وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ينتظر أن يُؤذن له في الهجرة ، ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاحرين إلا من حُبس أو فتن ، إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق رضي الله عنهما ، وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا ، فيطمع أبو بكر أن يكونه .
قال ابن إسحاق : ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، عرفوا أنهم قد نزلوا دارا ، وأصابوا منهم منعة ، فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، وعرفوا أنهم قد أجمع لحربهم . فاجتمعوا له في دار الندوة - وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها - يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين خافوه . قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم من أصحابنا ، عن عبدالله بن أبي نجيح ، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج ، وغيره ممن لا أتهم ، عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال : لما أجمعوا لذلك ، واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، غدوا في اليوم الذي اتعدوا له ، وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة ، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل ، عليه بتلة ، فوقف على باب الدار ، فلما رأوه واقفا على بابها ، قالوا : من الشيخ ؟ قال : شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له ، فحضر معكم ليسمع ما تقولون ، وعسى أن لا يُعدمكم منه رأيا ونصحا ، قالوا : أجل ، فادخل ، فدخل معهم ، وقد اجتمع فيها أشراف قريش ؛ من بني عبد شمس : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو سفيان بن حرب . ومن بني نوفل بن عبد مناف : طعيمة بن عدي ، وجبير بن مطعم ، والحارث بن عامر بن نوفل. ومن بني عبدالدار بن قصي : النضر بن الحارث بن كلدة . ومن بني أسد بن عبدالعزى : أبو البختري بن هشام ، وزمعة بن الأسود بن المطلب ، وحكيم بن حزام . ومن بني مخزوم : أبو جهل بن هشام . ومن بني سهم : نُبيه ومنبَّه ابنا الحجاج ، ومن بني جمح : أمية بن خلف ، ومن كان معهم وغيرهم ممن لا يعد من قريش . فقال بعضهم لبعض : إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم ، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا ، فأجمعوا فيه رأيا . قال : فتشاوروا ، ثم قال قائل منهم : احبسوه في الحديد ، وأغلقوا عليه بابا ، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله ، زهيرا والنابغة ، ومن مضى منهم ، من هذا الموت ، حتى يصيبه ما أصابهم . فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي . والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فلأوشكوا أن يثبوا عليكم ، فينزعوه من أيديكم ، ثم يكاثروكم به ، حتى يغلبوكم على أمركم ، ما هذا لكم برأي ، فانظروا في غيره . فتشاوروا . ثم قال قائل منهم : نخرجه من بين أظهرنا ، فننفيه من بلادنا ، فإذا أُخرج عنا ، فوالله ما نبالي أين ذهب ، ولا حيث وقع ، إذا غاب عنا وفرغنا منه ، فأصلحنا أمرنا وأُلْفتنا كما كانت . فقال الشيخ النجدي : لا والله ، ما هذا لكم برأي ، ألم تروا حُسْن حديثه ، وحلاوة منطقه ، وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به ، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب ، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه ، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم ، فيأخذ أمركم من أيديكم ، ثم يفعل بكم ما أراد ، دبروا فيه رأيا غير هذا . قال : فقال أبو جهل بن هشام : والله إن لي فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد ؛ قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا وسيطا فينا ، ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ، ثم يعمدوا إليه ، فيضربوه بها ضربة رجل واحد ، فيقتلوه ، فنستريح منه . فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا ، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا ، فرضوا منا بالعَقْل ، فعقلناه لهم . قال : فقال الشيخ النجدي : القول ما قال الرجل ، هذا الرأي الذي لا رأي غيره ، فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له .
فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا تَبِتْ هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه . قال : فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام ، فيثبون عليه ؛ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم ، قال لعلي بن أبي طالب : نم على فراشي وتسجّ بِبُردي هذا الحضرمي الأخضر ، فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذلك إذا نام . قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما اجتمعوا له ، وفيهم أبو جهل بن هشام ، فقال وهم على بابه : إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره ، كنتم ملوك العرب والعجم ، ثم بُعثتم من بعد موتكم ، فجُعلت لكم جنان كجنان الأردن ، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ، ثم بُعثتم من بعد موتكم ، ثم جعلت لكم نار تحُرقون فيها . قال: وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذ حفنة من تراب في يده ، ثم قال : أنا أقول ذلك ، أنت أحدهم . وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه ، فلا يرونه ، فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هؤلاء الآيات من يس : {( يس والقرآن الحكيم . إنك لمن المرسلين . على صراط مستقيم . تنزيل العزيز الرحيم )} ... إلى قوله : ( فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) . حتى فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من هؤلاء الآيات ، ولم يبق منهم رجل إلا و قد وضع على رأسه ترابا ، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب ، فأتاهم آت ممن لم يكن معهم ، فقال : ما تنتظرون ها هنا ؟ قالوا : محمدا ؛ قال : خيبكم الله ! قد والله خرج عليكم محمد ، ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا ، وانطلق لحاجته ، أفما ترون ما بكم ؟ قال : فوضع كل رجل منهم يده على رأسه ، فإذا عليه تراب ، ثم جعلوا يتطلعون فيرون عليا على الفراش متسجيا بِبُرْد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : والله إن هذا لمحمد نائما ، عليه برده . فلم يبرحوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي رضي الله عنه عن الفراش ، فقالوا : والله لقد كان صدقنا الذي حدثنا .
قال ابن إسحاق : وكان مما أنزل الله عز وجل من القرآن في ذلك اليوم ، وما كانوا أجمعوا له : ( وإذ يمكر بك الذين كفروا لِيُثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله ، والله خير الماكرين ) . وقول الله عز وجل : ( أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون . قل تربصوا فإني معكم من المتربصين ) . قال ابن هشام : المنون : الموت . وريب المنون : ما يريب ويعرض منها . قال أبو ذؤيب الهذلي :
أمن المنون وريبها تتوجَّع |
|
والدهر ليس بمعتب من يجزع |
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن إسحاق : وأذن الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عند ذلك في الهجرة . أبو بكر يطمع في مصاحبة النبي في الهجرة ، و ما أعد لذلك قال ابن إسحاق : وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلا ذا مال ، فكان حين استأذن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تعجل ، لعل الله يجد لك صاحبا ، قد طمع بأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إنما يعني نفسه ، حين قال له ذلك ، فابتاع راحلتين ، فاحتبسهما في داره ، يعلفهما إعدادا لذلك .
قال ابن إسحاق : فحدثني من لا أتهم ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار ، إما بكرة ، وإما عشية ، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، والخروج من مكة من بين ظهري قومه ، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة ، في ساعة كان لا يأتي فيها . قالت: فلما رآه أبوبكر ، قال : ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث . قالت: فلما دخل ، تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرج عني من عندك ؛ فقال : يا رسول الله ، إنما هما ابنتاي ، وما ذاك ؟ فداك أبي وأمي ! فقال : إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة. قالت : فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ؛ قال : الصحبة . قالت : فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح ، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ ، ثم قال : يا نبي الله ، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا . فاستأجرا عبدالله بن أرقط - رجلا من بني الدئل بن بكر ، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو ، وكان مشركا - يدلهما على الطريق ، فدفعا إليه راحلتيهما ، فكانتا عنده يرعاهم لميعادهما .
قال ابن إسحاق : ولم يعلم فيما بلغني ، بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد ، حين خرج ، إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق ، وآل أبي بكر . أما علي فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - أخبره بخروجه ، وأمره أن يتخلف بعده بمكة ، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع ، التي كانت عنده للناس ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يُعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق : فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج ، أتى أبا بكر بن أبي قحافة ، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ، ثم عمدا إلى غار بثور - جبل بأسفل مكة - فدخلاه ، وأمر أبو بكر ابنه عبدالله بن أبي بكر أن يتسمع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره ، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر ؛ وأمر عامر بن فُهيرة مولاه أن يرعى غنمه نهاره ، ثم يُريحها عليهما ، يأتيهما إذا أمسى في الغار . وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يُصلحهما . قال ابن هشام : وحدثني بعض أهل العلم ، أن الحسن بن أبي الحسن البصري قال : انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلا ، فدخل أبو بكر رضي الله عنه قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمس الغار ، لينظر أفيه سبع أو حية ، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه .
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثا ومعه أبو بكر ، وجعلت قريش فيه حين فقدوه مائة ناقة ، لمن يرده عليهم . وكان عبدالله بن أبي بكر يكون في قريش نهاره معهم ، يسمع ما يأتمرون به ، وما يقولون في شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، ثم يأتيهما إذا أمسى فيخبرهما الخبر . وكان عامر بن فهيرة ، مولى أبي بكر رضي الله عنه ، يرعى في رُعْيان أهل مكة ، فإذا أمسى أراح عليهما غنم أبي بكر ، فاحتلبا وذبحا ، فإذا عبدالله بن أبي بكر غدا من عندهما إلى مكة ، اتبع عامر بن فهيرة أثره بالغنم حتى يعفِّي عليه ، حتى إذا مضت الثلاث ، وسكن عنهما الناس أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعيرَيْهما وبعير له ، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها بسفرتهما ، ونسيت أن تجعل لها عصاما ، فلما ارتحلا ذهبت لتعلق السفرة ، فإذا ليس لها عصام ، فتحلّ نطاقها فتجعله عصاما ، ثم علقتها به . سبب تسمية أسماء بذات النطاق فكان يقال لاسماء بنت أبي بكر : ذات النطاق ، لذلك . قال ابن هشام : وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول : ذات النطاقين . وتفسيره : أنها لما أرادت أن تعلق السفرة شقت نطاقها باثنين ، فعلقت السفرة بواحد ، وانتطقت بالآخر . أبو بكر يقدم راحلة للرسول صلى الله عليه و سلم قال ابن إسحاق : فلما قرب أبو بكر ، رضي الله عنه ، الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدم له أفضلهما ، ثم قال : اركب ، فداك أبي وأمي ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني لا أركب بعيرا ليس لي ؛ قال : فهي لك يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ؛ قال : لا ، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به ؟ قال : كذا وكذا ؛ قال : قد أخذتها به ؛ قال : هي لك يا رسول الله . فركبا وانطلقا وأردف أبو بكر الصديق رضي الله عنه عامر بن فهيرة مولاه خلفه ، ليخدمهما في الطريق . أبو جهل يضرب أسماء قال ابن إسحاق : فحُدثت عن أسماء بنت أبي بكر أنها قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه ، أتانا نفر من قريش ، فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبي بكر ، فخرجت إليهم ؛ فقالوا : أين أبوك يا بنت أبي بكر ؟ قالت : قلت : لا أدري والله أين أبي ؟ قالت : فرفع أبو جهل يده ، وكان فاحشا خبيثا ، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي . خبر الهاتف من الجني الذي تغنى بمقدمه صلى الله عليه وسلم قالت : ثم انصرفوا . فمكثنا ثلاث ليال . وما ندري أين وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى أقبل رجل من الجن من أسفل مكة ، يتغنى بأبيات من شعر غناء العرب ، وإن الناس ليتبعونه ، يسمعون صوته وما يرونه ، حتى خرج من أعلى مكة وهو يقول :
جزى الله ربُّ الناس خير جزائه |
|
رفيقين حلا خيمتَـيْ أم مـعـبـدِ |
هما نزلا بالبـر ثـم تـروَّحـا |
|
فأفلح من أمسى رفيق مـحـمـد |
ليهنِ بنو كعب مكانُ فتـاتـهـم |
|
ومقعدها للمؤمنـين بـمـرصـد |
نسب أم معبد قال ابن هشام : أم معبد بنت كعب ، امرأة من بني كعب ، من خزاعة . وقوله ( حلا خيمتي ) و ( هما نزلا بالبر ثم تروحا ) عن غير ابن إسحاق . قال ابن إسحاق : قالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما : فلما سمعنا قوله ، عرفنا حيث وَجْه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن وجهه إلى المدينة وكانوا أربعة : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر الصديق رضي الله عنه ، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، وعبدالله بن أرقط دليلهما . قال ابن هشام : ويقال : عبدالله بن أُرَيْقط .
قال ابن إسحاق : فحدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير أن أباه عبادا حدثه عن جدته أسماء بنت أبي بكر ، قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج أبو بكر معه ، احتمل أبو بكر ماله كله ، ومعه خمسة آلاف درهم أو ستة آلاف ، فانطلق بها معه . قالت : فدخل علينا جدي أبو قحافة ، وقد ذهب بصره ، فقال : والله إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه . قالت : قلت : كلا يا أبت ! إنه قد ترك لنا خيرا كثيرا . قالت : فأخذت أحجارا فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ، ثم وضعت عليها ثوبا ، ثم أخذت بيده ، فقلت : يا أبت ، ضع يدك على هذا المال . قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم . ولا والله ما ترك لنا شيئا ، ولكني أردت أن أسكن الشيخ بذلك .
قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري أن عبدالرحمن بن مالك بن جعشم حدثه ، عن أبيه ، عن عمه سراقة بن مالك بن جعشم ، قال : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجرا إلى المدينة ، جعلت قريش فيه مائة ناقة لمن رده عليهم . قال : فبينا أنا جالس في نادي قومي إذ أقبل رجل منا ، حتى وقف علينا ، فقال : والله لقد رأيت ركبة ثلاثة مروا علي آنفا ، إني لأراهم محمدا وأصحابه ، قال : فأومأت إليه بعيني : أن اسكت ، ثم قلت : إنما هم بنو فلان ، يبتغون ضالة لهم ؛ قال : لعله ، ثم سكت . قال : ثم مكثت قليلا ، ثم قمت فدخلت بيتي ، ثم أمرت بفرسي ، فقيد لي إلى بطن الوادي ، وأمرت بسلاحي ، فأُخرج لي من دبر حجرتي ، ثم أخذت قداحي التي أستقسم بها ، ثم انطلقت ، فلبست لأمتي ، ثم أخرجت قداحي ، فاستقسمت بها ؛ فخرج السهم الذي أكره ( لا يضره ) . قال : وكنت أرجو أن أرده على قريش ، فآخذ المائة الناقة . قال : فركبت على أثره ، فبينما فرسي يشتد بي عثر بي ، فسقطت عنه. قال : فقلت : ما هذا ؟ قال : ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذي أكره ( لا يضره ) قال : فأبيت إلا أن أتبعه . قال : فركبت في أثره ، فبينا فرسي يشتد بي ، عثر بي ، فسقطت عنه . قال : فقلت : ما هذا ؟ قال : ثم أخرجت قداحي فاستقسمت بها ، فخرج السهم الذي أكره ( لا يضره ) قال : فأبيت إلا أن أتبعه ، فركبت في أثره . فلما بدا لي القوم ورأيتهم ، عثر بي فرسي ، فذهبت يداه في الأرض ، وسقطت عنه ، ثم انتزع يديه من الأرض ، وتبعهما دخان كالإعصار . قال : فعرفت حين رأيت ذلك أنه قد مُنع مني ، وأنه ظاهر. قال : فناديت القوم : فقلت : أنا سراقة بن جعشم : انظروني أكلمكم ، فوالله لا أريبكم ، ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : قل له : وما تبتغي منا ؟ قال : فقال ذلك أبو بكر ، قال : قلت : تكتب لي كتابا يكون آية بيني وبينك . قال : اكتب له يا أبا بكر .
قال : فكتب لي كتابا في عظم ، أو في رقعة ، أو في خزفة ، ثم ألقاه إلي ، فأخذته ، فجعلته في كنانتي، ثم رجعت ، فسكت فلم أذكر شيئا مما كان ، حتى إذا كان فتح مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفرغ من حنين والطائف ، خرجت ومعي الكتاب لألقاه ، فلقيته بالجعرانة . قال : فدخلت في كتيبة من خيل الأنصار . قال : فجعلوا يقرعونني بالرماح ويقولون : إليك إليك ، ماذا تريد ؟ قال : فدنوت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته ، والله لكأني أنظر إلى ساقه في غرزه كأنها جمارة . قال: فرفعت يدي بالكتاب ، ثم قلت : يا رسول الله ، هذا كتابك لي ، أنا سراقة بن جعشم ؛ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوم وفاء وبر ، ادنُهْ . قال : فدنوت منه ، فأسلمت . ثم تذكرت شيئا أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فما أذكره ، إلا أني قلت : يا رسول الله ، الضالة من الإبل تغشى حياضي ، وقد ملأتها لإبلي ، هل لي من أجر في أن أسقيها ؟ قال : نعم ، في كل ذات كبد حرّى أجر . قال : ثم رجعت إلى قومي ، فسقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقتي . تصويب نسب عبدالرحمن الجعشمي قال ابن هشام : عبدالرحمن بن الحارث بن مالك بن جعشم .
قال ابن إسحاق : فلما خرج بهما دليلهما عبدالله بن أرقط ، سلك بهما أسفل مكة ، ثم مضى بهما على الساحل ، حتى عارض الطريق أسفل من عسفان ، ثم سلك بهما على أسفل أمج ، ثم استجاز بهما ، حتى عارض بهما الطريق ، بعد أن أجاز قديدا ، ثم أجاز بهما من مكانه ذلك ، فسلك بهما الخرار ، ثم سلك بهما ثنية المرة ، ثم سلك بهما لقفا . قال ابن هشام : ويقال : لفتا . قال معقل بن خويلد الهذلي :
نزيعا محلبا من أهل لفت |
|
لحي بين أثلة والـنـحـام |
قال ابن إسحاق : ثم أجاز بهم مدلجة لِقْف ثم استبطن بهما مدلجة محاج - ويقال : مجاج ، فيما قال ابن هشام - ثم سلك بهما مرجح محاج ، ثم تبطن بهما مرجح من ذي العضوين - قال ابن هشام : ويقال : العَضَوين - ثم بطن ذي كشر ، ثم أخذ بهما على الجداجد ، ثم على الأجرد ، ثم سلك بهما ذا سلم ، من بطن أعداء مدلجة تعهن ، ثم على العبابيد . قال ابن هشام : ويقال : العبابيب ؛ ويقال : العثيانة . يريد : العبابيب . قال ابن إسحاق : ثم أجاز الفاجَّة ؛ ويقال : القاحة ، فيما قال ابن هشام . قال ابن هشام : ثم هبط بهما العرج ، وقد أبطأ عليهما بعض ظهرهم ، فحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أسلم، يقال له : أوس بن حجر ، على جمل له - يقال له : ابن الرداء - إلى المدينة ، وبعث معه غلاما له ، يقال له : مسعود بن هنيدة ، ثم خرج بهما دليلهما من العرج ، فسلك بهما ثنية العائر ، عن يمين ركوبة - ويقال : ثنية الغائر ، فيما قال ابن هشام - حتى هبط بهما بطن رئم ، ثم قدم بهما قباء ، على بني عمرو بن عوف ، لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول يوم الاثنين ، حين اشتد الضَّحاء ، وكادت الشمس تعتدل . قدومه صلى الله عليه وسلم قباء قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن عبدالرحمن بن عويمر بن ساعدة ، قال : حدثني رجال من قومي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : لما سمعنا بمخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، وتوكفنا قدومه ، كنا نخرج إذا صلينا الصبح ، إلى ظاهر حرتنا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوالله ما نبرح حتى تغلبنا الشمس على الظلال فإذا لم نجد ظلا دخلنا ، وذلك في أيام حارة . حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جلسنا كما كنا نجلس ، حتى إذا لم يبق ظل دخلنا بيوتنا ، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخلنا البيوت ، فكان أول من رآه رجل من اليهود، و قد رأى ما كنا نصنع ، وأنَّا ننتظر قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم علينا ، فصرخ بأعلى صوته: يا بني قيلة ، هذا جدكم قد جاء . قال : فخرجنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في ظل نخلة، ومعه أبو بكر رضي الله عنه في مثل سنه ، وأكثرنا لم يكن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وركبه الناس وما يعرفونه من أبي بكر ، حتى زال الظل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر فأظله بردائه ، فعرفناه عند ذلك .
قال ابن إسحاق : فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - على كلثوم بن هدم ، أخي بني عمرو بن عوف ، ثم أحد بني عبيد : ويقال : بل نزل على سعد بن خيثمة . ويقول من يذكر أنه نزل على كلثوم بن هدم : إنما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من منزل كلثوم بن هدم جلس الناس في بيت سعد بن خيثمة . وذلك أنه كان عزبا لا أهل له ، وكان منزل الأعزاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين ، فمن هنالك يقال : نزل على سعد بن خيثمة ، وكان يقال لبيت سعد بن خيثمة : بيت الأعزاب . فالله أعلم أي ذلك كان ، كلا قد سمعنا .
ونزل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على خبيب بن إساف ، أحد بني الحارث بن الخزرج بالسنح . ويقول قائل : كان منزله على خارجة بن زيد بن أبي زهير ، أخي بني الحارث بن الخزرج .
فكان علي بن أبي طالب ، وإنما كانت إقامته بقباء ليلة أو ليلتين يقول : كانت بقباء امرأة لا زوج لها ، مسلمة . قال : فرأيت إنسانا يأتيها من جوف الليل ، فيضرب عليها بابها ، فتخرج إليه فيعطيها شيئا معه فتأخذه . قال : فاستربت بشأنه ، فقلت لها : يا أمة الله ، من هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كل ليلة، فتخرجين إليه فيعطيك شيئا لا أدري ما هو ، وأنت امرأة مسلمة لا زوج لك ؟ قالت : هذا سهل بن حنيف بن واهب ، قد عرف أني امرأة لا أحد لي ، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه فكسرها ، ثم جاءني بها ، فقال : احتطبي بهذا ، فكان علي رضي الله عنه يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف ، حتى هلك عنده بالعراق . قال ابن إسحاق : وحدثني هذا ، من حديث علي رضي الله عنه ، هند بن سعد بن سهل بن حنيف ، رضي الله عنه .
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ، في بني عمرو بن عوف ، يوم الإثنين ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء ويوم الخميس ، وأسس مسجده .
ثم أخرجه الله من بين أظهرهم يوم الجمعة . وبنو عمرو بن عوف يزعمون أنه مكث فيهم أكثر من ذلك، فالله أعلم أي ذلك كان . فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمعة في بني سالم بن عوف ، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي ، وادي رانُوناء ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة .
فأتاه عتبان بن مالك ، وعباس بن عبادة بن نضلة في رجال من بني سالم ابن عوف ، فقالوا : يا رسول الله . أقم عندنا في العدد والعدة والمنعة ؛ قالوا : خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة ، لناقته : فخلوا سبيلها ، فانطلقت حتى إذا وازنت دار بني بياضة ، تلقاه زياد بن لبيد ، وفروة بن عمرو ، في رجال من بني بياضة ، فقالوا : يا رسول الله : هلم إلينا ، إلى العدد والعدة والمنعة ؛ قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها . فانطلقت ، حتى إذا مرت بدار بني ساعدة ، اعترضه سعد بن عبادة ، والمنذر بن عمرو ، في رجال من بني ساعدة ، فقالوا : يا رسول الله ، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة ؛ قال : خلوا سبيلها، فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت ، حتى إذا وازنت دار بني الحارث بن الخزرج ، اعترضه سعد بن الربيع ، وخارجة بن زيد ، وعبدالله بن رواحة ، في رجال من بني الحارث بن الخزرج ، فقالوا : يا رسول الله ، هلم إلينا إلى العدد والعدة والمنعة قال : خلوا سبيلها ، فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها . فانطلقت ، حتى إذا مرت بدار بني عدي بن النجار ، وهم أخواله دنيا - أم عبدالمطلب ، سلمى بنت عمرو ، إحدى نسائهم - اعترضه سليط بن قيس ، وأبو سليط ، أُسيرة بن أبي خارجة ، في رجال من بني عدي بن النجار ، فقالوا : يا رسول الله ، هلم إلى أخوالك ، إلى العدد والعدة والمنعة ؛ قال : خلوا سبيلها فإنها مأمورة ، فخلوا سبيلها ، فانطلقت .
قال : فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبنى مسجدا ، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي أيوب حتى بنى مسجده ومساكنه ، فعمل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرغب المسلمين في العمل فيه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار ، ودأبوا فيه ، فقال قائل من المسلمين : لئن قعدنا والنبي يعمل لذاك منـا العمل الـمضلِّل.
وارتجز المسلمون وهو يبنونه يقولون :
لا عيش إلا عيش الآخـره |
|
اللهم ارحم الأنصار والمهاجره |
قال ابن إسحاق : فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا عيش إلا عيش الآخرة ، اللهم ارحم المهاجرين والأنصار .
قال : فدخل عمار بن ياسر ، وقد أثقلوه باللبن ، فقال : يا رسول الله ، قتلوني ، يحملون علي ما لا يحملون . قالت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفض وفرته بيده ، وكان رجلا جعدا ، وهو يقول : ويح ابن سمية ، ليسوا بالذين يقتلونك ، إنما تقتلك الفئة الباغية .
وارتجز علي بن أبي طالب رضي الله عنه يومئذ :
لا يستوي من يعمر المساجدا |
|
يدأب فـيه قـائمـا وقـاعـدا |
ومن يُرى عن الغبار حائدا قال ابن هشام : سألت غير واحد من أهل العلم بالشعر ، عن هذا الرجز ، فقالوا : بلغنا أن علي بن أبي طالب ارتجز به ، فلا يُدرى : أهو قائله أم غيره .
قال ابن إسحاق : فأخذها عمار بن ياسر ، فجعل يرتجز بها . قال ابن هشام : فلما أكثر ، ظن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما يعرض به ، فيما حدثنا زياد بن عبدالله البكائي ، عن ابن إسحاق ، وقد سمَّى ابن إسحاق الرجل .
قال ابن إسحاق : فقال : قد سمعت ما تقول منذ اليوم يا ابن سمية ، والله إني لأراني سأعرض هذه العصا لأنفك . قال : وفي يده عصا . قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ما لهم ولعمار ، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النار ، إن عمارا جلدة ما بين عيني وأنفي ، فإذا بلغ ذلك من الرجل فلم يُستبق فاجتنبوه .
قال ابن هشام : وذكر سفيان بن عيينة عن زكريا ، عن الشعبي ، قال : إن أول من بنى مسجدا عمار بن ياسر .
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أبي أيوب ، حتى بُني له مسجده ومساكنه ، ثم انتقل إلى مساكنه من بيت أبي أيوب ، رحمة الله عليه ورضوانه .
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن مرثد بن عبدالله اليزني ، عن أبي رهم السماعي ، قال : حدثني أبو أيوب ، قال : لما نزل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، نزل في السفل ، وأنا وأم أيوب في العلو ، فقلت له : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي ، إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك ، وتكون تحتي ، فاظهرْ أنت فكن في العلو ، وننزل نحن فنكون في السفل ؛ فقال : يا أبا أيوب ، إنّ أرفق بنا وبمن يغشانا ، أن نكون في سفل البيت . قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله ، وكنا فوقه في المسكن ؛ فلقد انكسر حُبّ لنا فيه ماء ، قال : فجئته فزعا ، فقلت : يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، رددت عشاءك ، و لم أر فيه موضع يدك ، وكنت إذا رددته علينا ، تيممت أنا وأم أيوب موضع يدك ، نبتغي بذلك البركة ؛ قال : إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة ، وأنا رجل أُناجَى ، فأما أنتم فكلوه . قال : فأكلناه ، ولم نصنع له تلك الشجرة بعد . تلاحق المهاجرين إلى الرسول صلى الله عليه و سلم بالمدينة قال ابن إسحاق : وتلاحق المهاجرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يبق بمكة منهم أحد ، إلا مفتون أو محبوس ، ولم يوعب أهل هجرة من مكة بأهليهم وأموالهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أهل دور مُسمَّون : بنو مظعون من بني جمح ؛ وبنو جحش بن رئاب، حلفاء بني أمية ؛ وبنو البكير ، من بني سعد بن ليث ، حلفاء بني عدي بن كعب ، فإن دورهم غلقت بمكة هجرة ، ليس فيها ساكن .
ولما خرج بنو جحش بن رئاب من دارهم ، عدا عليها أبو سفيان بن حرب ، فباعها من عمرو بن علقمة ، أخي بني عامر بن لؤي ؛ فلما بلغ بني جحش ما صنع أبو سفيان بدارهم ، ذكر ذلك عبدالله بن جحش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا ترضى يا عبدالله أن يعطيك الله بها دارا خيرا منها في الجنة ؟ قال : بلى ؛ قال : فذلك لك . فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، كلمه أبو أحمد في دارهم ، فأبطأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقال الناس لأبي أحمد : يا أبا أحمد ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره أن ترجعوا في شيء من أموالكم أُصيب منكم في الله عز وجل ، فأمسك عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال لأبي سفيان :
أبلغ أبا سفـيان عـن |
|
أمر عواقبـه نـدامـه |
دار ابن عمك بعتهـا |
|
تقضي بها عنك الغرامه |
وحليفكم بالـلـه رب |
|
الناس مجتهد القسـامـه |
اذهب بها ، اذهب بها |
|
طُوّقتها طوق الحمامـه |
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول ، إلى صفر من السنة الداخلة ، حتى بُني له فيها مسجده ومساكنه ، واستجمع له إسلام هذا الحي من الأنصار ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها ، إلا ما كان من خطمة ، وواقف ، ووائل ، وأمية ، وتلك أوس الله ، وهم حي من الأوس ، فإنهم أقاموا على شركهم .
قال ابن إسحاق : ثم خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس مرة أخرى ، فقال : إن الحمد لله ، أحمده وأستعينه ، نعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له . إن أحسن الحديث كتاب الله تبارك وتعالى ، قد أفلح من زينه الله في قلبه ، وأدخله في الإسلام بعد الكفر ، واختاره على ما سواه من أحاديث الناس ، إنه أحسن الحديث وأبلغه ، أحبوا ما أحب الله ، أحبوا الله من كل قلوبكم ، ولا تملوا كلام الله وذكره ، ولا تقس عنه قلوبكم ، فإنه من كل ما يخلق الله يختار ويصطفي ، وقد سماه الله خيرته من الأعمال ، ومصطفاه من العباد ، والصالح من الحديث ؛ ومن كل ما أوتي الناس الحلال والحرام ، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ، واتقوه حق تقاته ، واصدقوا الله صالح ما تقولون بأفواهكم ، وتحابوا بروح الله بينكم ، إن الله يغضب أن يُنكث عهده ، والسلام عليكم . الرسول صلى الله عليه و سلم يوادع اليهود وكتابه بين المسلمين من المهاجرين و الأنصار قال ابن إسحاق : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار ، وادع فيه يهود وعاهدهم ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وشرط لهم ، واشترط عليهم : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم ، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ، ومن تبعهم ، فلحق بهم ، وجاهد معهم ، إنهم أمة واحدة من دون الناس ، المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم ، وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو ساعدة على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو الحارث على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو جشم على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو النجار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو النبيت على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وبنو الأوس على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى ، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين ؛ وإن المؤمنين لا يتركون مُفْرَحا بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل . قال ابن هشام : المُفْرح : المثقل بالدين والكثير العيال . قال الشاعر :
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة |
|
وتحمل أخرى أفرحتك الودائع |
قال ابن إسحاق : وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار ، فقال - فيما بلغنا ، ونعوذ بالله أن نقول عليه ما لم يقل - : تآخَوْا في الله أخوين أخوين ؛ ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب ، فقال : هذا أخي . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين ، وإمام المتقين ، ورسول رب العالمين ، الذي ليس له خطير ولا نظير من العباد ، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أخوين ؛ وكان حمزة بن عبدالمطلب ، أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وعم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزيد بن حارثة ، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أخوين ، وإليه أوصى حمزة يوم أحد حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت ؛ وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين ، الطيار في الجنة ، ومعاذ بن جبل ، أخو بني سلمة ، أخوين . قال ابن هشام : وكان جعفر بن أبي طالب يومئذ غائبا بأرض الحبشة . قال ابن إسحاق : وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، ابن أبي قحافة ، وخارجة بن زهير ، أخو بلحارث بن الخزرج ، أخوين ؛ وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وعتبان بن مالك ، أخو بني سالم بن عوف ابن عمرو بن عوف بن الخزرج ، أخوين ؛ وأبو عبيدة بن عبدالله بن الجراح ، واسمه عامر بن عبدالله ، وسعد بن معاذ بن النعمان ، أخو بني عبدالأشهل ، أخوين . وعبدالرحمن بن عوف ، وسعد بن الربيع ، أخو بلحارث بن الخزرج ، أخوين . والزبير بن العوام ، وسلامة بن سلامة ابن وقش، أخو بني عبدالأشهل ، أخوين . ويقال : بل الزبير وعبدالله بن مسعود ، حليف بني زهرة ، أخوين . وعثمان بن عفان ، وأوس بن ثابت بن المنذر ، أخو بني النجار ، أخوين . وطلحة بن عبيد الله ، وكعب بن مالك ، أخو بني سلمة ، أخوين . وسعد بن زيد بن عمرو ابن نفيل ، وأُبي بن كعب ، أخو بني النجار: أخوين . ومصعب بن عمير بن هاشم ، وأبو أيوب خالد بن زيد ، أخو بني النجار : أخوين ؛ وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ، وعباد بن بشر بن وقش ، أخو بني عبدالأشهل : أخوين . وعمار بن ياسر ، حليف بني مخزوم ، وحذيفة بن اليمان ، أخو بني عبد عبس ، حليف بني عبدالأشهل : أخوين . ويقال : ثابت بن قيس بن الشماس ، أخو بلحارث بن الخزرج ، خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعمار بن ياسر : أخوين . وأبو ذر ، وهو بُرير بن جنادة الغفاري ، والمنذر بن عمرو ، المُعْنِق ليموت، أخو بني ساعدة بن كعب بن الخزرج : أخوين . قال ابن هشام : وسمعت غير واحد من العلماء يقول: أبو ذر ، جُنْدَب ابن جنادة . قال ابن إسحاق : وكان حاطب بن أبي بلتعة ، حليف بني أسد بن عبدالعزى، وعويم بن ساعدة ، أخو بني عمرو بن عوف ، أخوين ؛ وسلمان الفارسي ، وأبو الدرداء ، عويمر بن ثعلبة ، أخو بلحارث بن الخزرج ، أخوين . قال ابن هشام : عويمر بن عامر ؛ ويقال : عويمر بن زيد . قال ابن إسحاق : وبلال ، مولى أبي بكر رضي الله عنهما ، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو رُوَيحة ، عبدالله بن عبدالرحمن الخثعمي ، ثم أحد الفزع ، أخوين . فهؤلاء من سُمِّي لنا ، ممن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم من أصحابه .
فلما دوّن عمر بن الخطاب الدواوين بالشام ، وكان بلال قد خرج إلى الشام ، فأقام بها مجاهدا ، فقال عمر لبلال : إلى من تجعل ديوانك يا بلال ؟ قال : مع أبي رويحة ، لا أفارقه أبدا ، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بينه وبيني ، فضم إليه ، وضُم ديوان الحبشة إلى خثعم ، لمكان بلال منهم ، فهو في خثعم إلى هذا اليوم بالشام .
قال ابن إسحاق : وهلك في تلك الأشهر أبو أمامة ، أسعد بن زرارة ، والمسجد يُبنى ، أخذته الذبحة أو الشهقة . موته و ما قاله اليهود في ذلك قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، عن يحيى بن عبدالله بن عبدالرحمن بن أسعد بن زرارة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : بئس الميت أبو أمامة ، ليهود ومنافقي العرب يقولون : لو كان نبيا لم يمت صاحبه ، ولا أملك لنفسي ولا لصاحبي من الله شيئا .
قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري : أنه لما مات أبو أمامة ، أسعد بن زرارة ، اجتمعت بنو النجار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو أمامة نقيبهم ، فقالوا له : يا رسول الله ، إن هذا قد كان منا حيث قد علمت ، فاجعل منا رجلا مكانه يُقيم من أمرنا ما كان يقيم ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : أنتم أخوالي ، وأنا بما فيكم ، وأنا نقيبكم ؛ وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخص بها بعضهم دون بعض . فكان من فضل بني النجار الذي يَعُدّون على قومهم ، أن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نقيبهم .
قال ابن إسحاق : فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، واجتمع إليه إخوانه من المهاجرين ، واجتمع أمر الأنصار ، استحكم أمر الإسلام ، فقامت الصلاة ، وفُرضت الزكاة والصيام ، وقامت الحدود ، وفرض الحلال والحرام ، وتبوأ الإسلام بين أظهرهم ، وكان هذا الحي من الأنصار هم الذين تبوءوا الدار والإيمان . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها إنما يجتمع الناس إليه للصلاة مواقيتها ، بغير دعوة ، فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدمها أن يجعل بوقا كبوق يهود الذين يدعون به لصلاتهم ، ثم كرهه ؛ ثم أمر بالناقوس ، فنحت ليضرب به للمسلمين للصلاة .
فبينما هم على ذلك ، إذ رأى عبدالله بن زيد بن ثعلبة بن عبد ربه ، أخو بلحارث بن الخزرج ، النداء ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : يا رسول الله ، إنه طاف بي هذه الليلة طائف : مر بي رجل عليه ثوبان أخضران ، يحمل ناقوسا في يده ، فقلت له : يا عبدالله ، أتبيع هذا الناقوس ؟ قال : وما تصنع به ؟ قال : قلت : ندعو به إلى الصلاة ، قال : أفلا أدلك على خير من ذلك ؟ قال : قلت : وما هو؟ قال : تقول : الله أكبر الله أكبر ، الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدا رسول الله ، أشهد أن محمدا رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله .
فلما أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : إنها لرؤيا حق ، إن شاء الله ، فقم مع بلال فألقها عليه ، فليؤذن بها ، فإنه أندى صوتا منك . فلما أذن بها بلال سمعها عمر بن الخطاب ، وهو في بيته ، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يجر رداءه ، وهو يقول : يا نبي الله ، والذي بعثك بالحق ، لقد رأيت مثل الذي رأى ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلله الحمد على ذلك .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير ، عن عروة بن الزبير ، عن امرأة من بني النجار، قالت : كان بيتي من أطول بيت حول المسجد ، فكان بلال يؤذن عليه الفجر كل غداة ، فيأتي بسحر ، فيجلس على البيت ينتظر الفجر ، فإذا رآه تمطى ، ثم قال : اللهم إني أحمدك وأستعينك على قريش أن يُقيموا على دينك . قالت : والله ما علمته كان يتركها ليلة واحدة .
قال ابن إسحاق : فلما اطمأنت برسول الله صلى الله عليه وسلم داره ، وأظهر الله بها دينه ، وسره بما جمع إليه من المهاجرين والأنصار من أهل ولايته ، قال أبو قيس صرمة بن أبي أنس ، أخو بني عدي بن النجار .
- قال ابن هشام : أبو قيس ، صرمة بن أبي أنس بن صرمة بن مالك ابن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار .
قال ابن إسحاق : وكان رجلا قد ترهب في الجاهلية ، ولبس المسوح ، وفارق الأوثان ، واغتسل من الجنابة وتطهر من الحائض من النساء ، وهمّ بالنصرانية ، ثم أمسك عنها ، ودخل بيتا له ، فاتخذه مسجدا لا تدخله عليه فيه طامث و لا جنب ، وقال : أعبد رب إبراهيم ، حين فارق الأوثان وكرهها ، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فأسلم وحسن إسلامه ، وهو شيخ كبير ، وكان قوالا بالحق ، معظما لله عز وجل في جاهليته ، يقول أشعارا في ذلك حسانا - وهو الذي يقول :
يقول أبو قيس وأصبح غـاديا : |
|
ألا ما استطعتم من وصاتي فافعلوا |
فأوصيكم بالله والبر والـتـقـى |
|
وأعراضكم ، والبـر بـالـلـه أول |
وإنْ قومكم سادوا فلا تحسدنهـم |
|
وإن كنتم أهل الرياسة فـاعـدلـوا |
وإن نزلت إحدى الدواهي بقومكم |
|
فأنفسكم دون العشيرة فاجـعـلـوا |
وإن ناب غرم فادح فارفقوهـم |
|
وما حمَّلوكم في الملمات فاحملـوا |
وإن أنتم أمعرتمُ فتـعـفـفـوا |
|
وإن كان فضل الخير فيكم فأفضلوا |
قال ابن هشام : ويُروى :
وإن ناب أمر فادح فارفدوهمُ |
|
|
قال ابن إسحاق : وقال أبو قيس صرمة أيضا :
سبِّحوا الله شرق كل صـبـاح |
|
طلعت شمـسـه وكـل هـلالِ |
عالم السـر والـبـيان لـدينـا |
|
ليس ما قـال ربـنـا بـضـلال |
وله الطير تسـتـريد وتـأوي |
|
في وكور من آمنات الـجـبـال |
وله الوحش بالفـلاة تـراهـا |
|
في حقاف وفي ظلال الـرمـال |
ولـه هـوّدت يهـود ودانـت |
|
كل دين إذا ذكـرتَ عُـضــال |
وله شمّس النصارى وقـامـوا |
|
كل عيد لـربـهـم واحـتـفـال |
وله الراهب الحـبـيس تـراه |
|
رهن بُؤس وكـان نـاعـم بـال |
يا بَنيَّ الأرحامَ لا تقطعـوهـا |
|
وصِلُوها قصـيرة مـن طـوال |
واتقوا الله في ضعاف اليتامـى |
|
ربما يُستـحـل غـيرُ الـحـلال |
واعلمـوا أن لـلـيتـيم ولـيا |
|
عالما يهتـدي بـغـير الـسـؤال |
ثم مالَ الـيتـيم لا تـأكـلـوه |
|
إن مـال الـيتـيم يرعـاه والـي |
يا بَنيّ ، التخوم لا تخزلـوهـا |
|
إن خزل الـتـخـوم ذو عُـقَّـال |
يا بني الأيام لا تـأمـنـوهـا |
|
واحذروا مكرها ومر الـلـيالـي |
واعلموا أن مَرّها لـنـفـاد الْ |
|
خلق ما كان من جـديد وبـالـي |
واجمعوا أمركم على البر والتَّقْ |
|
وى وترك الخنا وأخـذ الـحـلال |
وقال أبو قيس صرمة أيضا ، يذكر ما أكرمهم الله تبارك وتعالى به من الإسلام ، وما خصهم الله به من نزول رسوله صلى الله عليه وسلم عليهم :
ثوى في قريش بضع عشرة حجة |
|
يذكِّر لو يلقـى صـديقـا مُـواتـيا |
ويعرض في أهل المواسم نفسـه |
|
فلم ير مـن يُؤوي ولـم ير داعـيا |
فلما أتانا أظـهـر الـلـه دينـه |
|
فأصبح مسرورا بـطـيبة راضـيا |
وألفى صديقا واطمأنت به النوى |
|
وكان له عونـا مـن الـلـه بـاديا |
يقص لنا ما قال نوح لـقـومـه |
|
وما قال موسى إذ أجاب المـنـاديا |
فأصبح لا يخشى من الناس واحدا |
|
قريبا ولا يخشى من الـنـاس نـائيا |
بذلنا له الأموال من حلّ مالـنـا |
|
وأنفسنا عند الوغـى والـتـآسـيا |
ونعلم أن اللـه لا شـيء غـيره |
|
ونعلم أن الـلـه أفـضـل هـاديا |
نعادي الذي عادى من الناس كلهم |
|
جميعا وإن كان الحبيب المصـافـيا |
أقول إذا أدعوك في كل بـيعة : |
|
تباركت قد أكثرتُ لاسمـك داعـيا |
أقول إذا جاوزت أرضا مخوفة : |
|
حنانيك لا تُظهر عـلـي الأعـاديا |
فطأْ معرضا إن الحتوف كثـيرة |
|
وإنك لا تُبقي لنـفـسـك بـاقـيا |
فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي |
|
إذا هو لم يجعل لـه الـلـه واقـيا |
ولا تحفِلُ النخل المُعيمة ربـهـا |
|
إذا أصبحت ريّا وأصـبـح ثـاويا |
قال ابن هشام : البيت الذي أوله : فطأ معرضا إن الحتوف كثيرة والبيت الذي يليه : فوالله ما يدري الفتى كيف يتقي لأفنون التغلبي ، وهو صُريم بن معشر ، في أبيات له .