الجزء الأول - ذكر سلطان كلوا

وكان سلطانها في عهد دخولي إليها أبو المظفر حسن. ويكنى أيضاً أبا المواهب، لكثرة مواهبه ومكارمه. وكان كثير الغزو إلى أرض الزنوج، يغير عليهم ويأخذ الغنائم، فيخرج خمسها ويصرفه في مصارفه المعينة في كتاب الله تعالى، ويجعل نصيب ذوي القربى في خزانة على حدة. فإذا جاءه الشرفاء دفعه إليهم. وكان الشرفاء يقصدونه من العراق والحجاز وسواها. ورأيت عنده من شرفاء الحجاز جماعة منهم محمد بن جماز ومنصور بن لبيدة ابن أبي نمي ومحمد بن شميلة ابن أبي نمي. ولقيت بمقديشو أتيل بن كيش بن جماز، وهو يريد القدوم عليه. وهذا السلطان له تواضع شديد، ويجلس مع الفقراء ويأكل معهم، ويعظم أهل الدين والشرف.

حكاية من مكارمه

حضرته يوم جمعة وقد خرج من الصلاة قاصداً إلى داره، فتعرض له أحد الفقراء اليمنيين فقال له: أبا المواهب، فقال: لبيك يا فقير ما حاجتك ؟ قال: أعطني هذه الثياب التي عليك. فقال له: نعم، أعطيكها. قال: الساعة، قال: نعم، الساعة. فرجع إلى المسجد ودخل بيت الخطيب فلبس ثياباً سواها، وخلع تلك الثياب، وقال للفقير: أدخل فخذها، فدخل الفقير وأخذها وربطها في منديل وجعلها فوق رأسه وانصرف. فعظم شكر الناس للسلطان على ما ظهر من تواضعه وكرمه، وأخذ ابنه ولي عهده تلك الكسوة من الفقير وعوضه عنها بعشرة من العبيد. وبلغ السلطان ما كان من شكر الناس له على ذلك فأمر للفقير أيضاً بعشرة رؤوس من الرقيق وحملين من العاج. ومعظم عطاياهم من العاج، وقلما يعطون الذهب.

ولما توفي هذا السلطان الفاضل الكريم رحمة الله عليه، ولي أخوه داود. فكان على الضد، إذا أتاه سائل يقول له: مات الذي كان يعطي، ولم يترك من بعده ما يعطي. ويقيم الوفود عنده الشهود الكثيرة، وحينئذ يعطيهم القليل، حتى انقطع الوافدون عن بابه.

وركبنا البحر من كلوا إلى مدينة ظفار الحموض " وضبط اسمها بفتح الظاء المعجم والفاء وآخره راء مبنية على الكسر "، وهي آخر بلاد اليمن على ساحل البحر الهندي، ومنها تحمل الخيل العتاق إلى الهند. ويقطع البحر فيما بينها وبين بلاد الهند مع مساعدة الريح في شهر كامل، قد قطعته مرة في قالقوط من بلاد الهند إلى ظفار في ثمانية وعشرين يوماً بالريح، ولم ينقطع لنا جري بالليل ولا بالنهار. وبين ظفار وعدن في البر مسيرة شهر في صحراء. وبينها وبين حضرموت ستة عشر يوماً، وبينها وبين عمان عشرون يوماً. ومدين ظفار في صحراء لا قرية بها ولا عمالة لها، والسوق خارج المدينة بربض يعرف بالحرجاء، وهي من أقذر الأسواق وأشدها تنتاً وأكثرها ذباباً، لكثرة ما يباع فيها من الثمرات والسمك. وأكثر سمكها النوع المعروف بالسردين، وهو بها في النهاية من السمن. ومن العجائب أن دوابهم إنما علفها من هذا السردين وكذلك غنمهم. ولم أر ذلك في سواها. وأكثر باعتها الخدم، وهن يلبسن السواد. وزرع أهلها الذرة، وهم يسقونها من آبار بعيدة الماء. وكيفية سقيهم أنهم يصنعون دلواً كبيرة، ويجعلون لها حبالاً كثيرة، ويتحزم بكل حبل عبد أو خادم، ويجرون الدلو على عود كبير مرتفع عن البئر، ويصبونها في صهريج يسقون منه. ولهم قمح يسمونه العلس وهو في الحقيقة نوع من السلت، والأرز يجلب إليهم من بلاد الهند، وهو أكثر طعامهم. ودراهم هذه المدينة من النحاس والقصدير، ولا تنفق في سواها. وهم أهل تجارة لا عيش لهم إلا منها، ومن عاداتهم أنه إذا وصل مركب من الهند أو غيرها خرج عبيد السلطان إلى الساحل، وصعدوا في صنبوق إلى المركب، ومعهم الكسوة الكاملة لصاحب المركب أو وكيله، وللربان وهو الرئيس، وللكراني وهو كاتب المركب، ويؤتى إليهم بثلاثة أفراس فيركبونها، وتضرب أمامهم الأطبال والأبواق من ساحل البحر إلى دار السلطان فيسلمون على الوزير وأمير الجند، وتبعث الضيافة لكل من بالمركب ثلاثاً، وبعد الثلاث يأكلون بدار السلطان.

وهم يفعلون ذلك استجلاباً لأصحاب المراكب. وهم أهل تواضع وحسن أخلاق وفضيلة ومحبة للغرباء، ولباسهم القطن، وهو يجلب إليهم من بلاد الهند.ويشدون الفوط في أوساطهم عوضاً عن السروال، وأكثرهم يشد فوطة في وسطه، ويجعل فوق ظهره أخرى من شدة الحر، ويغتسلون مرات في اليوم.

وهي كثير ة المساجد. ولهم في كل مسجد مطاهر كثيرة معدة للاغتسال. ويصنع بها ثياب من الحرير والقطن والكتان حسان جداً.

والغالب على أهلها رجالاً ونساء المرض المعروف بداء الفيل، وهو انتفاخ القدمين. وأكثر رجالهم مبتلون بالأدر والعياذ بالله ومن عوايدم الحسنة التصافح في المسجد إثر صلاة الصبح والعصر، يستند أهل الصف الأول إلى القبلة، ويصافحهم الذين يلونهم. وكذلك يفعلون بعد صلاة الجمعة، يتصافحون أجمعون. ومن خواص هذه المدينة وعجائبها أنه لا يقصدها أحد بسوء إلا عاد عليه مكروه، وحيل بينه وبينها.

وذكر لي أن السلطان قطب الدين تمتهن بن طوران شاه صاحب هرمز نازلها مرة من البر والبحر، فأرسل الله سبحانه عليه ريحاً عاصفاً كسرت مراكبه ورجع عن حصارها وصالح ملكها. وكذلك ذكر أن الملك المجاهد سلطان اليمن عين ابن عم له بعسكر كبير، برسم انتزاعها من يد ملكها، وهو أيضاً ابن عمه، فلما خرج ذلك الأمير من داره سقط عليه حائط وعلى جماعة من أصحابه فهلكوا جميعاً. ورجع الملك عن رأيه وترك حصارها وطلبها. ومن الغرائب أن أهل هذه المدينة أشبه الناس بأهل المغرب في شؤونهم. نزلت بدار الخطيب بمسجدها الأعظم، وهو عيسى بن علي، كبير القدر كريم النفس. فكان له جوارٍ مسميات بأسماء خدام المغرب، إحداهن اسمها بخيتة والأخرى زاد المال. ولم أسمع هذه الأسماء في بلد سواها. وأكثر أهلها رؤوسهم مكشوفة، لا يجعلون عليها العمائم. وفي كل دار من دورهم سجادة الخوص، معلقة في البيت، يصلي عليها صاحب البيت، كما يفعل أهل المغرب. وأكلهم الذرة. وهذا التشابه كله مما يقوي القول بأن صنهاجة وسواهم من قبائل المغرب أصلهم من حمير. وبقرب من هذه المدينة بين بساتينها زاوية الشيخ الصالح العابد أبي محمد بن أبي بكر بن عيسى، من أهل ظفار. وهذه الزاوية معظمة عندهم، يأتون إليها غدواً وعيشاً، ويستجيرون بها. فإذا دخلها المستجير لم يقدر السلطان عليه. رأيت بها شخصاً ذكر لي أن له بها مدة سنين مستجيراً لم يتعرض له السلطان. وفي الأيام التي كنت بها استجار بها كاتب السلطان، وأقام فيها حتى وقع بينهما الصلح. أتيت هذه الزاوية، فبت بها في ضيافة الشيخين أبي العباس أحمد وأبي عبد الله محمد ابني الشيخ أبي بكر المذكور، وشاهدت لهما فضلاً عظيماً، ولما غسلنا أيدينا من الطعام أخذ أبو العباس منهما ذلك الماء الذي غسلنا به فشرب منه، وبعث الخادم بباقيه إلى أهله وأولاده فشربوه. وكذلك يفعلون بمن يتوسمون فيه الخير من الواردين عليهم. وكذلك أضافني قاضيها الصالح أبو هاشم عبد الله الزبيدي، وكان يتولى خدمتي وغسل يدي بنفسه، ولا يكل ذلك إلى غيره. وبمقربة من هذه الزاوية تربة سلف السلطان الملك المغيث، وهي معظمة عندهم، ويستجير بها من طلب حاجة، فتقضى له. ومن عادة الجند أنه إذا تم الشهر ولم يأخذوا أرزاقهم، استجار بهذه التربة، وأقاموا في جوارها إلى أن يعطوا أرزاقهم.

وعلى مسيرة نصف يوم من هذه المدينة الأحقاف، وهي منازل عاد. وهنالك زاوية ومسجد على ساحل البحر، وحوله قرية لصيادي السمك. وفي الزاوية قبر مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عابر عليه أفضل الصلاة والسلام. وقد ذكرت أن بمسجد دمشق موضعاً مكتوب عليه: هذا قبر هود بن عابر. والأشبه أن يكون قبره بالأحقاف لأنها بلاده، والله أعلم. ولهذه المدينة بساتين فيها موز كثير كبير الجرم. وزنت بمحضري حبة منه فكان وزنها اثنتي عشرة أوقية. وهو طيب المطعم شديد الحلاوة. وبها أيضاً التنبول والنارجيل المعروف بجوز الهند، ولا يكونان إلا ببلاد الهند، وبمدينة ظفار هذه، لشبهها بالهند وقربها منه؛ اللهم إلا أن في مدينة زبيد، في بستان السلطان شجيرات من النارجيل. وإذ قد وقع ذكر التنبول و النارجيل، فلنذكرهما، ولنذكر خصائصهما.

ذكر التنبول

والتنبول شجر يغرس كما تغرس دوالي العنب، ويصنع له معرشات من القصب، كما تصنع لدوالي العنب، أو يغرس في مجاورة النارجيل، فيصعد فيها كما تصعد الدوالي، وكما يصعد الفلفل. ولا ثمر للتنبول. وإنما المقصود منه ورقه، وهو يشبه ورق العليق. وأطيبه الأصفر. وتجنى أوراقه في كل يوم. وأهل الهند يعظمون التنبول تعظيماً شديداً، وإذا أتى الرجل دار صاحبه فأعطاه خمس ورقات منه، فكأنما أعطاه الدنيا وما فيها، لا سيما إن كان أميراً أو كبيراً. وإعطاؤه عندهم أعظم شأناً وأدل على الكرامة من إعطاء الفضة والذهب. وكيفية استعماله أن يؤخذ قبله الفوفل، وهو شبه جوز الطيب، فيكسر حتى يصير أطرافاً صغاراً، ويجعله الإنسان في فمه ويعلكه، ثم يأخذ ورق التنبول، فيجعل عليها شيئاً من النورة ويمضغها مع الفوفل. وخاصيته أنه طيب النكهة، ويذهب بروائح الفم، ويهضم الطعام، ويقطع ضرر شرب الماء على الريق، ويفرح آكله، ويعين على الجماع. ويجعله الإنسان عند رأسه ليلاً فإذا استيقظ من نومه، أو أيقظته زوجته أو جاريته أخذ منه، فيذهب بما في فمه من رائحة كريه. ولقد ذكر لي أن جواري السلطان والأمراء ببلاد الهند لا يأكلن غيره، وسنذكره عند ذكر بلاد الهند.

ذكر النارجيل

وهو جوز الهند، وهذا الشجر من أغرب الأشجار شأناً وأعجبها أمراً، وشجره شبه شجر النخل لا فرق بيهما، إلا أن هذه تثمر جوزاً، وتلك تثمر ثمراً. وجوزها يشبه رأس ابن آدم، لأن فيها شبه العينين والفم، وداخلها شبه الدماغ إذا كانت خضراء، وعليها ليف شبه الشعر، وهم يصنعون به حبالاً يخيطون به المراكب عوضاً عن مسامير الحديد، ويصنعون منه الحبال للمراكب. والجوزة منها وخصوصاً التي بجزائر ذيبة المهل، تكون بمقدار رأس الآدمي. ويزعمون أن حكيماً من حكماء الهند في غابر الزمان كان متصلاً بملك من الملوك ومعظماً لديه، وكان للملك وزير بينه وبين هذا الحكيم معاداة. فقال الحكيم للملك: إن رأس هذا الوزير إذا قطع ودفن تخرج منه نخلة تثمر بثمر عظيم، يعود نفعه على أهل الهند وسواهم من أهل الدنيا. فقال له الملك: فإن لم يظهر من رأس الوزير ما ذكرته، قال: إن لم يظهر، فاصنع برأسي كما صنعت برأسه. فأمر الملك برأس الوزير فقطع، وأخذه الحكيم، وغرس نواة تمر في دماغه، وعالجها حتى صارت شجرة، وأثمرت بهذا الجوز. وهذه الحكاية من الأكاذيب، ولكن ذكرناها لشهرتها عندهم. ومن خواص هذا الجوز تقوية البدن وإسراع السمن والزيادة في حمرة الوجه. وأما الإعانة على الباءة ففعله فيها عجيب. ومن عجائبه إنه يكون في ابتداء أمره أخضر. فمن قطع بالسكين قطعة من قشره وفتح رأس الجوزة شرب منها ماء في النهاية من الحلاوة والبرودة. ومزاجه حار معين على الباءة. فاذا شرب ذلك الماء أخذ قطعة القشرة وجعلها شبه الملعقة وجرد بها ما في داخل الجوزة من الطعم، فيكون طعمه كطعم البيضة إذا شربت ولم يتم نضجها كل التمام، ويتغذى به. ومنه كان غذائي أيام إقامتي بجزائر ذيبة المهل مدة عام ونصف عام. وعجائبه أن يصنع منه الزيت والحليب والعسل.فأما كيفية صناعة العسل منه فإن خدام النخل منه، ويسمون الفازانية، يصعدون إلى النخلة غدواً وعشياً إذا أرادوا أخذ مائها الذي يصنعون منه العسل، وهم يسمونه الأطواق، فيقطعون العذق الذي يخرج منه الثمر، ويتركون منه مقدار إصبعين، ويربطون عليه قدراً صغيرة فيقطر فيها الماء الذي يسيل من العذق. فإذا ربطها غدوة، صعد إليها عشياً ومعه قدحان من قشر الجوز المذكور، أحدهما مملوء ماء فيصب ما اجتمع من ماء العذق في أحد القدحين ويغسله بالماء الذي في القدح الآخر، وينجر من العذق قليلاً ويربط عليه القدر ثانية، ثم يفعل غدوة كفعله عشياً، فإذا اجتمع له الكثير من ذلك الماء طبخه كما يطبخ ماء العنب إذا صنع منه الرب، فيصير عسلاً عظيم النفع طيباً، يشتريه تجار الهند واليمن والصين، ويحملونه إلى بلادهم، ويصنعون منه الحلواء. وأما كيفية صنع الحليب منه فإن بكل دار شبه الكرسي، تجلس فوقه المرأة، ويكون بيدها عصا، في أحد طرفيها حديدة مشرفة، فيفتحون في الجوزة مقدار ما تدخل تلك الحديد، ويجرشون ما في باطن الجوزة، وكل ما ينزل منها يجتمع في صحفة، حتى لا يبقى في داخل الجوزة شيء، ثم يمرس ذلك الجريش بالماء، فيصير كلون الحليب بياضاً، ويكون طعمه كطعم الحليب، ويأتدم به الناس. وأما كيفية صنع الزيت فإنهم يأخذون الجوز بعد نضجه وسقوطه عن شجره، فيزيلون قشره ويقطعونه قطعاً ويجعل في الشمس، فإذا ذبل طبخوه في القدور واستخرجوا زيته، وبه يستصبحون. ويضعه الناس في شعورهم، وهو عظيم النفع.