الجزء الأول - ذكر سلطان بركي

وهو السلطان محمد بن آيدين من خيار السلاطين وكرمائهم وفضلائهم، ولما بعث إليه المدرس يعلمه بخبري، وجه نائبه إلي لآتيه، فأشار علي المدرس أن أقيم حتى يبعث إلي ثانية، وكان المدرس إذ ذاك قد خرجت برجله قرحة، لا يستطيع الركوب بسببها، وانقطع عن المدرسة، ثم إن السلطان بعث في طلبي ثانية، فشق ذلك على المدرس فقال: أنا لا أستطيع الركوب، ومن غرضي التوجه معك، لأقرر لدى السلطان ما يجب لك. ثم إنه تحامل ولف على رجله خرقاً، وركب ولم يضع رجله في الركاب. وركبت أنا وأصحابي وصعدنا إلى الجبل، في طريق قد نحتت وسويت، فوصلنا إلى موضع السلطان عند الزوال، فنزلنا على نهر ماء تحت ظلال شجر الجوز، وصادفنا السلطان في قلق وشغل بال، بسبب فرار ابنه الأصغر سليمان عنه إلى صهره السلطان أرخان بك، فلما بلغه خبر وصولنا بعث إلينا ولديه: خضر بك وعمر بك، فسلما على الفقيه، وأمرهما بالسلام علي ففعلا ذلك، وسألاني عن حالي ومقدمي وانصرفا. وبعث إلي ببيت يسمى عندهم الخرقة " خركاه"، وهو عصي من الخشب تجمع شبه القبة، وتجعل عليها اللبود، ويفتح أعلاه لدخول الضوء والريح، مثل البادهنج. ويسد متى احتيج إلى شده. وأتوا بالفرش ففرشوه، وقعد الفقيه، وقعدت معه أصحابه وأصحابي خارج البيت تحت ظلال شجر الجوز، وذلك الموضع شديدة البرد، ومات لي تلك الليلة فرس من شدة البرد. ولما كان من الغد ركب المدرس إلى السلطان وتكلم في شأني بما اقتضته فضائله، ثم عاد إلي وأعلمني بذلك. وبعد ساعة وجه السلطان في طلبنا معاً، فجئنا إلى منزله ووجدناه قائماً، فسلمنا عليه، وقعد الفقيه عن يمينه وأنا مما يلي الفقيه. فسألني عن حالي ومقدمي، وسألني عن الحجاز ومصر والشام واليمن والعراقين وبلاد الأعاجم. ثم حضر الطعام فأكلنا وانصرفنا، وبعث الأرز والدقيق والسمن في كروش الأغنام، وكذلك فعل الترك. وأقمنا على تلك الحال أياماً، يبعث إلينا كل يوم، فنحضر طعامه، وأتى يوماً إلينا بعد الظهر، وقعد الفقيه في صدر المجلس، وأنا عن يساره، وقعد السلطان عن يمين الفقيه، وذلك لعزة الفقهاء عند الترك، وطلب مني أن أكتب له أحاديث من حديث رسول صلى الله عليه وسلم فكتبتها له، وعرضها الفقيه عليه في تلك الساعة فأمره أن يكتب له شرحها باللسان التركي، ثم قام فخرج، ورأى الخدام يطبخون لنا الطعام تحت ظلال الجوز بغير إدام ولا خضر. فأمر بعقاب صاحب خزانته، وبعث بالأبزار والسمن. وطالت إقامتنا بذلك الجبل، فأدركني الملل وأردت الإنصراف. وكان الفقيه أيضاً قد مل من المقام هنالك، فبعث إلى السلطان يخبره أني أريد السفر. فلما كان من الغد بعث السلطان نائبه، فتكلم مع المدرس بالتركية، ولم أكن إذ ذاك أفهمها، فأجابه عن كلامه وانصرف. فقال لي المدرس: أتدري ماذا قال:؟ قلت: لا أعرف ما قال. قال: إن السلطان بعث إلي ليسألني ماذا يعطيك. فقلت له: عنده الذهب والفضة والخيل والعبيد فليعطه ما أحب من ذلك. فذهب إلى السلطان ثم عاد إلينا. فقال: إن السلطان يأمر أن تقيما هنا اليوم، وتنزلا معه غداً إلى داره بالمدينة. ولما كان من الغد بعث فرساً جيداً من مراكبه، ونزل ونحن معه إلى المدينة. فخرج الناس لاستقباله، وفيهم القاضي المذكور آنفاً وسواه، ودخل السلطان ونحن معه، فلما نزل بباب داره ذهبت مع المدرس إلى ناحية المدرسة، فدعا بنا وأمرنا بالدخول معه إلى داره. ولما وصلنا إلى دهليز الدار وجدنا من خدامه نحو عشرين، صورهم فائقة الحسن وعليهم ثياب الحرير وشعورهم مفروقة وألوانهم ساطعة البياض مشربة بحمرة. فقلت للفقيه: ما هذه الصور الحسان ؟ قال: هؤلاء فتيان روميون. وصعدنا مع السلطان درجاً كثيرة إلى أن انتهينا إلى مجلس حسن في وسطه صهريج ماء، وعلى كل ركن من أركانه صورة سبع نحاس يمج ماء من فيه، وتدور بهذا المجلس مصاطب متصلة مفروشة، وفوق إحداها مرتبة السلطان. فلما انتهينا إليها نحى السلطان مرتبته بيده، وقعد معنا على الأقطاع، وقعد الفقيه عن يمينه، والقاضي مما يلي الفقيه، وأنا مما يلي القاضي، وقعد القراء أسفل المصطبة، والقراء لا يفارقونه حيث كان من مجالسه. ثم جاءوا بصحاف من الذهب والفضة مملوءة بالجلاب المحلول، قد عصر فيه ماء الليمون، وجعل فيه كعكات صغار مقسومة، وفيها ملاعق ذهب وفضة، وجاءوا معها بصحاف صيني فيها مثل ذلك، وفيها ملاعق خشب، فمن تورع استعمل صحاف الصيني وملاعق الخشب. وتكلمت بشكر السلطان وأثنيت على الفقيه، وبالغت في ذلك فأعجب ذلك السلطان وسره.

حكاية

وفي أثناء قعودنا مع السلطان أتى شيخ على رأسه عمامة لها ذؤابة فسلم عليه، وقام له القاضي والفقيه، وقعد أمام السلطان فوق المصطبة، والقراء أسفل منه. فقلت للفقيه: من هذا الشيخ ؟ فضحك وسكت. ثم أعدت السؤال، فقال لي: هذا يهودي طبيب، وكلنا محتاج إليه. فلأجل هذا فعلنا ما رأيت من القيام له. فأخذني ما حدث وأبديت الامتعاض. فقلت لليهودي: يا ملعون ابن ملعون، كيف تجلس فوق قراء القرآن، وأنت يهودي ؟ وشتمته ورفعت صوتي، فعجب السلطان وسأل عن معنى كلامي فأخبره الفقيه به. وغضب اليهودي فخرج عن المجلس في أسوأ حال. ولما انصرفنا قال لي الفقيه: أحسنت بارك الله فيك. إن أحداً سواك لا يتجاسر على مخاطبته بذلك، ولقد عرفته بنفسه.

حكاية آخرى

وسألني السلطان في هذا المجلس، فقال لي هل رأيت حجراً نزل من السماء ؟ فقلت: ما رأيت ذلك ولا سمعت به. فقال لي: إنه قد نزل بخارج بلدنا هذا حجر من السماء. ثم دعا رجالاً وأمرهم أن يأتوا بالحجر، فأتوا بحجر أسود أصم شديد الصلابة، له بريق. قدرت أن زنته تبلغ قنطاراً. وأمر السلطان بإحضار القطاعين، فحضر أربعة منهم فأمرهم أن يضربوه، فضربوا عليه ضربة رجل واحد أربع مرات بمطارق الحديد، فلم يؤثروا فيه شيئاً، فعجبت من أمره. وأمر برده إلى حيث كان. وفي ثالث يوم من دخولنا إلى المدينة مع السلطان، صنع صنيعاً عظيماً، ودعا الفقراء والمشايخ وأعيان العسكر ووجوه أهل المدينة، فطعموا وقرأ القراء القرآن بالأصوات الحسان، وعدنا إلى منزلنا بالمدرسة. وكان يوجه الطعام والفاكهة والحلواء والشمع في كل ليلة. ثم بعث إلي مائة مثقال ذهباً وألف درهم وكسوة كاملة وفرساً ومملوكاً رومياً يسمى ميخائيل، وبعث لكل من أصحابي كسوة ودراهم. كل هذا بمشاركة المدرس محيي الدين، جزاه الله تعالى خيراً، وودعنا، وانصرفنا. وكانت مدة مقامنا عنده بالجبل والمدينة أربعة عشر يوماً. ثم قصدنا مدينة تيرة وهي من بلاد هذا السلطان، " وضبط اسمها بكسر التاء المعلوة وياء مد وراء " مدينة حسنة ذات انهار وبساتين فواكه. نزلنا منها بزاوية الفتى محمد، وهو من كبار الصالحين، صائم الدهر، وله أصحاب على طريقته. فأضافنا ودعا لنا. وسرنا إلى مدينة أياسلوق " وضبط اسمها بفتح الهمزة والياء آخر الحروف وسين مهمل مضموم ولام مضموم وآخره قاف " مدينة كبيرة قديمة معظمة عند الروم، وفيها كنيسة كبيرة مبنية بالحجارة الضخمة، ويكون طول الحجر منها عشرة أذرع فما دونها، منحوتة أبدع نحت. والمسجد الجامع بهذه المدينة من أبدع مساجد الدنيا، لا نظير له في الحسن، وكان كنيسة للروم معظمة عندهم يقصدونها من البلاد، فلما فتحت هذه المدينة جعلها المسلمون مسجداً جامعاً، وحيطانه من الرخام الملون، وفرشه الرخام الأبيض، وهو مسقف بالرصاص، وفيه إحدى عشرة قبة منوعة، في وسط كل قبة صهريج ماء، والنهر يشقه، وعلى جانبي النهر الأشجار المختلفة الأجناس ودوالي العنب ومعرشات الياسمين. وله خمسة عشر باباً. وأمير هذه المدينة خضر بك ابن السلطان محمد بن آيدين، وقد كنت رأيته عند أبيه ببركي ثم لقيته بهذه المدينة خارجها. فسلمت عليه، وأنا راكب، فكره ذلك مني، وكان سبب حرماني لديه. فإن عادتهم إذا نزل لهم الوارد نزلوا وأعجبهم ذلك. ولم يبعث إلي إلا ثوباً واحداً من الحرير المذهب يسمونه النخ " بفتح النون وخاء معجم ". واشتريت بهذه المدينة جارية رومية بكراً بأربعين ديناراً ذهباً، ثم سرنا إلى المدينة يزمير " وضبط اسمها بياء آخر الحروف مفتوحة وزاي مسكن وميم مكسورة وياء مد وراء " مدينة كبيرة على ساحل البحر، معظمها خراب. ولها قلعة متصلة بأعلاها. نزلنا منها بزاوية الشيخ يعقوب، وهو من الأحمدية، صالح فاضل. ولقينا بخارجها الشيخ عز الدين بن أحمد الرفاعي، ومعه زاده الأخلاطي من كبار المشايخ، ومعه مائة فقير من المولهين. وقد ضرب لهم الأمير الأخية، وصنع الشيخ يعقوب ضيافة، وحضرتها، واجتمعت بهم. وأمير هذه المدينة عمر بك ابن السلطان محمد بن آيدين المذكور آنفاً، وسكناه بقلعتها، وكان حين قدومنا عليها عند أبيه، ثم قدم بعد خمس من نزولنا بها. فكان من مكارمه أن أتى إلي بالزاوية فسلم علي واعتذر، وبعث ضيافة عظيمة، وأعطاني بعد ذلك مملوكاً رومياً خماسياً اسمه نقوله، وثوبين من الكمخا، وهي ثياب حرير تصنع ببغداد وتبريز ونيسابور وبالصين، وذكر لي الفقيه الذي يؤم به أن الأمير لم يبق له مملوك سوى ذلك المملوك الذي أعطاني بسبب كرمه رحمه الله، وأعطى أيضاً للشيخ عز الدين ثلاثة أفراس مجهزة، وآنية فضية كبيرة تسمى عندهم المشربة مملوءة دراهم، وثياباً من الملف والمرعز والقسي والكمخا وجواري وغلماناً. وكان هذا الأمير كريماً صالحاً كثير الجهاد، له أجفان غزوية يضرب بها على نواحي القسطنطينية العظمى فيسبي ويغنم، ويفني ذلك كرماً وجوداً، ثم يعود إلى الجهاد، إلى أن اشتدت على الروم وطأته فرفعوا أمرهم إلى البابا فأمر نصارى جنوة وإفرانسة بغزوه. وجهز جيشاً من رومية، وطرقوا مدينته ليلاً في عدد كثير من الأجفان، وملكوا المرسى والمدينة. ونزل إليهم الأمير عمر من القلعة فقاتلهم واستشهد هو وجماعة من ناسه، واستقر النصارى بالبلد، ولم يقدروا على القلعة لمنعتها. ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة مغنيسية " وضبط اسمها بميم مفتوحة وغين معجمة نسكنة ونون مكسورة وياء مد وسين مهملة مكسورة وياء آخر الحروف مشددة " نزلنا بها عشي يوم عرفة بزاوية رجل من الفتيان، وهي مدينة كبيرة حسنة، في سفح جبل، وبسيطها كثير الأنهار والعيون والبساتين والفواكه.