الجزء الأول - ذكر سفري إلى القسطنطينية

وسافرنا في العاشر من شوال في صحبة الخاتون بيلون وتحت حرمتها، ورحل السلطان في تشييعها مرحلة، ورجع هو والملكة وولي عهده، وسافر سائر الخواتين في صحبتها مرحلة ثانية ثم رجعن، وسافر صحبتها الأمير بيدره في خمسة آلاف من عسكره. وكان عسكر الخاتون نحو خمسمائة فارس، منهم خدامها من المماليك والروم نحو مائتين، والباقون من الترك. وكان معها من الجواري نحو مائتين، وأكثرهن روميات. وكان لها من العربات نحو أربعمائة عربة، ونحو ألفي فرس لجرها وللركوب، ونحو ثلثمائة من البقر، ومائتين من الجمال لجرها. وكان معها من الفتيان الروميين عشرة، ومن الهنديين مثلهم. وقائدهم الأكبر يسمى بسنبل الهندي، وقائد الروميين ويسمى بميخائيل، ويقول له الأتراك لؤلؤ، وهو من الشجعان الكبار. وتركت أكثر جواريها وأثقالها بمحلة السلطان إذ كانت قد توجهت برسم الزيارة ووضع الحمل.

وتوجهنا إلى مدينة أكك. وهي " بضم الهمزة وفتح الكاف الأولى " مدينة متوسطة حسنة العمارة كثير الخيرات شديد البرد. وبينهما وبين السرا حضرة السلطان مسيرة عشر؛ وعلى مسيرة يوم من هذه المدينة جبال الروس، وهم نصارى شقر الشعور زرق العيون قباح الصور أهل غدر، وعندهم معادن الفضة. ومن بلادهم يؤتى بالصوم، وهي سبائك الفضة التي يباع ويشتري في هذه البلاد، ووزن الصومة منها خمس أوقي. ثم وصلنا بعد عشر من هذه المدينة إلى مدينة سردق " وضبط اسمها بضم السين المهمل وسكون الراء وفتح الدال المهمل وآخره قاف ". وهي من مدن دشت قفجق على ساحل البحر، ومرساها من أعظم المراسي وأحسنها، وبخارجها البساتين والمياه. وينزلها الترك. وطائفة من الروم تحت ذمتهم، وهم أهل الصنائع. وأكثر بيوتها خشب. وكانت هذه المدينة كبيرة. فخرب معظمها بسبب فتنة وقعت بين الروم والترك. وكانت الغلبة للروم. فانتصر للترك أصحابهم، وقتلوا الروم شر قتلة، ونفوا أكثرهم، وبقي بعضهم تحت الذمة إلى الآن. وكانت الضيافة تحمل إلى الخاتون في كل منزل من تلك البلاد من الخيل والغنم والبقر والدوقي والقمز وألبان البقر والغنم. والسفر في هذه البلاد مضحي ومعشي. وكل أمير بتلك البلاد يصحب الخاتون بعساكره إلى آخر حد بلاده، تعظيماً لها، لا خوفاً عليها، لأن تلك البلاد آمنة. ثم وصلنا إلى البلدة المعروفة باسم بابا سلطوق، وبابا عندهم بمعناه عند البربر سواء، إلا أنهم يفخمون الباء وسلطوق " بفتح السين المهمل واسكان اللام وضم الطاء المهمل وآخره قاف "، ويذكرون أن سلطوق هذا كان مكاشفاً، لكن يذكر عنه أشياء ينكرها الشرع. وهذه البلاد آخر بلاد الأتراك، بينها وبين أول عمالة الروم ثمانية عشر يوماً في برية غير معمورة، منها ثمانية أيام لا ماء بها يتزود لها الماء، ويحمل في الروايا والقرب على العربات، وكان دخولنا إليها في أيام البرد، فلم نحتج إلى كثير من الماء. والأتراك يرفعون الألبان في القرب، ويخلطونها بالدوقي المطبوخ ويشربونها فلا يعطشون. وأخذنا من هذه البلدة في الاستعداد للبرية، واحتجت إلى زيادة أفراس، فأتيت الخاتون، فأعلمتها بذلك. وكنت أسلم عليها صباحاً ومساء ومتى أتتها ضيافة تبعث إلي بالفرسين والثلاثة وبالغنم. فكنت أترك الخيل لأذبحها. وكان من معي من الغلمان، والخدم يأكلون مع أصحابنا الأتراك، فاجتمع لي نحو خمسين فرساً. وأمرت لي الخاتون بخمسة عشر فرساً، وأمرت وكيلها ساروجة الرومي أن يختارها سماناً من خيل المطبخ. وقالت: لا تخف، فإن احتجت إلى غيرها زدناك. ودخلنا البرية في منتصف ذي القعدة. فكان سيرنا من يوم فارقنا السلطان إلى أول البرية تسعة عشر يوماً وإقامتنا خمسة. ورحلنا من هذه البرية ثمانية عشر يوماً مضحى ومعشى، وما رأينا إلا خيراً والحمد لله.

ثم وصلنا بعد ذلك إلى حصن مهتولي، وهو أول عمالة الروم " وضبط اسمه بفتح الميم وسكون الهاء وضم التاء المعلوة وواو مد ولام مكسور وياء " وكانت الروم قد سمعت بقدوم هذه الخاتون على بلادها، فوصلنا إلى هذا الحصن فاستقبلنا كفالي نقوله الرومي، في عسكر عظيم وضيافة عظيمة. وجاءت الخواتين والدايات من دار أبيها ملك القسطنطينية. وبين مهتولي والقسطنطينية مسيرة اثنين وعشرين يوماً، منها ستة عشر يوماً إلى الخليج، وستة منه إلى القسطنطينية. ولا يسافر من هذا الحصن إلا بالخيل والبغال، وتترك العربات به، لأجل الوعر والجبال. وجاء كفالي المذكور ببغال كثيرة، وبعثت إلي الخاتون بستة منها، وأوصت أمير ذلك الحصن بمن تركته من أصحابي وغلماني مع العربات والأثقال، فأمر لهم بدار. ورجع الأمير بيدرة بعساكره، لم يسافر مع الخاتون إلا ناسها، وتركت مسجدها بهذا الحصن، وارتفع حكم الأذان. وكان يؤتى إليها بالخمور في الضيافة فتشربها وبالخنازير، وأخبرني بعض خواصها أنها أكلتها. ولم يبق معها من يصلي إلا بعض الأتراك كان يصلي معنا. وتغيرت البواطن لدخولنا في بلاد الكفر، ولكن الخاتون أوصت الأمير كفالي بإكرامي. ولقد ضرب مرة بعض مماليكه لما ضحك من صلاتنا. ثم وصلنا حصن مسلمة بن عبد الملك، وهم بسفح جبل على نهر زخار، يقال له: اصطقيلي، ولم يبق من هذا الحصن إلا آثاره، وبخارجه قرية كبيرة. ثم سرنا يومين، ووصلنا إلى الخليج، وعلى ساحله قرية كبيرة فوجدنا فيه المد، فأقمنا حتى كان الجزر، وخضناه، وعرضه نحو ميلين. ومشينا أربعة أميال في رمال، ووصلنا الخليج الثاني، فخضناه، وعرضه نحو ثلاثة أميال، ثم مشينا نحو ميلين في حجارة ورمل، ووصلنا الخليج الثالث، وقد ابتدأ المد، فتبعنا فيه، وعرضه ميل واحد. فعرض الخليج كله مائيه ويابسه اثنا عشر ميلاً، وتصير ماء كلها في أيام المطر، فلا تخاض إلا في القوارب. وعلى ساحل هذا الخليج الثالث مدينة الفنيكة " واسمها بفاء مفتوحة ونون وياء مد وكاف مفتوح "، وهي صغيرة، لكنها حسنة مانعة، وكنائسها وديارها حسان، والأنهار تخرقها والبساتين تحفها، ويدخر بها العنب والإجاص والتفاح والسفرجل من السنة إلى الأخرى. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثاً. والخاتون في قصر لأبيها هنالك، ثم قدم أخوها شقيقها اسمه كفالي قراس في خمسة آلاف فارس شاكي السلاح، ولما أرادوا لقاء الخاتون ركب أخوها المذكور فرساً أشهب، ولبس ثياباً بيضاء، وجعل على رأسه مظللاً مكللاً بالجواهر، وجعل عن يمينه خمسة من أبناء الملوك، وعن يساره مثلهم، لابسين البياض أيضاً، وعليهم مظللات مزركشة بالذهب، وجعل بين يديه مائة من المشائين ومائة فارس، قد أسبغوا الدروع على أنفسهم وخيلهم، وكل واحد منهم يقود فرساً مسرجاً مدرعاً، عليه شكة فارس من البيضة المجوهرة والدروع والتركش والقوس والسيف، وبيده رمح في طرف رأسه راية. وأكثر تلك الرماح مكسوة بصفائح الذهب والفضة. وتلك الخيل المقودة هي مراكب ابن السلطان. وقسم فرسانه على أفواج، كل فوج فيه مائتا فارس، لهم أمير قد قدم أمامه عشر من الفرسان شاكين في السلاح، وكل واحد منهم يقود فرساً، وخلفه عشرة من العلامات ملونة بأيدي عشرة من الفرسان، وعشرة أطبال يتقلدها عشرة من الفرسان، ومعهم ستة يضربون الأبواق والأنفار والصرنايات، وهي الغيطات. وركبت الخاتون في مماليكها وجواريها وفتيانها وخدامها، وهم نحو خمسمائة، عليهم ثياب الحرير المزركشة بالذهب المرصعة، وعلى الخاتون حلة يقال لها: النخ، ويقال لها أيضاً: النسيج، مرصعة بالجوهر، وعلى رأسها تاج مرصع، وفرسها مجلل حرير مزركش بالذهب، وفي يده ورجليه خلاخل الذهب، وفي عنقه قلائد مرصعة. وعظم السرج مكسو ذهباً، مكلل جوهراً. وكان التقاؤهما في بسيط من الأرض على نحو ميل من البلد. وترجل لها أخوها لأنه أصغر سناً منها، وقبل ركابها، وقبلت رأسه. وترجل الأمراء وأولاد الملوك، وقبلوا جميعاً ركابها، وانصرفت مع أخيها. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى مدينة كبيرة على ساحل البحر، لا نثبت الآن اسمها، ذات أنهار وأشجار، نزلنا بخارجها. ووصل أخو الخاتون ولي العهد في ترتيب عظيم وعسكر ضخم من عشرة آلاف مدرع، وعلى رأسه تاج، وعن يمينه نحو عشرين من أبناء الملوك، وعن يساره مثلهم، وقد رتب فرسانه على ترتيب أخيه سواء، إلا أن الحفل أعظم، والجمع أكثر. وتلاقت معه أخته في مثل زيها الأول، وترجلا جميعاً. وأتي بخباء حرير فدخلا فيه. فلا أعلم كيفية سلامها، ونزلنا على عشرة أميال من القسطنطينية. فلما كان بالغد خرج أهلها من رجال من رجال ونساء وصبيان، ركباناً ومشاة في أحسن زي وأجمل لباس، وضربت عند الصبح الأطبال والابوا ق والانفار، وركبت العساكر، وخرج السلطان وزوجته أم هذه الخاتون وأرباب الدولة والخواص، وعلى رأس الملك رواق يحمله جملة من الفرسان، ورجال بأيديهم عصي طوال، في أعلى كل عصا شبه كرة من جلد يرفعون بها الرواق، وفي وسط الرواق مثل القبة يرفعها الفرسان بالعصي. ولما أقبل السلطان اختلطت العساكر وكثر العجاج، ولم أقدر على الدخول فيما بينهم، فلزمت أثقال الخاتون وأصحابها، خوفاً على نفسي. وذكر لي أنها لما قربت من أبويها ترجلت وقبلت الأرض بين أيديهما، ثم قبلت حافري فرسيهما. وفعل كبار أصحابها مثل فعلها في ذلك. وكان دخولنا عند الزوال أو بعده إلى القسطنطينية العظمى، وقد ضربوا نواقيسهم حتى ارتجت الآفاق لاختلاط أصواتها. ولما وصلنا الباب الأول من أبواب قصر الملك وجدنا به مائة رجل، معهم قائد لهم فوق دكانه. وسمعتهم يقولون: سراكنوا سراكنوا، ومعناه المسلمون. ومنعونا من الدخول. فقال لهم أصحاب الخاتون: إنهم من جهتنا. فقالوا: لا يدخلون إلا بإذن. فأقمنا بالباب، وذهب بعض أصحاب الخاتون، فبعث من أعلمها بذلك، وهي بين يدي والدها، فذكرت له شأننا فأمر بدخولنا. وعين لنا داراً بمقربة من دار الخاتون، وكتب لنا أمراً بأن لا نعترض حيث نذهب من المدينة، ونودي بذلك في الأسواق.وأقمنا بالدار ثلاثاً، فبعث إلينا الضيافة من الدقيق والخبز والغنم والدجاج والسمن والفاكهة والحوت والدراهم والفرش. وفي اليوم الرابع دخلنا على السلطان.

ذكر سلطان القسطنطينية

واسمه تكفور " بفتح التاء المثناة وسكون الكاف وضم الفاء وواو وراء " ابن السلطان جرجيس. وأبوه السلطان جرجيس بقيد الحياة، لكنه تزهد وترهب وانقطع للعبادة في الكنائس، وترك الملك لولده وسنذكره. وفي اليوم الرابع من وصولنا إلى القسطنطينية بعثت إلي الخاتون الفتى سنبل الهندي، فأخذ بيدي وأدخلني إلى القصر، فجزنا أربعة أبواب، في كل باب سقائف بها رجال وأسلحتهم وقائدهم على دكانة مفروشة. فلما وصلنا إلى الباب الخامس تركني الفتى سنبل ودخل، ثم أتى ومعه أربعة من الفتيان الروميين، ففتشوني لئلا يكون معي سكين، وقال لي القائد: تلك عادة لهم، لا بد من تفتيش كل من يدخل على الملك من خاص أو عام، غريب أو بلدي، وكذلك الفعل بأرض الهند. ثم لما فتشوني قام الموكل بالباب، فأخذ بيدي وفتح الباب وأحاط بي أربعة من الرجال أمسك اثنان بكمي، واثنان من ورائي فدخلوا بي إلى مشور كبير، حيطانه بالفسيفساء قد نقش فيها صور المخلوقات من الحيوانات والجماد، وفي وسطه ساقيه ماء، ومن جهتها الأشجار والناس واقفون يميناً ويساراً سكوتاً لا يتكلم أحد منهم، وفي وسط المشور ثلاثة رجال وقوف. أسلمني أولئك الأربعة إليهم فأمسكوا بثيابي كما فعل الآخرون، وأشار إليهم رجل فتقدموا بي، وكان أحدهم يهودياً فقال لي بالعربي: لا تخف، فهكذا عادتهم أن يفعلوا بالوارد، وأنا الترجماني، وأصلي من بلاد الشام. فسألته كيف أسلم. فقال: قل السلام عليكم.ثم وصلت إلى قبة عظيمة، والسلطان على سريره، وزوجته أم هذا الخاتون بين يديه، وأسفل السرير الخاتون وإخوتها، وعن يمينه ستة رجال، وعن يساره اربعة، وكلهم بالسلاح. فأشار إلي قبل السلام والوصول إليه بالجلوس هنيهة، ليسكن روعي، ففعلت ذلك، ثم وصلت إليه فسلمت عليه، وأشار إلى أن أجلس فلم أفعل. وسألني عن بيت المقدس، وعن الصخرة المقدسة، وعن القمامة، وعن مهد عيسى، وعن بيت لحم، وعن مدينة الخليل عليه السلام، ثم عن دمشق ومصر والعراق وبلاد الروم، فأجبته عن ذلك كله، واليهودي يترجم بيني وبينه. فأعجبه كلامي وقال لأولاده: أكرموا هذا الرجل وأمنوه. ثم خلع علي خلعة، وأمر لي بفرس مسرج ملجم، ومظلة من التي يجعلها الملك فوق رأسه، وهي علامة الأمان. وطلبت منه أن يعين من يركب معي بالمدينة في كل يوم، حتى أشاهد عجائبها وغرائبها، وأذكرها في بلادي. فعين لي ذلك. ومن العوائد عندهم ان الذي يلبس خلعة الملك ويركب فرسه يطاف به في أسواق المدينة بالأبواق والأنفار والأطبال ليراه الناس وأكثر ما يفعل ذلك بالأتراك الذين يأتون من بلاد السلطان أوزبك لئلا يؤذوا فطافوا بي في الأسواق.

ذكر المدينة

وهي متناهية في الكبر، منقسمة بقسمين بينهما نهر عظيم المد والجزر، على شكل وادي سلا من بلاد المغرب. وكانت عليه فيما تقدم قنطرة مبنية فخربت. وهو الآن يعبر في القوارب. واسم هذا النهر أبسمي " بفتح الهمزة واسكان الباء الموحدة وضم السين المهمل وكسر الميم وياء مد ". وأحد القسمين من المدينة يسمى أصطنبول " بفتح الهمزة واسكان الصاد وفتح الطاء المهملتين وسكون النون وضم الباء الموحدة وواو مد ولام "، وهو بالعدوة الشرقية من النهر، وفيه سكنى السلطان وأرباب دولته وسائر الناس. وأسواقه وشوارعه مفروشه بالصفاح متسعة. وأهل كل صناعة على حدة لا يشاركهم شواهم، وعلى كل سوق أبواب تسد عليه بالليل وأكثر الصناع والباعة به النساء. والمدينة في سفح جبل داخل في البحر نحو تسعة أميال، وعرضه مثل ذلك أو أكثر، وفي أعلاه قلعة صغيرة وقصر السلطان. والسور يحيط بهذا الجبل، وهو مانع لا سبيل لأحد إليه من جهة البحر. وفيه نحو ثلاث عشرة قرية عامرة والكنيسة العظمى هي في وسط هذا القسم من المدينة. وأما القسم الثاني منها فيسمى الغلطة " بغين معجمة ولام وطا مهمل مفتوحات " وهو بالعدوة الغربية من النهر، شبيه برباط الفتح في قربه من النهر. وهذا القسم خاص بنصارى الإفرنج يسكنونه. وهم أصناف، فمنهم الجنويون والبنادقة وأهل رومية وأهل إفرانسة. وحكمهم إلى ملك القسطنطينية، يقدم عليهم منهم من يرتضونه ويسمونه القمص، وعليهم وظيفة في كل عام لملك القسطنطينية. وربما استعصوا عليه، فيحاربهم حتى يصلح بينهم البابا. وجميعها أهل تجارة، ومرساهم من أعظم المراسي، رأيت به نحو مائة جفن من القراقر وسواها من الكبار، وأما الصغار فلا تحصى كثرة. وأسواق هذا القسم حسنة، إلا أن الأقذار غالبة عليها، ويشقها نهر صغير قذر نجس، وكنائسهم لا خير فيها.

ذكر الكنيسة العظمى

وإنما نذكر خارجها، وأما داخلها فلم أشاهده. وهي تسمى عندهم أياصوفيا " بفتح الهمزة والياء آخر الحروف والف وصاد مضموم وواو مد وفاء مكسورة وياء كالأولى والف ". ويذكر أنها من بناء آصف بن بريخاء، وهو ابن خالة سليمان عليه السلام. وهي من أعظم كنائس الروم، وعليها سور يطيف به فكأنها مدينة. وأبوابها ثلاثة عشر باباً، ولها حرم هو نحو ميل، عليه باب كبير، ولا يمنع أحد من دخوله. وقد دخلته مع والد الملك الذي يقع ذكره، وهو شبه مشور مسطح بالرخام وتشقه ساقية تخرج من الكنيسة، لها حائطان مرتفعان نحو ذراع، مصنوعان بالرخام المجزع المنقوش بأحسن صنعة، والأشجار منتظمة عن جهتي الساقية. ومن باب الكنيسة إلى باب هذا المشور معرش من الخشب مرتفع، عليه دوالي العنب، وفي أسفله الياسمين والرياحين، وخارج باب هذا المشور قبة خشب كبيرة فيها طبلات خشب، يجلس عليها خدام ذلك الباب. وعن يمين القبة مساطب وحوانيت أكثرها من الخشب، يجلس بها قضاتهم وكتاب دواوينهم. وفي وسط تلك الحوانيت قبة خشب يصعد إليها على درج خشب، وفيها كرسي كبير مطبق بالملف، يجلس فوقه قاضيهم وسنذكره، وعن يسار القبة التي على باب هذا المشور سوق العطارين. والساقية التي ذكرناها تنقسم قسمين أحدهما يمر بسوق العطارين، والآخر يمر بالسوق حيث القضاة والكتاب، وعلى باب الكنيسة سقائف يجلس بها خدامها الذين يقمون طرقها ويوقدون سرجها ويغلقون أبوابها، ولا يدعون أحداً بداخلها حتى يسجد للصليب الأعظم عندهم الذي يزعمون أنه بقية من الخشبة التي صلب عليها شبيه عيسى عليه السلام، وهو على باب الكنيسة، مجعول في جعبة ذهب طولها نحو عشرة أذرع، وقد عرضوا عليها جعبة ذهب مثلها، حتى صارت صليباً. وهذا الباب مصفح بصفائح الفضة والذهب، وحلقتاه من الذهب الخالص. وذكر لي أن عدد من بهذه الكنيسة من الرهبان والقسيسين ينتهي إلى آلاف، وأن بعضهم من ذرية الحواريين. وأن بداخلها كنيسة مختصة بالنساء فيها من الأبكار المنقطعات للعبادة أزيد من ألف. وأما القواعد من النساء فأكثر من ذلك كله. ومن عادة الملك وأرباب دولته وسائر الناس أن يأتوا كل يوم صباحاً إلى زيارة هذه الكنيسة، ويأتي إليها البابا مرة في السنة، وإذا كان على مسيرة أربع من البلد، يخرج الملك إلى لقائه ويترجل له. وعند دخول المدينة يمشي بين يديه على قدميه، ويأتيه صباحاً ومساء للسلام طوال مقامه بالقسطنطينية حتى ينصرف.

ذكر المانستارات بقسطنطينية

والمانستار على مثل لفظ المارستان إلا أن نونه متقدمة وراءه متأخرة، وهو عندهم شبه الزاوية عند المسلمين، وهذه المانستارات بها كثيرة فمنها مانستار عمره الملك جرجيس وااد ملك القسطنطينية وسنذكره، وهو بخارج اصطنبول مقابل الغلطة. ومنها مانستاران خارج الكنيسة العظمى عن يمين الداخل إليها، وهما في داخل بستان يشقهما نهر ماء. وأحدهما للرجال والآخر للنساء. وفي كل واحد منهما كنيسة، ويدور بهما البيوت للمتعبدين والمتعبدات، وقد حبس على كل واحد منهما أحباس لكسوة المتعبدين ونفقتهم، بناهما أحد الملوك. ومنها مانستاران عن يسار الداخل إلى الكنيسة العظمى على مثل هذين الآخرين، ويطيف بها بيوت. وأحدهما يسكنه العميان، والثاني يسكنه الشيوخ الذين لا يستطيعون الخدمة، ممن بلغ الستين أو نحوها. ولكل واحد منهم كسوته ونفقته من أوقاف معينة لذلك. وفي داخل كل مانستار منها دويرة لتعبد الملك الذي بناه. وأكثر هؤلاء الملوك إذا بلغ الستين أو السبعين بنى مانستاراً أو لبس المسوح، وهي ثياب الشعر، وقلد ولده الملك، واشتغل بالعبادة حتى يموت. وهم يحتفلون في بناء هذه المانستارات، ويعملونها بالرخام والفسيفساء، وهي كثيرة بهذه المدينة ودخلت مع الرومي الذي عينه الملك للركوب معي إلى مانستار يشقه نهر، وفيه كنيسة فيها نحو خمسمائة بكر، عليهن المسوح ورؤوسهن محلوقة فيها قلانيس اللبد، ولهن جمال فائق، وعليهن أثر العبادة. وقد قعد صبي على منبر يقرأ لهن الإنجيل بصوت لم أسمع قط أحسن منه، وحوله ثمانية من الصبيان على منابر، ومعهم قسيسهم. فلما قرأ هذا الصبي قرأ صبي آخر. وقال لي الرومي: إن هؤلاء البنات من بنات الملوك، وهبن أنفسهن لخدمة هذه الكنيسة، وكذلك الصبيان القراء، ولهم كنيسة أخرى خارج تلك الكنيسة. ودخلت أيضاً إلى كنيسة في بستان فوجدنا بها نحو خمسمائة بكر أو أزيد وصبياً يقرأ لهن على منبر، وجماعة صبيان معه على منابر مثل الأولين، فقال لي الرومي: هؤلاء بنات الوزراء والأمراء يتعبدن بهذه الكنيسة. ودخلت إلى كنائس فيها أبكار من وجوه أهل البلد، وإلى كنائس فيها العجائز والقواعد من النساء، وإلى كنائس فيها الرهبان، يكون في الكنيسة منه مائة رجل أو أكثر أو أقل، وأكثر هذه المدينة رهبان ومتعبدون وقسيسون. وكنائسها لا تحصى كثرة. وأهل المدينة من جندي وغيره صغير وكبير يجعلون على رؤوسهم المظلات الكبار شتاء وصيفاً، والنساء لهن عمائم كبار.

ذكر الملك المترهب جرجيس

وهذا الملك ولى الملك لابنه، وانقطع للعبادة، وبنى مانستاراً كما ذكرناه خارج المدينة على ساحلها. وكنت يوماً مع الرومي المعين للركوب معي فإذا بهذا الملك ماشٍ على قدميه، وعليه المسوح وعلى رأسه قلنسوة لبد، وله لحية بيضاء طويلة ووجهه حسن عليه أثر العبادة، وخلفه وأمامه جماعة من الرهبان، وبيده عكاز، وعلى عنقه سبحة. فلما رآه الرومي نزل وقال لي: انزل فهذا والد الملك. فلما سلم عليه الرومي سأله عني، ثم وقف وبعث لي فجئت إليه فأخذ بيدي وقال لذلك الرومي، وكان يعرف اللسان العربي: قل لهذا السراكنوا، يعني المسلم أنا أصافح اليد التي دخلت بيت المقدس، والرجل التي مشت داخل الصخرة والكنيسة العظمى التي تسمى قمامة وبيت لحم، وجعل يده على قدمي ومسح بها وجهه، فعجبت من اعتقادهم فيمن دخل تلك المواضع من غير ملتهم، ثم أخذ بيدي ومشيت معه فسألني عن بيت المقدس ومن فيه من النصارى، وأطال السؤال، ودخلت معه إلى حرم الكنيسة الذي وصفناه آنفاً. ولما قارب الباب الأعظم خرجت جماعة من القسيسين والرهبان للسلام عليه، وهو من كبارهم في الرهبانية. ولما رآهم أرسل يدي فقلت له: أريد الدخول معك إلى الكنيسة. فقال للترجمان: قل له: لابد لداخلها من السجود للصليب الأعظم، فإن هذا مما سنته الأوائل، ولا يمكن خلافه، فتركته، ودخل وحده، ولم أره بعد.

ذكر قاضي القسطنطينية

ولما فارقت الملك المترهب المذكور دخلت سوق الكتاب، فرآني القاضي فبعث إلي أحد أعوانه، فسأل الرومي الذي معي، فقال له: إنه من طلبة المسلمين. فلما عاد إليه وأخبره بذلك بعث إلي أحد أعوانه، وهم يسمون القاضي النجشي كفالي، فقال لي: النجشي كفالي يدعوك، فصعدت إليه، إلى القبة التي تقدم ذكرها، فرأيت شيخاً حسن الوجه واللمة، عليه لباس الرهبان وهو الملف الأسود، وبين يديه نحو عشرة من الكتاب يكتبون. فقام إلي وقام أصحابه، وقال: أنت ضيف الملك، ويجب علينا إكرامك. وسألني عن بيت المقدس والشام ومصر وأطال الكلام وكثر عليه الازدحام، وقال لي: لابد لك أن تأتي إلى داري فأضيفك. فانصرفت عنه، ولم ألقه بعد.

ذكر الانصراف عن القسطنطينية

ولما ظهر لمن كان في صحبة الخاتون من الأتراك أنها على دين أبيها وراغبة في المقام معه، طلبوا منها الإذن في العودة إلى بلادهم، فأذنت لهم، وأعطتهم عطاء جزيلاً، وبعثت معهم من يوصلهم إلى بلادهم أميراً يسمى ساروجة الصغير في خمسمائة فارس، وبحثت عني فأعطتني ثلاثمائة دينار من ذهبهم يسمونه البربرة وليس بالطيب، وألفي درهم بندقية وشقة ملف من عمل البنات، وهو أجود أنواعه، وعشرة أثواب من حرير وكتان وصوف، وفرسين، وذلك من عطاء أبيها، وأوصت بي ساروجة وودعتها وانصرفت. وكانت مدة مقامي عندهم شهراً وستة أيام. وسافرنا صحبة ساروجة، فكان يكرمني، حتى وصلنا إلى آخر بلادهم، حيث تركنا أصحابنا وعرباتنا، فركبنا العربات ودخلنا البرية، ووصل ساروجة معنا إلى مدينة بابا سلطوق، وأقام بها ثلاثاً في الضيافة، وانصرف إلى بلاده، وذلك في اشتداد البرد، وكنت ألبس ثلاث فروات وسروالين أحدهما مبطن، وفي رجلي خف من صوف، وفوقه خف مبطن بثوب كتان، وفوقه خف من البرغالي وهو جلد الفرس مبطن بجلد ذئب، وكنت أتوضأ بالماء الحار بمقربة من النار، فما تقطر من الماء قطرة إلا جمدت لحينها. وإذا غسلت وجهي بالماء إلى لحيتي فيجمد فأحركها فيسقط منها شبه الثلج، والماء الذي ينزل من الأنف يجمد على الشارب، وكنت لا أستطيع الركوب لكثرة ما علي من الثياب حتى يركبني أصحابي.

ثم وصلت إلى مدينة الحاج ترخان حيث فارقنا السلطان أوزبك، فوجدناه قد رحل واستقر بحضرة ملكه؛ فسافرنا على نهر أتل وما يليه من المياه ثلاثاً وهي جامدة. وكنا إذا احتجنا الماء قطعنا قطعاً من الجليد وجعلناه في القدرة حتى يصير ماء، فنشرب منه ونطبخ به. ووصلنا إلى مدينة السرا " وضبط اسمها بسين مهمل وراء مفتوحة والف "، وتعرف بسرا بركة، وهي حضرة السلطان أوزبك. ودخلنا على السلطان فسألنا عن كيفية سفرنا، وعن ملك الروم ومدينته، فأعلمناه. وأمر بإجراء النفقة علينا، وأنزلنا.
ومدينة السرا، من أحسن المدن، متناهية الكبر، في بسيط من الأرض، تغص بأهلها كثرة، حسنة الأسواق، متسعة الشوارع.

وركبنا يوماً مع بعض كبرائها، وغرضنا التطوف عليها ومعرفة مقدارها، وكان منزلنا في طرف منها، فركبنا منه غدوة. فما وصلنا لآخرها إلا بعد الزوال، فصلينا الظهر، وأكلنا طعامنا. فما وصلنا إلى المنزل إلا عند المغرب ومشينا يوماً في عرضها ذاهبين راجعين في نصف يوم، وذلك في عمارة متصلة الدور لا خراب فيها ولا بساتين. وفيها ثلاثة عشر مسجداً لإقامة الجمعة أحدها للشافعية، وأما المساجد سوى ذلك فكثيرة جداً. وفيها طوائف من الناس. منهم المغل، وهم أهل البلاد والسلاطين، وبعضهم مسلمون، ومنهم الآص، وهم مسلمون، ومنهم القفجق والجركس والروس والروم، وهم نصارى؛ وكل طائفة تسكن محلة على حدة فيها، أسواقها والتجار والغرباء من أهل العراقين ومصر والشام وغيرها، ساكنون بمحلة عليها سور، احتياطاً على أموال التجارة.

وقصر السلطان بها يسمى ألطون طاش، وألطون " بفتح الهمزة وسكون اللام وضم الطاء المهمل وواو مد ونون " ومعناه الذهب وطاش " بفتح الطاء المهمل وشين معجم " ومعناه حجر وقاضي هذه الحضرة بدر الدين الأعرج من خيار القضاة. وبها من مدرسي الشافعية الفقيه الإمام الفاضل صدر الدين سليمان اللكزي، أحد الفضلاء، وبها من المالكية شمس الدين المصري، وهو ممن يطعن في ديانته. وبها زاوية الصالح الحاج نظام الدين، أضافنا بها وأكرمنا، وبها زاوية الفقيه الإمام العالم نعمان الدين الخوارزمي، رأيته بها، وهو من فضلاء المشايخ، حسن الأخلاق كريم النفع شديد التواضع شديد السطوة على أهل الدنيا، يأتي إليه السلطان أوزبك زائراً في كل جمعة فلا يستقبله ولا يقوم إليه، ويقعد السلطان بين يديه ويكلمه ألطف كلام ويتواضع له، والشيخ بضد ذلك. وفعله مع الفقراء والمساكين والواردين خلاف فعله مع السلطان، فإنه يتواضع لهم ويكلمهم بألطف كلام ويكرمهم، وأكرمني جزاه الله خيراً، وبعث إلي بغلام تركي، وشاهدت له بركة.

كرامة له: كنت أردت السفر من السرا إلى خوارزم، فنهاني عن ذلك، وقال لي: أقم أياماً وحينئذ نسافر فنازعتني النفس، ووجدت رفقة كبيرة آخذة في السفر. فيهم تجار أعرفهم، فاتفقت معهم على السفر في صحبتهم، وذكرت له ذلك فقال لي: لا بد لك من الإقامة. فعزمت على السفر فأبق لي الغلام، وأقمت بسببه. وهذه الكرامات الظاهرة. ولما كان بعد ثلاث وجد بعض أصحابي ذلك الغلام الآبق بمدينة الحاج ترخان، فجاء به إلي فحينئذ سافرت إلى خوارزم وبينها وبين حضرة السرا صحراء مسيرة أربعين يوماً، لا تسافر فيها الخيل لقلة الكلأ، وإنما تجر العربات بها الجمال، فسرنا من السرا عشرة أيام فوصلنا إلى مدينة سراجوق وجوق " بضم الجيم المعقود وواو وقاف "، ومعنى جوق صغير. فكأنهم قالوا: سرا الصغيرة، وهي على شاطئ نهر كبير زخار، يقال له: ألوصو " بضم الهمز واللام وواو وضم الصاد المهمل وواو "، ومعناه الماء الكبير، وعليه جسر من قوارب كجسر بغداد. وإلى هذه المدينة انتهى سفرنا بالخيل التي تجر العربات، وبعناها بحساب أربعة دنانير دراهم للفرس وأقل من ذلك لأجل ضعفها ورخصها بهذه المدينة، واكترينا الجمال لجر العربات. وبهذه المدينة زاوية لرجل صالح معمر من الترك يقال له أطا " بفتح الهمز والطاء المهمل "، ومعناه الوالد، أضافنا بها ودعا لنا. وأضافنا أيضاً قاضيها، ولا أعرف اسمه. ثم سرنا منها ثلاثين يوماً سيراً جاداً لا ننزل إلا ساعتين: إحداهما عند الضحى، والآخرى عند المغرب. وتكون الإقامة قدر ما يطبخون الدوقي ويشربونه، وهو يطبخ من غلية واحدة، ويكون معهم الخليع من اللحم، يجعلونه عليه، ويصبون عليه اللبن. وكل إنسان إنما ينام أو يأكل في عربته حال السير. وكان لي في عربتي ثلاث من الجواري. ومن عادة المسافرين في هذه البرية الإسراع، لقلة أعشابها. والجمال التي تقطعها يهلك معظمها، وما يبقى منها لا ينتفع به إلا في سنة أخرى، بعد أن يسمن. والماء في هذه البرية في مناهل معلومة بعد اليومين والثلاثة، وهو ماء المطر والحسيان. ثم لما سلكنا هذه البرية وقطعناها كما ذكرناه، وصلنا إلى خوارزم، وهي أكبر مدن الأتراك وأعظمها وأجملها وأضخمها، لها الأسواق المليحة والشوارع الفسيحة والعمارة الكثيرة والمحاسن الأثيرة. وهي ترتج بسكانها لكثرتهم، وتموج بهم موج البحر. ولقد ركبت بها يوماً ودخلت السوق، فلما توسطته وبلغت منتهى الزحام في موضع يقال له الشهور " بفتح الشين المعجم وإسكان الواو "، لم أستطع أن أجوز ذلك الموضع لكثرة الازدحام، وأردت الرجوع فما أمكنني لكثرة الناس فبقيت متحيراً، وبعد جهد شديد رجعت. وذكر لي بعض الناس ان تلك السوق يخف زحامها يوم الجمعة. وتوجهت إلى المسجد الجامع والمدرسة. وهذه المدينة تحت إمرة السلطان أوزبك. وله فيها أمير كبير يدعى قطلودمور، وهو الذي عمر هذه المدرسة وما معها من المواضع المضافة. وأما الجامع فعمرته زوجته الخاتون الصالحة ترابك " بضم التاء المعلوة وفتح والف " وبك " بفتح الباء الموحدة والكاف "، وبخوارزم مارستان له طبيب شامي يعرف بالصهيوني، نسبة إلى صهيون من بلاد الشام. ولم أر في بلاد الدنيا أحسن أخلاقاً من أهل خوارزم، ولا أكرم نفوساً، ولا أحب في الغرباء. ولهم عادة جميلة في الصلاة لم أرها لغيرهم. وهي أن المؤذنين بمساجدها يطوف كل واحد منهم على دور جيران مسجده معلماً لهم بحضور الصلاة، فمن لم يحضر الصلاة مع الجماعة ضربه الإمام بمحضر الجماعة. وفي كل جامع درة معلقة برسم ذلك، ويغرم خمسة دنانير تنفق في مصالح الجامع، أو تطعم للفقراء والمساكين. ويذكرون أن هذه العادة عندهم مستمرة على قديم الزمان. وبخارج خوارزم نهر جيحون أحد الأنهار الأربعة التي من الجنة وهو يجمد في أوان البرد كما يجمد نهر أتل. ويسلك الناس عليه، وتبقى مدة جموده خمسة أشهر. وربما سلكوا عليه عند أخذه في الذوبان فهلكوا. ويسافر فيه أيام الصيف بالمراكب إلى ترمذ، ويجلبون منها القمح والشعير، وهي مسيرة عشر للمنحدر. وبخارج خوارزم زاوية مبنية على تربة الشيخ نجم الدين الكبري، وكان من كبار الصالحين. وفيها الطعام للوارد والصادر، وشيخهم المدرس سيف الدين بن عضبة، من كبار أهل خوارزم، وبها أيضاً زاوية شيخها الصالح المجاور جلاب الدين السمرقندي، من كبار الصالحين، أضافنا بها. وبخارجها قبر الإمام العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، وعليه قبة. وزمخشر قرية على مسافة أربعة أميال من خوارزم. ولما أتيت بهذه المدينة نزلت بخارجها، وتوجه بعض أصحابي إلى القاضي الصدر أبي حفص عمر البكري، فبعث إلي نائبه نور الإسلام فسلم علي، ثم عاد إليه. ثم أتى القاضي في جماعة من أصحابه فسلم علي، وهو فتي السن، كبير الفعال، وله نائبان: أحدهما نور الإسلام المذكور. والآخر نور الدين الكرماني من كبار الفقهاء، وهو الشديد في أحكامه، القوي في ذات الله تعالى.

ولما حصل الاجتماع بالقاضي قال لي: إن هذه المدينة كثيرة الزحام، ودخولكم نهاراً لا يتأتى، وسيأتي إليكم نور الإسلام لتدخلوا معه في آخر الليل، ففعلنا ذلك. ونزلنا بمدرسة جديدة ليس بها أحد. ولما كان بعد صلاة الصبح أتى إلينا القاضي المذكور، ومعه من كبار المدينة جماعة منهم، مولانا همام الدين، ومولانا زين الدين المقدسي، ومولانا رضي الدين يحيى، ومولانا فضل الله الرضوي، ومولانا جلاب الدين العمادي، ومولانا شمس الدين السنجري إمام أميرها. وهم أهل مكارم وفضائل، والغالب على مذهبهم الاعتزال، لكنهم لا يظهرونه، لأن السلطان أوزبك وأميره على هذه المدينة قطلودمور من أهل السنة. وكنت أيام إقامتي بها أصلي الجمعة مع القاضي أبي حفص عمر المذكور بمسجده، فإذا فرغت الصلاة ذهبت معه إلى داره، وهي قريبة من المسجد، فأدخل معه إلى مجلسه، وهو من أبدع المجالس فيه الفرش الحافلة، وحيطانه مكسوة بالملف، وفيه طيقان كثيرة، وفي كل طاق منها أواني الفضة المموهة بالذهب، والأواني العراقية. وكذلك عادة أهل تلك البلاد أن يصنعوا في بيوتهم، ثم يأتي بالطعام الكثير، وهو من أهل الرفاهية والمال الكثير والرباع. وهو سلف الأمير قطلودمور، متزوج بأخت امرأته، واسمها جيجا أغا. وبهذه المدينة جماعة من الوعاظ والمذكرين، أكبرهم مولانا زين الدين المقدسي، والخطيب مولانا حسام الدين المشاطي الخطيب المصقع أحد الخطباء الاربعة الذين لم اسمع في الدنيا أحسن منهم.

أمير خوارزم

هو الأمير الكبير قطلودمور، وقطلو " بضم القاف وسكون الطاء المهمل وضم الام "، ودمور " بضم الدال المهمل والميم وواو مد وراء "، ومعنى اسمه الحديد المبارك. لأن قطلو هو المبارك ودمور هو الحديد. وهذا الأمير ابن خالة السلطان المعظم محمد أوزبك، وأكبر أمرائه، وهو واليه على خراسان. وولده هارون بك متزوج بابنة السلطان المذكور التي أمها الملكة طيطغلي المتقدم ذكرها، وامرأته الخاتون ترابك صاحبة المكارم الشهيرة.

ولما أتاني القاضي مسلماً علي كما ذكرته، قال لي: إن الأمير قد علم بقدومك، وبه بقية مرض يمنعه من الإتيان إليك. فركبت مع القاضي إلى زيارته وأتينا داره، فدخلنا مشوراً كبيراً أكثر بيوته خشب، ثم دخلنا مشوراً صغيراً فيه قبة خشب مزخرفة، قد كسيت حيطانها بالملف الملون، وسقفها بالحرير المذهب، والأمير على فرش له من الحرير، وقد غطى رجليه لما بهما من النقرس، وهي علة فاشية في الترك، فسلمت عليه، وأجلسني إلى جانبه، وقعد القاضي والفقهاء. وسألني عن سلطانه الملك محمد أوزبك، وعن الخاتون بيلون، وعن أبيها، وعن مدينة القسطنطينية، فأعلمته بذلك كله. ثم أتي بالموائد فيها الطعام من الدجاج المشوي والكراكي وأفراخ الحمام وخبز معجون بالسمن يسمونه الكليجا والكعك والحلوى، ثم أتي بموائد أخرى فيها الفواكه من الرمان المحبب في أواني الذهب والفضة، ومعه ملاعق الذهب. وبعضه في أواني الزجاج العراقي ومعه ملاعق الخشب، ومن العنب والبطيخ العجيب. ومن عوائد هذا الأمير أن يأتي القاضي في كل يوم إلى مشوره، فيجلس بمجلس معد له ومعه الفقهاء وكتابه، ويجلس في مقابلة أحد الأمراء الكبار، ومعه ثمانية من كبراء أمراء الترك وشيوخهم، يسمون الأرغجية " بارغوجي "، ويتحاكم الناس إليهم. فما كان من القضايا الشرعية حكم فيها القاضي، وما كان من سواها حكم فيها أولئك الأمراء. وأحكامهم مضبوطة عادلة. لأنهم لا يتهمون بميل ولا يقبلون رشوة، ولما عدنا إلى المدرسة بعد الجلوس مع الأمير بعث إلينا الأرز وزالدقيق والسمن والأبزار وأحمال الحطب. وتلك البلاد كلها لا يعرف بها الفحم، وكذلك الهند وخراسان وبلاد العجم. وأما الصين فيوقدون فيها حجارة تشتعل فيها النار كما تشتعل في الفحم، ثم إذا صارت رماداً عجنوه بالماء وجففوه بالشمس وطبخوا بها ثانية كذلك حتى يتلاشى.

حكاية ومكرمة لهذا القاضي والأمير

صليت في بعض أيام الجمع على عادتي بمسجد أبي حفص، فقال لي: إن الامير أمر لك بخمسمائة درهم، وأمر أن يصنع لك دعوة ينفق فيها خمسمائة درهم أخرى. يحضرها المشايخ والفقهاء والوجوه. فلما أمر بذلك قلت له: أيها الأمير تصنع دعوة يأكل من حضرها لقمة أو لقمتين، لو جعلت له جميع المال كان أحسن له للنفع. فقال: أفعل ذلك. وقد أمر لك بالألف كاملة، ثم بعثها الأمير صحبة إمامه شمس الدين السنجري في خريطة يحملها غلامه، وصرفها من الذهب المغربي ثلاثمائة دينار. زوكنت قد اشتريت ذلك اليوم فرساً أدهم اللون بخمسة وثلاثين ديناراً دراهم، وركبته في ذهابي الى المسجد، فما اعطيت ثمنه إلا من تلك الألف. وتكاثرت عندي الخيل بعد ذلك، حتى انتهت إلى عدد لا أذكره خيفة مكذب يكذب به، ولم تزل حالي في الزيادة حتى دخلت أرض الهند. وكانت عندي خيل كثيرة،، لكني كنت أفضل هذا الفرس وأوثره وأربطه امام الخيل. وبقي عندي إلى انقضاء ثلاث سنين. ولما هلك تغيرت حالي، وبعثت إلي الخاتون جيجا أغا امرأة القاضي مائة دينار دراهم. وصنعت لي أختها ترابك زوجة الأمير دعوة جمعت لها الفقهاء ووجوه المدينة بزاويتها التي بنتها، وفيها الطعام للوارد والصادر، وبعثت إلي بفروة سمور وفرس جيد، وهي من أفضل النساء وأصلحهن وأكرمهن جزاها الله خيراً.

حكاية

ولما انفصلت من الدعوة التي صنعت لي هذه الخاتون وخرجت عن الزاوية، تعرضت لي بالباب امرأة عليها ثياب دنسة، وعلى رأسها مقنعة، ومعها نسوة لا أذكر عددهن. فسلمت علي، فرددت عليها السلام، ولم أقف معها ولا التفت إليها. فلما خرجت أدركني بعض الناس وقال لي: إن المرأة التي سلمت عليك هي الخاتون. فخجلت عند ذلك، وأردت الرجوع إليها فوجدتها قد انصرفت. فأبلغت إليها السلام مع بعض خدامها واعتذرت عما كان مني لعدم معرفتي بها.

ذكر بطيخ خوارزم

وبطيخ خوارزم لا نظير له في بلاد الدنيا شرقاً ولا غرباً، إلا ما كان من بطيخ بخارى، ويليه بطيخ أصفهان، وقشره أخضر، وباطنه أحمر. وهو صادق الحلاوة، وفيه صلابة. ومن العجائب أنه يقدد وييبس في الشمس. ويجعل في القواصر، كما يصنع عندنا بالشريحة وبالتين المالقي. ويحمل من خوارزم إلى أقصى بلاد الهند والصين. وليس في جميع الفواكه اليابسة أطيب منه. وكنت أيام إقامتي بدهلي من بلاد الهند متى قدم المسافرون بعثت من يشتري لي منهم قديد البطيخ. وكان ملك الهند إذا أتي اليه بشيء منه بعث إلي به لما يعلم من محبتي فيه. ومن عادته أن يطرف الغرباء بفواكه بلادهم،: ويتفقدهم بذلك.

حكاية

كان قد صحبني من مدينة السرا إلى خوارزم شريف من أهل كربلاء يسمى علي بن منصور، وكان من التجار، فكنت أكلفه أن يشتري لي الثياب وسواها، فكان يشتري لي الثوب بعشرة دنانير. ويقول: اشتريته بثمانية، ويحاسبني بالثمانية، ويدفع الدينارين من ماله، وأنا لا علم لي بفعله، إلى أن تعرفت ذلك على ألسنة الناس، وكان مع ذلك قد أسلفني دنانير. فلما وصل إلي إحسان أمير خوارزم رددت اليه ما أسلفنيه، وأردت أن أحسن بعده إليه مكأفاة لأفعاله الحسنة فأبى ذلك، وحلف أن لا أفعل. وأردت أن أحسن إلى فتى كان له اسمه كافور، فحلف أن لا أفعل، وكان أكرم من لقيته من العراقيين. وعزم على السفر معي إلى بلاد الهند. ثم إن جماعة من أهل بلده وصلوا إلى خوارزم برسم السفر إلى الصين، فأخذ في السفر معهم. فقلت له في ذلك. فقال: هؤلاء أهل بلدي، يعودون إلى أهلي وأقاربي، ويذكرون أني سافرت إلى الهند برسم الكدية، فيكون سبة علي، لا أفعل ذلك، وسافر معهم إلى الصين فبلغني بعد، وأنا بأرض الهند أنه لما بلغ إلى مدينة المالق، وهي آخر البلاد التي من عمالة ما وراء النهر وأول بلاد الصين، أقام بها، وبعث فتى له بما كان عنده من المتاع، فأبطأ الفتى عليه. وفي أثناء ذلك وصل من بلده بعض التجار، ونزل معه في فندق واحد. فطلب منه الشريف أن يسلفه شيئاً بخلال ما يصل فتاه، فلم يفعل، ثم أكد قبح ما صنع في عدم التوسعة على الشريف بأن أراد الزيادة عليه في المسكن الذي كان له في الفندق، فبلغ ذلك الشريف، فاغتم منه، ودخل إلى بيته، فذبح نفسه، فأدرك وبه رمق، واتهموا غلاماً كان له بقتله. فقال: لا تظلموه، فإني أنا فعلت ذلك. ومات من يومه غفر الله له.

وكان قد حكى لي عن نفسه أنه أخذ مرة من بعض تجار دمشق ستة آلاف درهم قراضاً ، فلقيه ذلك التاجر بمدينة حماة من أرض الشام، فطلبه بالمال، وكان قد باع ما اشترى به من المتاع بالدين، فاستحيا من صاحب المال، ودخل إلى بيته، وربط عمامته بسقف البيت، وأراد أن يخنق نفسه. وكان في أجله تأخير، فتذكر صاحباً له من الصيارفة فقصده، وذكر له القضية، فسلفه مالاً دفعه للتاجر. ولما أردت السفر من خوارزم اكتريت جمالاً واشتريت محارة، وكان عديلي بها عفيف الدين التوزري، وركب الخدام بعض الخيل، وجللنا باقيها لأجل البرد، ودخلنا البرية التي بين خوارزم وبخارى، وهي مسيرة ثمانية عشر يوماً في رمال لا عمارة بها إلا بلدة واحدة. فودعت الأمير قطلودمور، وخلع علي خلعة، وخلع على القاضي أخرى، وخرج مع الفقهاء لوداعي. وسرنا أربعة أيام ووصلنا إلى مدينة ألكات، وليس بهذه الطريق عمارة سواها، " وضبط اسمها بفتح الهمزة وسكون اللام وفتح الكاف وآخره تاء مثناة "، وهي صغيرة حسنة. نزلنا خارجها على بركة ماء قد جمدت من البرد. فكان الصبيان يلعبون فوقها، ويزلقون عليها. وسمع بقدومي قاضي ألكات، ويسمى صدر الشريعة، وكنت قد لقيته بدار قاضي خوارزم. فجاء إلي مسلماً مع الطلبة وشيخ المدينة الصالح العابد محمود الخيوفي. ثم عرض على القاضي الوصول إلى أمير تلك المدينة. فقال له الشيخ محمود: القادم ينبغي له أن يزار، وإن كانت لنا همة نذهب إلى أمير المدينة ونأتي به، ففعلوا ذلك. وأتى الأمير بعد ساعة في أصحابه، وخدامه فسلمنا عليه. وكان غرضنا تعجيل السفر، فطلب منا الإقامة وصنع دعوة، جمع لها الفقهاء ووجوه العساكر وسواهم، ووقف الشعراء يمدحونه. وأعطاني كسوة وفرساً جيداً، وسرنا على الطريق المعروفة بسيباية. وفي تلك الصحراء مسيرة ست دون ماء.

ووصلنا بعد ذلك إلى بلدة وبكنة " وضبط اسمها بفتح الواو وإسكان الباء الموحدة وكاف ونون "، وهي على مسيرة يوم واحد من بخارى بلدة حسنة ذات أنهار وبساتين. وهم يدخرون العنب من سنة إلى سنة، وعندهم فاكهة يسمونها العلو " الآلو " بالعين المهملة وتشديد اللام فييبسونه، ويجلبه الناس إلى الهند والصين، ويجعل عليه الماء، ويشرب ماؤه. وهو أيام كونه أخضر حلو، فإذا يبس صار فيه يسير حموضة، ولحميته كثيرة. ولم أر مثله بالأندلس ولا بالمغرب ولا بالشام. ثم سرنا في بساتين متصلة وأنهار وأشجار وعمارة يوماً كاملاً، ووصلنا إلى مدينة بخارى التي ينسب إليها إمام المحدثين أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري. وهذه المدينة كانت قاعدة ما وراء نهر جيحون من البلاد، وخربها اللعين تنكيز التتري، جد ملوك العراق. فمساجدها الآن ومدارسها وأسواقها خربة إلا القليل، وأهلها أذلاء، وشهادتهم لا تقبل بخوارزم وغيرها، لاشتهارهم بالتعصب ودعوى الباطل وإنكار الحق. وليس بها اليوم من الناس من يعلم شيئاً من العلم ولا من له عناية به.

ذكر أولية التتر وتخريبهم بخارى وسواها

كان تنكيز خان حداداً بأرض الخطا، وكان له كرم نفس وقوة وبسطة في الجسم، وكان يجمع الناس ويطعمهم. ثم صارت له جماعة فقدموه على أنفسهم، وغلب على بلده وقوي واشتدت شوكته واستفحل أمره، فغلب على ملك الخطا، ثم على ملك الصين. وعظمت جيوشه، وتغلب على بلاد الختن وكاشغر والمالق، وكان جلال الدين سنجر بن خوارزم شاه ملك خوارزم وخراسان وما وراء النهر، له قوة عظيمة وشوكة، فهابه تنكيز وأحجم عنه ولم يتعرض له. فاتفق أن بعث تنكيز تجاراً بأمتعة الصين والخطا من الثياب الحريرية وسواها إلى بلدة أطرار " بضم الهمزة "، وهي آخر عمالة جلال الدين. فبعث إليه عامله عليها، معلماً بذلك، واستأذنه ما يفعل في أمرهم، فكتب إليه يأمره أن يأخذ موالهم ويمثل بهم ويقطع أعضائهم ويردهم إلى بلادهم، لما أراد الله تعالى من شقاء أهل بلاد المشرق ومحنتهم رأياً فائلاً وتدبيراً سيئاً مشئوماً. فلما فعل ذلك، تجهز تنكيز بنفسه في عساكر لا تحصى كثرة برسم غزو بلاد الإسلام. فلما سمع عامل أطرار بحركته بعث الجواسيس ليأتوه بخبره، فذكر أن أحدهم دخل محلة بعض أمراء تنكيز في صورة سائل، فلم يجد من يطعمه. ونزل إلى جانب رجل منهم فلم ير عنده زاداً، ولا أطعمه شيئاً. فلما أمسى أخرج مطراناً يابسة عنده، فبلها بالماء، وفصد فرسه وملأها بدمه وعقدها وشواها بالنار، فكانت طعامه. فعاد إلى أطرار، فأخبر عاملها بأمرهم، وأعلمه أن لا طاقة لأحد بقتالهم. فاستمد مليكه جلال الدين، فأمده بستين ألفاً زيادة على من كان عنده من العساكر. فلما وقع القتال هزمهم تنكيز، ودخل مدينة أطرار بالسيف، فقتل الرجال وسبى الذراري، وأتى جلال الدين بنفسه لمحاربته، فكانت بينهم وقائع لا يعلم في الاسلام مثلها. وآل الأمر إلى أن تملك تنكيز ما وراء النهر، وخرب بخارى وسمرقند وترمذ، وعبر النهر، وهو نهر جيحون، إلى مدينة بلخ فتملكها، ثم إلى الياميان " الباميان " فتملكها، وأوغل في بلاد خراسان وعراق العجم. فثار عليه المسلمون في بلخ، وفي ما وراء النهر. فكر عليهم، ودخل بلخ بالسيف، وتركها خاوية على عروشها.

ثم فعل مثل ذلك في ترمذ، فخربت، ولم تعمر بعد، لكن بنيت مدينة على ميلين منها هي التي تسمى اليوم ترمذ. وقتل أهل الياميان " الباميان " وهدمها بأسرها إلا صومعة جامعها، وعفا عن أهل بخارى وسمرقند، ثم عاد بعد ذلك إلى العراق. وانتهى أمر التتر حتى دخلوا حضرة الاسلام ودار الخلافة بغداد بالسيف، وذبحوا الخليفة المستعصم بالله العباسي رحمه الله.

قال ابن جزي: أخبرنا شيخنا قاضي القضاة أبو البركات ابن الحاج أعزه الله قال: سمعت الخطيب أبا عبد الله ابن رشيد يقول: لقيت بمكة نور الدين بن الزجاج من علماء العراق، ومعه ابن أخ له، فتفاوضنا الحديث، فقال لي: هلك في فتنة التتر بالعراق أربعة وعشرون ألف رجل من أهل العلم، ولم يبق منهم غيري وغير ذلك، وأشار إلى ابن أخيه. قال، ونزلنا من بخارى بربضها المعروف بفتح أباد حيث قبر الشيخ العالم العابد الزاهد سيف الدين الباخرزي، وكان من كبار الأولياء. وهذه الزاوية المنسوبة لهذا الشيخ حيث نزلنا عظيمة، لها أوقاف ضخمة يطعم منها الوارد والصادر، وشيخها من ذريته، وهو الحاج السياح يحيى الباخرزي. وأضافني هذا الشيخ بداره، وجمع وجوه أهل المدينة وقرأ القراء بالأصوات الحسان، ووعظ الواعظ، وغنوا بالتركي والفارسي على طريقة حسنة. ومرت لنا هنالك ليلة بديعة من أعجب الليالي، ولقيت بها الفقيه العالم الفاضل صدرالشريعة، وكان قد قدم من هراة، وهو من الصلحاء الفضلاء. وزرت ببخارى قبر الإمام العالم أبي عبد الله البخاري مصنف الجامع الصحيح، شيخ المسلمين رضي الله عنه، وعليه مكتوب: هذا قبر محمد بن إسماعيل البخاري، وقد صنف من الكتب كذا وكذا. وأيضاً على قبور علماء بخارى أسماؤهم وأسماء تصانيفهم. وكنت قيدت من ذلك كثيراً، وضاع مني في جملة ما ضاع لي، لما سلبني كفار الهند في البحر.

ثم سافرنا من بخارى قاصدين معسكر السلطان الصالح المعظم علاء الدين طرمشيرين، وسنذكره. فمررنا على نخشب، البلدة التي ينسب إليها الشيخ أبو تراب النخشبي. وهي صغيرة، تحف بها البساتين والمياه. فنزلنا بخارجها، بدار لأميرها، وعندي جارية قد قاربت الولادة، وكنت أردت حملها إلى سمرقند لتلد بها. فاتفق أنها كانت في المحمل، فوضع المحمل على الجمل، وسافر أصحابنا من الليل، وهي معهم والزاد وغيره من أسبابي. وأقمت أنا حتى أرتحل نهاراً مع بعض من معي. فسلكوا طريقاً، وسلكت طريقاً سواها. فوصلنا عشية النهار إلى محلة السلطان المذكور، وقد جعنا، فنزلنا على بعد من السوق، واشترى بعض أصحابنا ما سد جوعتنا. وأعارنا بعض التجار خباء بتنا به تلك الليلة. ومضى أصحابنا من الغد في البحث عن الجمال وباقي الأصحاب، فوجدوهم عشياً، وجاءوا بهم. وكان السلطان غائباً عن المحلة في الصيد، فاجتمعت بنائبه الأمير تقبغا، فأنزلني بقرب مسجده، وأعطاني خرقة " خركاه " وهي شبه الخباء، وقد ذكرنا صفتها فيما تقدم، فجعلت الجارية في تلك الخرقة، فولدت تلك الليلة مولوداً، وأخبروني أنه ولد ذكر. ولم يكن كذلك، فلما كان بعد العقيقة، أخبرني بعض الأصحاب أن المولد بنت. فاستحضرت الجواري فسألتهن فأخبروني بذلك. وكانت هذه البنت مولودة في طالع سعد، فرأيت كل ما يسرني ويرضيني منذ ولدت. وتوفيت بعد وصولي إلى الهند بشهرين، وسيذكر ذلك. واجتمعت بهذه المحلة بالشيخ الفقيه العابد مولانا حسام الدين الياغي " بالياء آخر الحروف والغين المعجمة "، ومعناه بالتركية الثائر. وهو من أهل أطرار، وبالشيخ صهر السلطان.

ذكر سلطان ما وراء النهر

وهو السلطان المعظم علاء الدين طرمشيرين " وضبط اسمه بفتح الطاء المهمل وسكون الراء وفتح الراء وكسر الشين المعجم وياء مد وراء مكسور وياء مد ثانية ونون "، وهو عظيم المقدار كثير الجيوش والعساكر ضخم المملكة شديد القوة عادل الحكم، وبلاده متوسطه بين أربعة من ملوك الدنيا الكبار، وهم ملك الصين وملك الهند وملك العراق والملك أوزبك. وكلهم يهابونه، ويعظمونه ويكرمونه. وولي الملك بعد أخيه الجكطي " وضبط اسمه بفتح الجيم المعقودة له الكاف والطاء المهمل وسكون الياء ". وكان الجكطي هذا كافراً، وولي بعد أخيه الأكبر كبك، وكان كبك هذا كافر أيضاً، لكنه كان عادل الحكم منصفاً للمظلومين، يكرم المسلمين ويعظمهم.

حكاية

يذكر أن هذا الملك كبك كان تكلم يوماً مع الفقيه الواعظ المذكر بدر الدين الميداني فقال له: أنت تقول: إن الله ذكر كل شيء في كتابه العزيز. قال: نعم. فقال: أين اسمي فيه ؟ فقال هو في قوله تعالى " في أي صورةٍ ما شاء ركبك " فأعجبه ذلك. وقال: يخشي، ومعناه بالتركية جيد. فأكرمه إكراماً كثيراً، وزاد في تعظيم المسلمين.

حكاية

ومن أحكام كبك ما ذكر أن امرأة شكت له بأحد الأمراء، وذكرت أنها فقيرة ذات أولاد وكان لها لبن تقوتهم بثمنه، فاغتصبه ذلك الأمير وشربه. فقال لها: أنا أوسطه. فإن خرج اللبن من جوفه مضى لسبيله، وإلا وسطتك بعده. فقالت المرأة: قد حللته ولا أطلبه بشيء. فأمر به فوسط فخرج اللبن من بطنه. ولنعد لذكر السلطان طرمشيرين، ولما أقمت بالمحلة، وهم يسمونها الأردوا أياماً، ذهبت يوماً لصلاة الصبح بالمسجد على عادتي، فلما صليت ذكر لي بعض الناس أن السلطان بالمسجد. فلما قام عن الصلاة تقدمت للسلام عليه، وقام الشيخ حسن، والفقيه حسام الدين الياغي، وأعلمه بحالي وقدومي منذ أيام. فقال لي بالتركية: خش ميسن يخشي ميسن قطلو يوسن، ومعنى خش ميسن في عافية أنت، ومعنى يخشي ميسن جيد أنت، ومعنى قطلو يوسن مبارك قدومك. وكان عليه في ذلك الحين قباء قدسي أخضر، وعلى رأسه شاشية مثله. ثم انصرف إلى مجلسه راجلاً، والناس يتعرضون له بالشكايات، فيقف لكل مشتكٍ منهم صغيراً أو كبيراً ذكراً او انثى. ثم بحث عني فوصلت إليه وهو في خرقة، والناس خارجها ميمنة وميسرة، والأمراء منهم على الكراسي، وأصحابهم وقوف على رؤوسهم، وبين أيديهم، وسائر الجند قد جلسوا صفوفاً، وأمام كل واحد منهم سلاحه. وهم أهل النوبة يقعدون هنالك إلى العصر، ويأتي آخرون فيقعدون إلى آخر الليل. وقد صنعت هنالك سقائف من ثياب القطن يكونون بها. ولما دخلت إلى الملك بداخل الخرقة، وجدته جالساً على كرسي شبه المنبر، مكسوٍ بالحرير المزركش بالذهب، وداخل الخرقة ملبس بثياب الحرير المذهب، والتاج المرصع بالجوهر واليواقيت معلق فوق رأس السلطان، بينه وبين رأسه قدر ذراع. والأمراء الكبار على الكراسي عن يمينه ويساره، وأولاد الملوك بأيديهم المذاب بين يديه، وعند باب الخرقة النائب والوزير والحاجب وصاحب العلامة. وهم يسمون آل طمغى وآل " بفتح الهمزة " معناه الأحمر وطمغى " بفتح الطاء المهمل وسكون الميم والغين المعجم المفتوح " ومعناه العلامة. وقام إلي أربعتهم حين دخولي ودخلوا معي، فسلمت عليه وسألني، وصاحب العلامة يترجم بيني وبينه، عن مكة والمدينة والقدس شرفها الله، وعن مدينة الخليل عليه السلام، وعن دمشق ومصر والملك الناصر، وعن العراقين وملكهما، وبلاد الأعاجم. ثم أذن المؤذن بالظهر فانصرفنا. وكنا نحضر معه الصلوات، وذلك أيام البرد الشديد المهلك. فكان لا يترك صلاة الصبح والعشاء في الجماعة، ويقعد للذكر بالتركية بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس. ويأتي إليه كل من في المسجد فيصافحه ويشد بيده على يده. وكذلك يفعلون في صلاة العصر. وكان إذا أوتي بهدية من زبيب أو تمر، والتمر عزيز عندهم، وهم يتبركون به، يعطي منها بيده لكل من في المسجد.

حكاية

ومن فضائل هذا الملك أنه حضرت صلاة العصر يوماً، ولم يحضر السلطان. فجاء أحد فتيانه بسجادة ووضعها قبالة المحراب حيث جرت عادته أن يصلي، وقال للإمام حسام الدين الياغي: إن مولانا يريد أن تنتظره بالصلاة قليلاً ريثما يتوضأ. فقام الإمام المذكورة وقال: نماز، ومعناها الصلاة، براي حد او براي طرمشيرين، أي الصلاة لله أو لطرمشيرين. ثم أمر المؤذن بإقامة الصلاة. وقد جاء السلطان، وقد صلي منها ركعتين، فصلى الركعتين الأخريين حيث انتهى به القيام، وذلك في الموضع الذي تكون فيه أنعلة الناس عند باب المسجد، وقضى ما فاته، وقام إلى الإمام ليصافحه وهو يضحك، وجلس قبالة المحراب، والشيخ الإمام إلى جانبه، وأنا إلى جانب الإمام. فقال لي: إذا مشيت إلى بلادك، فحدث أن فقيراً من فقراء الاعاجم يفعل هكذا مع سلطان الترك. وكان هذا الشيخ يعظ الناس في كل جمعة، ويأمر السلطان بالمعروف، وينهاه عن المنكر وعن الظلم، ويغلظ عليه القول، والسلطان ينصت لكلامه ويبكي. وكان لا يقبل من عطاء السلطان شيئاً، ولم يأكل قط من طعامه، ولا لبس من ثيابه. وكان هذا الشيخ من عباد الله الصالحين. وكنت كثيراً ما أرى عليه قباء قطن مبطن بالقطن محشواً به، وقد بلي وتمزق، وعلى رأسه قلنسوة لبد يساوي مثلها قيراطاً، ولا عمامة عليه. فقلت له في بعض الأيام: يا سيدي، ما هذا القباء الذي أنت لابسه ؟ إنه ليس بجيد. فقال لي: يا ولدي ليس هذا القباء لي، وإنما هو لابنتي، فرغبت منه أن ياخذ بعض ثيابي، فقال لي: عاهدت الله منذ خمسين سنة أن لا أقبل من أحد شيئاً، ولو كنت اقبل من أحد لقبلت منك.

ولما عزمت على السفر بعد مقامي عند هذا السلطان أربعة وخمسين يوماً، أعطاني السلطان سبعمائة دينار دراهم، وفروة سمور تساوي مائة دينار، طلبتها منه لأجل البرد. ولما ذكرتها له أخذ أكمامي وجعل يقبلها بيده تواضعاً منه وفضلاً وحسن خلق، وأعطاني فرسين وجملين. ولما اردت وداعه أدركته في أثناء طريقه إلى متصيده. وكان اليوم شديد البرد جداً. فو الله ما قدرت على أن أنطق بكلمة لشدة البرد، ففهم ذلك وضحك، وأعطاني يده وانصرفت. وبعد سنتين من وصولي إلى أرض الهند بلغنا الخبر بأن الملأ من قومه وأمرائه اجتمعوا بأقصى بلاده المجاورة للصين، وهنالك معظم عساكره، وبايعوا ابن عم له اسمه بوزن أغلي وكل من كان من أبناء الملوك فهم يسمونه أغلي " بضم الهمزة وسكون الغين المعجمة وكسر اللام " وبوزن " بضم الباء الموحدة وضم الزاي "، وكان مسلماً إلا أنه فاسد الدين سيء السيرة. وسبب بيعتهم له وخلعهم لطرمشيرين أن طرمشيرين خالف أحكام جدهم تنكيز اللعين الذي خرب بلاد الإسلام، وقد تقدم ذكره. وكان تنكيز ألف كتاباً في أحكامه يسمى عندهم اليساق " بفتح الياء آخر الحروف والسين المهمل وآخره قاف "، وعندهم أنه من خالف أحكام هذا الكتاب فخلعه واجب. ومن جملة أحكامه أنهم يجتمعون يوماً في السنة يسمونه الطوى ومعناه يوم الضيافة ويأتي أولاد تنكيز والأمراء من أطراف البلاد، ويحضر الخواتين وكبار الأجناد، وإن كان سلطانهم قد غير شيئاً من تلك الأحكام يقوم إليه كبراؤهم فيقولون له: غيرت كذا وغيرت كذا وفعلت كذا، وقد وجب خلعك. ويأخذون بيده ويقيمونه عن سرير الملك، ويقعدون غيره من أبناء تنكيز، وإن كان أحد الأمراء الكبار أذنب ذنباً في بلاده حكموا عليه بما يستحقه. وكان السلطان طرمشيرين قد أبطل حكم هذا اليوم، ومحا رسمه، فأنكروه عليه أشد الإنكار، وأنكروا عليه أيضاً كونه أقام أربع سنين فيما يلي خراسان من بلاده، ولم يصل إلى الجهة التي توالي الصين. والعادة أن الملك يقصد تلك الجهة في كل سنة، فيختبر أحوالها وحال الجند بها، لأن أصل ملكهم منها. ودار الملك هي مدينة المالق. فلما بايعوا بوزن أتى في عسكر عظيم، وخاف طرمشيرين على نفسه من أمرائه، ولم يأمنهم، فركب في خمسة عشر فارساً، يريد بلاد غزنة، وهي من عمالته، وواليها كبير أمرائه، وصاحب سره برنطيه؛ وهذا الأمير محب في الإسلام والمسلمين، قد عمر في عمالته نحو أربعين زاوية، فيها الطعام للوارد والصادر. وتحت يده العساكر العظيمة، ولم أر قط فيمن رأيته من الآدميين بجميع بلاد الدنيا أعظم خلقه منه. فلما عبر نهر جيحون وقصد طريق بلخ، رآه بعض الأتراك من أصحاب ينقي ابن أخيه كبك. وكان السلطان طرمشيرين المذكور قتل أخاه كبك المذكور، وبقي ابنه ينقي ببلخ. فلما أعلمه التركي بخبره قال: ما فر إلا لأمر حدث عليه. فركب في أصحابه وقبض عليه وسجنه. ووصل بوزن إلى سمرقند وبخارى فبايعه الناس، وجاءه ينقي بطرمشيرين، فيذكر أنه لما وصل إلى نسف، بخارج سمرقند، قتل هنالك ودفن بها، وخدم تربته الشيخ شمس الدين كردن بريدا. وقيل: إنه لم يقتل، كما سنذكره. وكردن " بكاف معقودة وراء مسكن ودال مهمل مفتوح ونون " ومعناه العنق، وبريدا " بضم الباء الموحدة وكسر الراء وياء مد ودال مهمل " معناه المقطوع. ويسمى بذلك لضربة كانت في عنقه، وقد رأيته بأرض الهند، ويقع ذكره فيما بعد. ولما ملك بوزن هرب ابن السلطان طرمشيرين، وهو بشاي أغل " أغلي "، وأخته وزوجها فيروز إلى ملك الهند، فعظمهم وأنزلهم منزلة عليه بسبب ما كان بينه وبين طرمشيرين من الود والمكاتبة والمهاداة، وكان يخاطبه بالأخ. ثم بعد ذلك أتى رجل من أرض السند، وادعى أنه هو طرمشيرين، واختلف الناس فيه. فسمع بذلك عماد الملك سرتيز غلام ملك الهند، ووالي بلاد السند، ويسمى ملك عرض. وهو الذي تعرض بين يديه عساكر الهند، وإليه أمرها، ومقره بملتان قاعدة السند. فبعث إليه بعض الأتراك العارفين به، فعادوا إليه وأخبروه أنه هو طرمشيرين حقاً. فأمر له بالسراجة، وهي أفراج. فضرب خارج المدينة، ورتب له ما يرتب لمثله، وخرج لاستقباله، وترجل له وسلم عليه، وأتى في خدمته إلى السراجة، فدخلها راكباً كعادة الملوك. ولم يشك أحد أنه هو. وبعث إلى ملك الهند يخبره، فبعث إليه الأمراء يستقبلونه بالضيافات. وكان في خدمة ملك الهند حكيم ممن خدم طرمشيرين فيما تقدم، وهو كبير الحكماء بالهند. فقال للملك: أنا أتوجه إليه، وأعرف حقيقة أمره، فإني كنت عالجت له دملاً تحت ركبته وبقي أثره، وبه أعرفه.

فأتى إليه ذلك الحكيم، واستقبله مع الأمراء، ودخل عليه ولازمه لسابقته عنده، وأخذ يغمز رجليه، وكشف عن الأثر فشتمه. وقال له: تريد أن تنظر إلى الدمل الذي عالجته ؟ ها هو ذا وأراه أثره. فتحقق أنه هو، وعاد إلى ملك الهند فأعلمه بذلك. ثم إن الوزير خواجه جهان أحمد بن إياس وكبير الأمراء قطلوخان معلم السلطان أيام صغره دخلا على ملك الهند، وقالا له: يا خوند عالم، هذا السلطان طرمشيرين قد وصل. وصح أنه هو. وها هنا من قومه نحو أربعين ألفاً وولده وصهره. أرأيت إن اجتمعوا عليه ما يكون من العمل ؟ فوقع هذا الكلام بموقع منه عظيم. وأمر أن يؤتى بطرمشيرين معجلاً. فلما دخل عليه أمر بالخدمة كسائر الواردين، ولم يعظم. وقال له السلطان: بامادر كاني، وهي شتمة قبيحة، كيف تكذب وتقول: إنك طرمشيرين ؟ وطرمشيرين قد قتل. وهذا خادم تربته عندنا. والله لولا المعرة لقتلتك. ولكن أعطوه خمسة آلاف دينار. واذهبوا به إلى دار بشاي أغلي وأخته ولدي طرمشيرين، وقولوا لهم: إن هذا الكاذب يزعم أنه والدكم. فدخل عليهم فعرفوه. وبات عندهم والحراس يحرسونه وأخرج بالغد. وخافوا أن يهلكوا بسببه فأنكروه.

ونفي عن بلاد الهند والسند. فسلك طريق كبج ومكران، وأهل البلاد يكرمونه ويضيفونه ويهادونه، ووصل إلى شيراز، فأكرمه سلطانها أبو إسحاق، وأجرى له كفايته. ولما دخلت عند وصولي من الهند إلى مدينة شيراز. ذكر لي أنه باق بها. وأردت لقاءه، ولم أفعل، لأنه كان في دار لا يدخل إليه أحد إلا بإذن من السلطان أبي إسحق. فخفت مما يتوقع بسبب ذلك، ثم ندمت على عدم لقائه. رجع الحديث إلى بوزن: وذلك أنه لما ملك، ضيق على المسلمين، وظلم الرعية، وأباح للنصارى واليهود عمارة كنائسهم، فضج االمسلمون من ذلك وتربصوا به الدوائر، واتصل خبره بخليل ابن السلطان اليسور المهزوم على خراسان، فقصد ملك هراة، وهو السلطان حسن ابن السلطان غياث الدين الغوري، فأعلمه بما كان في نفسه، وسأل منه الإعانة بالعساكر والمال على أن يشاطره الملك إذا استقام. فبعث معه الملك حسين عسكراً عظيماً. وبين هراة وترمذ تسعة أيام. فلما سمع أمراء السلطان بقدوم خليل تلقوه بالسمع والطاعة والرغبة في جهاد العدو. وكان أول قادم عليه علاء الملك خداوند زاده صاحب ترمذ، وهو أمير كبير شريف حسيني النسب. فأتاه في أربعة آلاف من المسلمين، فسر به وولاه وزارته، وفوض إليه أمره، وكان من الأبطال. وجاء الأمراء من كل ناحية واجتمعوا على خليل والتقى مع بوزن. فمالت العساكر إلى خليل، وأسلموا بوزن وأتوا به أسيراً. فقتله خنقاً وبأوتار القسي. وتلك عادة لهم أنهم لا يقتلون من كان من أبناء الملوك إلا خنقاً. واستقام الملك لخليل، وعرض عساكره بسمرقند، فكانوا ثمانين ألفاً، عليهم وعلى خيلهم الدروع. فصرف العسكر الذي جاء به من هراة، وقصد بلاد المالق. فقدم التتر على أنفسهم واحداً منهم، ولقوه على مسيرة ثلاث من المالق، وبمقربة من أطراز " طراز ". وحمي القتال، وصبر الفريقان. فحمل الأمير خداوند زاده وزيره في عشرين ألفاً من المسلمين حملة لم يثبت لها التتر، فانهزموا واشتد فيهم القتل. وأقام خليل بالمالق ثلاثاً. وخرج إلى استئصال من بقي من التتر، فأذعنوا له بالطاعة. وجاز إلى تخوم الخطا والصين، وفتح مدينة قراقرم ومدينة بش بالغ. وبعث إليه سلطان الخطا بالعساكر، ثم وقع بينهما الصلح. وعظم أمر خليل، وهابته الملوك. وأظهر العدل، ورتب العساكر بالمالق، وترك بها وزيره خداوند زاده. وانصرف إلى سمرقند وبخارى. ثم إن الترك أرادوا الفتنة، فسعوا إلى خليل بوزيره المذكور، وزعموا أنه يريد الثورة، ويقول، إنه أحق بالملك، لقرابته من النبي صلى الله عليه وسلم وكرمه وشجاعته. فبعث والياً إلى المالق عوضاً عنه، وأمره أن يقدم عليه نفر يسير من أصحابه. فلما فدم عليه قتله عند وصوله من غير تثبت. فكان ذلك شبب خراب ملكه. وكان خليل، لما عظم أمره، بغى على صاحب هراة الذي أورثه الملك وجهزه بالعساكر والمال. فكتب إليه أن يخطب في بلاد باسمه، ويضرب الدنانير والدراهم على سكته، فغاظ ذلك الملك حسيناً، وأنف منه وأجابه بأقبح جواب. فتجهز خليل لقتاله، فلم توافقه عساكر الإسلام ورأوه باغياً عليه. وبلغ خبره إلى الملك حسين فجهز العساكر مع ابن عمه ملك رونا، والتقى الجمعان. فانهزم خليل وأتى به إلى الملك حسين أسيراً، فمن عليه بالبقاء، وجعله في دار، وأعطاه جارية، وأجرى عليه النفقة. وعلى هذا الحال تركته عنده، وفي أواخر سنة سبع وأربعين عند خروجي من الهند. ولنعد إلى ما كنا بسبيله: لما عاد السلطان طرمشيرين، سافرت إلى مدينة سمرقند. وهي من أكبر المدن وأحسنها وأتمها جمالاً. مبنية على شاطئ وادٍ يعرف بوادي القصارين، عليه النواعير تسقى البساتين. وعنده يجتمع أهل البلد بعد صلاة العصر للنزهة والتفرج. ولهم عليه مساطب ومجالس يقعدون عليها، ودكاكين تباع بها الفاكهة وسائر المأكولات. وكانت على شاطئه قصور عظيمة، وعمارة تنبئ عن علو همم أهلها. فدثر أكثر ذلك. وكذلك المدينة خرب كثير منها، ولا سور لها ولا أبواب عليها. وفي داخلها البساتين. وأهل سمرقند لهم مكارم وأخلاق ومحبة في الغريب. وهم خير من أهل بخارى. وبخارج سمرقند قبر. قثم بن العباس بن عبد المطلب، رضي الله عن العباس وعن ابنه، وهو المستشهد حين فتحها. ويخرج أهل سمرقند كل ليلة اثنين وجمعة إلى زيارته. والتتر يأتون لزيارته، وينذرون له النذور العظيمة، ويأتون إليه بالبقر والغنم والدراهم والدنانير، فيصرف ذلك في النفقة على الوارد والصادر. ولخدام الزاوية والقبر المبارك. وعليه قبة قائمة على أربع أرجل، ومع كل رجل ساريتان من الرخام، منه الخضر والسود والبيض والحمر. وحيطان القبة بالرخام المجزع المنقوش بالذهب، وسقفها مصنوع بالرصاص. وعلى القبر خشب الأبنوس المرصع، مكسو الأركان بالفضة. وفوقه ثلاثة من قناديل الفضة. وفرش القبة بالصوف والقطن. وخارجها نهر كبير يشق الزاوية التي هنالك، على حافتيه الأشجار ودوالي العنب والياسمين. وبالزاوية مساكن يسكنها الوارد والصادر. ولم يغير التتر أيام كفرهم شيئاً من حال هذا الموضع المبارك. كانوا يتبركون به، لما يرون له من الآيات. وكان الناظر في كل حال من هذا الضريح المبارك وما يليه حين نزولنا به الأمير غياث الدين محمد بن عبد القادر ابن عبد العزيز بن يوسف ابن الخليفة المستنصر بالله العباسي، قدمه لذلك السلطان طرمشيرين لما قدم عليه من العراق، وهو الآن عند ملك الهند، وسيأتي ذكره. ولقيت بسمرقند قاضيها المسمى عندهم صدر الجهان، وهو من الفضلاء ذوي المكارم. وسافر إلى بلاد الهند بعد سفري إليها فأدركته منيته بمدينة ملتان قاعدة بلاد السند.

حكاية

لما مات هذا القاضي بملتان كتب صاحب الخبر بأمره إلى ملك الهند، وأنه قدم برسم بابه، فاخترم دون ذلك فلما بلغ الخبر إلى الملك، أمر أن يبعث إلى أولاده عدد من آلاف الدنانير، لا أذكره الآن، وأمر أن يعطى لأصحابه ما كان يعطى لهم لو وصلوا معه وهو بقيد الحياة. ولملك الهند في كل بلد من بلاده، صاحب الخبر يكتب له بكل ما يجري في ذلك البلد من الأمور، وممن يرد عليه من الواردين. وإذا أتى الوارد كتبوا من أي البلاد ورد، وكتبوا اسمه ونعته وثيابه وأصحابه وخيله وخدامه وهيئته من الجلوس والمأكل، وجميع شؤونه وتصرفاته وما يظهر منه من فضيلة أو ضدها، فلا يصل الوارد إلى الملك إلا وهو عارف بجميع حاله، فتكون كرامته على مقدار ما يستحقه. وسافرنا من سمرقند فاجتزنا ببلدة نسف. وإليها ينسب أبو حفص عمر النسفي، مؤلف كتاب المنظومة في المسائل الخلافية بين الفقهاء الأربعة رضي الله عنهم، ثم وصلنا إلى مدينة ترمذ التي ينسب إليها الإمام أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي مؤلف الجامع الكبير في السنن. وهي مدينة كبيرة حسنة العمارة والأسواق تخترقها الأنهار. وبها البساتين الكثيرة والعنب، والسفرجل بها متناهي الطيب، واللحوم بها كثيرة، وكذلك الألبان. وأهلها يغسلون رؤوسهم في الحمام باللبن عوضاً عن الطفل. ويكون عند كل صاحب حمام أوعية كبار مملوءة لبناً. فإذا دخل الرجل الحمام أخذ منها في إناء صغير فغسل رأسه، وهو يرطب الشعر ويصقله. وأهل الهند يجعلون في رؤوسهم زيت السمسم، ويسمونه الشيرج، ويغسلون الشعر بعده بالطفل، فينعم الجسم، ويصقل الشعر ويطيله. وبذلك طالت لحى أهل الهند ومن سكن معهم. وكانت مدينة ترمذ القديمة مبنية على شاطئ جيحون، فلما خربها تنكيز، بنيت هذه الحديثة على ميلين من النهر. وكان نزولنا بها بزاوية الشيخ الصالح عزيزان، من كبار المشايخ وكرمائهم، كثير المال والرباع والبساتين، ينفق على الوارد والصادر من ماله. واجتمعت قبل وصولي إلى هذه المدينة بصاحبها علاء الملك خداوند زاده. وكتب لي إليها بالضيافة، فكانت تحمل إلينا أيام مقامنا بها في كل يوم. ولقيت أيضاً قاضيها قوام الدين، وهو متوجه لرؤية السلطان طرمشيرين، وطالب للإذن له في السفر إلى بلاد الهند، وسيأتي ذكر لقائي له بعد ذلك. ولأخويه ضياء الدين وبرهان الدين بملتان، وسفرنا جميعاً إلى الهند، وذكر أخويه الآخرين عماد الدين وسيف الدين، ولقائي لهما بحضرة ملك الهند، وذكر ولديه وقدومهما على ملك الهند بعد قتل أبيهما، وتزويجهما ابنتي الوزير خواجه جهان، وما جرى في ذلك كله إن شاء الله تعالى. ثم جزنا نهر جيحون إلى بلاد خراسان. وسرنا بعد انصرافنا من ترمذ وإجازة الوادي يوماً ونصف يوم في صحراء ورمال لا عمارة بها إلى مدينة بلخ، وهي خاوية على عروشها غير عامرة. ومن رآها ظنها عامرة لإتقان بنائها. وكانت ضخمة فسيحة ومساجدها ومدارسها باقية الرسوم حتى الآن، ونقوش مبانيها مدخلة بأصبغة اللازورد. والناس ينسبون اللازورد إلى خراسان، وإنما يجلب من جبال بدخشان التي ينسب إليها الياقوت البدخشي، والعامة يقولون: البلخش، وسأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. وخرب هذه المدينة تنكيز اللعين، وهدم من مسجدها نحو الثلث، بسبب كنز ذكر له أنه تحت سارية من سواريه. وهو من أحسن مساجد الدنيا وأفسحها. ومسجد رباط الفتح بالمغرب يشبهه في عظم سواريه. ومسجد بلخ أجمل منه في سوى ذلك.

حكاية

ذكر لي بعض أهل التاريخ، أن مسجد بلخ بنته امرأة كان زوجها أميراً ببلخ لبني العباس، يسمى داود بن علي. فاتفق أن الخليفة غضب مرة على أهل بلخ لحادث أحدثوه. فبعث إليهم من يغرمهم مغرماً فادحاً. فلما بلغ إلى بلخ أتى نساؤها وصبيانها إلى تلك المرأة التي بنت المسجد، وهي زوج أميرهم، وشكوا حالهم وما لحقهم من هذا المغرم. فبعثت إلى الأمير الذي قدم برسم تغريمهم بثوب لها مرصع بالجوهر قيمته أكثر مما أمر بتغريمه، فقالت له: اذهب بهذا الثوب إلى الخليفة، فقد أعطيته صدقة عن أهل بلخ لضعف حالهم. فذهب به إلى الخليفة وألقى الثوب بين يديه وقص عليه القصة، فخجل الخليفة وقال: أتكون المراة أكرم منا ؟ وأمره برفع المغرم عن أهل بلخ، وبالعودة إليها ليرد للمرأة ثوبها، وأسقط عن أهل بلخ خراج سنة. فعاد الأمير إلى بلخ، وأتى منزل المرأة وقص عليها مقالة الخليفة ورد عليها الثوب. فقالت له: أوقع بصر الخليفة على هذا الثوب ؟ قال: نعم. قالت: لا ألبس ثوباً وقع عليه بصر غير ذي محرم مني، وأمرت ببيعه. فبني منه المسجد والزاوية ورباط في مقابلته مبني بالكذان ، وهو عامر حتى الآن. وفضل من ثمن الثوب مقدار ثلثه. فذكر أنها أمرت بدفنه تحت بعض سواري المسجد، ليكون هنالك متيسراً إن احتيج إليه. خرج فأخبر تنكيز بهذه الحكاية، فأمر بهدم سواري المسجد، فهدم منها نحو الثلث، ولم يجد شيئاً، فترك الباقي على حاله. وبخارج بلخ قبر يذكر أنه قبر عكاشة بن محصن الأسدي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً، الذي يدخل الجنة بلا حساب. وعليه زاوية معظمة بها كان نزولنا، وبخارجها بركة ماء عجيبة، عليها شجرة جوز عظيمة. ينزل الواردون في الصيف تحت ظلالها. وشيخ هذه الزاوية يعرف بالحاج خرد، وهو الصغير من الفضلاء، وركب معنا وأرانا مزارات هذه المدينة. منها قبر حزوقيل النبي عليه السلام، وعليه قبة حسنة. وزرنا بها أيضاً قبوراً كثيرة من قبور الصالحين، لا أذكرها الآن. ووقفنا على دار إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه، وهي دار ضخمة مبنية بالصخر الأبيض الذي يشبه الكذان. وكان زرع الزاوية مقترناً بها، وقد سدت عليه فلم ندخلها، وهي بمقربة من المسجد الجامع. ثم سافرنا من مدينة بلخ، فسرنا في جبال قوةاستان " قهستان " سبعة أيام. وهي قرى كثيرة عامرة بها المياه الجارية والأشجار المورقة وأكثرها شجر التين، وبها زوايا كثيرة فيها الصالحون المنقطعون إلى الله تعالى. وبعد ذلك كان وصولنا إلى مدينة هراة، وهي أكبر المدن العامرة بخراسان. ومدن خراسان العظيمة أربع: اثنتان عامرتان وهما هراة ونيسابور، واثنتان خربتان وهما بلخ ومرو. ومدينة هراة كبيرة عظيمة كثيرة العمارة، ولأهلها صلاح وعفاف وديانة. وهم على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه، وبلدهم طاهر من الفساد.

ذكر سلطان هراة

وهو السلطان المعظم حسين ابن السلطان غياث الدين الغوري، صاحب الشجاعة المأثورة. والتأييد والشجاعة ظهر له من إنجاد الله تعالى وتأييده في موطنين اثنين ما يقضي منه العجب، أحدهما عند ملاقاة جيشه للسلطان خليل الذي بغى عليه، وكان منتهى أمره حصوله أسيراً في يديه، والموطن الثاني عند ملاقاته بنفسه لمسعود، سلطان الرافضة. وكان منتهى أمره تبديده وفراره وذهاب ملكه. وولي السلطان حسين الملك بعد أخيه المعروف بالحافظ، وولي أخوه بعد أبيه غياث الدين.

حكاية الرافضة

كان بخراسان رجلان: أحدهما يسمى بمسعود والآخر يسمى بمحمد. وكان لهما خمسة من الأصحاب، وهم من الفتاك، ويعرفون بالعراق بالشطار، ويعرفون بخراسان بسرابداران " سربداران "، ويعرفون بالعراق بالصقور. فاتفق سبعتهم على الفساد وقطع الطرق وسلب الأموال، وشاع خبرهم، وسكنوا جبلاً منيعاً بمقربة من مدينة بيهق، وتسمى أيضاً مدينة سيزار " سيزوار ". فكانوا يكمنون بالنهار. ويخرجون بالليل والعشي، فيضربون على القرى، وبقطعون الطرق، ويأخذون الأموال. وانثال عليهم أشباههم من أهل الشر والفساد، فكثر عددهم واشتدت شوكتهم وهابهم الناس، وضربوا على مدينة بيهق فملكوها، ثم ملكوا سواها من المدن، واكتسبوا الأموال وجندوا الجنود وركبوا الخيل، وتسمى مسعود بالسلطان. وصار العبيد يفرون عن مواليهم إليه. فكل عبد فر منهم يعطيه الفرس والمال. وإن ظهرت له شجاعة أمره على جماعة، فعظم جيشه واستفحل أمره وتمذهب جميعهم بمذهب الرفض، وطمحوا إلى استئطال أهل السنة بخراسان، وأن يجعلوها كلمة واحدة رافضية. وكان بمشهد طوس شيخ من الرافضة يسمى بحسن، وهو عندهم من الصلحاء، فوافقهم على ذلك، وسموه بالخليفة وأمرهم بالعدل فأظهروه. حتى كانت الدراهم والدنانير تسقط في معسكرهم فلا يلتقطها أحد حتى يأتي ربها فيأخذها. وغلبوا على نيسابور، وبعث إليهم السلطان طغيتمور بالعساكر فهزموه، ثم بعث إليهم نائبه أرغون شاه فهزموه وأسروه ومنوا عليه، ثم غزاهم طغيتمور بنفسه في خمسين ألفاً من التتر فهزموه، وملكوا البلاد، وتغلبوا على سرخس والزاوه وطوس، وهي من أعظم بلاد خراسان. وجعلوا خليفتهم بمشهد علي بن موسى الرضا، وتغلبوا على مدينة الجام، ونزلوا بخارجها وهم قاصدون مدينة هراة، وبينها وبينهم مسيرة ست. فلما بلغ ذلك الملك حسيناً جمع الأمراء والعساكر وأهل المدينة واستشارهم، هل يقيمون حتى يأتي القوم أو يمضوا إليهم فيناجزوهم. فوقع إجماعهم على الخروج إليهم، وهم قبيلة واحدة يسمون الغورية. ويقال: إنهم ينسبون على غور الشام، وإن أصلهم منه. فتجهزوا أجمعون، واجتمعوا من أطراف البلاد، وهم ساكنون بالقرى، وبصحراء مرغيس " بدغيس "، وهي مسيرة أربع، لا يزال عشبها أخضر. ترعى منه ماشيتهم وخيلهم. وأكثر شجرها الفستق، ومنها يحمل إلى أرض العراق. وعضدهم أهل مدينة سمنان، ونفروا جميعاً إلى الرافضة، وهم مائة وعشرون ألفاً ما بين رجاله وفرسان، يقودهم الملك حسين. واجتمعت الرافضة في مائة وخمسين ألفاً من الفرسان. وكانت الملاقاة بصحراء بوشنج. وصبر الفريقان معاً. ثم كانت الدائرة على الرافضة، وفر سلطانهم مسعود، وثبت خليفتهم حسن في عشرين ألفاً حتى قتل، وقتل أكثرهم، وأسر منهم نحو أربعة آلاف. وذكر لي بعض من حضر هذه الوقعة أن ابتداء القتال كان في وقت الضحى، وكانت الهزيمة عند الزوال. ونزل الملك حسين بعد الظهر فصلى، وأتي بالطعام، فكان هو وكبراء أصحابه يأكلون، وسائرهم يضربون أعناق الأسرى. وعاد إلى حضرته بعد هذا الفتح العظيم، وقد نصر الله السنة على يديه، وأطفأ نار الفتنة. وكانت هذه الوقعة بعد خروجي من الهند عام ثمانية وأربعين. ونشأ بهراة رجل من الزهاد والصلحاء الفضلاء واسمه نظام الدين مولانا، وكان أهل هراة يحبونه، ويرجعون إلى قوله. وكان يعظهم ويذكرهم، وتوافقوا معه على تغيير المنكر، وتعاقد معهم على ذلك خطيب المدينة المعروف بملك ورنا، وهو ابن عم الملك حسين، ومتزوج بزوجة والده، وهي من أحسن الناس صورة وسيرة. والملك يخافه على نفسه، وسنذكر خبره. وكانوا متى علموا بمنكر، ولو كان عند الملك غيروه.

حكاية

ذكر لي انهم تعرفوا يوماً أن بدار الملك حسين منكراً، فاجتمعوا لتغييره، وتحصن منهم بداخل داره. فاجتمعوا على الباب في ستة آلاف رجل. فخاف منهم. فاستحضر الفقيه وكبار البلد، وكان قد شرب الخمر فأقاموا عليه الحد بداخل قصره، وانصرفوا عنه.

حكاية هي سبب قتل الفقيه نظام الدين المذكور

كانت الأتراك المجاورون لمدينة هراة الساكنون بالصحراء، وملكهم غيتمور الذي مر ذكره. وهم نحو خمسين ألفاً، يخافهم الملك حسين، ويهدي لهم الهدايا في كل سنة، ويداريهم. وذلك قبل هزيمته للرافضة. وأما بعد هزيمته للرافضة تغلب عليهم. ومن عادة هؤلاء الأتراك التردد إلى مدينة هراة، وربما شربوا بها الخمر، وأتاها بعضهم وهو سكران. فكان نظام الدين يحد من وجد منهم سكران. وهؤلاء الأتراك أهل نجدة وبأس، ولا يزالون يضربون على بلاد الهند، فيسبون ويقتلون، وربما سبوا بعض المسلمات اللاتي يكن بأرض الهند ما بين الكفار، فإذا خرجوا بهن إلى خراسان يطلق نظام الدين المسلمات من أيدي الترك. وعلامة النسوة المسلمات بأرض الهند ترك ثقب الأذن. والكافرات آذانهن مثقوبات. فاتفق مرة أن أميراً من أمراء الترك يسمى تمور ألطي سبى امرأة، وكلف بها شديداً، فذكرت أنها مسلمة، فانتزعها الفقيه من يده. فبلغ ذلك من التركي مبلغاً عظيماً، وركب في آلاف من أصحابه، وأغار على خيل هراة، وهي في مرعاها بصحراء مرغيس " بدغيس "، واحتملوها. فلم يتركوا لأهل هراة ما يركبون ولا ما يحلبون، وصعدوا بها إلى جبل هنالك لا يقدر عليهم فيه. ولم يجد السلطان ولا جنده خيلاً يتبعونهم بها، فبعث إليهم رسولاً يطلب منهم رد ما أخذوه من الماشية والخيل، ويذكرهم العهد الذي بينهم. فأجابوا بأنهم لا يردون ذلك حتى يمكنوا من الفقيه نظام الدين. فقال السلطان: لا سبيل إلى هذا. وكان الشيخ أبو أحمد الجستي حفيد الشيخ مودود الجستي له بخراسان شأن عظيم، وقوله معتبر لديهم، فركب في جماعة خيل من أصحابه ومماليكه. فقال: أنا أحمل الفقيه نظام الدين معي إلى الترك ليرضوا بذلك ثم أرده. فكأن الناس مالوا إلى قوله. ورأى الفقيه نظام الدين اتفاقهم على ذلك. فركب مع الشيخ أبي أحمد ووصل الى الترك. فقام إليه الأمير تمور ألطي وقال له: أنت أخذت امرأتي مني، وضربه بدبوسه فكسر دماغه، فخر ميتاً. فسقط في أيدي الشيخ أبي أحمد، وانصرف من هنالك إلى بلده، ورد الترك ما كانوا أخذوه من الخيل والماشية. وبعد مدة قدم ذلك التركي الذي قتل الفقيه على مدينة هراة، فلقيه جماعة من أصحاب الفقيه، فتقدموا إليه كأنهم مسلمون عليه، وتحت ثيابهم السيوف فقتلوه. وفر أصحابه. ولما كان بعد هذا، بعث الملك حسين ابن عمه ملك ورنا الذي كان رفيق الفقيه نظام الدين في تغيير المنكر رسولاً إلى ملك سجستان. فلما حصل بها بعث إليه أن يقيم هنالك ولا يعود إليه. فقصد بلاد الهند ولقيته وانا خارج منها بمدينة سيوستان من السند، وهو أحد الفضلاء. وفي طبعه حب الرياسة والصيد والبراز والخيل والمماليك والأصحاب واللباس الملوكي الفاخر، ومن كان على هذا الترتيب فإنه لا يصلح حاله بأرض الهند. فكان من أمره أن ملك الهند ولاه بلداً صغيراً. وقتله به بعض أهل هراة المقيمين بالهند بسبب جارية. وقيل: إن ملك الهند دس عليه من قتله بسعي الملك حسين في ذلك، ولأجله خدم الملك حسين ملك الهند بعد موت ملك ورنا المذكور، وهاداه ملك الهند، وأعطاه مدينة بكار من بلاد السند. ومجباها خمسون ألفاً من دنانير الذهب في كل سنة. " ولنعد إلى ما كان بسبيله فنقول " سافرنا من هراة إلى مدينة الجام، وهي متوسطة حسنة، ذات بساتين وأشجار وعيون كثيرة وأنهار، وأكثرها التوت. والحرير بها كثير. وهي تنسب إلى الولي العابد الزاهد شهاب الدين أحمد الجامي، وسنذكر حكايته، وحفيده الشيخ أحمد المعروف بزاده الذي قتله ملك الهند. والمدينة الآن لأولاده، وهي محررة من قبل السلطان. ولهم بها نعمة وثروة. وذكر لي من اثق به أن السلطان أبا سعيد ملك العراق قدم خراسان مرة ونزل على هذه المدينة وبها زاوية الشيخ، فأضافه ضيافة عظيمة، وأعطى لكل خباء بمحلته رأس غنم، ولكل أربعة رجال رأس غنم، ولكل دابة بالمحلة من فرس وبغل وحمار علف ليلة، فلم يبق في المحلة حيوان إلا وصلته ضيافته.

حكاية الشيخ شهاب الدين الذي تنسب إليه مدينة الجام

يذكر أنه كان صاحب راحة مكثراً من الشراب، وكان له من الندماء نحو ستين، وكانت لهم عادة أن يجتمعوا يوماً في منزل كل واحد منهم، فتدور النوبة على أحدهم بعد شهرين، وبقوا على ذلك مدة. ثم إن النوبة وصلت يوماً إلى الشيخ شهاب الدين، فعقد التوبة ليلة النوبة، وعزم على إصلاح حاله مع ربه، وقال في نفسه: إن قلت لأصحابي إني قد تبت قبل اجتماعهم عندي، ظنوا ذلك عجزاً عن مؤونتهم. فأحضر ما كان يحضر مثله قبلاً من مأكولات ومشرب، وجعل الخمر في الزقاق، وحضر أصحابه. فلما أرادوا الشرب فتحوا زقاً، فذاقه أحدهم فوجده حلواً ثم فتح ثانياً فوجده كذلك ثم ثالثاً فوجده كذلك. فكلموا الشيخ في ذلك، فخرج لهم عن حقيقة أمره وصدقهم سر فكره، وعرفهم بتوبته، وقال لهم: والله ما هذا إلا الشراب الذي كنتم تشربونه فيما تقدم. فتابوا جميعاً إلى الله تعالى، وبنوا تلك الزاوية، وانقطعوا بها لعبادة الله تعالى. وظهر لهذا الشيخ كثير من الكرامات والمكاشفات، ثم سافرنا من الجام إلى مدينة طوس، وهي أكبر بلاد خراسان، وأعظمها بلد الإمام الشهير بأبي حامد الغزالي رضي الله عنه وبها قبره. ورحلنا منها إلى مدينة مشهد الرضا، وهو علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين الشهيد ابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنهم. وهي أيضاً مدينة كبيرة ضخمة كثيرة الفواكه والمياه والأرجاء الطاحنة. وكان بها الطاهر محمد شاه، والطاهر عندهم بمعنى النقيب عند أهل مصر والشام والعراق، وأهل الهند والسند وتركستان يقول السيد الأجل. وكان أيضاً بهذا المشهد القاضي الشريف جلال الدين، لقيته بأرض الهند والشريف علي وولداه أمير هندو ودولة شاه، وصحبوني من ترمذ إلى بلاد الهند. وكانوا من الفضلاء، والمشهد المكرم عليه قبة عظيمة في داخل زاوية، تجاورها مدرسة ومسجد. وجميعها مليح البناء مصنوع الحيطان بالقاشاني. وعلى القبر دكانة خشب ملبسة بصفائح الفضة، وعليه قناديل فضة معلقة، وعتبة باب القبة فضة. وعلى بابها ستر حرير مذهب. وهي مبسوطة بأنواع البسط. وإزاء هذا القبر قبر هارون الرشيد أمير المؤمنين رضي الله عنه، وعليه دكانة يضعون عليها الشمعدانات التي يعرفها أهل المغرب بالحسك والمنائر. وإذا دخل الرافضي للزيارة ضرب قبر الرشيد برجله، وسلم على الرضا. ثم سافرنا إلى مدينة سرخس، وإليها ينسب الشيخ الصالح لقمان السرخسي رضي الله عنه. ثم سافرنا منها إلى مدينة زاوة، وهي مدينة الشيخ الصالح قطب الدين حيدر، وإليه تنسب طائفة الحيدرية من الفقراء، وهم الذين يجعلون حلق الحديد في أيديهم وأعناقهم وآذانهم، ويجعلون أيضاً في ذكورهم حتى لا يتأتى لهم النكاح. ثم رحلنا منها فوصلنا إلى مدينة نيسابور، وهي إحدى المدن الأربع التي هي قواعد خراسان. ويقال لها: دمشق الصغيرة، لكثرة فواكهها وبساتينها ومياهها وحسنها. وتخترقها أربعة من الأنهار.وأسواقها حسنة متسعة، ومسجدها بديع، وهو في وسط السوق، ويليه أربع من المدارس يجري بها الماء الغزير، وفيها من الطلبة خلق كثير، يقرأون القرآن والفقه. وهي من حسان مدارس تلك البلاد، ومدارس خراسان والعراقين ودمشق وبغداد ومصر. وإن بلغت الغاية من الإتقان والحسن، فكلها تقصر عن المدرسة التي عمرها مولانا أمير المؤمنين المتوكل على الله المجاهد في سبيل الله عالم الملوك واسطة عقد الخلفاء العادلين أبو عنان، وصل الله سعده ونصر جنده، وهي التي عند القصبة من حضرة فاس حرسها الله تعالى، فإنها لا نظير لها سعة وارتفاعاً ونقش الجص بها لا قدرة لأهل المشرق عليه. ويصنع بنيسابور ثياب الحرير من النخ والكمخاء وغيرها. وتحمل منها إلى الهند. وفي هذه المدينة زاوية الشيخ الإمام العالم القطب العابد قطب الدين النيسابوري أحد الوعاظ العلماء الصالحين: نزلت عنده فأحسن القرى وأكرم، ورأيت له البراهين والكرامات العجيبة. كرامة له: كنت قد اشتريت بنيسابور غلاماً تركياً، فرآه معي فقال لي:هذا الغلام لا يصلح لك، فبعه. فقلت له: نعم، وبعت الغلام في غد ذلك اليوم، واشتراه بعض التجار. وودعت الشيخ وانصرفت. فلما حللت بمدينة بسطام كتب إلي بعض أصحابي من نيسابور، وذكر أن الغلام المذكور قتل بعض أولاد الأتراك وقتل به. وهذه كرامة واضحة لهذا الشيخ رضي الله عنه. وسافرت من نيسابور الى مدينة بسطام التي ينسب إليها الشيخ العارف أبو يزيد البسطامي الشهير، رضي الله عنه. وبهذه المدينة قبره، ومعه في قبة واحدة أحد أولاد جعفر الصادق رضي الله عنه. وببسطام أيضاً قبر الشيخ الصالح الولي أبي الحسن الخرقاني. وكان نزولي من هذه المدينة بزاوية الشيخ أبي يزيد البسطامي رضي الله عنه. ثم سافرت من هذه المدينة على طريق هندخير إلى قندوس وبغلان. وهي قرى فيها مشايخ وصالحون، وبها البساتين والأنهار. فنزلنا بقندوس على نهر ماء به زاوية لأحد شيوخ الفقراء من أهل مصر، يسمى بشير سياه، ومعنى ذلك الأسد الأسود، وأضافنا بها والي تلك الأرض وهي من أهل الموصل ببستان عظيم هنلك.

وأقمنا بخارج هذه القرية نحو أربعين يوماً لرعي الجمال والخيل، وبها مراعٍ طيبة وأعشاب كثيرة، والأمن بها شامل بسبب شدة أحكام الأمير برنطية. وقد قدمنا أن أحكام الترك في من سرق فرساً أن يعطي معه تسعة مثله، فإن لم يجد ذلك أخذ فيها أولاده، فإن لم يكن له أولاد ذبح ذبح الشاة.

والناس يتركون دوابهم مهملة دون راع، بعدو أن يسم كل واحد دوابه في أفخاذها. وكذلك فعلنا في هذه البلاد. واتفق أن تفقدنا خيلنا بعد عشر من نزولنا بها ففقدنا منها ثلاثة أفراس.

ولما كان بعد نصف شهر جاءنا التتر بها إلى منزلنا، خوفاً من أنفسهم من الأحكام. وكنا نربط في كل ليلة إزاء أخبيتنا فرسين، لما عسى أن يقع بالليل. ففقدنا الفرسين ذات ليلة، وسافرنا من هنالك. وبعد اثنتين وعشرين ليلة جاءوا بهما إلينا في أثناء طريقنا. وكان أيضاً من أسباب إقامتنا خوف الثلج. فإن بأثناء الطريق جبلاً يقال له هندو كوش، ومعناه قاتل الهنود. لأن العبيد والجواري الذين يؤتى بهم من بلاد الهند يموت هنالك الكثير منهم لشدة البرد وكثرة الثلج وهو مسيرة يوم كامل. وأقمنا حتى تمكنا من دخول الحر، وقطعنا ذلك الجبل من آخر الليل، وسلكنا به جميع نهارنا إلى الغروب. وكنا نضع اللبود بين أيدي الجمال تطأ عليها، لئلا تغرق في الثلج. ثم سافرنا إلى موضع يعرف بأندر. وكانت هنالك فيما تقدم مدينة عفي رسمها. ونزلنا بقرية عظيمة فيها زاوية لأحد الفضلاء ويسمى بمحمد المهروي، ونزلنا عنده وأكرمنا. وكان متى غسلنا أيدينا من الطعام يشرب الماء الذي غسلناها به لحسن اعتقاده وفضله. وسافر معنا إلى أن صعدنا جبل هندو كوش المذكور. ووجدنا بهذا الجبل عين ماء حارة فغسلنا منها وجوهنا فتقشرت وتألمنا لذلك، ثم نزلنا بموضع يعرف ببنج هير، ومعنى بنج خمسة وهير هو الجبل، فمعناه خمسة جبال، وكانت هنالك مدينة حسنة كثيرة العمارة على نهر عظيم أزرق، كأنه بحر ينزل من جبال بدخشان. وبهذه الجبال يوجد الياقوت الذي يعرفه الناس بالبلخش، وخرب هذه البلاد تنكيز ملك التتر، فلم تعمر بعده. وبهذه المدينة مزار الشيخ سعيد المكي، وهو معظم عندهم، ووصلنا إلى جبل بشاي " وضبطه بفتح الباء المعقودة والشين المعجم والف وياء ساكنة "، وبه زاوية الشيخ الصالح أطا أولياء وأطا " بفتح الهمزة "، معناه بالتركية الاب وأولياء باللسان العربي، فمعناه أبو الأولياء، ويسمى أيضاً سيصد صاله، وسيصد " بسين مهمل مكسور وياء مد وصاد مهمل مفتوح ودال مهمل "، ومعناه بالفارسية ثلاثمائة، وصاله " بفتح الصاد المهمل واللام " معناه عام. وهم يذكرون أن عمره ثلاثمائة وخمسون عاماً. ولهم فيه اعتقاد حسن ويأتون لزيارته من البلاد والقرى. ويقصده السلاطين والخواتين. وأكرمنا وأضافنا، ونزلنا على نهر عند زاويته، ودخلنا إليه فسلمت عليه، وعانقني، وجسمه رطب لم أر ألين منه، ويظن رائيه أن عمره خمسون سنة. وذكر لي أنه في كل مائة سنة ينبت له الشعر، والأسنان، وأنه رأى أباهم الذي قبره بملتان من السند. وسألته عن رواية حديث فأخبرني بحكايات، وشككت في حاله، والله أعلم بصدقه. ثم سافرنا إلى برون " وضبطها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخرها نون "، وفيها لقيت الأمير برنطية " وضبط اسمها بضم الباء وضم الراء وسكون النون وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكن وهاء "، وأحسن إلي وأكرمني، وكتب إلى نوابه بمدينة غزنة في إكرامي، وقد تقدم ذكره، وذكر ما أعطي من البسطة في الجسم، وكان عنده جماعة من المشايخ والفقراء أهل الزوايا. ثم سافرنا إلى قرية الجرخ " وضبط اسمها بفتح الجيم المعقود وإسكان الراء وخاء معجم "، وهي كبيرة، لها بساتين كثيرة، وفواكهها طيبة. قدمناها في أيام الصيف ووجدنا بها جماعة من الفقراء والطلبة، وصلينا بها الجمعة. وأضافنا أميرها محمد الجرخي، ولقيته بعد ذلك بالهند. ثم سافرنا إلى مدينة غزنة، وهي بلد السلطان المجاهد محمود بن سبكتكين الشهير الاسم، وكان من كبار السلاطين يلقب بيمين الدولة وكان كثير الغزو إلى بلاد الهند، وفتح بها المدائن والحصون. وقبره بهذه المدينة عليه زاوية وقد خرب معظم هذه البلدة. ولم يبق منها إلا يسير، وكانت كبيرة. وهي شديدة البرد، والساكنون بها يخرجون عنها أيام البرد إلى مدينة القندهار، وهي كبيرة مخصبة، ولم أدخلها، وبينهما مسيرة ثلاث. ونزلنا بخارج غزنة في قرية هنالك على نهر ماء تحت قلعتها، وأكرمنا أميرها مرذك أغا " ومرذك " بفتح الميم وسكون الراء وفتح الذال المعجم "، ومعناه الصغير، وأغا " بفتح الهمزة والغين المعجم " ومعناه الكبير الأصل، ثم سافرنا إلى كابل، وكانت فيما سلف مدينة عظيمة، وبها الآن قرية يسكنها طائفة من الأعاجم يقال لهم الأفغان. ولهم جبال وشعاب وشوكة قوية، وأكثرهم قطاع الطريق، وجبلهم الكبير يسمى كوه سليمان. يذكر أن نبي الله سليمان عليه السلام صعد ذلك الجبل، فنظر إلى أرض الهند وهي مظلمة فرجع ولم يدخلها، فسمي الجبل به. وفيه يسكن ملك الأفغان. وبكابل زاوية الشيخ إسماعيل الأفغاني تلميذ الشيخ عباس من كبار الأولياء. ومنها رحلنا إلى كرماش. وهي حصن بين جبلين تقطع به الأفغان. وكنا حين جوازنا عليه نقاتلهم وهم بسفح الجبل ونرميهم بالنشاب فيفرون. وكانت رفقتنا مخفة ومعهم نحو أربعة آلاف فرس، وكانت لي جمال انقطعت عن القافلة لأجلها، ومعي جماعة بعضهم من الأفغان، وطرحنا بعض الزاد، وتركنا أحمال الجمال التي أعيت بالطريق، وعادت إليها خيلنا بالغد فاحتملتها، ووصلنا إلى القافلة بعد العشاء الآخرة، فبتنا بمنزل ششنغار، وهي آخر العمارة مما يلي بلاد الترك. ومن هنا دخلنا البرية الكبرى، وهي مسيرة خمس عشرة، لا تدخل إلا في فصل واحد وهو بعد نزول المطر بأرض السند والهند، وذلك في أوائل شهر يوليه. وتهب في هذه البرية ريح السموم القاتلة التي تعفن الجسوم. حتى أن الرجل إذا مات تتفسخ أعضاؤه. وقد ذكرنا أن هذه الريح تهب أيضاً في البرية بين هرمز وشيراز. وكانت تقدمت  أمامنا رفقة كبيرة فيها خداوند زاده قاضي ترمذ، فمات لهم جمال وخيل كثيرة. ووصلت رفقتنا سالمة بحمد الله تعالى إلى بنج آب وهو ماء السند، وبنج " بفتح الباء الموحدة وسكون النون والجيم " ومعناه خمسة وآب " بهمزة مفتوحة ممدودة وباء موحدة " ومعناه الماء، فمعنى ذلك الأودية الخمسة، وهي تصب في النهر الأعظم، وتسقي تلك النواحي، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. وكان وصولنا لهذا النهر سلخ ذي الحجة. واستهل علينا تلك الليلة هلال المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة. ومن هنالك كتب المخبرون بخبرنا إلى أرض الهند، وعرفوا ملكها بكيفية أحوالنا. وها هنا ينتهي بنا الكلام في هذا السفر. والحمد لله رب العالمين.