الجزء الأول - ذكر سفري إلى مدينة بلغار

وكنت سمعت بمدينة بلغار فأردت التوجه إليها لأرى ما ذكر عنها من انتهاء قصر الليل بها وقصر النهار أيضاً، في عكس ذلك الفصل. وكان بينها وبين محلة السلطان مسيرة عشر. فطلبت منه من يوصلني إليها فبعث معي من أوصلني اليها وردني إليه. ووصلتها في رمضان، فلما صلينا المغرب، أفطرنا. وأذن بالعشاء في أثناء إفطارنا، فصليناها وصلينا التراويح والشفع والوتر. وطلع الفجر إثر ذلك. وكذلك يقصر النهار بها في فصل قصره أيضاً. وأقمت بها ثلاثاً.

ذكر أرض الظلمة

وكنت أردت الدخول إلى أرض الظلمة، والدخول إليها من بلغار، وبينهما أربعون يوماً. ثم أضربت عن ذلك لعظم المؤونة فيه وقلة الجدوى. والسفر إليها لا يكون إلا في عجلات صغار تجرها كلاب كبار. فإن تلك المفازة فيها الجليد، فلا يثبت قدم الآدمي ولا حافر الدابة فيها. والكلاب لها الأظفار، فتثبت أقدامها في الجليد. ولا يدخلها إلا الأقوياء من التجار الذين يكون لأحدهم مائة عجلة أو نحوها، موقرة بطعامه وشرابه وحطبه. فإنها لا شجر فيها ولا حجر ولا مدر. والدليل بتلك الأرض هو الكلب الذي قد سار فيها مراراً كثيرة، وتنتهي قيمته إلى ألف دينار ونحوها، وتربط العربة إلى عنقه، ويقرن معه ثلاثة من الكلاب. ويكون هو المقدم، تتبعه سائر الكلاب بالعربات. فإذا وقف وقفت. وهذا الكلب لا يضربه صاحبه ولا ينهره، وإذا حضر الطعام أطعم الكلاب أولاً قبل بني آدم، وإلا غضب الكلب وفر وترك صاحبه للتلف. فإذا كملت للمسافرين بهذه الفلاة أربعون مرحلة، نزلوا عند الظلمة، وترك كل واحد منهم ما جاء به من المتاع هنالك، وعادوا إلى منزلهم المعتاد. فإذا كان من الغد عادوا لتفقد متاعهم، فيجدون بإزائه من السمور والسنجاب والقاقم، فإن أرضى صاحب المتاع ما وجده إزاء متاعه أخذه، وإن لم يرضه تركه، فيزيدونه، وربما رفعوا متاعهم، أعني أهل الظلمة، وتركوا متاع التجار. وهكذا بيعهم وشراؤهم. ولا يعلم الذين يتوجهون إلى هنالك من يبايعهم ويشاريهم، أمن الجن هو أم الإنس. ولا يرون أحداً. والقاقم هو أحسن أنواع الفراء. وتساوي الفروة منه ببلاد الهند ألف دينار، وصرفها من ذهبنا مائتان وخمسون. وهي شديدة البياض، من جلد حيوان صغير في طول الشبر، وذنبه طويل يتركونه في الفروة على حاله. والسمور دون ذلك. تساوي الفروة منه أربعمائة دينار فما دونها. ومن خاصية هذه الجلود أنه لا يدخلها القمل. وأمراء الصين وكبارها يجعلون منه الجلد الواحد متصلاُ بفرواتهم عند العنق. وكذلك تجار فارس والعراقين. وعدت من مدينة بلغار مع الأمير الذي بعثه السلطان في صحبتي، فوجدت محلة السلطان على الموضع المعروف ببش دغ، وذلك في الثامن والعشرين من رمضان. وحضرت معه صلاة العيد، وصادف يوم العيد يوم الجمعة.

ذكر ترتيبهم في العيد

ولما كان صباح يوم العيد ركب السلطان في عساكره العظيمة، وركبت كل خاتون عربتها ومعها عساكرها، وركبت بنت السلطان والتاج على رأسها، إذ هي الملكة على الحقيقة، ورثت الملك من أمها، وركب أولاد السلطان، كل واحد في عسكره. وكان قد قدم لحضور العيد قاضي القضاة شهاب الدين السايلي، ومعه جماعة من الفقهاء والمشايخ. فركبوا وركب القاضي حمزة والإمام بدر الدين القوامي والشريف ابن عبد الحميد. وكان ركوب هؤلاء الفقهاء مع تين بك ولي عهد السلطان، ومعهم الأطبال والأعلام. فصلى بهم القاضي شهاب الدين وخطب أحسن خطبة. وركب السلطان، وانتهى إلى برج خشب يسمى عندهم الكشك، فجلس فيه ومعه خواتينه، ونصب برج ثان دونه، فجلس فيه ولي عهده وابنته صاحبة التاج. ونصب برجان دونهما عن يمينه وشماله، فيهما أبناء السلطان وأقاربه. ونصبت الكراسي للأمراء وأبناء الملوك، وتسمى الصندليات، عن يمين البرج وشماله، فجلس كل واحد على كرسيه. ثم نصبت طبلات للرمي، لكل أمير طومان طبلة مختصة به، وأمير طومان عندهم هو الذي يركب له عشرة آلاف. فكان الحاضرون من أمراء طومان سبعة عشر، يقودون مائة وسبعون ألفاً، وعسكره أكثر من ذلك. ونصب لكل أمير شبه منبر فقعد عليه، وأصحابه يلعبون بين يديه. فكانوا على ذلك ساعة. ثم أتي بالخلع، فخلعت على كل أمير خلعة، وعندما يلبسها يأتي إلى أسفل برج السلطان فيخدم، وخدمته أن يمس الأرض بركبته اليمنى، ويمد رجله تحتها، والأخرى قائمة، ثم يؤتى بفرس مسرح ملجم، فيرفع حافره، ويقبل فيه الأمير، ويقوده بنفسه إلى كرسيه. وهنالك يرتبه ويقف مع عسكره. ويفعل هذا الفعل مع كل أمير منهم. ثم ينزل السلطان على البرج ويركب الفرس، وعن يمينه ابنه ولي العهد، وتليه بنته الملكة إيت كجك، وعن يساره ابنه الثاني، وبين يديه الخواتين الأربع في عربات مكسوة بأثواب الحرير المذهب، والخيل التي تجرها مجللة بالحرير المذهب. وينزل جميع الأمراء الكبار والصغار وأبناء الملوك والوزراء والحجاب وأرباب الدولة، فيمشون بين يدي السلطان على أقدامهم، إلى أن يصل الوطاق، والوطاق " بكسر الواو " هو إفراج. وقد نصبت هنالك باركة " باركاه " عظيمة، والباركة عندهم بيت عظيم له أربعة أعمدة من الخشب مكسوة بصفائح الفضة المموهة بالذهب، وفي أعلى كل عمود جامور من الفضة المذهبة له بريق وشعاع، وتظهر هذه الباركة على البعد كأنها ثنية. ويوضع عن يمينها ويسارها سقائف من القطن والكتان، ويفرش ذلك كله بفرش الحرير، وينصب في وسط الباركة السرير الأعظم، وهم يسمونه التخت، وهو من خشب مرصع، وأعواده مكسوة بصفائح فضة مذهبة، وقوائمه من الفضة الخالصة المموهة، وفوقه فرش عظيم وفي وسط هذا السرير الأعظم مرتبة يجلس السلطان والخاتون الكبرى، وعن يمينه مرتبة جلست بها ابنته إيت كجك ومعها الخاتون أردوجا، وعن يساره مرتبة جلست بها الخاتون بيلون ومعها الخاتون كبك، ونصب عن يمين السرير كرسي قعد عليه تين بك ولد السلطان، ونصب عن شماله كرسي قعد عليه جان بك ولده الثاني، ونصبت كراسي عن اليمين والشمال جلس فوقها أبناء الملوك الكبار، ثم الأمراء الصغار، مثل أمراء هزارة، وهم الذين يقودون ألفاً. ثم أتي بالطعام على موائد الذهب والفضة، وكل مائدة يحملها أربعة رجال وأكثر من ذلك. وطعامهم لحوم الخيل والغنم مسلوقة، وتوضع بين يدي كل أمير مائدة، ويأتي الباروجي، وهو مقطع اللحم، وعليه ثياب حرير، وقد ربط عليها فوطة حرير، وفي حزامه جملة سكاكين في أغمادها. ويكون لكل أمير باروجي. فإذا قدمت المائدة قعد بين يدي أميره. ويؤتى بصفحة صغيرة من الذهب أو الفضة فيها ملح محلول بالماء، فيقطع البروجي اللحم قطعاً صغاراً ولهم في ذلك صنعة في قطع اللحم مختلطاً بالعظم، فإنهم لا يأكلون منه إلا ما أختلط بالعظم. ثم يؤتى بأواني الذهب والفضة للشرب، وأكثر شربهم نبيذ العسل. وهم حنفية المذهب، يحللون شرب النبيذ. فإذا أراد السلطان أن يشرب، أخذت ابنته القدح بيدها، وخدمت برجلها، ثم ناولته القدح فشرب. ثم تأخذ قدحاً آخر فتناوله للخاتون الكبرى، فتشرب منه. ثم تناول لسائر الخواتين على ترتيبهن، ثم ولي العهد القدح، ويخدم ويناوله إياه فيشرب. ثم الخواتين ثم أخته، ويخدم جميعهن. ثم يقوم الولد الثاني فيأخذ القدح ويسقي أخاه ويخدم له. ثم يقوم الأمراء الكبار، فيسقي كل واحد منهم ولي العهد ويخدم له، ثم يقوم أبناء الملوك، ويغنون أثناء ذلك بالموالية. وكانت قد نصبت قبة كبيرة أيضاً إزاء المسجد للقاضي والخطيب والشريف وسائر الفقهاء والمشايخ وأنا معهم، فأوتينا بموائد الذهب والفضة يحمل كل واحدة أربعة من كبار الأتراك. ولا يتصرف في ذلك اليوم بين يدي السلطان إلا الكبار، فيأمرهم برفع ما أراد من الموائد إلى من أراد. فكان من الفقهاء من أكل، ومنهم من تورع عن الأكل في موائد الفضة والذهب. ورأيت مد البصر عن اليمين والشمال من العربات عليها روايا القمز. فأمر السلطان بتفريقها على الناس. فأتوا إلي بعربة منها، فأعطيتها لجيراني من الأتراك. ثم أتينا المسجد تنتظر صلاة الجمعة، فأبطأ السلطان. فمن قائل: إنه لا يأتي. لأن السكر قد غلب عليه، ومن قائل: إنه لا يترك الجمعة. فلما كان بعد تمكن الوقت أتى وهو يتمايل، فسلم على السيد الشريف، وتبسم له، وكان يخاطبه بآطا، وهو الأب بلسان التركية. ثم صلينا الجمعة، وانصرف الناس إلى منازلهم. وانصرف السلطان إلى الباركة، فبقى على حاله إلى صلاة العصر. ثم انصرف الناس أجمعون وبقي مع الملك تلك الليلة خواتينه وبنته. ثم كان رحيلنا مع السلطان والمحلة لما انقضى العيد، فوصلا إلى المدينة الحاج ترخان، ومعنى ترخان عندهم الموضع المحرر من المغارم، " وهو بفتح المثناة وسكون الراء وبفتح الخاء المعجم وآخره نون "، والمنسوب إليه هذه المدينة. هو حاج من الصالحين تركي نزل بموضعها، وحرر له السلطان ذلك الموضع. فصار قرية عظمت وتمدنت. وهي من أحسن المدن عظيمة الأسواق مبنية على نهر أتل، وهو من أنهار الدنيا الكبار. وهنالك يقيم السلطان حتى يشتد البرد ويجمد هذا النهر وتجمد المياه المتصلة به، ثم يأمر أهل تلك البلاد فيأتون بالآلاف من أحمال التبن، فيجعلونها على الجليد المنعقد فوق النهر. والتبن هنالك لا تأكله الدواب لأنه يضرها، وكذلك ببلاد الهند، وإنما أكلها الحشيش الأخضر لخصب البلاد. ويسافرون بالعربات فوق هذا النهر والمياه المتصلة به ثلاث مراحل، وربما جازت القوافل فوقه مع آخر فصل الشتاء، فيغرقون ويهلكون. ولما وصلنا مدينة الحاج ترخان رغبت الخاتون بيلون ابنة ملك الروم من السلطان أن يأذن لها في زيارة أبيها لتضع حملها عنده وتعود إليه، فأذن لها. ورغبت منه أن يأذن لي في التوجه صحبتها لمشاهدة القسطنطينية العظمى فمنعني خوفاً علي. فلاطفته وقلت له: إنما أدخلها في حرمتك وجوارك، فلا أخاف من أحد. فأذن لي وودعناه. ووصلني بألف وخمسمائة دينار وخلعة وأفراس كثيرة. وأعطتني كل خاتون منهن سبائك الفضة، وهم يسمونها بصوم " بفتح الصاد المهمل "، واحدتها صومة. وأعطت ابنته أكثر منهن، وكستني وأركبتني واجتمع لي من الخيل والثياب وفروات السنجاب والسمور جملة.