الجزء الأول - ذكر سلطان مقديشو

وسلطان مقديشو كما ذكرناه، إنما يقولون له الشيخ، واسمه أبو بكر ابن الشيخ عمر. وهو في الأصل من البرابرة، وكلامه بالمقدشي، ويعرف اللسان العربي. ومن عوائده أنه متى وصل مركب، يصعد إليه صنبوق السلطان، فيسأل عن المركب من أين قدم ومن صاحبه ومن ربانه وهو الرئيس وما وسقه ومن قدم فيه من التجار وغيرهم، فيعرف بذلك كله، ويعرض على السلطان. فمن استحق أن ينزل عنده أنزله. ولما وصلت مع القاضي المذكور، وهو يعرف بابن البرهان، المصري الأصل، إلى دار السلطان، خرج بعض الفتيان فسلم على القاضي، فقال له: بلغ الأمانة. وعرف مولانا الشيخ أن هذا الرجل قد وصل من أرض الحجاز. فبلغ، ثم عاد وأتى بطبق فيه أوراق التنبول والفوفل، فأعطاني عشر أوراق مع قليل من الفوفل، وأعطى للقاضي كذلك، وأعطى لأصحابي ولطلبة القاضي ما بقي في الطبق، وجاء بقمقم من ماء الورد الدمشقي، فسكب علي وعلى القاضي، وقال: إن مولانا أمر أن ينزل بدار الطلبة، وهي دار معدة لضيافة الطلبة. فأخذ القاضي بيدي، وجئنا إلى تلك الدار، وهي بمقربة من دار الشيخ. مفروشة مرتبة بما تحتاج إليه. ثم أتي بالطعام من دار الشيخ، ومعه أحد وزرائه، وهو الموكل بالضيوف، فقال: مولانا يسلم عليكم، ويقول لكم قدمتم خير مقدم، ثم وضع الطعام، فأكلنا. وطعامهم الأرز المطبوخ بالسمن، يجعلونه في صفحة خشب كبيرة، ويجعلون فوقه صحاف الكوشان، وهو الإدام من الدجاج واللحم والحوت والبقول. ويطبخون الموز قبل نضجه في اللبن الحليب، ويجعلونه في صحفة، ويجعلون اللبن المروب في صحفة، ويجعلون عليه الليمون المصبر وعناقيد الفلفل المصبر المخلل والمملوح والزنجبيل الأخضر والعنب، وهي مثل التفاح ولكن لها نواة، وهي إذا نضجت شديدة الحلاوة، وتؤكل كالفاكهة، وقبل نضجها حامضة كالليمون يصبرونها في الخل. وهم إذا أكلوا لقمة من الأرز أكلوا بعدها من هذه الموالح والمخللات.

والواحد من أهل مقديشو يأكل قدر ما تأكله الجماعة منا عادة لهم. وفي نهاية من ضخامة الأجسام وسمنها. ثم لما طعمنا انصرف عنا القاضي. وأقمنا ثلاثة أيام، يؤتى إلينا بالطعام ثلاث مرات في اليوم، وتلك عادتهم. فلما كان اليوم الرابع، وهو يوم الجمعة، جاءني القاضي والطلبة وأحد وزراء الشيخ، وأتوني بكسوة. وكسوتهم فوطة خز يشدها الإنسان في وسطه عوض السراويل، فإنهم لا يعرفونها، ودراعة من المقطع المصري معلمة، وفرجية من القدسي مبطنة، وعمامة مصرية معلمة. وأتوا لأصحابي بكسى تناسبهم. وأتينا الجامع. فصلينا خلف المقصورة. فلما خرج الشيخ من باب المقصورة، سلمت عليه مع القاضي فرحب وتكلم بلسانهم مع القاضي، ثم قال باللسان العربي: قدمت خير مقدم وشرفت بلادنا وآنستنا. وخرج إلى صحن المسجد فوقف على قبر والده، وهو مدفون هنالك، فقرأ ودعا. ثم جاء الأمراء والوزراء ووجوه الأجناد فسلموا. وعادتهم في السلام كعادة أهل اليمن. يضع سبابته في الأرض ثم يجعلها على رأسه، ويقول: أدام الله عزك. ثم خرج الشيخ من باب المسجد، فلبس نعليه، وأمر القاضي أن ينتعل، وأمرني أن أنتعل، وتوجه إلى منزله ماشياً، وهو بالقرب من المسجد، ومشى الناس كلهم حفاة. ورفعت فوق رأسه أربع قباب من الحرير الملون، وعلى أعلى كل قبة صورة طائر من ذهب. وكان لباسه في ذلك اليوم فرجية قدسي أخضر، وتحتها من ثياب مصر وطروحاتها الحسان. وهو متقلد بفوطة حرير. وهو معتم بعمامة كبيرة. وضربت بين يديه الطبول والأبواق والأنفار. وأمراء الأجناد أمامه وخلف. والقاضي والفقهاء والشرفاء معه. ودخل إلى مشوره على تلك الهيئة. وقعد الوزراء والأمراء ووجوه الأجناد في سقيفة هنالك. وفرش للقاضي بساط لا يجلس معه غيره عليه، والفقهاء والشرفاء معه. ولم يزالوا كذلك إلى صلاة العصر. فلما صلوا العصر مع الشيخ، أتى جميع الأجناد، ووقفوا صفوفاً على قدر مراتبهم. ثم ضربت الأطبال والأنفار والأبواق والصرنايات، وعند ضربها لا يتحرك أحد، ولا يتزحزح من مقامه، ومن كان ماشياً وقف، فلم يتحرك إلى خلف ولا إلى أمام، فإذا فرغ من ضرب الطبلخانة سلموا بأصابعهم كما ذكرناه، وانصرفوا. وتلك عادة لهم في كل يوم جمعة. وإذا كان يوم السبت يأتي الناس إلى باب الشيخ فيقعدون في سقائف خارج الدار، ويدخل القاضي والفقهاء والصالحون والمشايخ والحجاج إلى المشور الثاني، فيقعدون على دكاكين خشب معدة لذلك، ويكون القاضي على دكانه وحده، وكل صنف على دكانه تخصهم، لا يشاركهم فيها سواهم. ثم يجلس الشيخ بمجلسه، ويبعث إلى القاضي فيجلس عن يساره، ثم يدخل الفقهاء فيقعد كبراؤهم بين يديه، وسائرهم يسلمون وينصرفون، ثم يدخل الشرفاء، فيقعد كبراؤهم بين يديه، ويسلم سائرهم وينصرفون. وإن كانوا ضيوفاً جلسوا عن يمينه، ثم يدخل المشايخ والحجاج، فيجلس كبراؤهم ويسلم سائرهم وينصرفون. ثم يدخل الوزراء ثم الأمراء ثم وجوه الأجناد، طائفة بعد طائفة أخرى، فيسلمون وينصرفون. ويؤتى بالطعام، فيأكل بين يدي الشيخ القاضي والشرفاء ومن كان قاعداً بالمجلس، ويأكل الشيخ معهم. وإن أراد تشريف أحد من كبار أمرائه بعث إليه فأكل معهم. ويأكل سائر الناس بدار الطعام، وأكلهم على ترتيب مثل ترتيبهم في الدخول على الشيخ. ثم يدخل الشيخ إلى داره، ويقصد القاضي والوزراء وكاتب السر وأربعة من كبار الأمراء للفصل بين الناس وأهل الشكايات، فما كان متعلقاً بالأحكام الشرعية حكم فيه القاضي، وما كان من سوى ذلك حكم فيه أهل الشورى، وهم الوزراء والأمراء. وما كان مفتقراً إلى مشاورة السلطان كتبوا إليه، فيخرج لهم الجواب من حينه على ظهر البطاقة بما يقتضيه نظره وتلك عادتهم. ثم ركبت من مدينة مقديشو متوجهاً إلى بلاد السواحل قاصداً مدينة كلوا من بلاد الزنوج. فوصلنا إلى جزيرة منبسى " وضبط اسمها ميم مفتوح ونون مسكن وباء موحدة مفتوحة وسين مهمل مفتوح وياء "، وهي كبيرة، بينها وبين أرض السواحل مسيرة يومين في البحر. ولا بر لها. وأشجارها: الموز والليمون والأترج. ولهم فاكهة يسمونها الجمون، وهي شبه الزيتون، ولها نوى كنواه، إلا أنها شديدة الحلاوة. ولا زرع عند أهل هذه الجزيرة، وإنما يجلب اليهم من السواحل. وأكثر طعامهم الموز والسمك. وهم شافعية المذهب أهل دين وعفاف وصلاح، ومساجدهم من الخشب محكمة الإتقان، وعلى كل باب من أبواب المساجد البئر والثنتان. وعمق آبارهم ذراع أو ذراعان، فيستقون منها الماء بقدح خشب، قد غرز فيه عود رقيق في طول الذراع. والأرض حول البئر والمسجد مسطحة، فمن أراد دخول المسجد غسل رجليه ودخل. ويكون على بابه قطعة حصير غليظ يمسح بها رجليه. ومن أراد الوضوء أمسك القدح بين فخذيه وصب على يديه. ويتوضأ. وجميع الناس يمشون حفاة الأقدام. وبتنا بهذه الجزيرة ليلة، وركبنا البحر إلى مدينة كلوا " وضبط اسمها بضم الكاف واسكان اللام وفتح الواو "، وهي مدينة عظيمة ساحلية، وأكثر أهلها الزنوج المستحكمو السواد. ولهم شرطات في وجوههم، كما هي في وجوه الليميين من جنادة. وذكر لي بعض التجار أن مدينة سفالة على مسيرة نصف شهر من مدينة كلوا، وأن بين سفالة ويوفي من بلاد الليميين مسيرة شهر، ومن يوفي يؤتى بالتبر إلى سفالة. ومدينة كلوا من أحسن المدن وأتقنها عمارة، وكلها بالخشب. وسقف بيوتها الديس. والأمطار بها كثيرة. وهم أهل جهاد لأنهم في بر واحد مع كفار الزنوج. والغالب عليهم الدين والصلاح، وهم شافعية المذهب.