعظمة. ويذكر أن جبل أبي قبيس هو أول جبل خلقه الله، وفيه استودع الحجر زمان الطوفان. وكانت قريش تسمية الأمين لأنه أدى الحجر الذي استودع فيه إلى الخليل إبراهيم عليه السلام. ويقال: إن قبر آدم عليه السلام به. وفي جبل أبي قبيس موضع موقف النبي صلى الله عليه وسلم حين انشق له القمر. ومنها قعيقان، وهو أحد الأخشبين، ومنها الجبل الأحمر، وهو في جهة الشمال من مكة شرفها الله، ومنها الخندمة وهو جبل عند الشعبين المعروفين بأجياد الأكبر وأجياد الأصغر، ومنها جبل الطير وهو على أربعة عن جهتي طريق التنعيم، يقال إنها الجبال التي وضع عليها الخليل عليه السلام أجزاء الطير ثم دعاها حسبما نص الله في كتابه العزيز، عليه أعلام من حجارة، ومنها جبل حراء، وهو في الشمال من مكة شرفها الله تعالى على نحو فرسخ منها، وهو مشرف على منى، ذاهب في الهواء عالي القنة. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعبد فيه كثيراً قبل المبعث، وفيه أتاه الحق من ربه وبدأ الوحي، وهو الذي اهتز تحت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: إثبت فما عليك إلا نبي وصديق وشهيد ، واختلف فيكمن كان معه يومئذ. وروي أن العشرة كانوا معه.

وقد روي أيضاً أن جبل ثبير اهتز تحته أيضاً، ومنها جبل ثور، وهو على قدر فرسخ من مكة شرفها الله تعالى على طريق اليمن، وفيه الغار الذي أوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خروجه مهاجراً من مكة شرفها الله، ومعه الصديق رضي الله عنه، حسبما ورد في الكتاب العزيز. ذكر الأزرقي في كتابه: أن الجبل المذكور نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إليّ يا محمد إليّ إليّ، فقد أويت قبلك سبعين نبياً. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الغار واطمأن به وصاحبه الصديق معه، نسجت العنكبوت من حينها على باب الغار، وصنعت الحمامة عشاً وفرخت فيه بإذن الله تعالى، فانتهى المشركون ومعهم قصاص الأثر إلى الغار، فقالوا ها هنا انقطع الأثر ورأوا العنكبوت قد نسج على فم الغار والحمام مفرخة، فقالوا: ما دخل أحد هنا، وانصرفوا. فقال الصديق: يا رسول الله لو لجوا علينا منه، قال: كنا نخرج من هنا. وأشار بيده المباركة إلى الجانب الآخر ولم يكن فيه باب فانفتح فيه باب بقدرة الملك الوهاب .

والناس يقصدون زيارة هذا الغار المبارك، فيرومون دخوله من الباب الذي دخل منه النبي صلى الله عليه وسلم تبركاً بذلك. فمنهم من يتأتى له، ومنهم من لا يتأتى له وينشب فيه، حتى يتناول بالجذب العنيف، ومن الناس من يصلي أمامه ولا يدخله. وأهل تلك البلاد يقولون: إنه من كان لرشده دخله، ومن كان لزينة لم يقدر على دخوله. ولهذا يتحاماه كثير من الناس لأنه مخجل فاضح. قال ابن جزي: أخبرني بعض أشياخنا الحجاج الأكياس أن سبب صعوبة الدخول إليه هو أن بداخله مما يلي هذا الشق الذي يدخل منه حجراً كبيراً معترضاً. فمن دخل من ذلك الشق منبطحاً على وجهه وصل راسه إلى ذلك الحجر، فلم يمكنه التولج، ولا يمكنه أن ينطوي إلى العلو، ووجهه وصدره يليان الأرض. فذلك هو الذي ينشب ولا يخلص إلا بعد الجهد والجذب إلى خارج ومن دخل منه مستلقياً على ظهره أمكنه، لأنه إذا وصل رأسه إلى الحجر المعترض رفع رأسه، واستوى قاعداً، فكان ظهره مستنداً إلى الحجر المعترض وأوسطه في الشق ورجلاه من خارج الغار ثم يقوم قائماً بداخل الغار.

حكاية  ومما اتفق بهذا الجبل لصاحبين من أصحابي: أحدهما الفقيه المكرم أبو محمد عبد الله بن فرحان الأفريقي التوزري، والآخر أبو العباس أحمد الأندلسي الوادي آشي، أنهما قصدا الغار في حين مجاورتهما بمكة شرفها الله تعالى في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، وذهبا منفردين، لم يستصحبا دليلاً عارفاً بطريقه؛ فتاها. وضلا طريق الغار وسلكا طريقاً سواها منقطعة، وذلك في أوان اشتداد الحر وحمى القيظ، فلما نفد ما كان عندهما من الماء، وهما لم يصلا إلى الغار، أخذا في الرجوع إلى مكة شرفها الله تعالى، فوجدا طريقاً فاتبعاه وكان يفضي إلى جبل آخر، واشتد بهما الحر، وأجهدهما العطش، وعاينا الهلاك، وعجز الفقيه أبو محمد عبد الله بن فرحان عن المشي جملة، والقى بنفسه إلى الأرض، ونجا الأندلسي بنفسه. وكان فيه فضل قوة، ولم يزل يسلك تلك الجبال حتى أفضى به الطريق إلى أجياد، فدخل إلى مكة شرفها الله تعالى، وقصدني، واعلمني بهذه الحادثة وبما كان من أمر عبد الله التورزي وانقطاعه في الجبل، وكان في ذلك في آخر النهار. ولعبد الله المذكور ابن عم اسمه حسن، وهو من سكان وادي نخلة، وكان إذ ذاك بمكة، فأعلمته بما جرى على ابن عمه، وقصدت الشيخ الصالح الإمام أبا عبد الله محمد بن عبد الرحمن المعروف بخليل إمام ألمالكية نفع الله به، فأعلمته بخبره، فبعث بجماعة من أهل مكة عارفين بتلك الجبال والشعاب في طلبه، وكان من أمر عبد الله التوزري أنه لما فارقه رفيقه، لجأ إلى حجر كبير، فاستظل بظله، وأقام على هذه الحالة من الجهد والعطش، والغربان تطير فوق رأسه، وتنتظر موته. فلما انصرم النهار، واتى الليل، وجد في نفسه قوة وأنعشه برد الليل، فقام عند الصباح على قدميه ونزل من الجبل إلى بطن واد حجبت الجبال عنه الشمس، فلم يزل ماشياً إلى أن بدأت له دابة فقصد قصدها، فوجد خيمة للعرب. فلما رآها وقع إلى الأرض ولم يستطع النهوض، فرأته صاحبة الخيمة، وكان زوجها قد ذهب إلى ورد الماء فسقته ما كان عندها من الماء فلم يرو، وجاء زوجها فسقاه قربة ماء فلم يرو، وأركبه حماراً له، وقدم به مكة فوصلها عند صلاة العصر من الثاني متغيراً كأنه قام من قبر.

ذكر أميري مكة

وكانت إمارة مكة في عهد دخولي إليها للشريفين الأجلين الأخوين: أسد الدين رميثة وسيف الدين عطيفة أبني الأمير أبي نمي بن أبي سعد بن علي بن قتادة الحسنيين. ورميثة أكبرهما سناً، ولكنه كان يقدم اسم عطيفة في الدعاء له بمكة، لعدله ولرميثة من الأولاد أحمد وعجلان، وهو أمير مكة في هذا العهد، وتقيه وسند وأم قاسم. ولعطيفة من الأولاد محمد ومبارك ومسعود. ودار عطيفة عن يمين المروة، ودار أخيه رميثة برباط الشرابي عند باب بني شيبة، وتضرب الطبول على باب كل واحد منهما عند صلاة المغرب من كل يوم.

ذكر أهل مكة وفضائلهم

ولأهل مكة الأفعال الجميلة والمكارم التامة والأخلاق الحسنة والإيثار إلى الضعفاء والمنقطعين وحسن الجوار للغرباء. ومن مكارمهم أنهم متى صنع أحدهم وليمة يبدأ فيها بإطعام الفقراء المنقطعين المجاورين، ويستدعيهم بتلطف ورفق وحسن خلق، ثم يطعمهم. وأكثر المساكين المنقطعين يكونون بالأفران، حيث يطبخ الناس أخبازهم. فإذا طبخ أحدهم خبزه واحتمله إلى منزله فيتبعه المساكين فيعطي لكل واحد منهم ما قسم له، ولا يردهم خائبين، ولو كانت له خبزة واحدة فإنه يعطي ثلثها أو نصفها طيب النفس بذلك من غير ضجر. ومن أفعالهم الحسنة أن الأيتام الصغار يقعدون بالسوق، ومع كل واحد منهم قفتان: كبرى وصغرى وهم يسمون القفة مكتلاً فيأتي الرجل من أهل مكة إلى السوق، فيشتري الحبوب واللحم والخضر، ويعطي ذلك الصبي فيجعل الحبوب في إحدى قفتيه، واللحم والخضر في الأخرى، ويوصل ذلك إلى دار الرجل ليهيأ له طعامه منها، ويذهب الرجل إلى طوافه وحاجته، فلا يذكر أن أحداً من الصبيان خان الأمانة في ذلك قط، بل يؤدي ما حمل على ما أتم الوجوه. ولهم على ذلك أجرة معلومة من فلوس. وأهل مكة لهم ظرف ونظافة في الملابس وأكثر لباسهم البياض فترى ثيابهم أبداً ناصعة ساطعة. ويستعملون الطيب كثيراً ويكتحلون ويكثرون السواك بعيدان الأراك الأخضر. ونساء مكة فائقات الحسن بارعات الجمال ذوات صلاح وعفاف. وهن يكثرن التطيب، حتى إن إحداهن لتبيت طاوية وتشتري بقوتها طيباً. وهن يقصدن الطواف بالبيت في كل ليلة جمعة، فيأتين في أحسن زي وتغلب على الحرم رائحة طيبهن، وتذهب المرأة منهن فيبقى أثر الطيب بعد ذهابها عبقاً. ولأهل مكة عوائد حسنة وغيره سنذكرها إن شاء الله تعالى إذا فرغنا من ذكر فضائلها ومجاوريها.

ذكر قاضي مكة وخطيبها وإمام الموسم وعلمائها وصلحائها

قاضي مكة العالم الصالح العابد نجم الدين محمد بن إمام العالم محيي الدين الطبري، وهو فاضل كثير الصدقات والمواساة للمجاورين، حسن الأخلاق كثير الطواف والمشاهدة للكعبة الشريفة، يطعم الطعام الكثير في المواسم المعظمة، وخصوصاً في مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يطعم فيه شرفاء مكة وكبراءها وفقراءها وخدام الحرم الشريف وجميع المجاورين. وكان سلطان مصر الملك الناصر رحمه الله يعظمه كثيراً، وجميع صدقاته وصدقات أمرائه تجرى على يديه. وولده شهاب الدين فاضل، وهو الآن قاضي مكة شرفها الله. وخطيب مكة الإمام بمقام إبراهيم عليه السلام الفصيح المصقع وحيد عصره بهاء الدين الطبري، وهو أحد الخطباء الذين ليس بالمعمورة مثلهم بلاغة وحسن بيان. وذكر لي أنه ينشئ لكل جمعة خطبة ثم لا يكررها فيما بعد. وإمام الموسم وإمام المالكية بالحرم الشريف هو الشيخ الفقيه العالم الصالح الخاشع الشهير أبو عبد الله محمد ابن الفقيه الإمام الصالح الورع أبي زيد عبد الرحمن، وهو المشتهر بخليل نفع الله به وأمتع ببقائه. وأهله من بلاد الجريد من إفريقية، ويعرفون بها ببني حيون من كبارها، ومولده ومولد أبيه بمكة شرفها الله، وهو أحد الكبار من أهل مكة، بل واحدها وقطبها بإجماع الطوائف على ذلك. مستغرق العبادة في جميع أوقاته، حيي كريم النفس حسن الأخلاق كثير الشفقة، لا يرد من سأله خائباً.

حكاية مباركة  رأيت أيام مجاورتي بمكة شرفها الله، وأنا إذ ذاك ساكن منها بالمدرسة المظفرية، والنبي صلى الله عليه وسلم في النوم، وهو قاعد بمجلس التدريس في المدرسة المذكورة بجانب الشباك الذي تشاهد منه الكعبة الشريفة، والناس يبايعونه، فكنت أرى الشيخ أبا عبد الله المدعو بخليل قد دخل وقعد القرفصاء بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يده في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: أبايعك على كذا وكذا، وعدد أشياء منها، وأن لا أرد من بيتي مسكيناً خائباً، وكان ذلك آخر كلامه، فكنت أعجب من قوله، وأقول في نفسي كيف يقول هذا ويقدر عليه، مع كثرة فقراء مكة واليمن والزيالعة والعراق والعجم ومصر والشام. وكنت أراه حين ذلك لابساً جبة بيضاء قصيرة من ثياب القطن المدعوة بالقفطان. كان يلبسها في بعض الأوقات، فلما صليت الصبح غدوت عليه وأعلمته برؤياي فسر بها وبكى، وقال لي تلك الجبة أهداها بعض الصالحين لجدي، فأنا ألبسها تبركاً. وما رأيته بعد ذلك يرد سائلاً خائباً. وكان يأمر خدامه يخبزون الخبز ويطبخون الطعام ويأتون به إلي بعد صلاة العصر من كل يوم. وأهل مكة لا يأكلون في اليوم إلا مرة واحدة بعد العصر، ويقتصرون عليها إلى مثل ذلك الوقت. ومن أراد الأكل في سائر النهار أكل التمر. ولذلك صحت أبدانهم، وقلت فيهم الأمراض والعاهات. وكان الشيخ خليل متزوجاً بنت القاضي نجم الدين الطبري، فشك في طلاقها وفارقها. وتزوجها بعده الفقيه شهاب الدين النويري من كبار المجاورين، وهو من صعيد مصر. وأقامت عنده أعواماً وسافر بها إلى المدينة الشريفة ومعها أخوها شهاب الدين فحنث في يمين بالطلاق، ففارقها على ضنانته بها، وراجعها الفقيه خليل بعد سنين عدة. ومن أعلام مكة إمام الشافعية شهاب الدين بن البرهان، ومنهم إمام الحنفية شهاب الدين أحمد بن علي من كبار أئمة مكة وفضلائها، يطعم المجاورين وأبناء السبيل. وهو أكرم فقهاء مكة. ويدان في كل سنة أربعين ألف درهم وخمسين ألفاً، فيؤديها الله عنه. وأمراء الأتراك يعظمونه ويحسنون الظن به، لأنه إمامهم. ومنهم إمام الحنابلة المحدث الفاضل محمد بن عثمان البغدادي الأصل المكي المولد. وهو نائب القاضي نجم الدين، والمحتسب بعد قتل تقي الدين المصري، والناس يهابونه لسطوته.

حكاية كان تقي الدين المصري محتسباً بمكة، وكان له دخول فيما يعنيه وفيما لا يعنيه. فاتفق في بعض السنين أن أتى أمير الحاج بصبي من ذوي الدعارة بمكة قد سرق بعض الحجاج. فأمر بقطع يده فقال له تقي الدين: إن لم تقطعها بحضرتك، وإلا غلب أهل مكة خدامك عليه. فاستنقذوه منهم وخلصوه، فأمر بقطع يده في حضرته فقطعت. وحقدها لتقي الدين. ولم يزل يتربص به الدوائر، ولا قدرة له عليه لأن له حسباً من الأميرين رميثة وعطيفة والحسب عندهم أن يعطي أحدهم هدية من عمامة أو شاشية بمحضر الناس تكون جواراً لمن أعطيته، ولا تزول حرمتها، معه حتى يريد الرحلة والتحول عن مكة. فأقام تقي الدين بمكة أعواماً، ثم عزم على الرحلة، وودع الأميرين، وطاف طواف الوداع، وخرج من باب الصفا. فلقيه صاحبه الأقطع وتشكى له ضعف حاله، وطلب منه ما يستعين به على حاجته. فانتهره تقي الدين وزجره، فاستل خنجراً له يعرف عندهم بالجنبية، وضربه ضربة واحدة كان فيها حتفه. ومنهم الفقيه الصالح زين الدين الطبري، شقيق نجم الدين المذكور من أهل الفضل والإحسان للمجاورين ومنهم الفقيه المبارك محمد بن فهد القرشي، من فضلاء مكة. وكان ينوب عن القاضي نجم الدين بعد وفاة الفقيه محمد بن عثمان الحنبلي، ومنهم العدل الصالح محمد بن البرهان زاهد ورع مبتلى بالوسواس. رأيته يوماً يتوضأ من بركة المدرسة المظفرية، فيغسل ويكرر، ولما مسح رأسه أعاد مسحه مرات، ثم لم يقنعه ذلك فغطس رأسه في البركة. وكان إذا أراد الصلاة ربما صلى الإمام الشافعي، وهو يقول: نويت نويت، فيصلي من غيره وكان كثير الطواف والاعتمار والذكر.

ذكر المجاورين بمكة

فمنهم الإمام العالم الصالح الصوفي المحقق العابد عفيف الدين عبد الله بن أسعد اليمني الشافعي الشهير باليافعي، كثير الطواف آناء الليل وأطراف النهار وكان إذا طاف من الليل يصعد إلى سطح المدرسة المظفرية فيقعد مشاهداً للكعبة الشريفة، إلى أن يغلبه النوم فيجعل تحت رأسه حجراً، أو ينام يسيراً، ثم يجدد الوضوء ويعود لحاله من الطواف حتى يصلي الصبح. وكان متزوجاً ببنت الفقيه العابد شهاب الدين بن برهان، وكانت صغيرة السن. فلا تزال تشكو إلى أبيها حالها فيأمرها بالصبر، فأقامت معه على ذلك سنين ثم فارقته. ومنهم الصالح العابد نجم الدين الأصفوني. كان قاضياً ببلاد الصعيد فانقطع إلى الله تعالى، وجاور بالحرم الشريف. وكان يعتمر في كل يوم من التنعيم، ويعتمر في رمضان: مرتين في اليوم اعتماداً على ما في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" عمرة في رمضان تعدل حجة معي " . ومنهم الشيخ الصالح العابد شمس الدين محمد الحلبي، كثير الطواف والتلاوة من قدماء المجاورين، توفي بمكة، ومنهم الصالح أبو بكر الشيرازي المعروف بالصامت، كثير الطواف، أقام بمكة أعواماً لا يتكلم فيها. ومنهم الصالح خضر العجمي، كثير الصوم والتلاوة والطواف. والشيخ الصالح برهان الدين العجمي الواعظ، كان ينصب له كرسي تجاه الكعبة الشريفة فيعظ الناس ويذكرهم بلسان فصيح وقلب خاشع يأخذ بمجامع القلوب. والصالح المجود برهان الدين إبراهيم المصري مقرىء مجيد ساكن رباط السدرة، ويقصده أهل مصر والشام بصدقاتهم، ويعلم الأيتام كتاب الله تعالى، ويقوم بمؤنهم ويكسوهم. والصالح العابد عز الدين الواسطي من أصحاب الأموال الطائلة، يحمل إليه من بلده المال الكثير في كل سنة، فيبتاع الحبوب والتمر، ويفرقها على الضعفاء والمساكين، ويتولى حملها إلى بيوتهم بنفسه، ولم يزل ذلك دأبه إلى أن توفي. والفقيه الصالح الزاهد أبو الحسن علي بن رزق الله الأنجري من أهل قطر طنجة من كبار الصالحين جاور بمكة سنين وبها وفاته. كانت بينه وبين والدي صحبة قديمة. ومتى أتى إلى بلدنا طنجة نزل عندنا. وكان له بيت بالمدرسة المظفرية يعلم العلم فيها نهاراً ويأوي بالليل إلى مسكنه برباط ربيع، وهو من أحسن الرباطات بمكة، بداخله بئر عذبة لا تماثلها بئر بمكة، وسكانها الصالحون وأهل ديار الحجاز يعظمون هذا الرباط تعظيماً شديداً وينذرون له النذور، وأهل الطائف يأتونه بالفواكه. ومن عاداتهم أن كل من له بستان من النخيل والعنب والفرسك وهو الخوخ والتين وهو يسمونه الخمط يخرج منه العشر لهذا الرباط. ويوصلون ذلك إليه على جمالهم ومسيرة ما بين مكة والطائف يومان. ومن لم يف بذلك نقصت فواكهه في السنة الآتية وأصابتها الجوائح.

حكاية في فضيلة أتي يوماً غلمان الأمير أبي نمي صاحب مكة إلى هذا الرباط ودخلوا بخيل الأمير وسقوها من تلك البئر، فلما عادوا بالخيل إلى مرابطها أصابتها الأوجاع وضربت بأنفسها الأرض برؤوسها وأرجلها. واتصل الخبر بالأمير أبي نمي، فأتى باب الرباط بنفسه، واعتذر إلى المساكين الساكنين به، واستصحب واحداً منهم فمسح على بطون الدواب بيده فأراقت ما كان في أجوافها من ذلك الماء وبرئت مما أصابها، ولم يتعرضوا بعدها للرباط إلا بالخير. ومنهم الصالح المبارك أبو العباس الغماري من أصحاب أبي الحسن بن رزق الله. وسكن رباط ربيع، ووفاته بمكة. ومنهم الصالح أبو يعقوب يوسف بن بادية سبتة، كان خديماً للشيخين المذكورين، فلما توفيا صار شيخ الرباط بعدهما. ومنهم الصالح السابح السالك أبو الحسن علي بن فرغوس التلمساني. ومنهم الشيخ سعيد الهندي شيخ رباط كلالة. 

حكاية  

كان الشيخ سعيد قد قصد ملك الهند محمد شاه، فأعطاه مالاً عظيماً قدم به مكة. فسجنه الأمير عطيفة، وطلبه بأداء المال، فامتنع فعذّب بعصر رجليه، فأعطى خمسة وعشرين ألف درهم نقرة، وعاد إلى بلاد الهند. ورأيته بها، ونزل بدار الأمير سيف الدين غدا ابن هبة الله بن عيسى بن مهنا أمير عرب الشام. وكان غدا ساكناً ببلاد الهند متزوجاً بأخت ملكها، وسيذكر أمره. فأعطى ملك الهند للشيخ سعيد جملة مال، وتوجه صحبة حاج يعرف بوشل من ناس الأمير غدا، وجّهه الأمير المذكور ليأتيه ببعض ناسه، ووجه معه أموالاً وتحفاً منها الخلعة التي خلعها عليه ملك الهند ليلة زفافه بأخته، وهي من الحرير الأزرق مزركشة بالذهب، ومرصعة بالجوهر، بحيث لا يظهر لونها لغلبة الجوهر عليها، وبعث معها خمسين ألف درهم ليشتري له الخيل العتاق. فسافر الشيخ سعيد صحبة وشل، واشتريا سلعاً بما عندهما من الأموال. فلما وصلا جزيرة سقطرة المنسوب إليها الصبر السقطري، خرج عليهما لصوص الهند في مراكب كثيرة فقاتلوهم قتالاً شديداً، مات فيه من الفريقين جملة. وكان وشل رامياً فقتل منهم جماعة، ثم تغلب السراق عليهم وطعنوا وشلا طعنة مات منها بعد ذلك. وأخذوا ما كان عندهم، وتركوا لهم مركبهم بآلة سفره وزاده. فذهبوا إلى عدن، ومات بها وشل. وعادة هؤلاء السراق أنهم لا يقتلون أحداً إلا حين القتال ولا يغرقونه، وإنما يأخذون ماله وبتركونه يذهب بمركبه حيث شاء. ولا يأخذون المماليك لأنهم من جنسهم. وكان الحاج سعيد قد سمع من ملك الهند أنه يريد إظهار الدعوة العباسية ببلده، كمثل ما فعله ملوك الهند ممن تقدمه، مثل السلطان شمس الدين للمش واسمه " بفتح اللام الأولى وإسكان الثانية وكسر الميم وشين معجم"، وولده ناصر الدين. ومثل السلطان جلال الدين فيروز شاه، والسلطان غياث الدين بلين. وكانت الخلع تأتي إليهم من بغداد. فلما توفي وشل قصد الشيخ سعيد إلى الخليفة أبي العباس ابن الخليفة أبي الربيع سليمان العباسي بمصر، وأعلمه بالأمر. فكتب له كتاباً بخطه بالنيابة عنه ببلاد الهند. فاستصحب الشيخ سعيد الكتاب وذهب إلى اليمن واشترى بها ثلاث خلع سوداً، وركب البحر إلى الهند. فلما وصل كنبايت، وهي على مسيرة أربعين يوماً من دهلي حاضرة ملك الهند، كتب صاحب الخبر إلى الملك يعلمه بقدوم الشيخ سعيد، وأن معه أمر الخليفة وكتابه. فورد الأمر ببعثه إلى الحضرة مكرماً. فلما قرب من الحضرة بعث الأمراء والقضاة والفقهاء لتلقيه، ثم خرج هو بنفسه لتلقيه. فتلقاه وعانقه ودفع له الأمر، فقبله ووضعه على رأسه، ودفع له الصندوق الذي فيه الخلع فاحتمله الملك على كاهله خطوات ولبس إحدى الخلع وكسا الأخرى الأمير غياث الدين محمد بن عبد القادر بن يوسف بن عبد العزيز ابن الخليفة المنتصر العباسي، وكان مقيماً عنده، وسيذكر خبره. وكسا الخلعة الثالثة الأمير قبوله الملقب بالملك الكبير، وهو الذي يقوم على رأسه ويشرد عنه الذباب. وأمر السلطان فخلع على الشيخ سعيد ومن معه، وأركبه على الفيل، ودخل المدينة كذلك، والسلطان أمامه على فرسه، وعن يمينه وشماله الأميران اللذان كساهما الخلعتين العباسيتين. والمدينة قد زينت بأنواع الزينة وصنع بها إحدى عشرة قبة من الخشب. كل قبة منها أربع طبقات، في كل طبقة طائفة من المغنين رجالاً ونساء، والراقصات، وكلهم مماليك السلطان. والقبة مزينة بثياب الحرير المذهب أعلاها وأسفلها وداخلها وخارجها، وفي وسطها ثلاثة أحواض من جلود الجواميس مملوءة ماء قد حلّ فيه الجلاب، يشربه كل وارد وصادر، لا يمنع منه أحد. وكل من يشرب منه يعطى بعد ذلك خمس عشرة ورقة من أوراق التنبول والفوفل والنورة، فيأكلها فتطيب نكهته وتزيد في حمرة وجهه ولثاته وتقمع عنه الصفراء وتهضم ما أكل من الطعام. ولما ركب الشيخ سعيد على الفيل فرشت له ثياب الحرير بين يدي الفيل يطأ عليها الفيل من باب المدينة إلى دار السلطان. وأنزل بدار تقرب من دار الملك. وبعث له أموالاً طائلة. وجميع الأثواب المعلقة المفروشة بالقباب والموضوعة بين يدي الفيل لا تعود إلى السلطان بل يأخذها أهل الطرب وأهل الصناعات الذين يصنعون القباب، وخدام الأحواض وغيرهم. وهكذا فعلهم من قدم السلطان من سفر. وأمر الملك بكتاب الخليفة أن يقرأ على المنبر بين الخطبتين في كل يوم جمعة، وأقام الشيخ سعيداً شهراً ثم بعث معه الملك هدايا إلى الخليفة. فوصل كنبايت، وأقام بها حتى تيسرت أسباب حركته في البحر. وكان ملك الهند قد بعث أيضاً من عنده رسولاً إلى الخليفة وهو الشيخ رجب البرقعي، أحد شيوخ الصوفية، وأصله من مدينة القرم من صحراء قفجق، وبعث معه هدايا للخليفة منها حجر ياقوت قيمته خمسون ألف دينار. وكتب له يطلب منه أن يعقد له النيابة عنه ببلاد الهند والسند، ويبعث له سواه من يظهر. هكذا نص عليه كتابه اعتقاداً منه في الخلافة وحسن نية. وكان للشيخ رجب أخ بديار مصر يدعى بالأمير سيف الدين الكاشف. فلما وصل رجب إلى الخليفة أبى أن يقرأ الكتاب ويقبل الهدية إلا بمحضر الملك الصالح إسماعيل بن الملك الناصر. فأشار سيف الدين على أخيه رجب ببيع الحجر فباعه واشترى بثمنه، وهو ثلاثمائة ألف درهم، أربعة أحجار. وحضر بين يدي الملك الصالح، ودفع له الكتاب، وأحد الأحجار، ودفع سائرها لأمرائه. واتفقوا على أن يكتب لملك الهند بما طلب.

فوجهوا الشهود إلى الخليفة وأشهد على نفسه أنه قدمه نائباً عنه ببلاد الهند وما يليها، وبعث الملك الصالح رسولاً من قبله، وهو شيخ الشيوخ بمصر ركن الدين العجمي، ومعه الشيخ رجب وجماعة من الصوفية، وركبوا بحر فارس من الأبلة إلى هرمز، وسلطانها يومئذ قطب الدين تمتهن طوران شاه. فأكرم مثواهم، وجهز لهم مركباً إلى بلاد الهند فوصلوا مدينة كنبايت والشيخ سعيد بها وأميرها يومئذ مقبول التلتكي، أحد خواص ملك الهند فاجتمع الشيخ رجب بهذا الأمير وقال له أن الشيخ سعيد إنما جاءكم بالتزوير. والخلع التي ساقها إنما اشتراها بعدن، فينبغي أن تثقفوه وتبعثوه إلى خوند عالم وهو السلطان. فقال له الأمير: الشيخ سعيد معظم عند السلطان فما يفعل به هذا إلا بأمره. ولكني أبعثه معك ليرى فيه السلطان رأيه. وكتب الأمير بذلك كله إلى السلطان، وكتب به أيضاً صاحب الأخبار فوقع في نفس السلطان تغير، وانقبض عن الشيخ رجب لكونه تكلم بذلك على رؤوس الأشهاد، بعد ما صدر من السلطان للشيخ سعيد من الإكرام ما صدر، فمنع رجب من الدخول عليه، وزاد إكرام الشيخ سعيد، ولما دخل شيخ الشيوخ على السلطان قام إليه وعانقه وأكرمه وكان متى دخل عليه يقوم إليه. وبقي الشيخ سعيد المذكور بأرض الهند معظماً مكرماً. وبها تركته سنة ثمان وأربعين. وكان بمكة أيام مجاورتي بها حسن المغربي المجنون، وأمره غريب وشأنه عجيب. وكان قبل ذلك صحيح العقل خديماً لولي الله تعالى نجم الدين الأصبهاني أيام حياته.

 حكاية

كان حسن المجنون كثير الطواف بالليل، وكان يرى في طوافه بالليل فقيراً، يكثر الطواف، ولا يراه بالنهار. فلقيه ذلك الفقير ليلة، وسأله عن حاله، وقال يا حسن: إن أمك تبكي عليك، وهي مشتاقة إلى رؤيتك، وكانت من إماء الله الصالحات، أفتحب أن تراها قال له: نعم، ولكني لا قدرة لي على ذلك. فقال له: نجتمع ها هنا في الليلة المقبلة إن شاء الله تعالى - فلما كانت الليلة المقبلة، وهي ليلة الجمعة، وجده حيث واعده - فطافا بالبيت ما شاء الله، ثم خرج، وهو في أثره، إلى باب المعلى. فأمره أن يسد عينيه ويمسك بثوبه ففعل ذلك. ثم قال: بعد ساعة: أتعرف بلدك ؟ قال نعم. قال: ها هو هذا. ففتح عينيه، فإذا به على دار أمه، فدخل عليها، ولم يعلمها بشيء مما جرى، وأقام عندها نصف شهر، وأظن أن بلده مدينة أسفي . ثم خرج إلى الجبانة، فوجد الفقير صاحبه، فقال له: كيف أنت ؟ فقال: يا سيدي، إني اشتقت إلى رؤية الشيخ نجم الدين؛ وكنت خرجت على عادتي، وغبت عنه هذه الأيام، وأحب أن تردني إليه. فقال له: نعم، وواعده الجبانة ليلاً. فلما وافاه بها، أمره أن يفعل كفعله في مكة شرفها الله، من تغميض عينيه والإمساك بذيله ففعل ذلك، فإذا به في مكة شرفها الله. وأوصاه أن لا يحدث نجم الدين بشيء مما جرى، ولا يحدث به غيره فلما دخل على نجم الدين، قال له: أين كنت يا حسن في غيبتك ؟ فأبى أن يخبره. فعزم عليه، فأخبره بالحكاية. فقال: أرني الرجل، فأتي معه ليلاً، وأتى الرجل على عادته. فلما مر بهما قال له: يا سيدي هو هذا. فسمعه الرجل فضربه بيده على فمه وقال اسكت اسكتك الله. فخرس لسانه، وذهب عقله، وبقي بالحرم مولهاً يطوف بالليل والنهار من غير وضوء ولا صلاة، والناس يتبركون به ويكسونه، وإذا جاع خرج إلى السوق التي بين الصفا والمروة، فيقصد حانوتاً من الحوانيت، فيأكل منها ما أحب، لا يصده أحد ولا يمنعه بل يسر كل من أكل له شيئاً، وتظهر له البركة والنماء في بيعه وربحه. ومتى أتى السوق تطاول أهلها بأعناقهم إليه، كل منهم يحرص على أن يأكل من عنده، لما جربوه من بركته. كذلك فعله مع السقائين، متى أحب أن يشرب. ولم يزل دأبه كذلك إلى سنة ثمانٍ وعشرين، فحج فيها الأمير سيف الدين يلملك، فاستصحبه معه إلى ديار مصر، فانقطع خبره نفع الله تعالى به.

ذكر عادة أهل مكة في صلواتهم ومواضع أئمتهم

فمن عاداتهم أن يصلي أول الأئمة إمام الشافعية، وهو المقدم من قبل أولي الأمر. وصلاته خلف المقام الكريم، مقام إبراهيم الخليل عليه السلام في حطيم له هنالك بديع. وجمهور الناس بمكة على مذهبه. والحطيم خشبتان موصول ما بينها بأذرع شبه السلم، تقابلهما خشبتان على صفتهما، وقد عقدت على أرجل مجصصة، وعرض على أعلى الخشب خشبة أخرى فيها خطاطيف حديد يعلق فيها قناديل زجاج. فإذا صلى الإمام الشافعي صلى بعده إمام المالكية في محراب قبالة الركن اليماني، ويصلي إمام الحنبلية معه في وقت واحد مقابلاً ما بين الحجر الأسود والركن اليماني، ثم يصلي إمام الحنفية قبال الميزاب المكرم تحت حطيم له هنالك، ويوضع بين يدي الأئمة في محاربيهم الشمع. وترتيبهم هكذا في الصلوات الأربع، وأما صلاة المغرب فإنهم يصلونها في وقت واحد، كل إمام يصلي بطائفته، ويدخل على الناس من ذلك سهو تخليط، فربما ركع المالكي بركوع الشافعي وسجد الحنفي بسجود الحنبلي. وتراهم مصيخين كل واحد إلى صوت المؤذن الذي يسمع طائفته لئلا يدخل عليه السهو.

ذكر عاداتهم في الخطبة وصلاة الجمعة

وعادتهم في يوم الجمعة أن يلصق المنبر المبارك إلى صفح الكعبة الشريفة، فيما بين الحجر الأسود والركن العراقي، ويكون الخطيب مستقبلاً المقام الكريم. فإذا خرج الخطيب، أقبل لابساً ثوب سواد، معتماً بعمامة سوداء، وعليه طيلسان أسود. كل ذلك من كسوة الملك الناصر. وعليه الوقار والسكينة، وهو يتهادى بين رايتين سوداوين، يمسكهما رجلان من المؤذنين، وبين يديه أحد القومه، في يده الفرقعة، وهي عود في طرفه جلد رقيق مفتول، ينفضه في الهواء فيسمع له صوت عال يسمعه من بداخل الحرم وخارجه، فيكون إعلاماً بخروج الخطيب. ولا يزال كذلك إلى أن يقرب من المنبر فيقبل الحجر الأسود ويدعو عنده، ثم يقصد المنبر، والمؤذن الزمزمي، وهو رئيس المؤذنين بين يديه، لابساً السواد وعلى عاتقه السيف ممسكاً له بيده، وتركز الرايتان عن جانبي المنبر. فإذا صعد أول درج من درج المنبر قلده المؤذن السيف، فيضرب بنصل السيف ضربة في الدرج يسمع بها الحاضرين، ثم يضرب في الدرج الثاني ضربة، ثم في الثالث أخرى.فإذا استوى في عليا الدرجات ضرب ضربة رابعة، ووقف داعياً بدعاء خفي، مستقبل الكعبة. ثم يقبل على الناس فيسلم عن يمينه وشماله، ويرد عليه الناس، ثم يقعد. ويؤذن المؤذنون في أعلى قبة زمزم في حين واحد. فإذا فرغ الأذان، خطب الخطيب خطبة يكثر بها من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول في أثنائها: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما طاف بهذا البيت طائف، ويشير بأصبعه إلى البيت الكريم: اللهم صل على محمد وآل محمد ما وقف بعرفة واقف. ويترضى عن الخلفاء الأربعة وعن سائر الصحابة وعن النبي صلى الله عليه وسلم وسبطيه وأمهما وخديجة جدتهما، على جميعهم السلام. ثم يدعو للملك الناصر، ثم للسلطان المجاهد نور الدين علي ابن الملك المؤيد داود ابن الملك المظفر يوسف بن علي بن رسول، ثم للسيدين الشريفين الحسنيين أميري مكة. سيف الدين عطيفة، وهو أصغر الأخوين، ويقدم اسمه لعدله، وأسد الدين رميثة، ابني أبي نمي بن أبي سعيد بن علي بن قتادة. وقد دعا لسلطان العراق مرة، ثم قطع ذلك. فلما فرغ من خطبته وانصرف، والرايتان عن يمينه وشماله والفرقعة أمامه إشعاراً بانقضاء الصلاة، ثم يعاد المنبر إلى مكانه الكريم.

ذكر عاداتهم في استهلال الشهور

وعادتهم في ذلك أن يأتي أمير مكة في أول يوم من الشهر، وقواده يحفون به، وهو لابس البياض معتم متقلد سيفاً وعليه السكينة والوقار، فيصلي عند المقام الكبير ركعتين، ثم يقبل الحجر، ويسرع في طواف اسبوع . ورئيس المؤذنين على أعلى قبة زمزم. فعند ما يكمل الأمير شوطاً واحداً. ويقصد الحجر لتقبيله، يندفع رئيس المؤذنين بالدعاء له، والتهنئة بدخول الشهر، رافعاً بذلك صوته، ثم يذكر شعراً في مدحه ومدح سلفه الكريم. ويفعل به هكذا في السبعة أشواط. فإذا فرغ منها ركع عند الملتزم ركعتين، ثم ركع خلف المقام أيضاً ركعتين، ثم انصرف. ومثل هذا سواء يفعل إذا أراد سفراً وإذا قدم من سفر أيضاً.

ذكر عادتهم في شهر رجب

وإذا هل هلال رجب أمر أمير مكة بضرب الطبول والبوقات اشعاراً بدخول الشهر، ثم يخرج في أول يوم منه راكباً. ومعه أهل مكة فرساناً ورجالاً، على ترتيب عجيب، وكلهم بالأسلحة، يلعبون بين يديه، والفرسان يجولون ويجرون، والرجال يتواثبون ويرمون بحرابهم إلى الهواء، ويلقفونها، والأمير رميثة والأمير عطيفة معهما أولادهما وقوادهما مثل محمد بن إبراهيم، وعلي وأحمد ابني صبيح، وعلي بن يوسف وشداد بن عمر وعامر الشرق ومنصور بن عمر وموسى المزرق، وغيرهم من كبار أولاد الحسن ووجوه القواد. وبين أيديهم الرايات والطبول والدبادب، وعليهم السكينة والوقار. ويسيرون حتى ينتهوا إلى الميقات، ثم يأخذون في الرجوع على معهود ترتيبهم إلى المسجد الحرام، فيطوف الأمير بالبيت، والمؤذن الزمزمي بأعلى قبة زمزم يدعو له عند كل شوط، على ما ذكرناه من عادته، فإذا طاف صلى ركعتين عند الملتزم، وصلى عند المقام وتمسح به، وخرج إلى المسعى فسعى راكباً والقواد يحفون به، والحرابة بين يديه، ثم يسير إلى منزله. وهذا اليوم عندهم عيد من الأعياد يلبسون فيه أحسن الثياب ويتنافسون في ذلك.

ذكر عمرة رجب

 وأهل مكة يحتفلون لعمرة رجب الاحتفال الذي لا يعهد مثله، وهي متصلة ليلاً نهاراً. وأوقات الشهر كله معمورة بالعبادة، وخصوصاً أول يوم منه، ويوم خمسة عشر، والسابع والعشرين. فإنهم يستعدون لها قبل ذلك بأيام. شاهدتهم في ليلة السابع والعشرين منه، وشوارع مكة قد غصت بالهوادج عليها كساء الحرير والكتان الرفيع، كل واحد يفعل بقدر استطاعته، والجمال مزينة مقلدة بقلائد الحرير، وأستار الهوادج ضافية تكاد تمس الأرض فهي كالقباب المضروبة. ويخرجون إلى ميقات التنعيم فتسيل أباطح مكة بتلك الهوادج، والنيران مشعلة بجنبتي الطريق، والشمع والمشاعل أمام الهوادج، والجبال تجيب بصداها إهلال المهللين، فترق النفوس، وتنهمل الدموع، فإذا قضوا العمرة، وطافوا بالبيت، خرجوا إلى السعي بين الصفا والمروة بعد مضي شيء من الليل، والمسعى متقد السرج غاص بالناس، والساعيات على هوادجهن، والمسجد الحرام يتلألأ نوراً. وهم يسمون هذه العمرة بالعمرة الأكمية، لأنهم يحرمون بها من أكمة مسجد عائشة رضي الله عنها بمقدار غلوة، على مقربة من المسجد المنسوب إلى علي رضي الله عنه. والأصل في هذه العمرة أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لما فرغ من بناء الكعبة المقدسة خرج ماشياً حافياً معتمراً، ومعه أهل مكة وذلك في اليوم السابع والعشرين من رجب، وانتهى إلى الأكمة فأحرم منها، وجعل طريقه على ثنية الحجون إلى المعلى، من حيث دخل المسلمون يوم الفتح. فبقيت تلك العمرة سنة عند أهل مكة إلى هذا العهد، وكان عهد عبد الله مذكوراً أهدى فيه بدناً كبيرة، وأهدى أشراف مكة وأهل الاستطاعة منهم. وأقاموا أياماً يطعمون ويطعمون شكراً لله على ما وهبهم من التيسير والمعونة في بناء بيته الكريم، على الصفة التي كانت عليها في أيام الخليل صلوات الله عليه. ثم لما قتل ابن الزبير نقض الحجاج الكعبة، وردها إلى بنائها في عهد قريش وكانوا قد اقتصروا في بنائها، وأبقاها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، لحدثان عهدهم بالكفر. ثم أراد الخليفة أبو جعفر المنصور أن يعيدها إلى بناء ابن الزبير، فنهاه مالك رحمه الله عن ذلك، وقال: يا أمير المؤمنين، لا تجعل البيت ملعبة للملوك، متى أراد أحدهم أن يغير فعل. فتركه على حاله سداً للذريعة وأهل البلاد الموالية لمكة، مثل بجيله وزهران وغامد، يبادرون لحضور عمرة رجب ويجلبون إلى مكة الحبوب والسمن والعسل والزبيب والزيت واللوز، فترخص الأسعار بمكة ويرغد عيش أهلها وتعمم المرافق، ولولا أهل هذه البلاد لكان أهل مكة في شظف من العيش. ويذكر أنهم متى أقاموا ببلادهم، ولم يأتوا بهذه الميرة أجدبت بلادهم ووقع الموت في مواشيهم. ومتى أوصلوا الميرة أخصبت بلادهم وظهرت فيها البركة ونمت أموالهم. فهم إذا حان وقت ميرتهم وأدركهم كسل عنها، اجتمعت نساؤهم فأخرجنهم. وهذا من لطائف صنع الله تعالى وعنايته ببلده الأمين وبلاد السرو التي يسكنها بجيله وزهران وغامد وسواهم من القبائل مخصبة كثيرة الأعناب وافرة الغلات، وأهلها فصحاء الألسن، لهم صدق نية وحسن اعتقاد. وهم إذا طافوا بالكعبة يتطارحون عليها، لائذين بجوارها، متعلقين بأستارها، داعين بأدعية يتصدع لرقتها القلوب: وتدمع العيون الجامدة، فترى الناس حولهم باسطي أيديهم مؤمنين على أدعيتهم. ولا يتمكن لغيرهم الطواف معهم، ولا استلام الحجر، لتزاحمهم على ذلك. وهم شجعان أنجاد، ولباسهم الجلود. وإذا وردوا مكة هابت اعراب الطريق مقدمهم، وتجنبوا اعتراضهم، ومن صحبهم من الزوار حمد صحبتهم. وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم، وأثنى عليهم خيراً وقال: علموهم الصلاة يعلموكم الدعاء. وكفاهم شرفاً دخولهم في عموم قوله صلى الله عليه وسلم " الإيمان يمان والحكمة يمانية " . وذكر أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يتحرى وقت طوافهم ويدخل في جملتهم تبركاً بدعائهم. وشأنهم عجيب كله، وقد جاء في أثر: زاحموهم في الطواف، فإن الرحمة تنصبّ عليهم صبّاً.

ذكر عادتهم في ليلة النصف من شعبان

وهذه الليلة من الليالي المعظمة عند أهل مكة، يبادرون فيها إلى أعمال البر من الطواف والصلاة جماعات وأفذاذاً والاعتمار. ويجتمعون في المسجد الحرام جماعة، لكل جماعة إمام. ويوقدون السرج والمصابيح والمشاعل. ويقابل ذلك ضوء القمر فتتلألأ الأرض والسماء نوراً ويصلون مائة ركعة، يقرأون في كل ركعة بأم القرآن وسورة الإخلاص، يكررونها عشراً وبعض الناس يصلون في الحجر منفردين، وبعضهم يطوفون بالبيت الشريف، وبعضهم قد خرجوا للاعتمار.

ذكر عادتهم في شهر رمضان المعظم

وإذا أهل هلال رمضان تضرب الطبول والدبادب عند أمير مكة. ويقع الاحتفال بالمسجد الحرام، من تجديد الحصر، وتكثير الشمع والمشاعل، حتى يتلألأ الحرم نوراً، ويسطع بهجة وإشراقاً. وتتفرق الأئمة فرقاً. وهم الشافعية والحنبلية والحنفية والزيدية، وأما المالكية فيجتمعون على أربعة من القراء، يتناوبون القراءة ويوقدون الشمع ولا تبقى في الحرم زاوية ولا ناحية إلا وفيها قارئ يصلي بجماعة، فيرتج المسجد لأصوات القراء، وترق النفوس وتحضر القلوب وتهمل الأعين. ومن الناس من يقتصر على الطواف والصلاة في الحجر منفرداً. والشافعية أكثر الأئمة اجتهاداً، وعاداتهم أنهم إذا أكملوا التراويح المعتادة، وهي عشرون ركعة، يطوف إمامهم وجماعته. فإذا فرغ من الأسبوع ضربت الفرقعة التي ذكرنا أنها تكون بين يدي الخطيب يوم الجمعة، كان ذلك إعلاماً بالعودة إلى الصلاة. ثم يصلي ركعتين، ثم يطوف أسبوعاً هكذا إلى أن يتم عشرين ركعة أخرى. ثم يصلون الشفع والوتر، وينصرفون. وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً. وإذا كان وقت السحور يتولى المؤذن الزمزمي التسحير في الصومعة التي بالركن الشرقي من الحرم، فيقوم داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور، وهكذا يفعلون في سائر الصوامع. فإذا تكلم أحد منهم أجابه صاحبه، وقد نصبت في أعلى كل صومعة خشبة على رأسها عود معترض، قد علق فيه قنديلان من الزجاج كبيران يوقدان، فإذا قرب الفجر وقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة، وحط القنديلان، وابتدأ المؤذنون بالأذان. وأجاب بعضهم بعضاً. ولديار مكة شرفها الله سطوح. فمن بعدت داره بحيث لا يسمع الأذان يبصر القنديلين المذكورين فيتسحر. حتى إذا لم يبصرها أقلع عن الأكل. وفي ليلة وتر من ليالي العشر الأواخر من رمضان يختمون القرآن ويحضر الختم القاضي والفقهاء والكبراء. ويكون الذي يختم بها أحد أبناء كبراء أهل مكة. فإذا ختم، نصب له منبر مزين بالحرير، وأوقد الشمع، وخطب. فإذا فرغ من خطبته استدعى أبوه الناس إلى منزله فأطعمهم الأطعمة الكثيرة والحلاوات وكذلك يصنعون في جميع ليالي الوتر. واعظم من تلك الليالي عندهم ليلة سبع وعشرين. واحتفالهم لها أعظم من احتفالهم لسائر الليالي. ويختم بها القرآن العظيم خلف المقام الكريم. وتقام إزاء حطيم الشافعية خشب عظام، توصل بالحطيم، وتعرض بينها ألواح طوال، وتجعل ثلاث طبقات، وعليها الشمع وقنديل الزجاج، فيكاد يغشى الأبصار شعاع الأنوار، ويتقدم الإمام، فيصلي فريضة العشاء الآخرة، ثم يبتدئ قراءة سورة القدر. وإليها يكون انتهاء قراءة الأئمة في الليلة التي قبلها وفي تلك الساعة يمسك جميع الأئمة عن التراويح تعظيماً لختمة المقام، ويحضرونها متبركين، فيختم الإمام في تسليمتين، ثم يقوم خطيباً مستقبل المقام، فإذا فرغ من ذلك عاد الأئمة إلى صلاتهم، وانفض الجميع. ثم يكون الختم ليلة تسع وعشرين في المقام المالكي في منظر مختصر وعن المباهاة منزه موقر فيختم ويخطب.

ذكر عادتهم في شوال

وعادتهم في شوال، وهو مفتتح أشهر الحج المعلومات، أن يوقدوا المشاعل ليلة استهلاله، ويسرجون المصابيح والشمع، على نحو فعلهم في ليلة سبع وعشرين من رمضان. وتوقد السرج في الصوامع من جميع جهاتها، ويوقد سطح الحرم كله وسطح المسجد الذي بأعلى أبي قبيس، ويقيم المؤذنون ليلتهم تلك في تهليل وتكبير وتسبيح، والناس ما بين طواف وصلاة وذكر ودعاء فإذا صلوا صلاة الصبح أخذوا في أهبة العيد، ولبسوا أحسن ثيابهم، وبادروا لأخذ مجالسهم بالحرم الشريف، به يصلون صلاة العيد، لأنه لا موضع أفضل منه. ويكون أول من يبكر إلى المسجد الشيبيون فيفتحون باب الكعبة المقدسة، ويقعد كبيرهم في عتبتها، وسائرهم بين يديه، إلى أن يأتي أمير مكة فيتلقونه، ويطوف بالبيت أسبوعاً، والمؤذن الزمزمي فوق سطح قبة زمزم على العادة، رافعاً صوته بالثناء عليه والدعاء له ولأخيه كما ذكر، ثم يأتي الخطيب بين الرايتين السوداوين، والفرقعة أمامه، وهو لابس السواد، فيصلي خلف المقام الكريم، ثم يصعد المنبر ويخطب خطبة بليغة. ثم إذا فرغ منها أقبل الناس بعضهم على بعض بالسلام والمصافحة والاستغفار، ويقصدون الكعبة الشريفة فيدخلونها أفواجاً، ثم يخرجون إلى مقبرة باب المعلى، تبركاً بمن فيها من الصحابة وصدور السلف ثم ينصرفون.

ذكر إحرام الكعبة

وفي اليوم السابع والعشرين من شهر ذي القعدة تشمر أستار الكعبة، زادها الله تعظيماً، إلى نحو ارتفاع قامة ونصف من جهاتها الأربع صوناً لها من الأيدي أن تنتهبها. ويسمون ذلك إحرام الكعبة وهو يوم مشهود بالحرم الشريف. ولا تفتح الكعبة المقدسة من ذلك اليوم حتى تنقضي الوقفة بعرفة.

ذكر شعائر الحج وأعماله

وإذا كان في أول يوم شهر ذي الحجة، تضرب الطبول والدبادب في أوقات الصلوات بكرة وعشية، إشعارها بالموسم المبارك. ولا تزال كذلك إلى يوم الصعود إلى عرفات. فإذا كان اليوم السابع من ذي الحجة خطب الخطيب إثر صلاة الظهر خطبة بليغة، يعلم الناس فيها مناسكهم، ويعلمهم بيوم الوقفة، فإذا كان اليوم الثاني بكر الناس بالصعود إلى منى. وأمراء مصر والشام والعراق وأهل العلم يبتيون تلك الليلة بمنى وتقع المباهاة والمفاخرة بين أهل مصر والشام والعراق في إيقاد الشمع. ولكن الفضل في ذلك لأهل الشام دائماً. فإذا كان اليوم التاسع رحلوا من منى بعد صلاة الصبح إلى عرفة. فيمرون في طريقهم بوادي محسر، ويهرولون، وذلك سنة. ووادي محسر هو الحد ما بين مزدلفة ومنى، ومزدلفة بسيط من الأرض فسيح بين جبلين، وحولها مصانع وصهاريج للماء، مما بنته زبيدة ابنة جعفر بن أبي جعفر المنصور زوجة أمير المؤمنين هارون الرشيد. وبين منى وعرفة خمسة أميال، وكذلك بين منى ومكة أيضاً خمسة أميال. ولعرفة ثلاثة أسماء وهي، عرفة وجمع والمشعر الحرام، وعرفات بسيط من الأرض فسيح أفيح، تحدق به جبال كثيرة. وفي آخر بسيط عرفات جبل الرحمة، وفيه الموقف، وفيما حوله، والعلمان قبله بنحو ميل، وهما الحد ما بين الحل والحرم. وبمقربة منهما مما يلي عرفة بطن عرنة الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالارتفاع عنه، ويجب التحفظ منه، ويجب أيضاً الإمساك عن النفور حتى يتمكن سقوط الشمس. فإن الجمالين ربما استحثوا كثيراً من الناس، وحذروهم الزحام في النفر، واستدرجوهم إلى أن يصلوا بهم بطن عرنة، فيبطل حجهم. وجبل الرحمة الذي ذكرناه قائم وسط بسيط جمع منقطع عن الجبال، وهو من حجارة منقطع بعضها عن بعض. وفي أعلاه قبة تنسب إلى أم سلمة رضي الله عنهما، وفي وسطها مسجد يتزاحم الناس للصلاة فيه، وحوله سطح فسيح يشرف على بسيط عرفات، وفي قبليه جدار فيه محاريب منصوبة يصلي فيه الناس، وفي أسٍفل هذا الجبل عن يسار المستقبل للكعبة دار عتيقة البناء تنسب إلى آدم عليه السلام، وعن يسارها الصخرات التي كان موقفف النبي صلى الله عليه وسلم عندها، وحول ذلك صهاريج وجبات للماء، وبمقربة منه الموضع الذي يقف في الإمام ويخطب ويجمع بين الظهر والعصر، وعن يسار العلمين للمستقبل أيضاً وادي الأراك وبه أراك اخضر يمتد في الأرض امتداداً طويلاً، وإذا حان وقت النفر أشار الإمام المالكي بيده، ونزل عن موقفه، فدفع الناس بالنفر دفعة ترتج لها الأرض، وترجف الجبال. فياله موقفاً كريماً ومشهداً عظيماً ترجو النفوس حسن عقباه، وتطمح الآمال إلى نفحات رحماه، وجعلنا الله ممن خصه فيه برضاه. وكانت وقفتي الأولى يوم الخميس سنة ست وعشرين، وأمير الركب المصري يومئذ أرغون الدوادار نائب الملك الناصر. وحجت في تلك السنة ابنة الملك الناصر وهي زوجة أبي بكر ابن أرغون المذكور.وحجت فيها زوجة الملك الناصر والمسماة بالخونده، وهي بنت السلطان المعظم محمد أوزبك ملك السرا وخوارزم، وأمير الركب الشامي سيف الدين الجوبان. ولما وقع النفر بعد غروب الشمس، وصلنا مزدلفة عند العشاء الآخرة، فصلينا بها المغرب والعشاء جمعاً بينهما حسبما جرت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما صلينا الصبح بمزدلفة غدونا منها إلى منى بعد الوقوف والدعاء بالمشعر الحرام. ومزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر، ففيه تقع الهرولة حتى يخرج عنه. ومن مزدلفة يستصحب أكثر الناس حصيات الجمار، وذلك مستحب. ومنهم من يلقطها حول مسجد الخيف. والأمر في ذلك واسع. ولما انتهى الناس إلى منى بادروا لرمي جمرة العقبة، ثم نحروا وذبحوا، ثم حلقوا وحلوا من كل شيء إلا النساء والطيب حتى يطوفوا طواف الافاضة ورمي هذه الجمرة عند طلوع الشمس من يوم النحر. لما رموها توجه أكثر الناس بعد أن ذبحوا وحلقوا إلى طواف الإفاضة. ومنهم من أقام إلى اليوم الثاني. وفي اليوم الثاني رمى الناس عند زوال الشمس بالجمرة الأولى سبع حصيات، وبالوسطى كذلك، ووقفوا للدعاء بهاتين الجمرتين اقتداء بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولما كان اليوم الثالث تعجل الناس الانحدار إلى مكة شرفها الله، بعد أن كمل لهم رمي تسع وأربعين حصاة. وكثير منهم أقام اليوم الثالث بعد يوم النحر حتى رمي سبعين حصاة.

ذكر كسوة الكعبة

 وفي يوم النحر بعثت كسوة الكعبة الشريفة من الركب المصري إلى البيت الكريم، فوضعت في سطحه، فلما كان اليوم الثالث بعد يوم النحر أخذ الشيبيون في إسبالها على الكعبة الشريفة. وهي كسوة سوداء حالكة من الحرير مبطنة بالكتان وفي أعلاها طراز مكتوب فيه بالبياض " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً " الآية. وفي سائر جهاتها طراز مكتوب بالبياض فيها آيات من القرآن، وعليها نور لائح مشرق من سوادها. ولما كيست شمرت أذيالها صوناً من أيدي الناس. والملك الناصر هو الذي يتولى كسوة الكعبة الكريمة، ويبعث مرتبات القاضي والخطيب والأئمة والمؤذنين والفراشين والقومة، وما يحتاج له الحرم الشريف من الشمع والزيت في كل سنة. وفي هذه الأيام تفتح الكعبة الشريفة في كل يوم للعراقيين والخراسانين وسواهم ممن يصل مع الركب العراقي، وهم يقيمون بمكة بعد سفر الركبين الشامي والمصري أربعة أيام، فيكثرون فيها الصدقات على المجاورين وغيرهم. ولقد شاهدتهم يطوفون بالحرم ليلاً، فمن لقوه في الحرم من المجاورين أو المكيين أعطوه الفضة والثياب، وكذلك يعطون للمشاهدين الكعبة الشريفة، وربما وجدوا إنساناً نائماً فجعلوا في فيه الذهب والفضة حتى يفيق. ولما قدمت معهم من العراق سنة ثمان وعشرين فعلوا من ذلك كثيراً، وأكثروا الصدقة حتى رخص سوم الذهب بمكة، وانتهى صرف المثقال إلى ثمانية عشر درهماً نقرة، لكثرة ما تصدقوا به من الذهب. وفي هذه السنة ذكر اسم السلطان أبي السعيد ملك العراق على المنبر وقبة زمزم.

ذكر الانفصال عن مكة شرفها الله تعالى

وفي الموفي عشرين لذي الحجة خرجت من مكة صحبة أمير ركب العراق البهلوان محمد الحويح بحاءين مهملين، وهو من أهل الموصل. وكان يلي إمارة الحاج بعد موت الشيخ شهاب الدين قلندر، وكان شهاب الدين سخياً فاضلاً عظيم الحرمة عند سلطانه، يحلق لحيته وحاجبيه على طريقة القلندرية. ولما خرجت من مكة شرفها الله تعالى في صحبة الأمير البهلوان المذكور اكترى لي شقة محارة إلى بغداد، ودفع إجارتها من ماله، وأنزلني في جواره. وخرجنا بعد طواف الوداع إلى بطن مر ، في جمع من العراقيين والخراسانيين والفارسيين والأعاجم، لا يحصى عديدهم تموج بهم الأرض موجاً، ويسيرون سير السحاب المتراكم. فمن خرج عن الركب لحاجة، ولم تكن له علامة يستدل بها على موضعه، ضل عنه لكثرة الناس. وفي هذا الركب نواضح كثيرة لأبناء السبيل يستقون منها الماء، وجمال لرفع الراد للصدقة ورفع الأدوية والأشربة والسكر لمن يصيبه مرض. وإذا نزل الركب طبخ الطعام في قدور نحاس عظيمة تسمى الدسوت، وأطعم منها أبناء السبيل ومن لا زاد معه. وفي الركب جملة من الجمال يحمل عليها من لا قدرة له على المشي. كل ذلك من صدقات السلطان أبي سعيد ومكارمه. قال ابن جزي: كرم الله هذه الكنية الشريفة، فما أعجب أمرها في الكرم، وحسبك بمولانا بحر المكارم ورافع رايات الجود الذي هو آية الندى والفضل أمير المسلمين أبي سعيد ابن مولانا قامع الكفار والآخذ للإسلام بالثار أمير المسلمين يوسف قدس الله أرواحهم الكريمة وأبقى الملك في عقبهم الطاهر إلى يوم الدين. وفي هذا الركب الأسواق الحافلة والمرافق العظيمة وأنواع الأطعمة والفواكه وهم يسيرون بالليل ويوقدون المشاعل أمام القطار والمحارات، فترى الأرض تلألأ نوراً والليل قد عاد نهاراً ساطعاً ثم رحلنا من بطن مر إلى عسفان ثم إلى خليص، ثم رحلنا أربع مراحل، ونزلنا وادي السمك، ثم رحلنا خمساً، ونزلنا في بدر وهذه المراحل ثنتان في اليوم: إحداهما بعد الصبح والأخرى بالعشي، ثم رحلنا من بدر فنزلنا الصفراء، وأقمنا بها يوماً مستريحين، ومنها إلى المدينة الشريفة مسيرة ثلاث. ثم رحلنا فوصلنا إلى طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحصلت لنا زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثانياً، وأقمنا بالمدينة كرمها الله تعالى ستة أيام، واستصحبنا منها الماء لمسيرة ثلاث، ورحلنا عنها فنزلنا في الثالثة بوادي العروس، فتزودنا منه الماء من حسيات يحفرون عليها في الأرض، فينبطون ماء عذباً معيناً، ثم رحلنا من وادي العروس ودخلنا أرض نجد، وهو بسيط من الأرض على مد البصر، فتنسمنا نسيمه الطيب الأرج، ونزلنا بعد أربع مراحل على ماء يعرف بالعسيلة ثم رحلنا عنه ونزلنا ماء يعرف بالنقرة، فيه آثار مصانع كالصهاريج العظيمة، ثم رحلنا إلى ماء يعرف بالقارورة، وهي مصانع مملوءة بماء المطر مما صنعته زبيدة ابنة جعفر رحمها الله ونفعها وهذا الموضع هو وسط أرض نجد فسيح طيب النسيم صحيح الهواء نقي التربة معتدل في كل فصل، ثم رحلنا من القاروروة ونزلنا بالحاجز، وفيه مصانع للماء، وربما جفت فحفر عن الماء في الجفار. ثم رحلنا ونزلنا سميرة، وهي أرض غائرة في بسيط فيه شبه حصن مسكون وماؤها كثير في آبار، إلا أنه زعاق ويأتي عرب تلك الأرض بالغنم والسمن واللبن فيبيعون ذلك من الحجاج بالثياب الخام، ولا يبيعون بسوى ذلك ثم رحلنا ونزلنا بالجبل المخروق، وهو في بيداء من الأرض، وفي أعلاه ثقب نافذة تخرقه الريح ثم رحلنا منه إلى وادي الكروش ولا ماء به ثم اسرينا ليلاً وصبحنا حصن فيد وهو حصن كبير في بسيط من الأرض يدور به سور وعليه ربض، وساكنوه عرب يتعيشون مع الحاج في البيع والتجارة. وهنالك يترك الحجاج بعض أزوادهم حين وصولهم من العراق إلى مكة شرفها الله تعالى، فإذا عادوا وجدوه وهو نصف الطريق من مكة إلى بغداد، ومنه إلى الكوفة مسيرة اثني عشر يوماً في طريق سهل به المياه في المصانع، ومن عادة الركب أن يدخلوا هذا الموضع على تعبئته وأهبة للحرب، ارهاباً للعرب االمجتمعين هنالك، وقطعاً لأطناعهم عن الركب وهنالك لقينا أميري العرب، وهما فياض وحيار واسمه " بكسر الحاء واهماله وياء آخر الحروف "، وهما ابنا الأمير مهنا بن عيسى، ومعهما من خيل العرب ورجالهم من لا يحصون كثرة فظهر منهما المحافظة على الحاج والرحال والحوطة لهم، وأتى العرب بالجمال والغنم وأشترى منهم الناس ما قدروا عليه، ثم رحلنا ونهزلنا الموضع الأجفر، ويشتهر باسم العاشقين: جميل وبثينة ثم رحلنا ونزلنا البيداء، ثم نزلنا زرود، وهي بسيط من الأرض فيه رمال منهالة وبه دور صغار، قد أدوارها شبه الحصن، وهنالك آبار ماء ليست بالعذبة ثم رحلنا ونزلنا الثعلبية، ولها حصن خرب بإزائه مصنع هائل ينزل إليه في درج، وبه من ماء المطر ما يعم الركب. ويجتمع من العرب بهذا الموضع جمع عظيم فيبيعون الجمال والغنم والسمن واللبن. ومن هذا الموضع إلى الكوفة ثلاث مراحل ثم رحلنا فنزلنا ببركة المرجوم، وهو مشهد على الطريق عليه كوم عظيم من حجارة، وكل من مر به رجمه ويذكر أن هذا المرجوم كان رافضياً، فسافر مع الركب يريد الحج، فوقعت بينه وبين أهل السنة من الأتراك مشاجرة، فسب بعض الصحابة،فقتلوه بالحجارة. وبهذا الموضع بيوت كثيرة للعرب، ويقصدون الركب بالسمن واللبن وسوى ذلك، وبه مصنع كبير يعم جميع الركب مما بنته زبيدة رحمة الله عليها، وكل مصنع أو بركة أو بئر بهذا الطريق التي بين مكة وبغداد، فهي من كريم آثارها جزاها الله خيراً، ووفى لها أجرها. ولولا عنايتها بهذا الطريق ما سلكها أحد، ثم رحلنا ونزلنا موضعاً يعرف بالمشقوق، فيه مصنعان بهما الماء العذب الصافي، وأراق الناس ما كان عندهم من الماء وتزودوا منهما. ثم رحلنا ونزلنا موضعاً يعرف بالتنانير، وفيه مصانع تمتلئ بالماء، ثم أسرينا منه واجتزنا ضحوة بزمالة، وهي قرية معمورة بها قصر للعرب ومصنعان للماء وآبار كثيرة، وهي من مناهل هذا الطريق ثم رحلنا فنزلنا الهيثمين، وفيه مصنعان للماء ثم رحلنا فنزلنا دون العقبة المعروفة بعقبة الشيطان، وصعدنا العقبة في اليوم الثاني وليس بهذا الطريق وعر سواها، على أنها ليست بصعبة ولا طائلة، ثم نزلنا موضعاً يسمى واقصة فيه قصر كبير ومصانع للماء، معمور بالعرب، وهو آخر مناهل هذا الطريق، وليس فيما بعده إلى الكوفة منهل مشهور الا مشارع ماء الفرات، وبه يتلقى كثير من أهل الكوفة الحاج، ويأتون بالدقيق والخبز والتمر والفواكه، ويهنئ الناس بعضهم بعضاً بالسلامة ثم نزلنا موضعاً يعرف بلورة، فيه مصنع كبير للماء ثم نزلنا موضعاً يعرف بالمساجد، فيه ثلاث مصانع ثم نزلنا موضعاً يعرف بمنارة القرون، وهي منارة في بيداء من الأرض بائنة الارتفاع مجللة بقرون الغزلان ولا عمارة حولها، ثم نزلنا موضعاً يعرف بالعذيب، وهو واد مخصب عليه عمارة وحوله فلا خصبة فيها مسرح للبصر.

ثم نزلنا القادسية حيث كانت الوقعة الشهيرة على الفرس التي أظهر الله فيها دين الإسلام وأذل المجوس عبدة النار فلم تقم لهم بعدها قائمة واستأصل الله شأفتهم، وكان أمير المسلمين يومئذ سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. وكانت القادسية مدينة عظيمة افتتحها سعد رضي الله عنه، وخربت فلم يبق منها الآن الا مقدار قرية كبيرة، وفيها حدائق النخل وبها مشارع من ماء الفرات، ثم رحلنا منها فنزلنا مدينة مشهد علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالنجف، وهي مدينة حسنة في أرض فسيحة صلبة من أحسن مدن العراق وأكثرها ناساً وأتقنها بناء ولها أسواق حسنة نظيفة دخلناها من باب الحضرة، فاستقبلنا سوق البقالين والطباخين والخبازين، ثم سوق الفاكهة ثم سوق الخياطين والقيسارية ثم سوق العطارين ثم الحضرة حيث القبر الذي يزعمون أنه قبر علي عليه السلام، وبإزائه المدارس والزوايا والخوانق معمورة أحسن عمارة، وحيطانها بالقاشاني وهو شبه الزليج عندنا لكن لونه أشرق ونقشه أحسن.

ذكر الروضة والقبور التي بها

ويدخل من باب الحضرة إلى مدرسة عظيمة يسكنها الطلبة والصوفية من الشيعة ولكل وارد عليها ضيافة ثلاثة أيام من الخبز واللحم والتمر مرتين في اليوم ومن تلك المدرسة يدخل إلى باب القبة، وعلى بابها الحجاب والنقباء والطواشية فعندما يصل الزائر يقوم إليه أحدهم أو جميعم وذلك على قدر الزائر، فيقفون معه على العتبة ويستأذنون له، ويقولون عن أمركم يا أمير المؤمنين هذا العبد الضعيف يستأذن على دخوله الروضة العلية، فإن أذنتم له وإلا رجع، وإن لم يكن أهلاً لذلك فأنتم أهل المكارم والستر ثم يأمرونه بتقبيل العتبة وهي من الفضة، وكذلك العضادتان، ثم يدخل القبة وهي مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة، منها الكبار والصغار، وفي وسط القبة مسطبة مربعة مكسوة بالخشب، عليه صفائح الذهب المنقوشة المحكمة العمل، مسمرة بمسامير الفضة، قد غلبت على الخشب بحيث لا يظهر منه شيء، وارتفاعها دون القامة، وفوقها ثلاثة من القبور، يزعمون أن أحدها قبر آدم عليه الصلاة والسلام، والثاني قبر نوح عليه الصلاة والسلام، والثالث قبر علي رضي الله تعالى عنه وبين القبور طسوت ذهب وفضة فيها ماء الورد والمسك وأنواع الطيب يغمس الزائر يده في ذلك ويدهن به وجهه تبركاً. وللقبة باب آخر عتبته أيضاً من الفضة وعليه ستور الحرير الملون يفضي إلى مسجد مفروش بالبسط الحسان، مستورة حيطانه وسقفه بستور الحرير، وله أربعة أبواب، عتباتها فضة وعليها ستور الحرير، وأهل هذه المدينة كلهم رافضية. وهذه الروضة ظهرت لها كرامات ثبت بها عندهم أن بها قبر علي رضي الله عنه فمنها أن في ليلة السابع والعشرين من رجب وتسمى عندهم ليلة المحيا، يؤتى إلى تلك الروضة بكل مقعد من العراقين وخراسان وبلاد فارس والروم، فيجتمع منهم الثلاثون والأربعون ونحو ذلك. فإذ كان بعد العشاء الآخرة جعلوا فوق الضريح المقدس، والناس ينظرون قيامهم، وهم ما بين مصل وذاكر وتالٍ ومشاهد للروضة فإذا مضى من الليل نصفه، أو ثلثاه أو نحو ذلك، قام الجميع أصحاء من غير سوء، وهم يقولون: لا إله إلا الله محمد رسول الله علي ولي الله وهذا أمر مستفيض عندهم سمعته من الثقات. ولم أحضر تلك الليلة لكني رأيت بمدرسة الضياف ثلاثة من الرجال: أحدهم من أرض الروم والثاني من أصبهان والثالث من خراسان، وهم مقعدون، فاستخبرهم عن شأنهم، فأخبروني أنهم لم يدركوا ليلة المحيا، وأنهم منتظرون أوانها من عام آخر. وهذه الليلة يجتمع لها الناس من البلاد، ويقيمون سوقاً عظيمة مدة عشرة أيام وليس بهذه المدينة مغرم ولا مكاس ولا والٍ، وإنما يحكم عليهم نقيب الأشراف وأهلها تجار يسافرون في الأقطار، وهم أهل شجاعة وكرم ولا يضام جارهم. صحبتهم في الأسفار فحمدت صحبتهم، لكنهم غلوا في علي رضي الله عنه، ومن الناس في بلاد العراق وغيرها من يصيبه المرض فينذر للروضة نذراً إذا برئ، ومنهم من يمرض رأسه فيصنع رأساً من ذهب أو فضة ويأتي به إلى الروضة، فيجعله النقيب في الخزانة، وكذلك اليد والرجل وغيرهما من الأعضاء وخزانة الروضة عظيمة فيها من الأموال ما لا يضبط لكثرته.

ذكر نقيب الأشراف

ونقيب الأشراف مقدم من ملك العراق، ومكانه عنده مكين، ومنزلته رفيعة، وله ترتيب الأمراء الكبار في سفره، وله الأعلام والأطبال، وتضرب الطبلخانة عند بابه مساء وصباحاً، وإليه حكم هذه المدينة، ولا والي بها سواه، ولا مغرم فيها للسلطان ولا لغيره. وكان النقيب في عهد دخولي إليها نظام الدين حسين بن تاج الدين الآوي، نسبة إلى بلده آوة من عراق العجم، أهلها رافضة، وكان قبله جماعة، يلي كل واحد منهم بعد صاحبه، منهم جلال الدين بن الفقيه ومنهم قوام الدين بن طاوس ومنهم ناصر الدين بن مطهر بن الشريف الصالح شمس الدين محمد الأوهري من عراق العجم، وهو الآن بأرض الهند من ندماء ملكها، ومنهم أبو غرة بن سالم بن مهنا بن جماز بن شيحة الحسيني المدني.

حكاية

كان الشريف أبو غرة قد غلب عليه في أول أمره العبادة وتعلم العلم واشتهر بذلك، وكان بالمدينة الشريفة كرمها الله في جوار ابن عمه منصور بن جماز أمير المدينة، ثم إنه خرج عن المدينة واستوطن العراق وسكن منها بالحلة، فمات النقيب قوام الدين بن طاوس فانفق أهل العراق على تولية أبي غرة نقابة الأشراف، وكتبوا بذلك إلى السلطان أبي سعيد فأمضاه ونفذ له اليرليغ، وهو الظهير بذلك، وبعث له الخلعة والأعلام والطبول على عادة النقباء ببلاد العراق، فغلبت عليه الدنيا، وترك العبادة والزهد، وتصرف في الأموال تصرفا قبيحاً فرفع أمره إلى السلطان، فلما علم بذلك أعمل السفر، مظهراً أنه يريد خراسان، قاصداً زيارة قبر علي بن موسى الرضا بطوس، وكان قصده الفرار. فلما زار علي ابن موسى قدم هراة، وهي آخر بلاد خراسان، وأعلم أصحابه أنه يريد بلاد الهند، فرجع أكثرهم عنه، وتجاوز هو أرض خراسان، إلى السند فلما جاوز وادي السند المعروف ببنج آب ضرب طبوله وأنفاره فراع ذلك أهل القرى وظنوا أن التتر أتوا للاغارة عليهم، وأجفلوا إلى المدينة المسماة بأوجا، وأعلموا أميرها بما سمعوه، فركب في عساكره واستعد للحرب وبعث الطلايع، فرأوا نحو عشرة من الفرسان وجماعة من التجار والرجال ممن صحب الشريف في طريقه، معهم الأطبال والأعلام، فسألوهم عن شأنهم، فأخبروهم أن الشريف نقيب العراق أتى وافداً على ملك الهند، فرجع الطلايع إلى الأمير وأخبروه بكيفية الحال فاستضعف عقل الشريف لرفعة العلامات وضربه الطبول في غير بلاده. ودخل الشريف مدينة أوجا وأقام بها مدة، تضرب الأطبال على باب داره غدوة وعشية، وكان مولعاً بذلك. ويذكر أنه كان في أيام نقابته بالعراق تضرب الأطبال على رأسه، فإذا أمسك النقار عن الضرب يقول له زد نقرة يا نقار حتى لقب بذلك: وكتب صاحب مدينة اوجا إلى ملك الهند يخبر الشريف وضربه الأطبال بالطريق وعلى باب داره غدوة وعشياً ورفعه الأعلام وعادة أهل الهند أن لا يرفع علماً ولا يضرب طبلاً إلا من أعطاه الملك ذلك، ولا يفعله الا في السفر، وأما في حال الإقامة فلا يضرب الطبل إلا على باب الملك خاصة، بخلاف مصر والشام والعراق فإن الطبول تضرب على أبواب الأمراء، فلما بلغ خبره ملك الهند كره فعله وأنكره وفعل في نفسه، ثم خرج الأمير إلى حضرة الملك، وكان الأمير كشلي خان، والخان عندهم أعظم الأمراء، وهو الساكن بملتان، كرسي بلاد السند، وهو عظيم القدر عند ملك الهند، يدعو بالعم، لأنه كان ممن أعان أباه السلطان غياث الدين تغلق شاه على قتال السلطان ناصر الدين خسرو شاه، قد قدم على حضرة ملك الهند، فخرج الملك إلى لقائه فاتفق أن كان وصول الشريف في ذلك اليوم، وكان الشريف قد سبق الأمير بأميال وهو على حاله من ضرب الأطبال، فلم يرعه إلا السلطان في موكبه، فتقدم الشريف إلى السلطان فسلم عليه وسأله السلطان عن حاله وما الذي جاء به فأخبره، ومضى السلطان حتى لقي الأمير كشلي خان وعاد إلى حضرته، ولم يلتفت إلى الشريف ولا أمر له بإنزال ولاغيره.

وكان الملك عازماً على السفر إلى مدينة دولة أباد، وتسمى أيضاً بالكتكة " بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينهما " وتسمى أيضاً بالدونجر " دوكير "، وهي على مسيرة أربعين يوماً من مدينة دهلي حاضرة الملك.

 فلما شرع الملك في السفر بعث إلى الشريف بخمسمائة دينار دراهم، وصرفها من ذهب المغرب مائة وخمسة وعشرون ديناراً، وقال لرسوله اليه: قل له إن أراد الرجوع إلى بلاده فهذا زاده، وإن أراد السفر معنا فهي نفقته في الطريق، وان أراد الإقامة بالحضرة فهي نفقته حتى نرجع، فاغتم الشريف لذلك، وكان قصده أن يجزل له العطاء، كما هي عادته مع أمثاله واختار السفر صحبة السلطان، وتعلق بالوزير أحمد بن أياس المدعو بخواجة جهان وبذلك سماه الملك، وبه يدعوه هو، وبه بدعوة سائر الناس، فإن من عادتهم أنه متى سمى الملك أحداً باسم مضاف إلى الملك من عماد أو ثقة أو قطب، أو باسم مضاف إلى الجهان من صدر وغيره، فبذلك يخاطبه الملك وجميع الناس، ومن خاطبه، بسوى ذلك لزمته العقوبة فتأكدت المودة بين الوزير والشريف، فأحسن إليه ورفع قدره ولاطف الملك حتى حسن فيه رأيه، وأمر له بقريتين من قرى دور أباد، وأمره أن تكون إقامته بها وكان هذا الوزير من أهل الفضل والمروءة ومكارم الأخلاق والمحبة في الغرباء، والإحسان إليهم وفعل الخير وإطعام الطعام وعمارة الزوايا فأقام الشريف يستغل القريتين ثمانية أعوام وحصل من ذلك مالا عظيماً، ثم أراد الخروج، فلم يمكنه، فإنه من خدم السلطان لا يمكنه الخروج إلا بإذنه وهو محب في الغرباء، فقليلاً ما يأذن لأحدهم في السراح، فأراد الفرار من طريق الساحل فرد منه، وقدم الحضرة، ورغب من الوزير أن يحاول قضية انصرافه، فتلطف الوزير في ذلك حتى أذن له السلطان في الخروج عن بلاد الهند، وأعطاه عشرة آلاف دينار من دراهمهم، وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار، فأتى بها في بدرة، فجعلها تحت فراشه ونام عليها، لمحبته في الدنانير وفرحه بها وخوفه أن يتصل لأحد من أصحابه شيء منها، فإنه كان بخيلاً، فأصابه وجع في جنبه بسبب رقاده عليها ولم يزل يتزايد به وهو آخذ في حركة سفره إلى ان توفي بعد عشرين يوماً من وصول البدرة إليه. أوصى بذلك المال للشريف حسن الجراني، فتصدق بجملته على جماعة من الشيعة المقيمين بدهلي من أهل الحجاز والعراق وأهل الهند، لا يورثون بيت المال ولا يتعرضون لمال الغرباء ولا يسألون عنه، ولو بلغ ما عسى أن يبلغ وكذلك السودان لا يتعرضون لمال الأبيض ولا يأخذونه، إنما يكون عند الكبار من أصحابه حتى يأتي مستحقه. وهذا الشريف أبو غرة له أخ اسمه قاسم، سكن غرناطة مدة، وبها تزوج بنت الشريف أبي عبد الله بن إبراهيم الشهير بالمكي، ثم انتقل إلى جبل طارق فسكنه إلى ان استشهد بوادي كرة من نظر الجزيرة الخضراء وكان بهمة من البهم لا يصطلي بناره، خرق المعتاد في الشجاعة وله فيها أخبار شهيرة عند الناس، وترك ولدين هما في كفالة ربيبهما الشريف الفاضل أبي عبد الله محمد بن أبي القاسم بن نفيس الحسيني الكربلائي الشهير ببلاد المغرب وبالعراق، وكان تزوج أمهما بعد موت أبيهما، وهو محسن لها جزاه الله خيراً.

ولما تحصلت لنا زيارة أمير المؤمنين علي عليه السلام سافر الركب إلى بغداد، وسافرت إلى البصرة صحبة رفقة كبيرة من عرب خفاجة، وهم أهل تلك البلاد، ولهم شوكة عظيمة وبأس شديد، ولا سبيل للسفر في تلك الأقطار الا في صحبتهم فاكتريت جملاً على يد أمير تلك القافلة شامر بن دراج الخفاجي وخرجنا من مشهد علي عليه السلام، فنزلنا الخورنق، موضع سكنى النعمان بن المنذر وآبائه من ملوك بني ماء السماء، وبه عمارة وبقايا قباب ضخمة في قضاء فسيح على نهر يخرج من الفرات ثم رحلنا عنه فنزلنا موضعاً يعرف بقائم الواثق، وبه أثر قرية خربة ومسجد خرب لم يبق منه إلا صومعته، ثم رحلنا عنه آخذين مع جانب الفرات بالموضع المعروف بالعذار، وهو غابة قصب في وسط الماء يسكنها أعراب يعرفون بالمعادي، وهم قطاع الطريق رافضية المذهب، خرجوا على جماعة من الفقراء تأخروا عن رفقتنا، فسلبوهم حتى النعال والكشاكل. وهم يتحصنون بتلك الغابة ويمتنعون بها ممن يريدهم، والسباع بها كثيرة. ورحلنا مع هذا الغدار ثلاث مراحل، ثم وصلنا مدينة واسط.