الجزء الأول - ذكر سلطان شيراز

وسلطان شيراز في عهد قدومي عليها الملك الفاضل أبو إسحاق بن محمد شاه ينجو سماه أبوه باسم الشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به. وهو من خيار السلاطين، حسن الصورة والسيرة والهيئة، كريم النفس جميل الأخلاق متواضع، صاحب قوة وملك كبير. وعسكره ينيف على خمسين ألفاً من الترك والأعاجم، وبطانته الادنون إليه أهل أصفهان. وهو لا يأتمن أهل شيراز على نفسه، ولا يستخدمهم ولا يقربهم ولا يبيح لأحد منهم حمل السلاح، لأنهم أهل نجدة وبأس شديد وجرأة على الملوك. ومن وجد بيده السلاح منهم عوقب. ولقد شاهدت رجلاً مرة تجره الجنادرة، وهم الشرط إلى الحاكم، وقد ربطوه في عنقه. فسألت عن شأنه، فأخبرت أنه وجدت في يده قوس بالليل. فذهب السلطان المذكور إلى قهر أهل شيراز وتفضيل الأصفهانيين عليهم، لأنه يخافهم على نفسه. وكان أبوه محمد شاه ينجو والياً على شيراز من قبل ملك العراق، وكان حسن السيرة محبباً إلى أهلها. فلما توفي ولى السلطان أبو سعيد مكانه الشيخ حسيناً، وهو ابن الجويان أمير الأمراء، وسيأتي ذكره، وبعث معه العساكر الكثيرة، فوصل إلى شيراز وملكها وضبط مجابيها. وهي من أعظم بلاد الله مجبى. ذكر لي الحاج قوام الدين الطمغجي، وهو والي المجبى بها، أنه ضمنها بعشرة آلاف دينار دراهم في كل يوم. وصرفها من ذهب المغرب ألفان وخمسمائة دينار ذهباً. وأقام بها الأمير حسين مدة ثم أراد القدوم على ملك العراق، فقبض على أبي إسحاق بن محمد شاه ينجو، وعلى أخويه ركن الدين ومسعود بك وعلى والدته طاش خاتون، وأراد حملهم إلى العراق ليطالبوا بأموال أبيهم فلما توسطوا السوق بشيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعة حياء ان ترى في تلك الحال. فإن عادة نساء الأتراك أن لا يغطين وجوههن، واستغاثت بأهل شيراز، وقالت: أهكذا يا أهل شيراز أخرج من بينكم وأنا فلانة زوجة فلان ؟ فقام رجل من النجارين يسمى بهلوان محمود، قد رأيته بالسوق حين قدومي على شيراز فقال: لا نتركها تخرج من بلدنا، ولا نرضى بذلك. فتابعه الناس على قوله وثارت عامتهم ودخلوا في السلاح وقتلوا كثيراً من العسكر وأخذوا الأموال وخلصوا المرأة وأولادها. وفر الأمير حسين ومن معه وقدم على السلطان أبي سعيد مهزوماً، فأعطاه العساكر الكثيفة وأمره بالعودة إلى شيراز والتحكم في أهلها بما شاء. فلما بلغ أهلها ذلك، علموا أنهم لا طاقة لهم به فقصدوا القاضي مجد الدين، وطلبوا منه أن يحقن دماء الفريقين ويوقع الصلح، فخرج إلى الأمير حسين. فترجل له الأمير عن فرسه وسلم عليه ووقع الصلح. ونزل الأمير حسين ذلك اليوم خارج المدينة. فلما كان من الغد برز أهلها للقائه في أجمل ترتيب وزينوا البلد وأوقدوا الشمع الكثير، ودخل الامير حسين في أبهة وحفل عظيم وسار فيهم بأحسن سيرة. فلما مات السلطان أبو سعيد وانقرض عقبه، وتغلب كل أمير على ما بيده، خافهم الأمير حسين على نفسه وخرج عنهم، وتغلب السلطان أبو اسحاق عليها وعلى أصفهان وبلاد فارس، وذلك مسيرة شهر ونصف شهر. واشتدت شوكته وطمحت همته إلى تملك ما يليه من البلاد، فبدأ بالأقرب منها وهي مدينة بزد، مدينة حسنة نظيفة عجيبة الأسواق ذات أنهار مطردة وأشجار نضيرة وأهلها تجار شافعية المذهب؛ فحاصرها وتغلب عليها وتحصن الأمير مظفر شاه ابن الأمير محمد شاه بن مظفر بقلعة على ستة أميال منها منيعة، تحدق بها الرمال فحاصره بها. فظهر من الأمير مظفر من الشجاعة ما خرق المعتاد، ولم يسمع بمثله. فكان يضرب على عسكر السلطان أبي إسحاق ليلاً، ويقتل ما شاء، ويخرق المضارب والفساطيط، ويعود إلى قلعته فلا يقدر على النيل منه. وضرب ليلة على دوار السلطان وقتل هنالك جماعة وأخذ من عتاق خيله عشرة وعاد إلى قلعته. فأمر السلطان أن تركب في كل ليلة خمسة آلاف فارس ويصنعون له الكمائن. وتلاحقت العساكر فقاتلهم، وخلص إلى قلعته ولم يصب من أصحابه إلا واحداً أتى به إلى السلطان أبي إسحاق فخلع عليه وأطلقه وبعث معه أماناً لمظفر لينزل إليه فأبى ذلك. ثم وقعت بينهما المراسلة ووقعت له محبة في قلب السلطان أبي إسحاق لما رأى من شجاعته. فقال: أريد أن أراه، فإذا رأيته انصرفت عنه. فوقف السلطان في خارج القلعة ووقف هو ببابها، وسلم عليه فقال له السلطان: إنزل على الأمان. فقال له مظفر: إني عاهدت الله أن لا أنزل إليك حتى تدخل أنت قلعتي وحينئذ أنزل إليك، فقال له أفعل ذلك. فدخل إليه السلطان في عشرة من أصحاب الخواص.

فلما وصل باب القلعة ترجل مظفر وقبل ركابه ومشى بين يديه مترجلاً، فأدخله داره وأكل من طعامه ونزل معه إلى المحلة راكباً، فأجلسه السلطان إلى جانبه، وخلع عليه ثيابه وأعطاه مالاً عظيماً، ووقع الاتفاق بينهما ان تكون الخطبة باسم السلطان أبي إسحاق، وتكون البلاد لمظفر وأبيه. وعاد السلطان إلى بلاده. وكان السلطان أبو إسحاق طمح ذات مرة إلى بناء إيوان كإيوان كسرى وأمر أهل شيراز أن يتولوا حفر أساسه. فأخذوا في ذلك. وكان أهل كل صناعة يباهون من عداهم، فانتهوا في المباهاة إلى ان صنعوا القفاف لنقل التراب من الجلد، وكسوها ثياب الحرير المزركش، وفعلوا نحو ذلك في براذع الدواب، وإخراجها، وصنع بعضهم الفؤوس من الفضة، وأوقدوا الشمع الكثير. وكانوا حين الحفر يلبسون أجمل ملابسهم، ويربطون فوط الحريرعلى أوساطهم. والسلطان يشاهد أفعالهم من منظرة له. وقد شاهدت هذا المبنى وقد ارتفع عن الأرض نحو ثلاثة أذرع. ولما بني أساسه رفع عن أهل المدينة التخديم فيه، وصارت القعلة تخدم فيه بالأجرة، ويحشر لذلك آلاف منهم. وسمعت والي المدينة يقول إن معظم مجباها ينفق في ذلك البناء. وقد كان الموكل به الأمير جلال الدين بن الفلكي التوريزي، وهو من الكبار. كان أبوه نائباً عن وزير السطان أبي سعيد المسمى علي شاه جيلان. ولهذا الأمير جلال الدين الفلكي أخ فاضل اسمه هبة اللّه، ويلقب بهاء الملك، وفد على ملك الهند حين وفودي عليه، ووفد معنا شرف الملك أمير يخت، فخلع ملك الهند علينا جميعاً، وقدم كل واحد في شغل يليق به، وعين لنا المرتب والإحسان، وسنذكر ذلك. وهذا السلطان أبو إسحاق يريد التشبه بملك الهند المذكور في الإيثار وإجزال العطايا. ولكن أين الثريا من الثرى. وأظم ماتعارفنا من أعطيات أبي إسحاق أنه اعطى الشيخ زاده الخراساني الذي أتاه رسولاً عن ملك هراة سبعين ألف دينار. وأما ملك الهند فلم يزل يعطي أضعاف ذلك لمن لا يحصى كثرة من أهل خراسان وغيرهم.

حكاية

ومن عجيب فعل ملك الهند مع الخراسانيين أنه قدم عليه رجل من فقهاء خراسان هروي المولد، من سكان خوارزم، يسمى بالأمير عبد الله، بعثته الخاتون ترابك زوج الأمير قطلود مور صاحب خوارزم بهدية إلى ملك الهند المذكور، فقبلها وكافأ عنها بأضعافها وبعث ذلك إليها، واختار رسولها المذكور الإقامة عنده فصيره في ندمائه فلما كان ذات يوم قال له: ادخل إلى الخزانة فارفع منها قدر ما تستطيع أن تحمله من الذهب. فرجع إلى داره فأتى بثلاث عشرة خريطة، وجعل في كل خريطة قدر ما وسعته وربط كل خريطة بعضو من أعضائه، وكان صاحب قوة وقام بها، فلما خرج من الخزانة وقع ولم يستطع النهوض. فأمر السلطان بوزن ما خرج به فكان جملته ثلاثة عشر مناً بمنان دهلي، والمن الواحد منها خمسة وعشرون رطلاً مصرياً. فأمره أن يأخذ جميع ذلك فأخذه.

حكاية تناسبها

اشتكى مرة أمير يخت الملقب بشرف الدين الخراساني، وهو الذي تقدم ذكره آنفاً بحضرة ملك الهند، فأتاه الملك عائداً. ولما دخل عليه أراد القيام، فحلف له الملك أن لا ينزل عن كته والكت: السرير. ووضع للسلطان متكأة يسمونها المورة، فقعد عليها. ثم دعا بالذهب والميزان فأحضرا. وأمر المريض أن يقعد في إحدى كفتي الميزان، فقال يا خوند عالم لو علمت أنك تفعل هذا للبست علي ثياباً كثيرة. فقال له البس الآن جميع ما عندك من الثياب. فلبس ثيابه المعدة للبرد المحشوة بالقطن، وقعد في كفة الميزان، ووضع الذهب في الكفة الآخرى حتى رجحه الذهب، وقال له: خذ هذا فتصدق به على رأسك وخرج عنه.

حكاية تناسبها

وفد عليه الفقير عبد العزيز الأردويلي، وكان قد قرأ علم الحديث بدمشق، فتفقه فيه. فجعل مرتبه مائة دينار دراهم في اليوم، وصرف ذلك خمسة وعشرون ديناراً ذهباً. وحضر مجلسه يوماً، فسأله السلطان عن حديث، فسرد له أحاديث كثيرة في ذلك المعنى، فأعجبه حفظه، وحلف له برأسه أنه لا يزول من مجلسه حاى يفعل معه ما يراه، ثم نزل الملك عن مجلسه، فقبل قدميه وأمر بإحضار صينية من ذهب، وهي مثل الطيفور الصغير، وأمر أن يؤتى فيها ألف دينار من الذهب، وأخذها السلطان بيده، فصبها عليه، وقال: هي لك مع الصينية. ووفد عليه مرة رجل خراساني يعرف بابن الشيخ عبد الرحمن الأسفراييني، وكان أبوه نزل بغداد، فأعطاه خمسين ألف دينار دراهم وخيلا وعبيداً وخلعاً، وسنذكر كثيراً من أخبار هذا الملك عند ذكر بلاد الهند. وإنما ذكرنا هذا لما قدمناه من أن السلطان أبا إسحاق يريد التشبه به في العطايا. وهو وإن كان كريماً فاضلاً فلا يلحق بطبقة ملك الهند في الكرم والسخاء.

ذكر بعض المشاهد بشيراز

فمنها مشهد أحمد بن موسى أخي علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، وهو مشهد معظم عند أهل شيراز يتبركون به، ويتوسلون إلى الله تعالى بفضله. وبنت عليه طاش خاتون أم السلطان أبي إسحاق مدرسة كبيرة وزاوية فيها الطعام للوارد والصادر. والقراء يقرأون القرآن على التربة دائماً. ومن عادة الخاتون أنها تأتي إلى هذا المشهد في كل ليلة اثنين. ويجتمع في تلك الليلة القضاة والفقهاء والشرفاء. وشيراز من أكثر بلاد الله شرفاء. سمعت من الثقات أن الذين لهم بها المرتبات من الشرفاء ألف وأربعمائة ونيف بين صغير وكبير، ونقيبهم عضد الدين الحسيني. فإذا حضر القوم بالمشهد المذكور ختموا القرآن قراءة في المصاحف، وقرأ القراء بالأصوات الحسنة، وأتي بالطعام والفواكه والحلواء. فإذا أكل القوم، وعظ الواعظ. ويكون ذلك كله بعد صلاة الظهر إلى العشي والخاتون في غرفة مطلة على المسجد لها شباك. ثم ضرب الطبول والأنفار والبوقات على باب التربة، كما يفعل عند أبواب الملوك. ومن المشاهد بها مشهد الإمام القطب الولي أبي عبد الله ابن خفيف المعروف عندهم بالشيخ. وهو قدوة بلاد فارس كلها، ومشهد معظم عندهم، يأتون إليهم بكره وعشياً، فيتمسحون به. وقد رأيت القاضي مجد الدين أتاه زائراً واستلمته. وتأتي الخاتون إلى هذا المسجد في كل ليلة جمعة، وعليه زاوية ومدرسة ويجتمع به القضاة والفقهاء ويفعلون به كفعلهم في مشهد أحمد بن موسى وقد حضرت الموضعين جميعاً. وتربة الأمير محمد شاه ينجو والد السلطان أبي إسحاق متصلة بهذه التربة. والشيخ أبو عبد الله بن خفيف كبير القدر في الأولياء شهير الذكر، وهو الذي أظهر طريق جبل سرنديب بجزيرة سيلان من أرض الهند. كرامة لهذا الشيخ: يحكى أنه قصد مرة جبل سرنديب ومعه نحو ثلاثين من الفقراء، فأصابتهم مجاعة في طريق الجيل حيث لاعمارة، وتاهوا عن الطريق وطلبوا من الشيخ ان يأذن لهم في القبض على بعض الفيلة الصغار، وهي في ذلك المحل كثيرة جداً، ومنه تحمل إلى حضرة ملك الهند. فنهاهم الشيخ عن ذلك. فغلب عليهم الجوع، فتعدوا قول الشيخ، وقبضوا على فيل صغير منها وذكوه وأكلوا لحمه، وامتنع الشيخ عن أكله، فلما ناموا تلك الليلة اجتمعت الفيلة من كل ناحية وأتت إليهم. فكانت تشم الرجل منهم وتقتله، حتى أتت على جميعهم. وشمت الشيخ ولم تتعرض له. وأخذه فيل منها، ولف عليه خرطومه، ورمى به على ظهره، وأتى به الموضع الذي فيه العمارة فلما رآه أهل تلك الناحية عجبوا منه واستقبلوه ليتعرفوا أمره. فلما قرب منهم أمسكه الفيل بخرطومه ووضعه عن ظهره إلى الأرض بحيث يرونه. فجاءوا إليه وتمسكوا به إلى ملكهم، فعرفوه خبره وهم كفار، وأقام عندهم أياماً. وذلك الموضع على خور يسمى خور الخيزران، والخور هو النهر. وبذلك الموضع مغاص الجوهر. ويذكر أن الشيخ غاص في بعض الأيام بمحضر ملكهم وخرج وقد ضم يديه معاً، وقال للملك: اختر مالك في إحداهما. فاختار ما في اليمنى فرمى إليه بما فيها، وكانت ثلاثة أحجار من الياقوت لا مثيل لها، وهي عند ملوكهم في التاج يتوارثونها. وقد دخلت جزيرة سيلان هذه، وهم مقيمون على الكفر، إلا أنهم يعظمون فقراء المسلمين، ويؤونهم إلى دورهم، ويطعمونهم الطعام، ويكونون في بيوتهم وبين أهليهم وأولادهم، خلافاً لسائر كفار الهند فإنهم لا يقربون المسلمين، ولا يطعمونهم في آنيتهم، ولا يسقونهم فيها. مع أنهم لا يؤذونهم ولا يهجونهم. ولقد كنا نضطر إلى أن يطبخ لنا بعض اللحم، فيأتون به في قدورهم، ويقعدون على بعد منا، ويأتون بأوراق الموز فيجعلون عليها الأرز وهو طعامهم، ويصبون عليه الكوشال وهو الإدام، ويذهبون فنأكل منه. وما فضل علينا تأكله الكلاب والطير. وإن أكل منه الولد الصغير الذي لا يعقل ضربوه وأطعموه روث البقر، وهو الذي يطهر ذلك في زعمهم. ومن المشاهد بها مشهد الشيخ الصالح القطب روزجهان القبلي من كبار الأولياء، وقبره في مسجد جامع يخطب فيه، وبذلك الجامع يصلي القاضي مجد الدين الذي تقدم ذكره رضي الله عنه. وبهذا الجامع سمعت عليه كتاب مسند الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي. قال: أخبرتنا به وزيرة بنت عمر بن المنجا، قالت: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن أبي بكر بن المبارك الزبيدي، قال: أخبرنا زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، قال: أخبرنا أبو الحسن المكي بن محمد بن منصور بن علان العرضي، قال: أخبرنا القاضي أبو بكر أحمد بن الحسن الحرشي عن أبي عباس بن يعقوب ألأصم عن الربيح بن سليمان المرادي عن الإمام أبي عبد الله الشافعي. وسمعت أيضاً عن القاضي مجد الدين بهذا الجامع المذكور كتاب مشارق الأنوار للإمام رضي الله أبي الفضائل الحسن بن محمد بن الحسن الصاغاني بحق سماعه له من الشيخ جلال الدين أبي هاشم محمد بن محمد بن أحمد الهاشمي الكوفي بروايته عن الإمام نظام الدين محمود بن عمر الهراوي عن المصنف. ومن المشاهد بها مشهد الشيخ الصالح زركوب، وعليه زاوية لإطعام الطعام.

وهذه المشاهد كلها بداخل المدينة، وكذلك معظم قبور أهلها، فإن الرجل منهم يموت ولده أو زوجته، فيتخذ له تربة من بعض بيوت داره، ويدفنه هناك، ويفرش البيت بالحصر والبسط، ويجعل الشمع الكثير عند رأس الميت ورجليه ويصنع للبيت باباً إلى ناحية الزقاق وشباك حديد، فيدخل منه القراء يقرأون بالأصوات الحسان. وليس في معمور الأرض أحسن أصواتاً بالقرآن من أهل شيراز. ويقوم أهل الدار بالتربة ويفرشونها ويوقدون السرج بها. فكأن الميت لم يبرح. وذكر لي أنهم يطبخون في كل يوم نصيب الميت من الطعام ويتصدقون به عنه.

حكاية

مررت يوماً ببعض أسواق مدينة شيراز، فرأيت بها مسجداً متقن البناء جميل الفرش، وفيه مصاحف موضوعة في خرائط حرير موضوعة فوق كرسي، وفي الجهة الشمالية من المسجد زاوية فيها شباك مفتح إلى جهة السوق وهنالك شيخ جميل الهيئة والباس، وبين يديه مصحف يقرأ فيه فسلمت عليه وجلست إليه فسألني عن مقدمي فأخبرته، وسألته عن شأن هذا المسجد فأخبرني أنه هو الذي عمره ووقف عليه أوقافاً كثيرة للقراء وسواهم، وأن تلك الزاوية ألتي جلست إليه فيها هي موضع قبره إن قضى الله موته بتلك المدينة، ثم رفع بسطاً كان تحته، والقبر مغطى عليه ألواح خشب، وأراني صندوقاً كان بإزائه، فقال: في هذا الصندوق كفني وحنوطي ودراهم كنت استأجرت بها نفسي في حفر بئر لرجل صالح فدفع لي هذه الدراهم، فتركتها لتكون نفقة مواراتي وما فضل منها يتصدق بها فعجبت من شأنه وأردت الانصراف فحلف علي وأضافني بذلك الموضع. ومن المشاهد بخارج شيراز قبر الشيخ الصالح المعروف السعدي وكان أشعر أهل زمانه باللسان الفارسي، وربما ألمع في كلامه بالعربي وله زاوية كان قد عمرها بذلك الموضع حسنة، بداخلها بستان مليح وهي بقرب رأس النهر الكبير المعروف بركن أباد وقد صنع الشيخ هنالك أحواضاً صغاراً من المرمر لغسل الثياب فيخرج الناس من المدينة لزيارته ويأكلون من سماطه ويغسلون ثيابهم بذلك النهر، وينصرفون. وكذلك فعلت عنده رحمه الله. وبمقربة من هذه الزاوية زاوية أخرى تتصل بها مدرسة مبنية على قبر شمس الدين السماني، وكان من الأمراء الفقهاء، ودفن هنالك بوصية منه بذلك.

وبمدينة شيراز من الفقهاء الشريف مجد الدين وأمره في الكرم عجيب، وربما جاد بكل ما عنده وبالثياب التي كانت عليه، ويلبس مرقعة فيدخل عليه كبراء المدينة فيجدونه على تلك الحال فيكسونه. ومرتبه في كل يوم من السلطان خمسون ديناراً دراهم. ثم كان خروجي من شيراز برسم زيارة قبر الشيخ الصالح أبي إسحاق الكازروني بكازرون، وهي على مسيرة يومين من شيراز، فنزلنا أول يوم ببلاد الشول، وهم طائفة من الأعاجم يسكنون البرية وفيهم الصالحون. كرامة لبعضهم: كنت يوماً ببعض المساجد بشيراز، وقد قعدت أتلو كتاب الله عز وجل إثر صلاة الظهر، فخطر بخاطري أنه لو كان لي مصحف كريم لتلوت فيه، فدخل علي في أثناء ذلك شاب وقال لي بكلام قوي خذ: فرفعت رأسي إليه فألقى في حجري مصحفاً كريماً وذهب عني. فختمته ذلك اليوم قراءة وانتظرته لأرده له، فلم يعد إلي، فسألت عنه فقيل لي: ذلك بهلول الشولي، ولم أره بعد. ووصلنا عشي اليوم الثاني إلى كازرون، فقصدنا زاوية الشيخ أبي إسحاق نفع الله به، وبتنا بها تلك الليلة ومن عادتهم أن يطعموا الوارد كائناً من كان من الهريسة المصنوعة من اللحم والسمن وتؤكل بالرقاق ولا يتركون الوارد عليهم للسفر حتى يقيم في الضيافة ثلاثة، ويعرض على الشيخ الذي بالزاوية حوائجه، ويذكرها الشيخ للفقراء الملازمين للزاوية، وهم يزيدون على مائة، منهم المتزوجون ومنهم الأعزاب المتجردون، فيختمون القرآن ويذكرون الذكر ويدعون له عند ضريح الشيخ أبي إسحاق فتقضى حاجته بإذن الله وهذا الشيخ أبو إسحاق معظم عند أهل الهند والصين ومن عادة الركاب في بحر الصين أنهم إذا تغير عليهم الهواء، وخافوا اللصوص، نذروا لأبي إسحاق نذراً، وكتب كل منهم على نفسه ما نذره فإذا وصلوا بر السلامة، صعد خادم الزاوية إلى المركب، وأخذوا الزمام، وقبضوا من كل ناذر نذره وما من مركب يأتي من الصين أو الهند إلا وفيه آلاف من الدنانير فيأتي الوكلاء من جهة خادم الزاوية فيقبضون ذلك. ومن الفقراء، ومن يأتي طالباً صدقة الشيوخ، فيكتب له أمر بها، وفيه علامة الشيخ منقوشة في قالب من الفضة، فيضعون القالب في صبغ أحمر ويلصقونه بالأمر، فيبقى أثر الطابع فيه ويكون مضمنه أن من عنده نذر للشيخ أبي إسحاق فليعط منه لفلان كذا فيكون الأمر بالألف والمائة وما بين ذلك ودونه على قدر الفقير، فإذا وجد من عنه شيء من النذر قبض منه كتب له رسماً في ظهر الأمر بما قبضه. ولقد نذر ملك الهند مرة للشيخ أبي إسحاق بعشرة آلاف دينار، فبلغ خبرها إلى فقراء الزاوية، فأتى أحدهم إلى الهند وقبضها وانصرف بها إلى الزاوية، ثم سافرن من كازرون إلى مدينة الزيدين، وسميت بذلك لأن فيها قبر زيد بن ثابت وقبر زيد بن أرقم الأنصاريين صاحبي رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً، ورضي الله عنهما وهي مدينة حسنة كثيرة البساتين والمياه، مليحة الأسواق عجيبة المساجد، ولأهلها صلاح وأمانة وديانة، ومن أهلها القاضي نور الدين الزيداني، وكان ورد على أهل الهند فولي القضاء منها بذيبة المهل، وهي جزائر كثيرة ملكها جلال الدين بن صلاح الدين الصالح، وتزوجت بأخت هذا الملك وسيأتي ذكره وذكر بنته خديجة التي تولت الملك بعده بهذه الجزائر، وبها توفي القاضي نور الدين المذكور. ثم سافرنا منها إلى الحويزاء بالزاي، وهي مدينة صغيرة يسكنها العجم، بينها وبين البصرة مسيرة أربع، وبينها وبين الكوفة مسيرة خمس، ومن أهلها الشيخ الصالح العابد جمال الدين الحويزاني شيخ خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة ثم سافرنا منها قاصدين الكوفة في برية لا ماء بها إلا في موضع واحد يسمى الطرفاوي، وردناه في اليوم الثالث من سفرنا، ثم وصلنا بعد اليوم الثاني من ورودنا عليه إلى مدينة الكوفة.