الجزء الأول - مدينة الكوفة

وهي إحدى أمهات البلاد العراقية المتميزة فيها بفضل المزية مثوى الصحابة، والتابعين ومنزل العلماء والصالحين، وحضرة علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلا أن الخراب قد استولى عليها بسبب أيدي العدوان التي امتدت إليها، وفسادها من عرب خفاجة المجاورين لها، فإنهم يقطعون طريقها ولا سور عليها، وبناؤها بالآجر، وأسواقها حسان وأكثر ما يباع فيها التمر والسمك وجامعها الأعظم جامع كبير شريف، بلاطاته سبع قائمة على سواري حجارة ضخمة منحوته، قد صنعت قطعاً، ووضع بعضها على بعض، وأفرغت بالرصاص وهي مفرطة الطول، وبهذا المسجد آثار كريمة، فمنها بيت إزاء المحراب عن يمين مستقبل القبلة يقال إن الخليل صلوات الله عليه كان له مصلى بذلك الموضع وعلى مقربة منه محراب محلق عليه بأعواد الساج مرتفع، وهو محراب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهنالك ضربه الشقي ابن ملجم والناس يقصدون الصلاة به وفي الزاوية من هذا البلاط مسجد صغير محلق عليه أيضاً بأعواد الساج، يذكر أنه الموضع الذي فار منه التنور حين طوفان نوح عليه السلام، وفي ظهره خارج المسجد بيت يزعمون أنه بيت نوح عليه السلام، وإزاءه بيت يزعمون أنه متعبد إدريس عليه السلام، ويتصل بذلك فضاء، ويتصل بالجدار القبلي للمسجد، يقال: إنه موضع إنشاء سفينة نوح عليه السلام. وفي آخر هذا الفضاء دار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، والبيت الذي غسل فيه ويتصل به بيت يقال أيضاً، إنه بيت نوح عليه السلام، والله أعلم بصحة ذلك كله. وفي الجهة الشرقية من الجامع بيت مرتفع، يصعد إليه، قبر مسلم بن عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وبمقربة منه خارج المسجد قبر عاتكة وسكينة بنتي الحسين عليه السلام. وأما قصر الإمارة بالكوفة الذي بناه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فلم يبق إلا أساسه، والفرات من الكوفة على مسافة نصف فرسخ في الجانب الشرقي منها، وهو منتظم بحدائق النخل الملتفة المتصل بعضها بعض، ورأيت بغربي جبانة الكوفة موضعاً مسوداً شديد السواد في بسيط أبيض، فأخبرت أنه قبر الشقي ابن ملجم، وأن أهل الكوفة يأتون كل سنة بالحطب الكثير فيوقدون النار على موضع قبره سبعة أيام وعلى قرب منه قبة أخبرت أنها على قبر المختار بن أبي عبيد. ثم رحلنا ونزلنا بئر ملاحة، وهي بلدة حسنة بين حدائق نخل، ونزلت بخارجها وكرهت دخولي لها، لأن أهلها روافض ورحلنا منها الصبح فنزلنا مدينة الحلة وهي مدينة كبيرة مستطيلة مع الفرات وهو بشرقيها، ولها أسواق حسنة جامعة للمرافق والصناعات وهي كثيرة العمارة، وحدائق النخل منتظمة بها داخلاً وخارجاً، ودورها بين الحدائق ولها جسر عظيم معقود على مراكب متصلة منتظمة فيما بين الشطين، تحف بها من جانبيها سلاسل من حديد مربوطة في كلا الشطين إلى خشبة عظيمة مثبتة بالساحل. وأهل هذا المدينة كلها إمامية اثنا عشرية وهم طائفتان: إحداهما تعرف بالأكراد والأخرى تعرف بأهل الجامعين والفتنة بينهم متصلة، والقتال قائم بمقربة من السوق الأعظم. بهذه المدينة مسجد على بابه ستر حرير مسدول، وهم يسمونه مشهد صاحب الزمان، ومن عاداتهم أن يخرج في كل ليلة مائة رجل من أهل المدينة عليهم السلام، وبأيديهم سيوف مشهورة. فيأتون أمير المدينة بعد صلاة العصر يأخذون منه فرساً مسرجاً ملجماً أو بغلة كذلك، ويضربون الطبول والأنفار والبوقات أمام تلك الدابة، ويتقدمها خمسون منهم ويتبعها مثلهم ويمشي آخرون عن يمينها وشمالها، ويأتون مشهد صاحب الزمان، فيقفون بالباب، ويقولون: باسم الله يا صاحب الزمان باسم الله اخرج قد ظهر الفساد، وكثر الظلم، وهذا أوان خروجك فيفرق الله بك بين الحق والباطل، ولا يزالون كذلك وهم يضربون الأبواق والأطبال والأنفار إلى صلاة المغرب، وهم يقولون: إن محمد بن الحسن العسكري دخل ذلك المسجد وغاب فيه، وأنه سيخرج وهو الإمام المنتظر عندهم وقد كان غلب على مدينة الحلة بعد موت السلطان أبي سعيد الأمير محمد بن رميثة بن أبي نمي أمير مكة، وحكمها أعواماً، وكان حسن السيرة يحمده أهل العراق، إلى أن غلب عليه الشيخ حسن سلطان العراق فعذبه وقتله وأخذ الأموال والذخائر التي كانت عنده. ثم سافرنا منها إلى مدينة كربلاء مشهد الحسين بن علي عليهما السلام وهي مدينة صغيرة تحفها حدائق النخل ويسيقها ماء الفرات والروضة المقدسة داخلها، وعليها مدرسة عظيمة، وزاوية كريمة فيها الطعام للوارد والصادر وعلى باب الروضة الحجاب والقومة، لا يدخل أحد إلا عن إذنهم، فيقبل العتبة الشريفة وهي من الفضة وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة وعلى الأبواب أستار الحرير وأهل هذه المدينة طائفتان، أولاد رخيك وأولاد فائز، وبينهما القتال أبداً وهم جميعاً إمامية يرجعون إلى أب واحد، ولأجل فتنهم تخربت هذه المدينة. ثم سافرنا منها إلى بغداد.