الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلىآله وصحبه وسلم قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي المعروف بابن بطوطة رحمه الله تعالى: ولما كان بتاريخ الغرة من شهر محرم مفتتح عام أربعة وثلاثين وسبعمائة وصلنا إلى وادي السند المعروف ببنج آب، ومعنى ذلك المياه الخمسة. وهذا الوادي من أعظم أودية الدنيا، وهو يفيض في أوان الحر، فيزرع أهل تلك البلاد على فيضه، كما يفعل أهل الديار المصرية في فيض النيل. وهذا الوادي هو أول عمالة السلطان المعظم محمد شاه ملك الهند والسند. ولما وصلنا إلى هذا النهر جاء إلينا أصحاب الأخبار الموكلون بذلك، وكتبوا بخبرنا إلى قطب الملك أمير مدينة ملتان، وكان أمير أمراء السند على هذا العهد مملوك للسلطان يسمى سرتيز، وهو من عرض المماليك، وبين يديه تعرض عساكر السلطان، ومعنى اسمه الحاد الرأس لأن سر " بفتح السين المهملة وسكون الراء ". هو الرأس، وتيز " بتاء معلوة وياء مد وزاي " معناه الحاد. وكان في حين قدومنا بمدينة سيوستان من السند. وبينها وبين ملتان مسيرة عشرة أيام، وبين بلاد السند وحضرة السلطان مدينة دهلي على مسيرة خمسين يوماً. وإذا كتب المخبرون إلى السلطان من بلاد السند يصل الكتاب إليه في خمسة أيام بسبب البريد.

ذكر البريد

والبريد ببلاد الهند صنفان، فأما بريد الخيل فيسمونه الولاق "أولاق " "بضم الواو وآخره قاف "، وهو خيل تكون للسلطان، في كل مسافة أربعة أميال، وأما بريد الرجالة، فيكون في مسافة الميل الواحد منه ثلاث رتب، ويسمونها الداوة " بالدال المهمل والواو "، والداوة هي ثلث ميل، والميل عندهم يسمى الكروة " بضم الكاف والراء "، وترتيب ذلك أن يكون في كل ثلث ميل قرية معمورة، ويكون بخارجها ثلاث قباب يقعد فيها الرجال، مستعدين للحركة، قد شدوا أوساطهم. وعند كل واحد منهم مقرعة مقدار ذراعين، بأعلاها جلاجل نحاس، فإذا خرج البريد من المدينة أخذ الكتاب بأعلى يده والمقرعة ذات الجلاجل باليد الأخرى يشتد بمنتهى جهده.

فإذا سمع الرجال الذين بالقباب صوت الجلاجل تأهبوا. فإذا وصلهم. أخذ أحدهم الكتاب من يده ومر بأقصى جهده، وهو يحرك المقرعة حتى يصل إلى الداوة الأخرى. ولا يزالون كذلك حتى يصل الكتاب إلى حيث يراد منه.

وهذا البريد أسرع من بريد الخيل وربما حملوا على هذا البريد الفواكه المستطرفة بالهند من فواكه خراسان يجعلونها في الأطباق، ويشتدون بها حتى تصل إلى السلطان. وكذلك يحملون الكبار من ذوي الرتب، يجعلون الرجل على سرير، ويرفعونه فوق رؤوسهم ويسيرون به شداً. وكذلك يحملون الماء لشرب السلطان، إذا كان بدولة أباد، يحملونه من نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه، وهو على مسيرة أربعين يوماً منها.

وإذا كتب المخبرون إلى السلطان بخبر من يصل إلى بلاده، استوعبوا الكتاب وأمعنوا في ذلك، وعرفوه أنه ورد رجل صورته كذا ولباسه كذا، وكتبوا عدد أصحابه وغلمانه وخدامه ودوابه، وترتيب حاله في حركته وسكونه، وجميع تصرفاته لا يغادرون من ذلك كله شيئاً.

فإذا وصل الوارد مدينة ملتان، وهي قاعدة بلاد السند، أقام بها حتى ينفذ أمر السلطان بقدومه، وما يجري له من الضيافة، وإنما يكرم الإنسان هنالك بقدر ما يظهر من أفعاله وتصرفاته وهمته، إذ لا يعرف هنالك ما حسبه ولا آباؤه.

من عادة ملك الهند السلطان أبي المجاهد محمد شاه إكرام الغرباء ومحبتهم وتخصيصهم بالولايات والمراتب الرفيعة. ومعظم خواصه وحجابه ووزرائه وقضاته وأصهاره غرباء. ونفذ أمره بأن يسمى الغرباء في بلده الأعزة. فصار لهم ذلك اسماً وعلماً. ولا بد لكل قادم على هذا الملك من هدية يهديها إليه، ويقدمها وسيلة بين يديه. فيكافئه السلطان عليها بأضعاف مضاعفة، وسيمر من ذكر هدايا الغرباء إليه كثير. ولما تعود الناس ذلك منه، صار التجار الذين ببلاد السند والهند يعطون لكل قادم على السلطان الآلاف من الدنانير ديناً ويجهزونه بما يريد أن يهديه إليه أو يتصرف فيه لنفسه من الدواب للركوب والجمال والأمتعة ويخدمونهم بأموالهم وأنفسهم، ويقفون بين يديه كالحشم، فإذا وصل إلى السلطان أعطاه العطاء الجزيل، فقضى ديونهم ووفاهم حقوقهم، فنفقت تجارتهم وكثرت أرباحهم. وصار لهم ذلك عادة مستمرة. ولما وصلت إلى بلاد السند، سلكت ذلك المنهج، واشتريت من التجار الخيل والجمال والمماليك وغير ذلك. ولقد اشتريت من تاجر عراقي من أهل تكريت يعرف بمحمد الدوري بمدينة غزنة نحو ثلاثين فرساً وجملاً عليه حمل من النشاب، فإنه مما يهدى إلى السلطان، وذهب التاجر المذكور إلى خراسان ثم عاد إلى الهند، وهنالك تقاضى مني مائة، واستفاد بسببي فائدة عظيمة، وعاد من كبار التجار. ولقيته بمدينة حلب بعد سنين كثيرة. وقد سلبني الكفار ما كان بيدي فلم ألق منه خيراً.