الجزء الأول - ذكر سلطان أكريدور

وسلطانها أبو إسحاق بك ابن الدندار بك، من كبار سلاطين تلك البلاد، سكن ديار مصر أيام أبيه وحج، وله سيرة حسنة، ومن عادته أنه يأتي كل يوم إلى صلاة العصر بالمسجد الجامع، فإذا قضيت صلاة العصر استند إلى جدار القبلة، وقعد القراء بين يديه على مصطبة خشب عالية، فقرأوا سورة الفتح والملك وعم بأصوات حسان فعالة في النفوس تخشع لها القلوب وتقشعر الجلود وتدمع العيون، ثم ينصرف إلى داره. وأظلنا عنده شهر رمضان فكان يقعد في كل يوم ليلة منه على فراش لاصق بالأرض من غير سرير، ويستند إلى مخدة كبيرة، ويجلس الفقيه مصلح الدين إلى جانبه، وأجلس إلى جانب الفقيه ويلينا أرباب دولته أمراء حضرته ثم يؤتى بالطعام، فيكون أول ما يفطر عليه ثريد في قحفة صغيرة، عليه العدس مسقي بالسمن والسكر، ويقدمون الثريد تبركاً، ويقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم فضله على سائر الطعام فنحن نبدأ به لتفضيل النبي له ثم يؤتى بسائر الأطعمة وهكذا فعلهم في جميع ليالي رمضان.

وتوفي في بعض تلك الأيام ولد السلطان، فلم يزيدوا على بكاء الرحمة، كما يفعله أهل مصر والشام، خلافاً لما قدمناه من فعل أهل اللور حين مات ولد سلطانهم فلما دفن أقام السلطان والطلبة ثلاثة أيام يخرجون إلى قبره بعد صلاة الصبح. وثاني يوم من دفنه خرجت مع الناس فرآني السلطان ماشياً برجلي، فبعث لي بفرس واعتذر، فلما وصلت المدرسة بعثت الفرس فرده وقال: إنما أعطيته عطية لا عارية، وبعث إلي بكسوة ودراهم فانصرفنا إلى مدينة قل حصار " وضبط اسمها بضم الكاف وإسكان اللام ثم حاء مهمل مكسور وصاد مهمل وآخره راء " مدينة صغيرة بها المياه من كل جانب، قد نبت فيها القصب، فلا طريق لها إلا طريق كالجسر مهيأ بين القصب والمياه، لا يسع إلا فارساً واحداً، والمدينة على تل في وسط المياه منيعة لا يقدر عليها ونزلنا بزاوية أحد الفتيان الأخية بها.