الجزء الأول - مدينة الموصل

وهي مدينة عتيقة كثيرة الخصب وقلعتها المعروفة بالحدباء عظيمة الشأن شهيرة الامتناع عليها سور محكم البناء مشيد البروج وتتصل بها دور السلطان وقد فصل بينها وبين البلد شارع متسع مستطيل من أعلى البلد إلى أسفله وعلى البلد سوران اثنان وثيقان أبراجهما كثيرة متقاربة وفي باطن السور بيوت بعضها على بعض مستديرة بجداره قد تمكن فتحها فيه لسعته ولم أر في أسوار البلاد مثله إلا السور الذي على مدينة دهلي حضرة ملك الهند. وللموصل ربض كبير فيه الجوامع والحمامات والفنادق والأسواق وبه مسجد جامع على شط الدجلة تدور به شبابيك حديد وتتصل به مساطب تشرف على دجلة في النهاية من الحسن والإتقان وامامه مارستان وبداخل المدينة جامعان أحدهما قديم والآخر حديث وفي صحن الحديث منهما قبة في داخلها خصة رخام مثمنة مرتفعة على سارية رخام يخرج منها الماء بقوة وانزعاج فيرتفع مقدار القامة ثم ينعكس فيكون له مرأى حسن. وقيسارية الموصل مليحة لها أبواب حديد ويدور بها دكاكين وبيوت بعضها فوق بعض متقنة البناء. وبهذه المدينة مشهد جرجيس النبي عليه السلام وعليه مسجد والقبر في زاوية منه عن يمين الداخل إليه وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى وهنالك تل يونس عليه السلام وعلى نحو ميل منه العين المنسوبة إليه يقال انه أمر قومه بالتطهر فيها ثم صعدوا التل ودعا ودعوا فكشف الله عنهم العذاب وبمقربة منه قرية كبيرة يقرب منها خراب يقال أنه موضع المدينة المعروفة بنينوى مدينة يونس عليه السلام وأثر السور المحيط بها ظاهر ومواضع الأبواب التي هي متبينة. وفي التل بناء عظيم ورباط فيه بيوت كثيرة ومقاصر ومطاهر وسقايات يضم الجميع باب واحد، وفي وسط الرباط بيت عليه ستر حرير وله باب مرصع يقال انه الموضع الذي به موقف يونس عليه السلام ومحراب المسجد الذي بهذا الرباط يقال انه كان بيت متعبده عليه السلام. وأهل الموصل يخرجون في كل ليلة جمعة إلى هذا الرباط يتعبدون فيه. وأهل الموصل لهم مكارم أخلاق ولين كلام وفضيلة ومحبة في الغريب وإقبال عليه وكان أميرها حين قدومي عليها السيد الشريف الفاضل علاء الدين علي بن شمس الدين محمد الملقب بحيدر وهو من الكرماء الفضلاء أنزلني بداره وأجرى علي الانفاق مدة مقامي عنده وله الصدقات والإيثار المعروف.

وكان السلطان أبو سعيد يعظمه وفوض إليه أمر هذه المدينة وما يليها ويركب في موكب عظيم من مماليكه وأجناده ووجوه أهل المدينة وكبراؤها يأتون للسلام عليه غدواً وعشياً وله شجاعة ومهابة وولده في حين كتب هذا في حضرة فاس مستقر الغرباء ومأوى الفرق ومحط رحال الوفود زادها الله بسعادة أيام مولانا أمير المؤمنين بهجة وإشراقاً وحرس أرجاءها ونواحيها.

ثم رحلنا من الموصل ونزلنا قرية تعرف بعين الرصد وهي على نهر عليه جسر مبني وبها خان كبير. ثم رحلنا ونزلنا قرية تعرف بالمويلحة ثم رحلنا منها ونزلنا جزيرة ابن عمر وهي مدينة كبيرة حسنة محيط بها الوادي ولذلك سميت جزيرة وأكثرها خراب ولها سوق حسنة ومسجد عتيق مبني بالحجارة محكم العمل وسورها مبني بالحجارة أيضاً وأهلها فضلاء لهم محبة في الغرباء ويوم نزلنا بها رأينا جبل الجودي المذكور في كتاب الله عز وجل الذي استوت عليه سفينة نوح عليه السلام وهو جبل عال مستطيل.

ثم رحلنا مرحلتين ووصلنا إلى مدينة نصيبين وهي مدينة عظيمة عتيقة متوسطة قد خرب أكثرها وهي في بسيط أفيح فسيح فيه المياه الجارية والبساتين الملتفة والاشجار المنتظمة والفواكه الكثيرة وبها يصنع ماء الورد الذي لا نظير له في العطارة والطيب ويدور بها نهر ينعطف عليها انعطاف السوار منبعه من عيون في جبل قريب منها وينقسم انقساماً فيتخلل بساتينها ويدخل منه نهر إلى المدينة فيجري في شوارعها ودورها ويخترق صحن مسجدها الأعظم وينصب في صهريجيهن أحدهما في وسط الصحن والآخر عند الباب الشرقي وبهذه المدينة مارستان ومدرستان وأهلها أهل صلاح ودين وصدق وأمانة ولقد صدق أبو نواس في قوله:

 

طابت نصيبين لي يوماً وطبت لها

 

يا ليت حظي من الدنيا نصيبـين

قال ابن جزي: والناس يصفون مدينة نصيبين بفساد الماء والوخامة، وفيها يقول بعض الشعراء: 

لنصيبين قد عجبت وما في

 

دارها لي داعٍ إلى العلات

يعدم الورد أحمراً في ذراها

 

لسقام حتى من الوجنـات

ثم رحلنا إلى مدينة سنجار، وهي مدينة كبيرة كثيرة الفواكه والأشجار والعيون المطردة والأنهار، مبنية في سفح جبل، تشبه بدمشق في كثرة أنهارها وبساتينها، ومسجدها الجامع مشهور البركة، يذكر ان الدعاء به مستجاب، ويدور به نهر ماء ويشقه. وأهل سنجار أكراد، ولهم شجاعة وكرم، وممن لقيته بها الشيخ الصالح العابد الزاهد عبد الله الكردي أحد المشايخ الكبار صاحب كرامات يذكر عنه أنه لا يفطر إلا بعد أربعين يوماً ويكون إفطاره على نصف قرص من الشعير، لقيته برابطة بأعلى جبل سنجار ودعا لي وزودني بدراهم، لم تزل عندي إلى ان سلبني كفار الهنود. ثم سافرنا إلى مدينة دارا، وهي عتيقة كبيرة بيضاء المنظر، لها قلعة مشرفة، وهي الآن خراب لا عمارة بها وفي خارجها قرية معمورة، بها كان نزولنا، ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة ماردين، وهي عظيمة في سطح جبل من أحسن مدن الإسلام وأبدعها وأتقنها وأحسنها أسواقاً وبها تصنع الثياب المنسوبة إليها من الصوف المعروف بالمرعز ولها قلعة شماء من مشاهير القلاع في قنة جبلها. قال ابن جزي: قلعة ماردين هذه تسمى الشهباء وإياها عنى شاعر العراق صفي الدين عبد العزيز بن سراي الحلي بقوله في مسمطته:  

فدع ربوع الحـلة الـفـيحـاء

 

وازور بالعيس عن الـزوراء

ولا تقف بالموصل الـحـدبـاء

 

إن شهاب القلعة الشـهـبـاء

محرق شيطان صروف الدهر

 

 

وقلعة حلب تسمى الشهباء أيضاً وهذه المسمطة بديعة مدح بها الملك المنصور سلطان ماردين، وكان كريماً شهير الصيت ولي الملك بها نحو خمسين سنة، وأدرك أيام قازان ملك التتر، وصاهر السلطان خدابنده بابنته دنيا خاتون.

ذكر سلطان ماردين في عهد دخولي إليها

وهو الملك الصالح ابن الملك المنصور الذي ذكرناه آنفاً، ورث الملك عن أبيه وله المكارم الشهيرة. وليس بأرض العراق والشام ومصر أكرم منه يقصده الشعراء والفقراء فيجزل لهم العطايا، جرياً على سنن أبيه قصده أبو عبيد الله محمد ابن جابر الأندلسي المروي الكفيف مادحاً، فأعطاه عشرين ألف درهم. وله الصدقات والمدارس والزوايا لإطعام الطعام، وله وزير كبير القدر، وهو الإمام العالم وحيد الدهر وفريد العصر جمال الدين السنجاوي، وقرأ بمدينة تبريز، وأدرك العلماء الكبار، وقاضي قضاته الامام الكامل برهان الدين الموصلي، وهو ينتسب إلى الشيخ الولي فتح الموصلي، وهذا القاضي من أهل الدين والورع والفضل، يلبس الخشن من ثياب الصوف الذي لا تبلغ قيمته عشرة دراهم، ويعتم بنحو ذلك، وكثيراً ما يجلس للأحكام بصحن مسجد خارج المدرسة، كان يتعبد فيه فإذا رآه من لا يعرفه ظنه بعض خدام القاضي وأعوانه.

حكاية

ذكر لي: أن امرأة أتت هذا القاضي، وهو خارج من المسجد، ولم تكن تعرفه، فقالت له: يا شيخ، أين يجلس القاضي ؟ فقال لها: وما تريدين منه ؟ فقالت: إن زوجي ضربني، وله زوجة ثانية، وهو لا يعدل بيننا في القسم وقد دعوته إلى القاضي فأبى وأنا فقيرة ليس عندي ما أعطيه لرجال القاضي حتى يحضرونه بمجلسه، فقال لها: وأين منزل زوجك ؟ فقالت: بقرية الملاحين خارج المدينة فقال لها: أنا أذهب معك إليه فقالت: والله ما عندي شيء أعطيك إياه فقال لها: لا آخذ منك شيئاً، ثم قال لها: اذهبي إلى القرية وانتظريني خارجها، فإني على أثرك. فذهبت كما أمرها وانتظرته، فوصل إليها وليس معه أحد، وكانت عادته أن لا يدع أحداً يتبعه فجاءت به إلى منزل زوجها فلما رآه قال: ما هذا الشيخ النحس الذي معك ؟ فقال له: نعم والله أنا كذلك، ولكن أرض زوجتك. فلما طال الكلام، جاء الناس فعرفوا القاضي وسلموا عليه وخاف ذلك الرجل وخجل فقال له القاضي: لا عليك أصلح ما بينك وبين زوجتك فأرضاها الرجل من نفسه وأعطاهما القاضي نفقة ذلك اليوم وانصرف. لقيت هذا القاضي وأضافني بداره ثم رحلت عائداً إلى بغداد فوصلت إلى مدينة الموصل التي ذكرناها، فوجدت ركبها بخارجها متوجهين إلى بغداد، وفيهم امرأة صالحة عابدة تسمى بالست زاهدة، وهي من ذرية الخلفاء، حجت مراراً، وهي ملازمة الصوم سلمت عليها، وكنت في جوارها، ومعها جملة من الفقراء يخدمونها، وفي هذه الوجهة توفيت رحمة الله عليها وكانت وفاتها بزرود، ودفنت هنالك، ثم وصلنا إلى مدينة بغداد، فوجدت الحاج في أهبة الرحيل، فقصدت أميرها معروف خواجة فطلبت منه ما أمر لي به السلطان. فعين لي شقة محارة وزاد أربعة من الرجال وماءهم، وكتب لي بذلك ووجه إلى أمير الركب البهلوان محمد الحويح فأوصاه بي. وكانت المعرفة بيني وبينه متقدمة، فزادها تأكيداً، ولم أزل في جواره وهو يحسن إلي ويزيدني على ما أمر به، وأصابني عند خروجنا من الكوفة إسهال فكانوا ينزلونني من أعلى المحمل مرات كثيرة في اليوم، والأمير يتفقد حالي ويوصي بي ولم أزل مريضاً حتى وصلت مكة حرم الله تعالى، زادها الله شرفاً وتعظيماً، وطفت بالبيت الحرام كرمه الله تعالى طواف القدوم، وكنت ضعيفاً بحيث أؤدي المكتوبة قاعداً فطفت وسعيت بين الصفا والمروة راكباً على فرس الأمير الحويح المذكور، ووقفنا تلك السنة يوم الإثنين فلما نزلنا منى أخذت في الراحة والاستقلال من مرضي، ولما انقضى الحاج أقمت مجاوراً بمكة تلك السنة. وكان بها الأمير علاء الدين بن هلال مشيد " مشد " الدواوين مقيماً لعمارة دار الوضوء بظاهر العطارين من باب ابن شيبة وجاور في تلك السنة من المصريين جماعة من كبرائهم منهم تاج الدين بن الكويك ونور الدين القاضي وزين الدين بن الأصيل وابن الخليلي وناصر الدين الأسيوطي. وسكنت تلك السنة بالمدرسة المظفرية، وعافاني الله من مرضي، فكنت في أنعم عيش، وتفرغت للطواف والعبادة والاعتمار، وأتى في أثناء تلك السنة حجاج الصعيد، وقدم معهم الشيخ الصالح نجم الدين الأصفهوني ، وهي أول حجة حجها، والأخوان علاء الدين علي وسراج الدين عمر ابنا القاضي الصالح نجم الدين البالسي قاضي مصر، وجماعة غيرهم، في منتصف ذي القعدة وصل الأمير سيف الدين يلملك، وهو من الفضلاء، ووصل في صحبته جماعة من أهل طنجة بلدي حرسها الله، منهم الفقيه أبو عبد الله بن عطاء الله والفقيه أبو محمد عبيد الله الحضري والفقيه أبو عبد الله المرسي، وأبو العباس ابن الفقيه أبي علي البلنسي وأبو محمد ابن القابلة وأبو الحسن البياري وأبو العباس بن نافوت وأبو الصبر أيوب الفخار وأحمد بن حكامه ومن أهل القصر المجاز الفقيه أبو زيد عبد الرحمن ابن القاضي أبي العباس بن خلوف ومن أهل القصر الكبير الفقيه أبو محمد ابن مسلم وأبو إسحاق إبراهيم بن يحيى وولده. ووصل في تلك السنة الأمير سيف الدين تقزدمور من الخاصكية والأمير موسى بن قرمان والقاضي فخر الدين ناظر الجيش وكاتب المماليك والتاج أبو إسحاق والست حدق مربية الملك الناصر. وكانت لهم صدقات عميمة بالحرم الشريف، وأكثرهم صدقة القاضي فخر الدين، وكانت وقفتنا في تلك السنة في يوم الجمعة من سنة ثمان وعشرين، ولما انقضى الحج أقمت مجاوراً بمكة حرسها الله سنة تسع وعشرين، وفي هذه السنة وصل أحمد بن الأمير رميثة ومبارك ابن الأمير عطيفة من العراق صحبة الأمير محمد الحويح والشيخ زاده الحرباوي والشيخ دانيال، وأتوا بصدقات عظيمة للمجاورين وأهل مكة من قبل السلطان أبي سعيد ملك العراق، وفي تلك السنة ذكر اسمه في الخطبة بعد ذكر الملك الناصر، ودعوا له بأعلى قبة زمزم، وذكروا بعده سلطان اليمن الملك المجاهد نور الدين ولم يوافق الأمير عطيفة على ذلك، وبعث شقيقه منصوراً ليعلم الملك الناصر بذلك فأمر رميثة برده فرد، فبعثه ثانية على طريق جدة حتى أعلم الملك الناصر بذلك ووقفنا تلك السنة، وهي سنة تسع وعشرين يوم الثلاثاء، ولما انقضى الحج أقمت مجاوراً بمكة حرسها الله سنة ثلاثين. وفي موسمها وقعت الفتنة بين أمير مكة عطيفة وبين أيدمور أمير جندار الناصري وسبب ذلك أن تجاراً من أهل اليمن سرقوا، فتشكوا إلى أيدمور بذلك، فقال أيدمور لمبارك ابن الأمير عطيفة: إئت بهؤلاء السراق، فقال: لا أعرفهم فكيف نأتي بهم، وبعد فأهل اليمن تحت حكمنا ولا حكم لك عليهم، إن سرق لأهل مصر والشام شيء فاطلبني به فشتمه أيدمور وقال له: يا قواد تقول لي هكذا، وضربه على صدره فسقط، ووقعت عمامته عن رأسه وغضب له عبيدة وركب أيدمور يريد عسكره، فلحقه مبارك وعبيدة فقتلوه وقتلوا ولده. ووقعت الفتنة بالحرم، وكان به الأمير أحمد ابن عم الملك الناصر، ورمى الترك بالنشاب، فقتلوا امرأة قيل: إنها كانت تحرض أهل مكة على القتال، وركب من ركب من الأتراك، وأميرهم خاص ترك، فخرج إليهم القاضي والأئمة والمجاورين وفوق رؤوسهم المصاحف، وحاولوا الصلح، ودخل الحجاج مكة فأخذوا ما لهم بها وانصرفوا إلى مصر، وبلغ الخبر إلى الملك الناصر فشق عليه، وبعث العساكر إلى مكة ففر الأمير عطيفة وابنه مبارك، وخرج أخوه رميثة وأولاده إلى وادي نخلة، فلما وصل العسكر إلى مكة بعث الأمير رميثة أحد أولاده يطلب له الأمان، ولولده، فأمنوا وأتى رميثة وكفنه في يده إلى الأمير، فخلع عليه، وسلمت إليه مكة، وعاد العسكر إلى مصر وكان الملك الناصر رحمه الله حليماً فاضلاً فخرجت تلك الأيام من مكة قاصداً بلاد اليمن فوصلت إلى حده، " بالحاء المهمل المفتوح " وهي نصف الطريق بين مكة وجدة " بالجيم المضموم " ثم وصلت إلى جدة، وهي بلدة قديمة على ساحل البحر يقال: انها من عمارة الفرس، وبخارجها مصانع قديمة، وبها جباب للماء منقورة في الحجر الصلد، يتصل بعضها ببعض، تفوت الاحصاء كثرة، وكانت هذه السنة قليلة المطر، وكان الماء يجلب إلى جدة على مسيرة يوم وكان الحجاج يسألون الماء من أصحاب البيوت.

حكاية

ومن غريب ما اتفق لي بجدة أنه وقف على بابي سائل أعمى يطلب الماء يقوده غلام، فسلم علي وسماني باسمي وأخذ بيدي، ولم أكن عرفته قط، ولا عرفني فعجبت من شأنه ثم أمسك أصبعي بيده وقال: أين الفتخة ؟ وهي الخاتم وكنت حين خروجي من مكة لقيني بعض الفقراء وسألني، ولم يكن عندي في ذلك الحين شيء فدفعت له خاتمي. فلما سألني عنه هذا الأعمى قلت له: أعطيته لفقير. فقال: ارجع في طلبه فإن فيه أسماء مكتوبة فيها سر من الأسرار فطال تعجبي منه ومن معرفته بذلك، والله أعلم بحاله، وبجدة جامع يعرف بجامع الآبنوس، معروف البركة يستجاب به الدعاء، وكان الأمير بها أبا يعقوب بن عبد الرزاق، وقاضيها وخطيبها الفقيه عبد الله من أهل مكة شافعي المذهب، وإذا كان يوم الجمعة واجتمع الناس للصلاة أتى المؤذن، وعد أهل جدة المقيمين بها فإن أكملوا أربعين خطب وصلى بهم الجمعة، وإن لم يبلغ عددهم أربعين صلى ظهراً أربعاً، ولا يعتبر من ليس من أهلها وإن كانوا عدداً كثيراً. ثم ركبنا البحر من جدة في مركب يسمونه الجلبة وكان لرشيد الدين الألفي اليمني الحبشي الأصل، وركب الشريف منصور ابن أبي نمي في جلبة أخرى، ورغب مني أن أكون معه فلم أفعل، لكونه كان معه في جلبته الجمال فخفت من ذلك، ولم أكن ركبت البحر قبلها وكان هنالك جملة من أهل اليمن قد جعلوا زوادهم وأمتعتهم في الجلب وهم متأهبون للسفر.

حكاية

ولما ركبنا البحر أمر الشريف منصور أحد غلمانه أن يأتيه بعديلة دقيق، وهي نصف حمل وبطة سمن، يأخذهما من جلب أهل اليمن. فأخذهما وأتى بهما إليه، فأتاني التجار باكين، وذكروا إلى أن في جوف تلك العديلة عشرة آلاف درهم نقرة، ورغبوا مني أن أكلمه في ردها، وأن يأخذ سواها، فأتيته وكلمته في ذلك وقلت له: إن للتجار في جوف هذه العديلة شيئاً، فقال: إن كان سكراً فلا أرده إليهم، وإن كان سوى ذلك فهو لهم، ففتحوها ووجدوا الدراهم، فردها عليهم وقال لي: لو كان عجلان ما ردها وعجلان هو ابن أخيه رميثة، وكان قد دخل في تلك الأيام دار تاجر من أهل دمشق قاصداً لليمن، فذهب بمعظم ما كان فيها، وعجلان هو أمير مكة على هذا العهد، وقد صلح حاله، وأظهر العدل والفضل. ثم سافرنا في هذا البحر بالريح الطيبة يومين، وتغيرت الريح بعد ذلك وصدتنا عن السبيل التي قصدناها، ودخلت أمواج البحر معنا في المركب، واشتد الميد بالناس ، ولم نزل في أهوال حتى خرجنا في مرسى يعرف برأس دوائر، فيما بين عيذاب وسواكن فنزلنا به، ووجدنا بساحله عريش قصب على هيئة مسجد، وبه كثير من قشور بيض النعام مملوءة ماء فشربنا منه، وطبخنا ورأيت في ذلك المرسى عجباً، وهو خور مثل الوادي يخرج من البحر، فكان الناس يأخذون الثوب ويمسكون بأطرافه ويخرجون به، وقد امتلأ سمكاً، كل سمكة منها قدر الذراع، ويعرفونه بالبوري فطبخ منه الناس كثيراً واشتروا وقصدت إلينا طائفة من البجاة، وهم سكان تلك الأرض سود الألوان، لباسهم الملاحف الصفر، ويشدون على رؤوسهم عصائب حمراً، عرض الأصبع، وهم أهل نجدة وشجاعة، وسلاحهم الرماح والسيوف، ولهم جمال يسمونها الصهب، يركبونها بالسروج فاكترينا منهم الجمال، وسافرنا معهم في برية كثيرة الغزلان، والبجاة لا يأكلونها وهي تأنس بالآدمي ولا تنفر منه. وبعد يومين من مسيرنا وصلنا إلى حي من العرب يعرفون بأولاد كاهل، مختلطين بالبجاة، عارفين بلسانهم، وفي ذلك اليوم وصلنا إلى جزيرة سواكن، وهي على نحو ستة أميال من البر، ولا ماء بها ولا زرع ولا شجر، والماء يجلب إليها في القوارب، وفيها صهاريج يجتمع بها ماء المطر، وهي جزيرة كبيرة، وبها لحوم النعام والغزلان وحمر الوحش، والمعزى عندهم كثير والألبان والسمن ومنها يجلب إلى مكة وحبوبهم الجرجور، وهو نوع من الذرة كبير الحب يجلب منها أيضاً إلى مكة.

ذكر سلطانها

وكان سلطان جزيرة سواكن حين وصولي إليها الشريف زيد بن أبي نمي، وأبوه أمير مكة، وأخواه أميراها بعده، وهما عطيفة ورميثة اللذان تقدم ذكرهما وصارت إليه من قبل البجاة، فإنهم أخواله ومعه عسكر من البجاة، وأولاده كاهل وعرب جهينة وركبنا البحر من جزيرة سواكن نريد أرض اليمن، وهذا البحر لا يسافر فيه بالليل لكثرة أحجاره، وإنما يسافرون فيه من طلوع الشمس إلى غروبها ويرسون وينزلون إلى البر فإذا كان الصباح صعدوا إلى المركب وهم يسمون رئيس المركب الربان ولا يزال أبداً في مقدم المركب، ينبه صاحب السكان على الأحجار ، وهم يسمونها النبات. وبعد ستة أيام من خروجنا عن جزيرة سواكن وصلنا إلى مدينة حلي " وضبط اسمها بفتح الحاء المهمل وكسر اللام وتخفيفها "، وتعرف باسم ابن يعقوب وكان من سلاطين اليمن ساكناً بها قديماً وهي كبيرة حسنة العمارة، يسكنها طائفتان من العرب، وهم بنو حرام وبنو كنانة وجامع هذه المدينة من أحسن الجوامع، وفيه جماعة من الفقراء المنقطعين إلى العبادة منهم الشيخ الصالح العابد الزاهد قبولة الهندي، من كبار الصالحين لباسه مرقعة وقلنسوة لبد، وله خلوة متصلة بالمسجد، فرشها الرمل، لا حصير بها ولا بساط، ولم أر بها حين لقائي له شيئاً إلا إبريق الوضوء، وسفرة من خوص النخيل فيها كسر شعير يابسة، وصحيفة فيها ملح وسعتر فإذا جاءه أحد قدم بين يديه ذلك، ويسمع به أصحابه، فيأتي كل واحد منهم بما حضر من غير تكلف شيء وإذا صلوا العصر اجتمعوا للذكر بين يدي الشيخ إلى صلاة المغرب وإذا صلوا المغرب أخذ كل واحد منهم موقفه للتنفل، فلا يزالون كذلك إلى صلاة العشاء الآخرة، فإذا صلوا العشاء الآخرة أقاموا على الذكر إلى ثلث الليل ثم انصرفوا ويعودون في أول الثلث الثالث إلى المسجد فيتهجدون إلى الصبح، ثم يذكرون إلى أن تحين صلاة الإشراق، فينصرفون بعد صلاتها ومنهم من يقيم إلى أن يصلي صلاة الضحى بالمسجد وهذا دأبهم، أبداً، ولقد كنت أردت الإقامة معهم باقي عمري، ولم أوفق لذلك والله تعالى يتداركنا بلطفه وتوفيقه.

ذكر سلطان حلي

وسلطانها عامر بن ذؤيب من بنى كنانة، وهو من الفضلاء الأدباء الشعراء. صحبته من مكة إلى جدة، وكان قد حج في سنة ثلاثين. ولما قدمت مدينته أنزلني وأكرمني، وأقمت في ضيافته أياماً. وركبت البحر في مركب له فوصلت إلى بلدة السرجة " وضبط اسمها بفتح السين المهمل وإسكان الراء وفتح الجيم "، بلدة صغيرة يسكنها جماعة من أولاد الهلبي، وهم طائفة من تجار اليمن، أكثرهم ساكنون بصنعاء ولهم فضل وكرم وإطعام لأبناء السبيل، ويعينون الحجاج، ويركبونهم في مراكبهم، ويزودونهم من أموالهم. وقد عرفوا بذلك واشتهروا به. وكثر الله أموالهم، وزادهم من فضله، وأعانهم على فعل الخير. وليس بالأرض من يماثلهم في ذلك إلا الشيخ بدر الدين النقاش الساكن ببلدة القحمة، فله مثل ذلك من المآثر والإيثار. وأقمنا بالسرجة ليلة واحدة في ضيافة المذكورين، ثم رحلنا إلى مرسى الحادث ولم ننزل به، ثم إلى مرسى الأبواب، ثم إلى مدينة زبيد، مدينة عظيمة باليمن بينها وبين صنعاء أربعون فرسخاً، وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها، ولا أغنى من أهلها، واسعة البساتين كثيرة المياه والفواكه من الموز وغيره. وهي برية لا شطية إحدى قواعد بلاد اليمن " وهي بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة " مدينة كبيرة كثيرة العمارة، بها النخل والبساتين والمياه، أملح بلاد اليمن وأجملها، ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور، ولنسائها الحسن الفائق الفائت، وهي وادي الخصيب الذي يذكر في بعض الآثار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ في وصيته: " يا معاذ إذا جئت وادي الخصيب فهرول " ولأهل هذه المدينة سبوت النخل المشهورة، وذلك لأنهم يخرجون في أيام البسر والرطب في كل سبت إلى حدائق النخل، ولا يبقى بالمدينة أحد من اهلها ولا من الغرباء، ويخرج أهل الطرب أهل الأسواق لبيع الفواكه والحلاوات، وتخرج النساء ممتطيات الجمال في المحامل، ولهن مع ما ذكرناه من الجمال الفائق، الأخلاق الحسنة والمكارم. وللغريب عندهن مزية، ولا يمتعن من تزوجه كما يفعله نساء بلادنا. فإذا أراد السفر خرجت معه وودعته، وإن كان بينهما ولد فهي تكفله وتقوم بما يجب له إلى ان يرجع أبوه، ولا تطالبه في أيام الغيبة بنفقة ولا كسوة ولا سواها. وإذا كان مقيماً فهي تقنع منه بقليل النفقة والكسوة. لكنهن لا يخرجن عن بلدهن أبداً، ولو أعطيت إحداهن ما عسى أن تعطاه على أن تخرج من بلدها لم تفعل. وعلماء تلك البلاد وفقهاؤها أهل صلاح ودين وأمانة ومكارم وحسن خلق. لقيت بمدينة زبيد الشيخ العالم الصالح أبا محمد الصنعاني، والفقيه الصوفي المحقق أبا العباس الإبياني، والفقيه المحدث أبا علي الزبيدي. ونزلت في جوارهم فأكرموني وأضافوني ودخلت حدائقهم، واجتمعت عند بعضهم بالفقيه القاضي العالم أبي زيد عبد الرحمن الصوفي أحد فضلاء اليمن. ووقع عنده ذكر العابد الزاهد الخاشع أحمد بن العجيل اليمني، وكان من كبار الرجال وأهل الكرامات. كرامة: ذكروا أن فقهاء الزيدية وكبراءهم أتوا مرة إلى زيارة الشيخ أحمد بن العجيل، فجلس لهم خارج الزاوية، واستقبلهم أصحابه. ولم يبرح الشيخ عن موضعه، فسلموا عليه، وصافحهم ورحب بهم. ووقع بينهم الكلام في مسألة القدر. وكانوا يقولون أن لا قدر، وأن المكلف يخلق أفعاله. فقال لهم الشيخ فإن كان الأمر على ما تقولون فقوموا عن مكانكم هذا. فأرادوا القيام فلم يستطيعوا. وتركهم الشيخ على حالهم ودخل الزاوية. وأقاموا كذلك، واشتد بهم الحر، ولحقهم وهج الشمس، وضجوا مما نزل بهم. فدخل أصحاب الشيخ إليه وقالوا له إن هؤلاء القوم قد تابوا إلى الله، ورجعوا عن مذهبهم الفاسد، فخرج عليهم الشيخ، فأخذ بأيديهم وعاهدهم على الرجوع إلى الحق وترك مذهبهم السيء وأدخلهم زاويته، فأقاموا في ضيافته ثلاثاً وانصرفوا إلى بلادهم. وخرجت لزيارة قبر هذا الرجل الصالح، وهو بقرية يقال لها: غسانة خارج زبيد. ولقيت ولده الصالح أبا الوليد إسماعيل، فأضافني وبت عنده، وزرت ضريح الشيخ، وأقمت معه ثلاثاً. وسافرت في صحبته إلى زيارة الفقيه أبي الحسن الزيلعي، وهو من كبار الصالحين، ويقدم عليه حجاج اليمن إذا توجهوا للحج. وأهل تلك البلاد وأعرابها يعظمونه ويحترمونه. فوصلنا إلى جبلة، وهي بلدة صغيرة حسنة ذات نخل وفواكه وأنهار. فلما سمع الفقيه أبو الحسن الزيلعي بقدوم الشيخ أبي الوليد استقبله وأنزله بزاويته وسلمت عليه معه. وأقمنا عنده ثلاثة أيام في خير مقام، ثم انصرفنا. وبعث معنا أحد الفقراء، فتوجهنا إلى مدينة تعز حضرة ملك اليمن " وضبط اسمها بفتح التاء المعلوة وكسر العين المهملة وزاء "، وهي من أحسن مدن اليمن وأعظمها، وأهلها ذوو تجبر وتكبر وفظاظة. وكذلك الغالب على البلاد التي يسكنها الملوك. وهي ثلاث محلات: إحداها يسكنها السلطان ومماليكه وحاشيته وأرباب دولته وتسمى باسم لا أذكره، والثانية يسكنها الأمراء والأجناد وتسمى عدينة، والثالثة يسكنها عامة الناس وبها السوق العظمى وتسمى المحالب.