قال ابن إسحاق : ونصبت عند ذلك أحبار يهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ، بغيا وحسدا وضغنا ، لما خص الله تعالى به العرب من أخذه رسوله منهم ، وانضاف إليهم رجال من الأوس والخزرج ، ممن كان عسى على جاهليته ، فكانوا أهل نفاق على دين آبائهم من الشرك والتكذيب بالبعث، إلا أن الإسلام قهرهم بظهوره واجتماع قومهم عليه ، فظهروا بالإسلام ، واتخذوه جُنَّة من القتل ، ونافقوا في السر ، وكان هواهم مع يهود ، لتكذيبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وجحودهم الإسلام . وكانت أحبار يهود هم الذين يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتعنَّتونه ، ويأتونه باللَّبس ، ليلبسوا الحق بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه ، إلا قليلا من المسائل في الحلال والحرام كان المسلمون يسألون عنها .
منهم : حيي بن أخطب ، وأخواه أبو ياسر بن أخطب ، وجُدَيّ بن أخطب ، وسلاَّم بن مشكم ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وسلاَّم بن أبي الحقيق ، وأبو رافع الأعور ، - وهو الذي قتله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر - والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وعمرو بن جحَّاش ، وكعب بن الأشرف ، وهو من طيئ ، ثم أحد بني نبهان ، وأمه من بني النضير ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، وكردم بن قيس ، حليف كعب بن الأشرف ، فهؤلاء من بني النضير .
ومن بني قريظة : الزبير بن باطا بن وهب ، وعزّال بن شمويل ، وكعب بن أسد ، وهو صاحب عَقد بني قريظة الذي نُقض عام الأحزاب ، وشمويل بن زيد ، وجبل بن عمرو بن سكينة ، والنحام بن زيد ، وقردم بن كعب ، ووهب بن زيد ، ونافع بن أبي نافع ، وأبو نافع ، و عدي بن زيد ، والحارث بن عوف، وكَرْدم بن زيد ، وأسامة بن حبيب ، ورافع بن رميلة ، وجبل بن أبي قشير ، ووهب بن يهوذا ، فهؤلاء من بني قريظة .
ومن يهود بني زريق : لبيد بن أعصم ، وهو الذي أخَّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه .
ومن يهود بني حارثة : كنانة بن صُوريا .
ومن يهود بني عمرو بن عوف : قردم بن عمرو .
ومن يهود بني النجار : سلسلة بن برهام . فهؤلاء أحبار اليهود ، أهل الشرور والعداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأصحاب المسألة ، والنصب لأمر الإسلام الشرور ليطفئوه ، إلا ما كان من عبدالله بن سلام ، ومخيريق .
قال ابن إسحاق : وكان من حديث عبدالله بن سلام ، كما حدثني بعض أهله عنه وعن إسلامه حين أسلم، وكان حبرا عالما ، قال : لما سمعت برسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له ، فكنت مسرا لذلك ، صامتا عليه ، حتى قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فلما نزل بقباء ، في بني عمرو بن عوف ، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه ، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها ، وعمتي خالدة بنت الحارث تحتي جالسة ، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم كبرت؛ فقالت لي عمتي ، حين سمعت تكبيري : خيبك الله ، والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت ، قال : فقلت لها : أي عمة ، هو والله أخو موسى بن عمران ، وعلى دينه ، بعث بما بعث به . قال : فقالت : أي ابن أخي ، أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ؟ قال : فقلت لها : نعم. قال : فقالت : فذاك إذا . قال : ثم خرجت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأسلمت ، ثم رجعت إلى أهل بيتي ، فأمرتهم فأسلموا .
قال : وكتمت إسلامي من يهود ، ثم جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت له : يا رسول الله ، إن يهود قوم بهت ، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك ، وتغيبني عنهم ، ثم تسألهم عني ، حتى يخبروك كيف أنا فيهم ، قبل أن يعلموا بإسلامي ، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني . قال : فأدخلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض بيوته ، ودخلوا عليه ، فكلموه وساءلوه ، ثم قال لهم : أي رجل الحصين بن سلام فيكم ؟ قالوا : سيدنا وابن سيدنا ، وحبرنا وعالمنا . قال : فلما فرغوا من قولهم خرجت عليهم ، فقلت لهم : يا معشر يهود ، اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به ، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته ، فإني أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأومن به وأصدقه وأعرفه ، فقالوا : كذبت ثم وقعوا بي . قال : فقلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت ، أهل غدر وكذب وفجور ! قال : فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث ، فحسن إسلامها .
قال ابن إسحاق : وكان من حديث مخيريق ، وكان حبرا عالما ، وكان رجلا غنيا كثير الأموال من النخل ، وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته ، وما يجد في علمه ، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك ، حتى إذا كان يوم أحد ، وكان يوم أحد يوم السبت ، قال : يا معشر يهود ، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق . قالوا : إن اليوم يوم السبت ؛ قال : لا سبت لكم . ثم أخذ سلاحه فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد ، وعهد إليه من وراءه من قومه : إن قتلت هذا اليوم ، فأموالي لمحمد صلى الله عليه وسلم يصنع فيها ما أراه الله . فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - يقول : مخيريق خير يهود . وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أمواله ، فعامة صدقات رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة منها .
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال : حدثت عن صفية بنت حيي بن أخطب أنها قالت : كنت أحب ولد أبي إليه ، وإلى عمي أبي ياسر ، لم ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه . قالت : فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، ونزل قباء ، في بني عمرو بن عوف ، غدا عليه أبي ، حيي بن أخطب ، وعمي أبو ياسر بن أخطب ، مغلسين . قالت : فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس . قالت : فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى . قالت : فهششت إليهما كما كنت أصنع ، فوالله ما التفت إلي واحد منهما ، مع ما بهما من الغم . قالت : وسمعت عمي أبا ياسر، وهو يقول لأبي حيي بن أخطب : أهو هو ؟ قال : نعم والله ؛ قال : أتعرفه وتثبته ؟ قال : نعم ؛ قال : فما في نفسك منه ؟ قال : عداوته والله ما بقيت .
قال ابن إسحاق : وكان ممن انضاف إلى يهود ، ممن سمي لنا من المنافقين من الأوس والخزرج ، والله أعلم . من الأوس ، ثم من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس ، ثم من بني لوذان بن عمرو بن عوف : زُوَيّ بن الحارث .
ومن بني حُبيب بن عمرو بن عوف : جُلاس بن سويد بن الصامت ، وأخوه الحارث بن سويد .
وجلاس الذي قال - وكان ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك - لئن كان هذا الرجل صادقا لنحن شر من الحمر . فرفع ذلك من قوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عمير بن سعد ، أحدهم ، وكان في حجر جلاس ، خَلَف جلاس على أمه بعد أبيه ، فقال له عمير بن سعد : والله يا جلاس ، إنك لأحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي يدا ، وأعزهم علي أن يصيبه شيء يكرهه ، ولقد قلت مقالة لئن رفعتُها عليك لأفضحنك ، ولئن صمتُّ عليها ليهلكن ديني ، ولإحداهما أيسر علي من الأخرى . ثم مشى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر له ما قال جلاس ، فحلف جلاس بالله لرسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد كذب علي عمير ، وما قلت ما قال عمير بن سعد . فأنزل الله عز وجل فيه : {( يحلفون بالله ما قالوا ، ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ، وهموا بما لم ينالوا ، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ، فإن يتوبوا يك خيرا لهم ، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير )} . قال ابن هشام :الأليم : الموجع . قال ذو الرمة يصف إبلا :
وترفع من صدور شمردلات |
|
يصك وجوههـا وهـج ألـيمُ |
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن إسحاق : فزعموا أنه تاب فحسنت توبته ، حتى عرف منه الخير والإسلام .
وأخوه الحارث بن سويد ، الذي قتل المجذر بن زياد البلوي ، وقيس بن زيد ، أحد بني ضبيعة ، يوم أحد . خرج مع المسلمين ، وكان منافقا ، فلما التقى الناس عدا عليهما ، فقتلهما ثم لحق بقريش . قال ابن هشام :وكان المجذر بن زياد قتل سويد بن صامت في بعض الحروب التي كانت بين الأوس والخزرج ، فلما كان يوم أحد طلب الحارث بن سويد غرة المجذر بن زياد ، ليقتله بأبيه ، فقتله وحده ، وسمعت غير واحد من أهل العلم يقول : والدليل على أنه لم يقتل قيس بن زيد ، أن ابن إسحاق لم يذكره في قتلى أحد . قال ابن إسحاق : قتل سويد بن صامت معاذ بن عفراء غيلة ، في غير حرب ، رماه بسهم فقتله قبل يوم بعاث . قال ابن إسحاق : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما يذكرون - قد أمر عمر بن الخطاب بقتله إن هو ظفر به ، ففاته ، فكان بمكة ، ثم بعث إلى أخيه جلاس يطلب التوبة ، ليرجع إلى قومه . فأنزل الله تبارك وتعالى فيه - فيما بلغني عن ابن عباس - : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات ، والله لا يهدي القوم الظالمين ) . إلى آخر القصة .
ومن بني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف : بجَاد ابن عثمان بن عامر .
ومن بني لوذان بن عمرو بن عوف : نبتل بن الحارث ، وهو الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - : من أحب أن ينظر إلى الشيطان ، فلينظر إلى نبتل بن الحارث ، وكان رجلا جسيما أذلم ، ثائر شعر الرأس ، أحمر العينين ، أسفع الخدين ، وكان يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدث إليه فيسمع منه ، ثم ينقل حديثه إلى المنافقين ؛ وهو الذي قال : إنما محمد أُذُن ، من حدثه شيئا صدقه . فأنزل الله عز وجل فيه : ( ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن ، قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ورحمة للذين آمنوا منكم ، والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم ) . قال ابن إسحاق : وحدثني بعض رجال بلعجلان أنه حدث : أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : إنه يجلس إليك رجل أذلم ، ثائر شعر الرأس ، أسفع الخدين أحمر العينين ، كأنهما قدران من صفر ، كبده أغلظ من كبد الحمار ، ينقل حديثك إلى المنافقين ، فاحذره . وكانت تلك صفة نبتل بن الحارث ، فيما يذكرون .
ومن بني ضبيعة : أبو حبيبة بن الأزعر ، وكان ممن بنى مسجد الضرار ، وثعلبة بن حاطب ، ومعتب بن قشير ، وهما اللذان عاهدا الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين ، إلخ القصة . ومعتب الذي قال يوم أحد : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ، فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله: ( وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) . إلى آخر القصة ، وهو الذي قال يوم الأحزاب : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا لا يأمن أن يذهب إلى الغائط . فأنزل الله تعالى عز وجل فيه : ( وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا ) . والحارث بن حاطب . معتب و ابنا حاطب بدريون و ليسوا منافقين قال ابن هشام : معتب بن قشير ، وثعلبة والحارث ابنا حاطب ، وهم من بني أمية بن زيد من أهل بدر وليسوا من المنافقين فيما ذكر لي من أثق به من أهل العلم ، وقد نسب ابن إسحاق ثعلبة والحارث في بني أمية بن زيد في أسماء أهل بدر . قال ابن إسحاق : وعباد بن حنيف ، أخو سهل بن حنيف ؛ وبحزج ، وهم ممن كان بنى مسجد الضرار ، وعمرو بن خذام ، وعبدالله بن نبتل.
ومن بني أمية بن زيد بن مالك : وديعة بن ثابت ، وهوممن بنى مسجد الضرار ، وهو الذي قال : إنما كنا نخوض ونلعب . فأنزل الله تبارك وتعالى : ( ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون ) ... إلى آخر القصة .
ومن بني عبيد بن زيد بن مالك : خذام بن خالد ، وهو الذي أخرج مسجد الضرار من داره ؛ وبشر ورافع ، ابنا زيد .
ومن بني النبيت - قال ابن هشام : النبيت : عمرو بن مالك بن الأوس - قال ابن إسحاق : ثم من بني حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو ابن مالك بن الأوس : مربع بن قيظي ، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أجاز في حائطه ورسول الله صلى الله عليه وسلم عامد إلى أحد : لا أحل لك يا محمد ، إن كنت نبيا ، أن تمر في حائطي ، وأخذ في يده حفنة من تراب ، ثم قال : والله لو أعلم أني لا أصيب بهذا التراب غيرك لرميتك به ، فابتدره القوم ليقتلوه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه ، فهذا الأعمى ، أعمى القلب ، أعمى البصيرة . فضربه سعد بن زيد ، أخو بني عبدالأشهل بالقوس فشجه ؛ وأخوه أوس بن قيظي ، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق : يا رسول الله ، إن بيوتنا عورة ، فأذن لنا فلنرجع إليها . فأنزل الله تعالى فيه : ( يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ) . قال ابن هشام : عورة ، أي مُعْورة للعدو وضائعة ؛ وجمعها : عورات . قال النابغة الذبياني :
متى تلقهم لا تلق للبيت عـورة |
|
ولا الجار محروما ولا الأمر ضائعا |
وهذا البيت في أبيات له . والعورة أيضا : عورة الرجل ، وهي حرمته . والعورة أيضا : السوءة .
قال ابن إسحاق : ومن بني ظفر ، واسم ظفر : كعب بن الحارث بن الخزرج : حاطب بن أمية بن رافع، وكان شيخا جسيما قد عسا في جاهليته ، وكان له ابن من خيار المسلمين . يقال له : يزيد بن حاطب أُصيب يوم أحد حتى أثبتته الجراحات ، فحمل إلى دار بني ظفر . قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنه اجتمع إليه من بها من رجال المسلمين ونسائهم وهو بالموت ، فجعلوا يقولون: أبشر يا ابن حاطب بالجنة . قال : فنجم نفاقه حينئذ ، فجعل يقول أبوه : أجل جنة الله من حرمل، غررتم والله هذا المسكين من نفسه . قال ابن إسحاق : وبُشير بن أبيرق ، وهو أبو طعمة ، سارق الدرعين ، الذي أنزل الله تعالى فيه : ( ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم ، إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما ) ؛ وقزمان : حليف لهم . قال ابن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إنه لمن أهل النار . فلما كان يوم أحد قاتل قتالا شديدا حتى قتل بضعة نفر من المشركين . فأثبتته الجراحات ، فحمل إلى دار بني ظفر ، فقال له رجال من المسلمين : أبشر يا قزمان ، فقد أبليت اليوم ، وقد أصابك ما ترى في الله . قال : بماذا أُبشر ، فوالله ما قاتلت إلا حمية عن قومي ؛ فلما اشتدت به جراحاته وآذته أخذ سهما من كنانته ، فقطع به رواهش يده ، فقتل نفسه.
قال ابن إسحاق : ولم يكن في بني عبدالأشهل منافق ولا منافقة يعلم ، إلا أن الضحاك بن ثابت ، أحد بني كعب ، رهط سعد بن زيد ، وقد كان يُتَّهم بالنفاق وحب يهود . قال حسان بن ثابت :
من مبلغ الضحاك أن عروقه |
|
أعيت على الإسلام أن تتمجـدا |
أتحب يُهْدَان الحجاز ودينهـم |
|
كبد الحمار ، ولا تحب محمـدا |
دينا لعمري لا يوافق دينـنـا |
|
ما استنَّ آل في الفضاء وخـودا |
وكان جلاس بن سويد بن صامت قبل توبته - فيما بلغني - ومعتب بن قشير ، ورافع بن زيد ، وبشر ، وكانوا يُدعون بالإسلام ، فدعاهم رجال من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعوهم إلى الكهان ، حكام أهل الجاهلية ، فأنزل الله عز وجل فيهم : ( ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا ) ... إلى آخر القصة .
ومن الخزرج ، ثم من بني النجار : رافع بن وديعة ، وزيد بن عمرو ، وعمرو بن قيس ، وقيس بن عمرو بن سهل .
ومن بني جشم بن الخزرج ، ثم من بني سلمة : الجد بن قيس ، وهو الذي يقول : يا محمد ، ائذن لي ، ولا تفتني . فأنزل الله تعالى فيه : ( ومنهم من يقول ائذن لي ، ولا تفتني ألا في الفتنة سقطوا ، وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ) ... إلى آخر القصة .
ومن بني عوف بن الخزرج : عبدالله بن أبي بن سلول ، وكان رأس المنافقين وإليه يجتمعون ، وهو الذي قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل في غزوة بني المصطلق . وفي قوله ذلك، نزلت سورة المنافقين بأسرها . وفيه وفي وديعة - رجل من بني عوف - ومالك بن أبي قوقل ، وسويد، وداعس ، وهم من رهط عبدالله بن أبي بن سلول ؛ وعبدالله بن أبي بن سلول . فهؤلاء النفر من قومه الذين كانوا يدسُّون إلى بني النضير حين حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أن اثبتوا ، فوالله لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ، وإن قوتلتم لننصرنكم . فأنزل الله تعالى فيهم : ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أُخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا ، وإن قوتلتم لننصرنكم ، والله يشهد إنهم لكاذبون ) ، ثم القصة من السورة حتى انتهى إلى قوله : (كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر ، فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين).
قال ابن إسحاق : وكان ممن تعوذ بالإسلام ، ودخل فيه مع المسلمين وأظهره وهو منافق ، من أحبار يهود .
وكان هؤلاء المنافقون يحضرون المسجد فيستمعون أحاديث المسلمين ، ويسخرون ويستهزئون بدينهم ، فاجتمع يوما في المسجد منهم ناس ، فرآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون بينهم ، خافضي أصواتهم ، قد لصق بعضهم ببعض ، فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُخرجوا من المسجد إخراجا عنيفا ، فقام أبو أيوب ، خالد بن زيد بن كليب ، إلى عمر بن قيس ، أحد بني غنم بن مالك بن النجار - كان صاحب آلهتهم في الجاهلية - فأخذ برجله فسحبه ، حتى أخرجه من المسجد ، وهو يقول : أتخرجني يا أبا أيوب من مربد بني ثعلبة ، ثم أقبل أبو أيوب أيضا إلى رافع بن وديعة ، أحد بني النجار فلبَّبه بردائه ثم نتره نترا شديدا ، ولطم وجهه ، ثم أخرجه من المسجد ، وأبو أيوب يقول له : أف لك منافقا خبيثا : أدراجَك يا منافق من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن هشام : أي ارجع من الطريق التي جئت منها . قال الشاعر :
فولى وأدبر أدراجـه |
|
وقد باء بالظلم من كان ثَمّ |
وقام عمارة بن حزم إلى زيد بن عمرو ، وكان رجلا طويل اللحية ، فأخذ بلحيته فقاده بها قودا عنيفا حتى أخرجه من المسجد ، ثم جمع عمارة يديه فلدمه بهما في صدره لدمة خر منها . يقول : خدشتني يا عمارة ؛ قال : أبعدك الله يا منافق ، فما أعد الله لك من العذاب أشد من ذلك ، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن هشام : اللدم : الضرم ببطن الكف . قال تميم بن أبي بن مقبل :
وللفؤاد وجيب تحت أبهره |
|
لدم الوليد وراء الغيب بالحجرِ |
قال ابن هشام : الغيب : ما انخفض من الأرض . والأبهر : عرق القلب . قال ابن إسحاق : وقام أبو محمد ، رجل من بني النجار ، كان بدريا ، وأبو محمد ، مسعود بن أوس بن زيد بن أصرم بن زيد بن ثعلبة بن غنم ابن مالك بن النجار إلى قيس بن عمرو بن سهل ، وكان قيس غلاما شابا ، وكان لا يعلم في المنافقين شاب غيره ، فجعل يدفع في قفاه حتى أخرجه من المسجد . وقام رجل من بَلْخُدرة بن الخزرج ، رهط أبي سعيد الخدري ، يقال له : عبدالله بن الحارث ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراج المنافقين من المسجد إلى رجل يقال له : الحارث بن عمرو ، وكان ذا جمة ، فأخذ بجمته فسحبه بها سحبا عنيفا ، على ما مر به من الأرض ، حتى أخرجه من المسجد . قال : يقول المنافق : لقد أغلظت يا ابن الحارث ؛ فقال : إنك أهل لذلك ، أي عدو الله لما أنزل الله فيك ، فلا تقربن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنك نجس . وقام رجل من بني عمرو بن عوف إلى أخيه زُوَيّ بن الحارث ، فأخرجه من المسجد إخراجا عنيفا ، وأفَّف منه ، و قال : غلب عليك الشيطان و أمره . فهؤلاء من حضر المسجد يومئذ من المنافقين ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإخراجهم .
ففي هؤلاء من أحبار يهود ، والمنافقين من الأوس والخزرج ، نزل صدر سورة البقرة إلى المئة منها - فيما بلغني - والله أعلم . يقول الله سبحانه وبحمده : {( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه )} ، أي لا شك فيه. قال ابن هشام : قال ساعدة بن جؤية الهذلي :
فقالوا عهدنا القوم قد حصروا به |
|
فلا ريب أن قد كـان ثـم لـحَـيمُ |
وهذا البيت في قصيدة له ، والريب أيضا : الريبة . قال خالد بن زهير الهذلي :
كأنني أربِبُه بريب |
|
|
قال ابن هشام : ومنهم من يرويه :
كأنني أرَيْتُه بريب |
|
|
وهذا البيت في أبيات له . وهو ابن أخي أبي ذؤيب الهذلي . ( هدى للمتقين ) ، أي الذين يحذرون من الله عقوبته في ترك ما يعرفون من الهدى ، ويرجون رحمته بالتصديق بما جاءهم منه . ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) أي يقيمون الصلاة بفرضها ، ويؤتون الزكاة احتسابا لها. ( والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) ، أي يصدقونك بما جئت به من الله عز وجل ، وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ، ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم . (وبالآخرة هم يوقنون) ، أي بالبعث والقيامة والجنة والنار والحساب والميزان ، أي هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما كان من قبلك ، وبما جاءك من ربك ( أولئك على هدى من ربهم ) ، أي على نور من ربهم واستقامة على ما جاءهم ( وأولئك هم المفلحون) ، أي الذين أدركوا ما طلبوا ونجوا من شر ما منه هربوا . ( إن الذين كفروا ) ، أي بما أنزل إليك ، وإن قالوا إنا قد آمنا بما جاءنا قبلك ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ) أي أنهم كفروا بما عندهم من ذكرك ، وجحدوا ما أُخذ عليهم الميثاق لك ، فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم ، مما جاءهم به غيرك ، فكيف يستمعون منك إنذارا أو تحذيرا ، وقد كفروا بما عندهم من علمك . ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة)، أي عن الهدى أن يصيبوه أبدا ، يعني بما كذبوك به من الحق الذي جاءك من ربك حتى يؤمنوا به ، وإن آمنوا بكل ما كان قبلك ، ولهم بما هم عليه من خلافك عذاب عظيم . فهذا في الأحبار من يهود، فيما كذّبوا به من الحق بعد معرفته .
( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) يعني المنافقين من الأوس والخزرج، ومن كان على أمرهم . ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون . في قلوبهم مرض ) أي شك ( فزادهم الله مرضا ) ، أي شكا ( ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون . وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ، قالوا إنما نحن مصلحون ) ، أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب . يقول الله تعالى : ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون . وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس ، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ، ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون . وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلوا إلى شياطينهم ) . من يهود ، الذين يأمرونهم بالتكذيب بالحق ، وخلاف ما جاء به الرسول ( قالوا إنا معكم ) ، أي إنا على مثل ما أنتم عليه . ( إنما نحن مستهزؤون ) : أي إنما نستهزئ بالقوم ، ونلعب بهم . يقول الله عز وجل : ( الله يستهزئ بهم ويمدهم في طعيانهم يعمهون ) .
قال ابن هشام : يعمهون : يحارون . تقول العرب : رجل عمه وعامه : أي حيران . قال رؤبة بن العجاج يصف بلدا :
أعمى الهدى بالجاهلين العُمَّه |
|
|
وهذا البيت في أرجوزة له . فالعُمَّه : جمع عامه ؛ وأما عَمِه ، فجمعه : عمهون . والمرأة : عمهة وعمهاء . ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) : أي الكفر بالإيمان ( فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) . قال ابن إسحاق : ثم ضرب لهم مثلا ، فقال تعالى : ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) . أي لا يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا به من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم به ونفاقهم فيه ، فتركهم الله في ظلمات الكفر فهم لا يبصرون هدى ، ولا يستقيمون على حق . ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) : أي لا يرجعون إلى الهدى ، صم بكم عمي عن الخير ، لا يرجعون إلى خير و لا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه (أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت، والله محيط بالكافرين ) . قال ابن هشام : الصيب : المطر ، وهو من صاب يصوب ، مثل قولهم : السيد، من ساد يسود ، والميت : من مات يموت ؛ وجمعه : صيائب . قال علقمة بن عبدة ، أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم :
كأنهم صابت عليه سحابة |
|
صواعقها لطيرهن دبـيبُ |
وفيها :
فلا تعدلي بيني وبين مُغمَّر سقتك روايا المزن حيث تصوب |
|
|
وهذان البيتان في قصيدة له . قال ابن إسحاق : أي هم من ظلمة ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل ، من الذي هم عليه من الخلاف والتخوف لكم ، على مثل ما وصف ، من الذي هو في ظلمة الصيب ، يجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق حذر الموت . يقول : والله منزل ذلك بهم من النقمة ، أي هو محيط بالكافرين ( يكاد البرق يخطف أبصارهم ) : أي لشدة ضوء الحق ( كلما أضاء لهم مشوا فيه ، وإذا أظلم عليهم قاموا ) ، أي يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة ، فإذا ارتكسوا منه في الكفر قاموا متحيرين . ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم ) ، أي لما تركوا من الحق بعد معرفته ( إن الله على كل شيء قدير ) . ثم قال : ( يا أيها الناس اعبدوا ربكم ) ، للفريقين جميعا ، من الكفار والمنافقين ، أي وحدوا ربكم ( الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون . الذي جعل لكم الأرض فراشا ، والسماء بناء ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم ، فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون ) . تفسير ابن هشام لبعض الغريب قال ابن هشام : الأنداد : الأمثال ، واحدهم : ند. قال لبيد بن ربيعة :
أحمد الله فلا ندَّ لـه |
|
بيديه الخير ما شاء فعلْ |
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن إسحاق : أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر، وأنتم تعلمون أنه لا رب لكم يرزقكم غيره ، وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول من توحيده هو الحق لا شك فيه . ( وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا ) أي في شك مما جاءكم به ، ( فأتوا بسورة من مثله ، وادعوا شهداءكم من دون الله ) ، أي من استطعتم من أعوانكم على ما أنتم عليه ( إن كنتم صادقين ، فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ) فقد تبين لكم الحق ( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) ، أي لمن كان على مثل ما أنتم عليه من الكفر . ثم رغبهم وحذرهم نقض الميثاق الذي أخذ عليهم لنبيه صلى الله عليه وسلم إذا جاءهم ، وذكر لهم بدء خلقهم حين خلقهم ، وشأن أبيهم آدم عليه السلام وأمره ، وكيف صُنع به حين خالف عن طاعته ، ثم قال : ( يا بني إسرائيل ) للأحبار من يهود ( اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم ) . أي بلائي عندكم وعند آبائكم ، لما كان نجاهم به من فرعون وقومه ( وأوفوا بعهدي ) الذي أخذت في أعناقكم لنبِيِّي أحمد إذا جاءكم ( أوف بعهدكم ) أنجز لكم ما وعدتكم على تصديقه واتباعه بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم ( وإياي فارهبون ) أي أن أُنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من النقمات التي قد عرفتم ، من المسخ وغيره . ( وآمنوا بما أنزلت مصدقا لما معكم ، ولا تكونوا أول كافر به ) وعندكم من العلم فيه ما ليس عند غيركم ( وإياي فاتقون . ولا تلبسوا الحق بالباطل ، وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) ، أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي ومما جاء به ، وأنتم تجدونه عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ) ، أي أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم ، أي وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي ، وتنقضون ميثاقي ، وتجحدون ما تعلمون من كتابي . ثم عدد عليهم أحداثهم ، فذكر لهم العجل وما صنعوا فيه ، وتوبته عليهم ، وإقالته إياهم ، ثم قولهم : ( أرنا الله جهرة ) .
قال ابن هشام : جهرة ، أي ظاهرا لنا لا شيء يستره عنا . قال أبو الأخزر الحماني ، واسمه قتيبة :
يجهر أجواف المياه السَّدم |
|
|
وهذا البيت في أرجوزة له . يجهر : يقول : يُظهر الماء ، ويكشف عنه ما يستره من الرمل وغيره . قال ابن إسحاق : وأخذ الصاعقة إياهم عند ذلك لغرتهم ، ثم إحياءه إياهم بعد موتهم ، وتظليله عليهم الغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى ، وقوله لهم : ( ادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة ) ، أي قولوا ما آمركم به أحط به ذنوبكم عنكم ؛ وتبديلهم ذلك من قوله استهزاء بأمره ، وإقالته إياهم ذلك بعد هزئهم .
قال ابن هشام : المن : شيء كان يسقط في السحر على شجرهم ، فيجتنونه حلوا مثل العسل ، فيشربونه ويأكلونه . قال أعشى بني قيس ابن ثعلبة :
لو أُطعموا المن والسلوى مكانهمُ |
|
ما أبصر الناس طعما فيهم نجعـا |
وهذا البيت في قصيدة له . والسلوى : طير ؛ واحدتها : سلواة ؛ ويقال : إنها السماني ؛ ويقال للعسل أيضا : السلوى . وقال خالد بن زهير الهذلي :
وقاسمها بالله حقا لأنـتـمُ |
|
ألذ من السلوى إذا ما نَشُورها |
وهذا البيت في قصيدة له . وحِطَّة : أي حُطَّ عنا ذنوبنا . قال ابن إسحاق : وكان من تبديلهم ذلك ، كما حدثني صالح بن كيسان عن صالح مولى التَّوْءَمة بنت أمية بن خلف ، عن أبي هريرة ومن لا أتهم ، عن ابن عباس ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : دخلوا الباب الذي أُمروا أن يدخلوا منه سجدا يزحفون ، وهم يقولون : حنط في شعير . قال ابن هشام : ويروى : حنظة في شعيرة . قال ابن إسحاق : واستسقاء موسى لقومه ، وأمره إياه أن يضرب بعصاه الحجر ، فانفجرت لهم منه اثنتا عشرة عينا ، لكل سبط عين يشربون منها ، قد علم كل سبط عينه التي منها يشرب ؛ وقولهم لموسى عليه السلام : ( لن نصبر على طعام واحد ، فادع لنا ربك يخُرجْ لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها ) . قال ابن هشام : الفُوم : الحنطة . قال أمية بن أبي الصلت الثقفي :
فوق شيزى مثل الجوابي عليها |
|
قِطَع كالوذيل في نِـقْـي فُـومِ |
قال ابن هشام : الوذيل : قطع الفضة . والفوم : القمح ؛ واحدته : فومة . وهذا البيت في قصيدة له. (وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير . اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم ) . قال ابن إسحاق : فلم يفعلوا ، ورَفْعه الطور فوقهم ليأخذوا ما أوتوا ؛ والمسخ الذي كان فيهم ، إذ جعلهم قردة بأحداثهم ، والبقرة التي أراهم الله عز وجل بها العبرة في القتيل الذي اختلفوا فيه ، حتى بين الله لهم أمره، بعد التردد على موسى عليه السلام في صفة البقرة ؛ وقسوة قلوبهم بعد ذلك حتى كانت كالحجارة أو أشد قسوة . ثم قال تعالى : ( وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء ، وإن منها لما يهبط من خشية الله ) ، أي وإن من الحجارة لَأَلين من قلوبكم عما تدعون إليه من الحق ( وما الله بغافل عما تعملون ) . ثم قال لمحمد عليه الصلاة والسلام ولمن معه من المؤمنين يُؤْيسهم منهم ( أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ) ، وليس قوله ( يسمعون التوراة ) ، أن كلهم قد سمعها ، ولكنه فريق منهم ، أي خاصة . قال ابن إسحاق ، فيما بلغني عن بعض أهل العلم : قالوا لموسى : يا موسى ، قد حيل بيننا وبين رؤية الله ، فأسمعنا كلامه حين يكلمك ، فطلب ذلك موسى عليه السلام من ربه ، فقال له : نعم ، مرهم فليطهروا ، أو ليطهروا ثيابهم ، وليصوموا ، ففعلوا . ثم خرج بهم حتى أتى بهم الطور ؛ فلما غشيهم الغمام أمرهم موسى فوقعوا سجدا ، وكلمه ربه ، فسمعوا كلامه تبارك وتعالى ، يأمرهم وينهاهم ، حتى عقلوا عنه ما سمعوا ، ثم انصرف بهم إلى بني إسرائيل ، فلما جاءهم حرّف فريق منهم ما أمرهم به ، وقالوا ، حين قال موسى لبني إسرائيل : إن الله قد أمركم بكذا وكذا ، قال ذلك الفريق الذي ذكر الله عز وجل : إنما قال كذا وكذا ، خلافا لما قال الله لهم ، فهم الذين عنىالله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم . ثم قال تعالى : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ) ، أي بصاحبكم رسول الله ، ولكنه إليكم خاصة . ( وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا ) : لا تحدثوا العرب بهذا ، فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم ، فكان فيهم . فأنزل الله عز وجل فيهم : ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم أفلا تعقلون ) ، أي تُقرون بأنه نبي ، وقد عرفتم أنه قد أُخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبركم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا ؛ اجحدوه ولا تقروا لهم به . يقول الله عز وجل : ( أو لا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ، ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ ) .
قال ابن هشام ، عن أبي عبيدة : إلا أماني : إلا قراءة ، لأن الأمي : الذي يقرأ ولا يكتب . يقول : لا يعلمون الكتاب إلا أنهم يقرءونه . قال ابن هشام : عن أبي عبيدة ويونس أنهما تأولا ذلك عن العرب في قول الله عز وجل ، حدثني أبو عبيدة بذلك . قال ابن هشام : وحدثني يونس بن حبيب النحوي وأبو عبيدة: أن العرب تقول : تمنى ، في معنى قرأ . وفي كتاب الله تبارك وتعالى : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته ) . قال : وأنشدني أبو عبيدة النحوي :
تمنى كتاب الله أول ليله |
|
وآخره وافى حِمام المقادرِ |
وأنشدني أيضا :
تمنى كتاب الله في الليل خاليا |
|
تمنى داودَ الزبورَ على رِسْـلِ |
وواحدة الأماني : أمنية . والأماني أيضا : أن يتمنى الرجل المال أو غيره . قال ابن إسحاق : ( وإن هم إلا يظنون ) : أي لا يعلمون الكتاب ولا يدرون ما فيه ، وهم يجحدون نبوتك بالظن . ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) .
قال ابن إسحاق : وحدثني مولى لزيد بن ثابت عن عكرمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، واليهود تقول : إنما مدة الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما يُعذب الله الناس في النار بكل ألف سنة من أيام الدنيا يوما واحدا في النار من أيام الآخرة ، وإنما هي سبعة أيام ثم ينقطع العذاب . فأنزل الله في ذلك من قولهم : {( وقالو لن تمسنا النار الا أياما معدودة . قل أتخذتم عند الله عهدا فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون . بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته )} . أي من عمل بمثل أعمالكم ، وكفر بمثل ما كفرتم به ، يحيط كفره بما له عند الله من حسنة ، ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) أي خلد أبدا . ( والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون ) : أي من آمن بما كفرتم به ، وعمل بما تركتم من دينه ، فلهم الجنة خالدين فيها ، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبدا ، لا انقطاع له . قال ابن إسحاق : ثم قال الله عز وجل يؤنبهم : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) ، أي ميثاقكم ( لا تعبدون إلا الله ، وبالوالدين إحسانا ، وذي القربى واليتامى والمساكين ، وقولوا للناس حسنا ، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ، ثم توليتم إلا قليلا منكم وأنتم معرضون ) ، أي تركتم ذلك كله ليس بالتنقص . ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم) .
قال ابن هشام : تسفكون : تصبون . تقول العرب : سفك دمه ، أي صبه ؛ وسفك الزق ، أي هراقه . قال الشاعر :
وكنا إذا ما الضيف حل بأرضنا |
|
سفكنا دماء البُدْن في تربة الحـالِ |
قال ابن هشام : يعني ( بالحال ) : الطين الذي يخالطه الرمل ، وهو الذي تقول له العرب : السهلة . وقد جاء في الحديث : أن جبريل لما قال فرعون : ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) أخذ من حال البحر وحمأته ، فضرب به وجه فرعون . والحال : مثل الحمأة . قال ابن إسحاق : ( ولا تخُرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) .على أن هذا حق من ميثاقي عليكم ، ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) ، أي أهل الشرك ، حتى يسفكوا دماءهم معهم ، ويخرجوهم من ديارهم معهم . ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ) وقد عرفتم أن ذلك عليكم في دينكم ( وهو محرم عليكم ) : في كتابكم ( إخراجهم ، أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، أي أتفادونهم مؤمنين بذلك ، وتخرجونهم كفارا بذلك . ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ، ويوم القيامة يُردّون إلى أشد العذاب ، وما الله بغافل عما تعملون . أولئك الذين اشترَوُا الحياة الدنيا بالآخرة ، فلا يخفف عنهم العذاب ، ولا هم ينصرون ) .فأنبهم الله عز وجل بذلك من فعلهم ، وقد حرّم عليهم في التوراة سفك دمائهم ، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم . فكانوا فريقين ، منهم بنو قينقاع ولَفُّهم ، حلفاء الخزرج ؛ والنضير وقريظة ولَفُّهم ، حلفاء الأوس . فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب ، خرجت بنو قينقاع مع الخزرج وخرجت النضير وقريظة مع الأوس يُظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى يتسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان : لا يعرفون جنة ولا نارا ، ولا بعثا ولا قيامة ، ولا كتابا ، ولا حلالا ولا حراما ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أُساراهم تصديقا لما في التوراة ، وأخذ به بعضهم من بعض ، يفتدي بنو قينقاع من كان من أسراهم في أيدي الأوس ، وتفتدي النضير وقريظة ما في أيدي الخزرج منهم . ويُطِلُّون ما أصابوا من الدماء ، وقتلى من قُتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لأهل الشرك عليهم . يقول الله تعالى لهم حين أنَّبهم بذلك : ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ، أي تُفاديه بحكم التوراة وتقتله ، وفي حكم التوراة أن لا تفعل ، تقتله وتخرجه من داره وتظاهر عليه من يشرك بالله ، ويعبد الأوثان من دونه ، ابتغاء عرض الدنيا . ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما يلغني - نزلت هذه القصة . ثم قال تعالى : ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ، وآتينا عيسى بن مريم البينات ) ، أي الآيات التي وضعت على يديه ، من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير ، ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ، وإبراء الأسقام ، والخبر بكثير من الغيوب مما يدخرون في بيوتهم ، وما رد عليم من التوراة مع الإنجيل ، الذي أحدث الله إليه . ثم ذكر كفرهم بذلك كله ، فقال : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) ، ثم قال تعالى : ( وقالوا قلوبنا غلف ) : في أكنة . يقول الله عز وجل : ( بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون . ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ) . قال ابن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة عن أشياخ من قومه ، قال : قالوا : فينا والله وفيهم نزلت هذه القصة ، كنا قد علوناهم ظهرا في الجاهلية ونحن أهل الشرك وهم أهل كتاب ، فكانوا يقولون لنا : إن نبيا يبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه ، نقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم من قريش فاتبعناه كفروا به . يقول الله : ( فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ، فلعنة الله على الكافرين . بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن يُنَزِّل الله من فضله على من يشاء من عباده ) ، أي أن جعله في غيرهم ( فباءوا بغضب على غضب ، وللكافرين عذاب مهين).
قال ابن هشام : فباءوا بغضب : أي اعترفوا به واحتملوه . قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :
أُصالحكم حتى تبوءوا بمثلها |
|
كصرخة حُبْلى يسَّرتها قَبيلُهـا |
قال ابن هشام : يسرتها : أجلستها للولادة . وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن إسحاق : فالغضب على الغضب لغضبه عليهم فيما كانوا ضيَّعوا من التوراة ، وهي معهم ، وغضب بكفرهم بهذا النبي صلى الله عليه وسلم الذي أحدث الله إليهم . ثم أنَّبهم برفع الطور عليهم ، واتخاذهم العجل إلها دون ربهم ؛ يقول الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : ( قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس ، فتمنوا الموت إن كنتم صادقين ) ، أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب عند الله ، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم . يقول الله جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام : ( ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم ) ، أي بعلمهم بما عندهم من العلم بك ، والكفر بذلك ؛ فيقال : لو تمنَّوه يوم قال ذلك لهم مابقي على وجه الأرض يهودي إلا مات . ثم ذكر رغبتهم في الحياة الدنيا وطول العمر ، فقال تعالى : ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة ) اليهود ( ومن الذين أشركوا يود أحدهم لو يُعَمَّرُ ألف سنة وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمر ) ، أي ما هو بمنجيه من العذاب ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثا بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ما له في الآخرة من الخزي بما ضيع مما عنده من العلم . ثم قال الله تعالى : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله ) .
قال ابن إسحاق : حدثني عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين المكي ، عن شهر بن حوشب الأشعري : أن نفرا من أحبار يهود جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، أخبرنا عن أربع نسألك عنهن ، فإن فعلت ذلك اتبعناك وصدقناك ، وآمنا بك . قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه لئن أنا أخبرتكم بذلك لتصدقُنَّني ؛ قالوا : نعم ؛ قال : فاسئلوا عما بدا لكم . قالوا : فأخبرْنا كيف يشبه الولد أمه ، وإنما النطفة من الرجل ؟ قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نطفة الرجل بيضاء غليظة ، ونطفة المرأة صفراء رقيقة ، فأيَّتهما علت صاحبتها كان لها الشبه ؟ قالوا : اللهم نعم . قالوا : فأخبرنا كيف نومك ؟ فقال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أن نوم الذي تزعمون أني لست به تنام عينه وقلبه يقظان ؟ فقالوا : اللهم نعم ؛ قال : فكذلك نومي ، تنام عيني وقلبي يقظان . قالوا : فأخبرنا عما حرم إسرائيل على نفسه ؟ قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمون أنه كان أحب الطعام والشراب إليه ألبان الإبل ولحومها ، وأنه اشتكى شكوى ، فعافاه الله منها ، فحرم على نفسه أحب الطعام والشراب إليه شكرا لله ، فحرم على نفسه لحوم الإبل وألبانها ؟ قالوا : اللهم نعم . قالوا : فأخبرنا عن الروح ؟ قال : أنشدكم بالله وبأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلمونه جبريل ، وهو الذي يأتيني ؟ قالوا: اللهم نعم ، ولكنه يا محمد لنا عدو ، وهو ملك ، إنما يأتي بالشدة وبسفك الدماء ، ولولا ذلك لاتبعناك ؛ قال : فأنزل الله عز وجل فيهم : ( قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين ) ... إلى قوله تعالى : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ، بل أكثرهم لا يؤمنون . ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون . واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان ) ، أي السحر ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ) . اليهود ينكرون نبوة سليمان عليه السلام ، ورد الله عليهم قال ابن إسحاق : وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لما ذكر سليمان بن داود في المرسلين ، قال بعض أحبارهم : ألا تعجبون من محمد ، يزعم أن سليمان بن داود كان نبيا ، والله ما كان إلا ساحرا . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : ( وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا ) ، أي باتباعهم السحر وعملهم به . ( وما أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد ) . قال ابن إسحاق : وحدثني بعض من لا أتهم عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقول : الذي حرم إسرائيل على نفسه زائدتا الكبد والكليتان والشحم ، إلا ما كان على الظهر ، فإن ذلك كان يُقرَّب للقربان ، فتأكله النار .
قال ابن إسحاق : وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود خيبر ، فيما حدثني مولى لآل زيد بن ثابت ، عن عكرمة أو عن سعيد ابن جبير ، عن ابن عباس : بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صاحب موسى وأخيه ، والمصدق لما جاء به موسى : ألا إن الله قد قال لكم يا معشر أهل التوراة ، وإنكم لتجدون ذلك في كتابكم : ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوارة ، ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه، يعجب الزُرَّاع ليغيظ بهم الكفار ، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما) . وإني أنشدكم بالله ، وأنشدكم بما أنزل عليكم ، وأنشدكم بالذي أطعم من كان قبلكم من أسباطكم المن والسلوى ، وأنشدكم بالذي أيبس البحر لآبائكم حتى أنجاهم من فرعون وعمله ، إلا أخبرتموني : هل تجدون فيما أنزل الله عليكم أن تؤمنوا بمحمد ؟ فإن كنتم لا تجدون ذلك في كتابكم فلا كُرْه عليكم . ( قد تبين الرشد من الغي ) فأدعوكم إلى الله وإلى نبيه .
قال ابن هشام : شطؤه : فراخه ؛ وواحدته : شطأة . تقول العرب : قد أشطأ الزرع ، إذا أخرج فراخه. وآزره : عاونه ، فصار الذي قبله مثل الأمهات . قال امرؤ القيس بن حجر الكندي :
بمحنية قد آزر الضال نبتُها |
|
مجرَّ جيوش غانمين وخُـيَّبِ |
وهذا البيت في قصيدة له . وقال حميد بن مالك الأرقط ، أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة :
زرعا وقضبا مُؤْزَرَ النباتِ |
|
|
وهذا البيت في أرجوزة له ، وسوقه ( غير مهموز ) : جمع ساق ، لساق الشجرة . ما نزل في أبي ياسر وأخيه قال ابن إسحاق : وكان ممن نزل فيه القرآن ، بخاصة من الأحبار وكفار يهود ، الذي كانوا يسألونه ويتعنتونه ليلبسوا الحق بالباطل - فيما ذكر لي عن عبدالله بن عباس وجابر بن عبدالله بن رئاب- أن أبا ياسر بن أخطب مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يتلو فاتحة البقرة : ( الم ذلك الكتاب لا ريب فيه )، فأتى أخاه حُيي بن أخطب في رجال من يهود ، فقال : تعلَّموا والله ، لقد سمعت محمدا يتلو فيما أنزل عليه : ( الم ذلك الكتاب ) ؛ فقالوا : أنت سمعته ؟ فقال : نعم ، فمشى حيي بن أخطب في أولئك النفر من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فقالوا له : يا محمد ، ألم يذكر لنا أنك تتلو فيما أنزل إليك : ( الم ذلك الكتاب )؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بلى ؛ قالوا : أجاءك بها جبريل من عند الله ؟ فقال : نعم ؛ قالوا : لقد بعث الله قبلك أنبياء ، ما نعلمه بين لنبي منهم مامدة ملكه ، وما أكل أمته غيرك ؛ فقال حيي بن أخطب ، وأقبل على من معه ، فقال لهم : الألف واحدة، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، فهذه إحدى وسبعون سنة ؛ أفتدخلون في دين إنما مدة ملكه وأكل أمته إحدى وسبعون سنة ؟ ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، هل مع هذا غيره؟ قال : نعم ؛ قال : ماذا ؟ قال : ( المص ) . قال : هذه والله أثقل وأطول ، الألف واحدة واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والصاد تسعون ، فهذه إحدى وستون ومئة سنة ، هل مع هذا يا محمد غيره ؟ قال : نعم (الر) . قال : هذه والله أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والراء مئتان ، فهذه إحدى وثلاثون ومئتان ، هل مع هذا غيره يا محمد ؟ قال : نعم ( المر ) . قال : هذه والله أثقل وأطول ، الألف واحدة ، واللام ثلاثون ، والميم أربعون ، والراء مئتان ، فهذه إحدى وسبعون ومئتا سنة ، ثم قال : لقد لُبِّس علينا أمرك يا محمد ، حتى ما ندري أقليلا أُعطيت أم كثيرا ؟ ثم قاموا عنه ؛ فقال أبو ياسر لأخيه حيي بن أخطب ولمن معه من الأحبار : ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لمحمد ، إحدى وسبعون ، وإحدى وستون ومئة ، وإحدى وثلاثون ومئتان ، وإحدى وسبعون ومئتان ، فذلك سبع مئة وأربع وثلاثون سنة ؛ فقالوا : لقد تشابه علينا أمره . فيزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فيهم : ( منه آيات محكمات هن أم الكتاب ، وأُخَر متشابهات) . قال ابن إسحاق : وقد سمعت من لا أتهم من أهل العلم يذكر : أن هؤلاء الآيات إنما أُنزلن في أهل نجران ، حين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن عيسى بن مريم عليه السلام . قال ابن إسحاق : وقد حدثني محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف ، أنه قد سمع: أن هؤلاء الآيات إنما أُنزلن في نفر من يهود ، ولم يفسر ذلك لي . فالله أعلم أي ذلك كان .
قال ابن إسحاق : وكان فيما بلغني عن عكرمة مولى ابن عباس ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه . فقال لهم معاذ بن جبل ، وبشر بن البراء بن معرور ، أخو بني سلمة : يا معشر يهود ، اتقوا الله وأسلموا ، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفونه لنا بصفته ؛ فقال سلام بن مشكم ، أحد بني النضير: ما جاءنا بشيء نعرفه ، وما هو بالذي كنا نذكره لكم ، فأنزل الله في ذلك من قولهم: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا ، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين ) .
قال ابن إسحاق : وقال مالك بن الصيف ، - حين بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر لهم ما أخذ عليهم له من الميثاق ، وما عهد الله إليهم فيه - : والله ما عُهد إلينا في محمد عهد ، وما أُخذ له علينا من ميثاق . فأنزل الله فيه : ( أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم ، بل أكثرهم لا يؤمنون ) .
وقال أبو صَلُوبا الفطيوني لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية فنتبعك لها . فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله : ( ولقد أنزلنا إليك آيات بينات وما يكفر بها إلا الفاسقون ) .
وقال رافع بن حريملة ، ووهب بن زيد لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، ائتنا بكتاب تُنَزِّله علينا من السماء نقرؤه ، وفجِّر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : ( أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ، ومن يتبدل الكفر بالإيمان فقد ضل سواء السبيل) .
يا ويح أنصار النبي ورهطه |
|
بعد المغيَّب في سواء المُلْحـدِ |
وهذا البيت في قصيدة له سأذكرها في موضعها إن شاء الله تعالى . ما نزل في صد حيي و أخيه الناس عن الإسلام قال ابن إسحاق : وكان حيي بن أخطب وأخوه أبو ياسر بن أخطب ، من أشد يهود للعرب حسدا ، إذ خصهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم ، وكانا جاهدين في رد الناس بما استطاعا . فأنزل الله تعالى فيهما : ( ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق ، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ، إن الله على كل شيء قدير) .
قال ابن إسحاق : ولما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتهم أحبار يهود ، فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حريملة : ما أنتم على شيء ، وكفر بعيسى وبالإنجيل ؛ فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء ، وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة ؛ فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : {( وقالت اليهود ليست النصارى على شيء، وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ، وهم يتلون الكتاب ، كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون )} ، أي كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر به، أي يكفر اليهود بعيسى ، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى عليه السلام بالتصديق بعيسى عليه السلام ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى عليه السلام ، من تصديق موسى عليه السلام ، وما جاء به من التوراة من عند الله ، وكل يكفر بما في يد صاحبه .
قال ابن إسحاق : وقال رافع بن حريملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، إن كنت رسولا من الله كما تقول ، فقل لله فَلْيُكلِّمنا حتى نسمع كلامه . فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله : ( وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله ، أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم ، قد بينا الآيات لقوم يوقنون ) .
قال ابن إسحاق : ولما صرفت القبلة عن الشام إلى الكعبة ، وصُرفت في رجب على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رفاعة بن قيس ، وقردم بن عمرو ، وكعب بن الأشرف ، ورافع بن أبي رافع ، والحجاج بن عمرو ، حليف كعب بن الأشرف ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، فقالوا : يا محمد ، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك ونصدقك ، وإنما يريدون بذلك فتنته عن دينه . فأنزل الله تعالى فيهم : ( سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ، قل لله المشرق والمغرب ، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا . وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه ) ، أي ابتلاء واختبارا ( وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله ) ، أي من الفتن : أي الذين ثبَّت الله ( وما كان الله ليضيع إيمانكم)، أي إيمانكم بالقبلة الأولى ، وتصديقكم نبيكم ، واتباعكم إياه إلى القبلة الآخرة ، وطاعتكم نبيكم فيها : أي ليُعطينكم أجرهما جميعا ( إن الله بالناس لرءوف رحيم ) . ثم قال تعالى : ( قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها ، فول وجهك شطر المسجد الحرام ، وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ) . تفسير ابن هشام لبعض الغريب ابن هشام : شطره : نحوه وقصده . قال عمرو بن أحمر الباهلي - وباهلة بن يعصر بن سعد بن قيس بن عيلان - يصف ناقة له :
تعدو بنا شطر جمع وهي عاقدة |
|
قد كارب العقد من إيفادها الحقبـا |
وهذا البيت في قصيدة له . وقال قيس بن خويلد الهذلي يصف ناقته :
إن النَّعوس بها داء مخامرها |
|
فشطرها نظر العينين محسورُ |
وهذا البيت في أبيات له . قال ابن هشام : والنعوس : ناقته ، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير ، من قوله : وهو حسير . ( وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم ، وما الله بغافل عما يعملون . ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك ، وما أنت بتابع قبلتهم ، وما بعضهم بتابع قبلة بعض ، ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم ، إنك إذا لمن الظالمين ) . قال ابن إسحاق : إلى قوله تعالى : ( الحق من ربك ، فلا تكونن من الممترين ) .
وسأل معاذ بن جبل ، أخو بني سلمة ، وسعد بن معاذ ، أخو بني عبدالأشهل ؛ وخارجة بن زيد ، أخو بلحارث بن الخزرج ، نفرا من أحبار يهود عن بعض ما في التوراة ، فكتموهم إياه ، وأبوا أن يخبروهم عنه . فأنزل الله تعالى فيهم : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) .
ولما أصاب الله عز وجل قريشا يوم بدر جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود في سوق بني قينقاع، حين قدم المدينة ، فقال : يا معشر يهود ، أسلموا قبل أن يصيبكم الله بمثل ما أصاب به قريشا ، فقالوا له : يا محمد ، لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرا من قريش ، كانوا أغمارا لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنَّا نحن الناس ، وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : ( قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد . قد كان لكم آية في فئتين التقتا ، فئة تقاتل في سبيل الله ، وأخرى كافرة ، يرونهم مثليهم رأي العين ، والله يؤيد بنصره من يشاء ، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ) .
قال : ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المدراس على جماعة من يهود ، فدعاهم إلى الله ؛ فقال له النعمان بن عمرو ، والحارث بن زيد : على أي دين أنت يا محمد ؟ قال : على ملة إبراهيم ودينه ؛ قالا : فإن إبراهيم كان يهوديا ؛ فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : فهلم إلى التوراة ، فهي بيننا وبينكم ، فأبيا عليه . فأنزل الله تعالى فيهما : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يُدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم ، ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون . ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ، وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون ) .
وقال أحبار يهود ونصارى نجران ، حين اجتمعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهوديا ، وقالت النصارى من أهل نجران : ما كان إبراهيم إلا نصرانيا . فأنزل الله عز وجل فيهم : ( يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ، ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون . ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ، ولكن كان حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين . إن أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعوه ، وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ) .
وقال عبدالله بن صيف ، وعدي بن زيد ، والحارث بن عوف ، بعضهم لبعض : تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غدوة ، ونكفر به عشية ، حتى نلبس عليهم دينهم لعلهم يصنعون كما نصنع ، ويرجعون عن دينه . فأنزل الله تعالى فيهم : ( يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل ، وتكتمون الحق وأنتم تعلمون . وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون . ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، قل إن الهدى هدى الله أن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم ، قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، والله واسع عليم ) .
وقال أبو رافع القرظي ، حين اجتمعت الأحبار من يهود ، والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الإسلام : أتريد منا يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم ؟ وقال رجل من أهل نجران نصراني ، يقال له : الرّبيِّس ، - ويروى : الريس ، والرئيس - : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا ؟ أو كما قال . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : معاذ الله أن أعبد غير الله أو آمر بعبادة غيره ، فما بذلك بعثني الله ، ولا أمرني ؛ أو كما قال . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادا لي من دون الله ، ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب ، وبما كنتم تدرسون ) . .. إلى قوله تعالى : ( بعد إذ أنتم مسلمون) . قال ابن هشام : الربانيون : العلماء الفقهاء السادة ؛ واحدهم : رباني . قال الشاعر :
لو كنت مرتهنا في القوس أفتنني |
|
منها الكـلام وربَّـانـيَّ أحـبـارِ |
تفسير ابن هشام لبعض الغريب قال ابن هشام : القوس : صومعة الراهب . وأفتنني ، لغة تميم . وفتنني، لغة قيس . قال جرير :
لا وصل إذ صرمت هند ولو وقفت |
|
لاستنزلتني وذا المسحين في القـوس |
أي صومعة الراهب . والربّاني : مشتق من الرب ، وهو السيد . وفي كتاب الله : ( فيسقي ربه خمرا)، أي سيده . قال ابن إسحاق : ( ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا ، أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ) .
قال ابن إسحاق : ثم ذكر ما أخذ الله عليهم ، وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه إذ هو جاءهم ، وإقرارهم ، فقال : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ، قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري ، قالوا أقررنا ، قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ) ... إلى آخر القصة .
قال ابن إسحاق : ومر شأس بن قيس ، وكان شيخا قد عسا ، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين، شديد الحسد لهم ، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخرزج ، في مجلس قد جمعهم ، يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من أُلفتهم وجماعتهم ، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية . فقال : قد اجتمع ملأ بن قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار . فأمر فتى شابا من يهود كان معهم ، فقال : اعمد إليهم ، فاجلس معهم ، ثم اذكر يوم بُعاث وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار .
وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج ، وكان على الأوس يومئذ حُضير بن سماك الأشهلي ، أبو أسيد بن حضير ؛ وعلى الخزرج عمرو بن النعمان البياضي ، فقتلا جميعا . قال ابن هشام : قال أبو قيس بن الأسلت :
على أن قد فُجعت بذي حفاظ |
|
فعاودني لـه حـزن رصـين |
فإما تقتلـوه فـإن عـمـرا |
|
أعضَّ برأسه عَضْبٌ سَـنـينُ |
وهذا البيتان في قصيدة له . وحديث يوم بعاث أطول مما ذكرت ، وإنما منعني من استقصائه ما ذكرت من القطع .
قال ابن هشام : سنين : مسنون ، من سنَّه ، إذا شحذه . قال ابن إسحاق : ففعل . فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب ، أوس بن قيظي ، أحد بني حارثة بن الحارث ، من الأوس ، وجبار بن صخر ، أحد بني سلمة من الخزرج ، فتقاولا ، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة ، فغضب الفريقان جميعا ، وقالوا : قد فعلنا ، موعدكم الظاهرة - والظاهرة : الحرة - السلاح السلاح . فخرجوا إليها . فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم ، فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بين قلوبكم ؛ فعرف أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شأس بن قيس . فأنزل الله تعالى في شأس بن قيس وما صنع : ( قل يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله ، والله شهيد على ما تعلمون . قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا ، وأنتم شهداء ، وما الله بغافل عما تعملون ) . وأنزل الله في أوس بن قيظي ، وجبار بن صخر ومن كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأسُ من أمر الجاهلية : ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين . وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ، ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم . يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ، ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون ) ... إلى قوله تعالى : ( وأولئك لهم عذاب عظيم ) .
قال ابن إسحاق : ولما أسلم عبدالله بن سلام ، وثعلبة بن سعية ، وأسيد بن سعية ، وأسد بن عبيد ، ومن أسلم من يهود معهم ، فآمنوا وصدقوا ورغبوا في الإسلام ، ورسخوا فيه ، قال أحبار يهود ، أهل الكفر منهم : ما آمن بمحمد ولا اتبعه إلا شرارنا ، ولو كانوا من أخيارنا ما تركوا دين آبائهم وذهبوا إلى غيره. فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) .
قال ابن هشام : آناء الليل : ساعات الليل : وواحدها : إِنْي . قال المتنخل الهذلي ، واسمه مالك بن عويمر ، يرثي أُثيلة ابنه :
حلو ومر كعطف القِدح شيمته |
|
في كل إِني قضاه الليل ينتـعـل |
وهذا البيت في قصيدة له . وقال لبيد بن ربيعة ، يصف حمار وحش :
يُطرِّب آناء النهار كأنه |
|
غوي سقاه في التجار نديمُ |
وهذا البيت في قصيدة له ، ويقال : إنى (مقصور) ، فيما أخبرني يونس . (يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويسارعون في الخيرات ، وأولئك من الصالحين) .
قال ابن إسحاق : وكان رجال من المسلمين يُواصلون رجالا من اليهود ، لما كان بينهم من الجوار والحلف ، فأنزل الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم : (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ، لا يألونكم خبالا ، ودُّوا ما عنتُّم ، قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون . ها أنتم أُولاء تحبونهم ولا يحبونكم ، وتؤمنون بالكتاب كله)، أي تؤمنون بكتابكم، وبما مضى من الكتب قبل ذلك وهم يكفرون بكتابكم ، فأنتم كنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم (و إذا لقوكم قالوا آمنا ، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ، قل موتوا بغيظكم ) إلى آخر القصة. دخول أبي بكر بيت المدراس ، و ما كان بينه و بين فنحاص ودخل أبو بكر الصديق بيت المدراس على يهود ، فوجد منهم ناسا كثيرا قد اجتمعوا إلى رجل منهم ، يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم، ومعه حبر من أحبارهم ، يقال له : أشيع ؛ فقال أبو بكر لفنحاص : ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم ، فوالله إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله ، وقد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوارة والإنجيل ؛ فقال فنحاص لأبي بكر : والله يا أبا بكر ، ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، وما هو عنا بغنيّ ، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا ، كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويُعطيناه ، ولو كان عنا غنيا ما أعطانا الربا . قال : فغضب أبو بكر ، فضرب وجه فنحاص ضربا شديدا ، وقال : والذي نفسي بيده ، لولا العهد الذي بيننا وبينكم ، لضربت رأسك ، أي عدو الله . قال : فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا محمد ، انظر ما صنع بي صاحبك ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله ، إن عدو الله قال قولا عظيما ، إنه زعم أن الله فقير وأنهم أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، وضربت وجهه . فجحد ذلك فنحاص ، وقال : ما قلت ذلك . فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص ردا عليه ، وتصديقا لأبي بكر : ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ، سنكتب ما قالوا ، وقتلهم الأنبياء بغير حق ، ونقول ذوقوا عذاب الحريق ) . ونزل في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وما بلغه في ذلك من الغضب : ( ولتسمعنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا . وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور ) . ثم قال فيما قال فنحاص والأحبار معه من يهود : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لَتُبينُّنه للناس ولا تكتمونه ، فنبذوه وراء ظهورهم ، واشتروا به ثمنا قليلا ، فبئس ما يشترون . لا تحسبن الذين يفرحون بما أَتَوْا ، ويحبون أن يحُمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ، ولهم عذاب أليم ) يعني فنحاص ، وأشيع وأشباههما من الأحبار ، الذين يفرحون بما يصيبون من الدنيا على ما زينوا للناس من الضلالة ، ويحبون أن يحُمدوا بما لم يفعلوا ؛ أن يقول الناس : علماء ، وليسوا بأهل علم ، لم يحملوهم على هدى ولا حق ، ويحُبون أن يقول الناس : قد فعلوا .
قال ابن إسحاق : وكان كردم بن قيس ، حليف كعب بن الأشرف ، وأسامة بن حبيب ، ونافع بن أبي نافع ، وبحري بن عمرو ، وحيي بن أخطب ، ورفاعة بن زيد بن التابوت ، يأتون رجالا من الأنصار كانوا يخالطونهم ، ينتصحون لهم ، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فييقولون لهم : لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها ، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون علام يكون . فأنزل الله فيهم : {( الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله )} ، أي من التوراة ، التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا . والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) ... إلى قوله : ( وكان الله بهم عليما).
قال ابن هشام : نطمس : نمسحها فنسويها ، فلا يُرى فيها عين ولا أنف ولا فم ، ولا شيء بما يرى في الوجه ؛ وكذلك ( فطمسنا أعينهم ) . المطموس العين : الذي ليس بين جفنيه شق . ويقال : طمست الكتاب والأثر ، فلا يُرى منه شيء . قال الأخطل ، واسمه الغوث بن هبيرة بن الصلت التغلبي ، يصف إبلا كلفها ما ذكر :
وتكلِيفُناها كل طامسة الصُّوى |
|
شَطون ترى حِرباءها يتملـمـلُ |
وهذا البيت في قصيدة له . قال ابن هشام : واحدة الصُّوى : صُوّة . والصُوى : الأعلام التي يُستدل بها على الطرق والمياه . قال ابن هشام : يقول : مُسحت فاستوت بالأرض ، فليس فيها شيء ناتىء .
قال ابن إسحاق : وكان الذين حزّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة : حيي بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، أبو رافع ، والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق ، وأبو عمار ، ووَحْوح بن عامر ، وهوذة بن قيس . فأما وحوح ، وأبو عمار ، وهوذة ، فمن بني وائل ، وكان سائرهم من بني النضير . فلما قدموا على قريش قالوا : هؤلاء أحبار يهود ، وأهل العلم بالكتاب الأول ، فسلوهم : دينُكم خير أم دين محمد ؟ فسألوهم ، فقالوا : بل دينكم خير من دينه ، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه . فأنزل الله تعالى فيهم : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) . تفسير ابن هشام لبعض الغريب قال ابن هشام : الجبت عند العرب : ما عبد من دون الله تبارك وتعالى . و الطاغوت : كل ما أضل عن الحق . وجمع الجبت : جبوت ؛ وجمع الطاغوت : طواغيت . قال ابن هشام : وبلغنا عن ابن أبي نجيح أنه قال : الجبت : السحر ؛ والطاغوت : الشيطان . ( ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا ) . قال ابن إسحاق : إلى قوله تعالى : ( أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله ، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة ، وآتيناهم ملكا عظيما ) .
قال ابن إسحاق : وقال سُكين وعدي بن زيد : يا محمد ، ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ، وأوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان ، وآتينا داود زبورا . ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ، ورسلا لم نقصصهم عليك ، وكلم الله موسى تكليما . رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وكان الله عزيزا حكيما ) . ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة منهم ، فقال لهم : أما والله إنكم لتعلمون أني رسول من الله إليكم ؛ قالوا : ما نعلمه ، وما نشهد عليه . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم : ( لكنِ الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وكفى بالله شهيدا ) .
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمان بن أضاء ، وبحري بن عمرو ، وشأس بن عدي ، فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الله ، وحذرهم نقمته ؛ فقالوا : ما تخُوفنا يا محمد ، نحن والله أبناء الله وأحباؤه ، كقول النصارى . فأنزل الله تعالى فيهم : ( وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه ، قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق ، يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء ، ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير ) .
قال ابن إسحاق : ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود إلى الإسلام ورغبهم فيه ، وحذرهم غير الله وعقوبته ، فأبوا عليه ، وكفروا بما جاءهم به ، فقال لهم معاذ بن جبل ، وسعد بن عبادة ، وعقبة بن وهب : يا معشر يهود ، اتقوا الله ، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله ، و لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه لنا بصفته ؛ فقال رافع بن حريملة ، ووهب بن يهوذا : ما قلنا لكم هذا قط ، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى ، ولا أرسل بشيرا ولا نذيرا بعده . فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهما : ( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يُبَيِّن لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير ، فقد جاءكم بشير ونذير ، والله على كل شيء قدير ) . ثم قص عليهم خبر موسى وما لقي منهم ، وانتقاضهم عليه ، وما ردوا عليه من أمر الله حتى تاهوا في الأرض أربعين سنة عقوبة .
قال ابن إسحاق : وحدثني ابن شهاب الزهري أنه سمع رجلا من مزينة ، من أهل العلم ، يحدث سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة حدثهم : أن أحبار يهود اجتمعوا في بيت المدراس ، حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقد زنى رجل منهم بعد إحصانه بامرأة من يهود قد أحصنت ، فقالوا : ابعثوا بهذا الرجل وهذه المرأة إلى محمد ، فسلوه كيف الحكم فيهما ، وولوه الحكم عليهما ، فإن عمل فيهما بعملكم من التَّجْبِية - والتجبية : الجلد بحبل من ليف مطلي بقار ، ثم تسود وجوههما ، ثم يحملان على حمارين ، وتجُعل وجوههما من قبل أدبار الحمارين - فاتبعوه ، فإنما هو ملك ، وصدقوه ؛ وإن هو حكم فيهما بالرجم فإنه نبي ، فاحذروه على ما في أيديكم أن يسلبكموه . فأتوه ، فقالوا : يا محمد ، هذا رجل قد زنى بعد إحصانه بامرأة قد أحصنت ، فاحكم فيهما ، فقد وليناك الحكم فيهما . فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى أحبارهم في بيت المدراس فقال : يا معشر يهود ، أخرجوا إلي علماءكم ، فأخرج له عبدالله بن صوريا . قال ابن إسحاق : وقد حدثني بعض بني قريظة : أنهم قد أخرجوا إليه يومئذ ، مع ابن صوريا ، أبا ياسر بن أخطب ، ووهب بن يهوذا ، فقالوا : هؤلاء علماؤنا . فسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى حصّل أمرهم ، إلى أن قالوا لعبدالله بن صوريا : هذا أعلم من بقي بالتوراة . قال ابن هشام : من قوله : ( وحدثني بعض بني قريظة ) . إلى : ( أعلم من بقي بالتوراة ) . من قول ابن إسحاق ، وما بعده من الحديث الذي قبله . فخلا به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان غلاما شابا من أحدثهم سنا ، فألظّ به رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة ، يقول له : يابن صوريا ، أنشدك الله وأُذكِّرك بأيامه عند بني إسرائيل ، هل تعلم أن الله حكم فيمن زنى بعد إحصانه بالرجم في التوراة ؟ قال : اللهم نعم ، أما والله يا أبا القاسم إنهم ليعرفون أنك لنبي مرسل ولكنهم يحسدونك . قال : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر بهما فَرُجما عند باب مسجده في بني غنم بن مالك بن النجار . ثم كفر بعد ذلك ابن صوريا ، وجحد نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق : فأنزل الله تعالى فيهم: ( يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ، ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك ) . أي الذين بعثوا منهم من بعثوا وتخلفوا ، وأمروهم بما أمروهم به من تحريف الحكم عن مواضعه . ثم قال : ( يحرفون الكلم من بعد مواضعه ، يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه ، وإن لم تؤتوه ) ، أي الرجم ( فاحذروا ) إلى آخر القصة . قال ابن إسحاق : وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن رُكانة عن إسماعيل بن إبراهيم ، عن ابن عباس ، قال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما ، فرجما بباب مسجده ، فلما وجد اليهودي مسَّ الحجارة قام إلى صاحبته فجنأ عليها ، يقيها مس الحجارة ، حتى قتلا جميعا . قال : وكان ذلك مما صنع الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في تحقيق الزنا منهما . قال ابن إسحاق : وحدثني صالح بن كيسان ، عن نافع مولى عبدالله ابن عمر ، عن عبدالله بن عمر ، قال : لما حكَّموا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهما ، دعاهم بالتوراة ، وجلس حبر منهم يتلوها ، وقد وضع يده على آية الرجم ، قال : فضرب عبدالله بن سلام يد الحبر ، ثم قال : هذه يا نبي الله آية الرجم ، يأبى أن يتلوها عليك . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ويحكم يا معشر يهود ! ما دعاكم إلى ترك حكم الله وهو بأيديكم ؟ قال : فقالوا : أما والله إنه قد كان فينا يُعمل به ، حتى زنى رجل منا بعد إحصانه ، من بيوت الملوك وأهل الشرف ، فمنعه الملك من الرجم ، ثم زنى رجل بعده ، فأراد أن يرجمه ، فقالوا : لا والله ، حتى ترجم فلانا ، فلما قالوا له ذلك اجتمعوا فأصلحوا أمرهم على التجبية ، وأماتوا ذكر الرجم والعمل به . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأنا أول من أحيا أمر الله وكتابه وعمل به ، ثم أمر بهما فرجما عند باب مسجده . قال عبدالله بن عمر : فكنت فيمن رجمهما.
قال ابن إسحاق : وحدثني داود بن الحصين عن عكرمة ، عن ابن عباس : أن الآيات من المائدة التي قال الله فيها : {( فاحكم بينهم أو أعرض عنهم ، وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا ، وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط ، إن الله يحب المقسطين )} . إنما أنزلت في الدية بين بني النضير وبين بني قريظة، وذلك أن قتلى بني النضير ، وكان لهم شرف ، يؤدون الدية كاملة ، وأن بني قريظة كانوا يؤدون نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله ذلك فيهم ، فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية سواء . قال ابن إسحاق : فالله أعلم أي ذلك كان .
قال ابن إسحاق : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر منهم : أبو ياسر بن أخطب ، ونافع بن أبي نافع ، وعازر بن أبي عازر ، وخالد ، وزيد ، وإزار بن أبي إزار ، وأشيع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( نؤمن بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أُوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم ، لا نفرق بين أحد منهم ، ونحن له مسلمون ) . فلما ذكر عيسى بن مريم جحدوا نبوته ، وقالوا : لا نؤمن بعيسى بن مريم ولا بمن آمن به . فأنزل الله تعالى فيهم : ( قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل ، وأن أكثركم فاسقون ) .
وأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رافع بن حارثة ، وسلام بن مشكم ، ومالك بن الصيف ، ورافع بن حريملة ، فقالوا : يا محمد ، ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم ودينه ، وتؤمن بما عندنا من التوراة ، وتشهد أنها من الله حق ؟ قال : بلى ، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها مما أخذ الله عليكم من الميثاق فيها ، وكتمتم منها ما أُمرتم أن تبينوه للناس ، فبرئتُ من إحداثكم ؛ قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا ، فإنا على الهدى والحق ، ولا نؤمن بك ، ولا نتبعك . فأنزل الله تعالى فيهم : ( قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، وما أنزل إليكم من ربكم ، وليزيدنّ كثيرا منهم ما أُنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا ، فلا تأس على القوم الكافرين ) . إشراكهم بالله قال ابن إسحاق : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم النحام بن زيد ، وقردم بن كعب ، وبحري بن عمرو ، فقالوا له : يا محمد ، أما تعلم مع الله إلها غيره ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الله لا إله إلا هو ، بذلك بُعثت ، وإلى ذلك أدعو . فأنزل الله فيهم وفي قولهم : ( قل أي شيء أكبر شهادة ، قل الله شهيد بيني وبينكم ، وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ ، أإنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى ، قل لا أشهد ، قل إنما هو إله واحد ، وإنني برىء مما تشركون . الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ؛ الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) .
وكان رفاعة بن زيد بن التابوت ، وسويد بن الحارث ، قد أظهرا الإسلام ونافقا ، فكان رجال من المسلمين يوادّونهم . فأنزل الله تعالى فيهما : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء ، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين ) ... إلى قوله : ( وإذا جاءوكم قالوا آمنا ، وقد دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به ، والله أعلم بما كانوا يكتمون ) .
وقال جبل بن أبي قشير ، وشمويل بن زيد ، لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ، أخبرنا ، متى تقوم الساعة إن كنت نبيا كما تقول ؟ فأنزل الله تعالى فيهما : ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ، قل إنما علمها عند ربي ، لا يجلِّيها لوقتها إلا هو ، ثقلت في السماوات والأرض ، لا تأتيكم إلا بغتة ، يسأونك كأنك حفي عنها ، قل إنما علمها عند الله ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) .
قال ابن هشام : أيان مرساها : متى مرساها . قال قيس بن الحُدادية الخزاعي :
فجئت ومُخْفَى السر بيني وبينها |
|
لأسألها أيان من سـار راجـع ؟ |
وهذا البيت في قصيدة له . ومرساها : منتهاها ، وجمعه : مراس . قال الكميت بن زيد الأسدي :
والمصيبين باب ما أخطا النا سُ |
|
ومـرسـى قـواعـد الإسـلام |
وهذا البيت في قصيدة له . ومُرسَى السفينة : حيث تنتهي . وحَفِيّ عنها ( على التقديم والتأخير ) يقول: يسألونك عنها كأنك حفي بهم فتخبرهم بما لا تخبر به غيرهم . والحفيّ : البَرّ المتعهد . وفي كتاب الله: ( إنه كان بي حفيا ) . وجمعه : أحفياء . وقال أعشى بني قيس بن ثعلبة :
فإن تسألي عني فيا رب سائل |
|
حفي عن الأعشى به حيث أصعدا |
وهذا البيت في قصيدة له . والحفي أيضا : المستحفي عن علم الشيء ، المبالغ في طلبه .
قال ابن إسحاق : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلاّم بن مشكم ، ونعمان بن أبي أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية ، وشأس بن قيس ، ومالك بن الصيف ، فقالوا له : كيف نتبعك وقد تركت قِبلتنا، وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله ؟ فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم : (وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل ، قاتلهم الله أنى يؤفكون ) إلى آخر القصة .
قال ابن هشام : يضاهئون : أي يشاكل قولهم قول الذين كفروا ، نحو أن تحدث بحديث ، فيحدث آخر بمثله ، فهو يضاهيك .
قال ابن إسحاق : وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمود بن سيحان ، ونعمان بن أضاء ، وبحري بن عمرو ، وعزير بن أبي عزير ، وسلام بن مشكم ، فقالوا : احق يا محمد أن هذا الذي جئت به لحق من عند الله ، فإنا لا نراه متسقا كما تتسق التوارة ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله إنكم لتعرفون أنه من عند الله . تجدونه مكتوبا عندكم في التوارة ، ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ما جاءوا به ؛ فقالوا عند ذلك ، وهم جميع : فنحاص ، وعبدالله بن صوريا ، وابن صلوبا، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق ، وأشيع ، وكعب بن أسد ، وشمويل بن زيد ، وجبل بن عمرو بن سكينة: يا محمد ، أما يعلمك هذا إنس ولا جن ؟ قال : فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما والله إنكم لتعلمون أنه من عند الله ، و إني لرسول الله : تجدون ذلك مكتوبا عندكم في التوراة ؛ فقالوا : يا محمد ، فإن الله يصنع لرسوله إذا بعثه ما يشاء ويقدر منه على ما أراد ، فأنزل علينا كتابا من السماء نقرؤه ونعرفه ، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به . فأنزل الله تعالى فيهم وفيما قالوا : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) .
قال ابن هشام : الظهير : العون . ومنه قول العرب : تظاهروا عليه ، أي تعاونوا عليه . قال الشاعر :
يا سَميّ النبي أصبحت للدّ |
|
ين قواما وللإمام ظـهـيرا |
أي عونا ؛ وجمعه : ظهراء .
قال ابن إسحاق : وحُدثت عن سعيد بن جبير أنه قال : أتى رهط من يهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا محمد ، هذا الله خلَق الخلق ، فمن خلق الله ؟ قال : فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انتُقع لونه ، ثم ساورهم غضبا لربه . قال : فجاءه جبريل عليه السلام فسكنه ، فقال : خفِّض عليك يا محمد ، وجاءه من الله بجواب ما سألوه عنه : ( قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد ) . قال : فلما تلاها عليهم ، قالوا : فصف لنا يا محمد كيف خَلْقه ؟ كيف ذراعه ؟ كيف عضده ؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد من غضبه الأول ، وساورهم . فأتاه جبريل عليه السلام ، فقال له مثل ما قال له أول مرة ، وجاءه من الله تعالى بجواب ما سألوه . يقول الله تعالى : ( وما قدروا الله حق قدره ، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة ، والسماوات مطويات بيمينه ، سبحانه وتعالى عما يشركون ) . قال ابن إسحاق : وحدثني عتبة بن مسلم ، مولى بني تيم ، عن أبي سلمة بن عبدالرحمن ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( يُوشك الناس أن يتساءلوا بينهم حتى يقول قائلهم : هذا الله خلق الخلق ، فمن خلق الله ؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا : ( قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد ) . ثم ليتفل الرجل عن يساره ثلاثا ، وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ) .
قال ابن هشام : الصمد : الذي يُصمد إليه ، ويفزع إليه ، قالت هند بنت معبد بن نضلة تبكي عمرو بن مسعود ، وخالد بن نضلة ، عَمَّيْها الأسديين ، وهما اللذان قتل النعمان بن المنذر اللخمي ، وبنى الغريَّيْنِ اللذين بالكوفة عليها :
ألا بكر الناعي بخيري بني أسدْ |
|
بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمدْ |