الجزء الثاني - ذكر الكركدن

ولما أجزنا نهر السند المعروف ببنج آب دخلنا غيضة قصب لسلوك الطريق لأنه في وسطها، فخرج علينا الكركدن، وصورته أنه حيوان أسود اللون عظيم الجرم، ورأسه كبير متفاوت الضخامة، ولذلك يضرب به المثل فيقال: الكركدن رأس بلا بدن، وهو دون الفيل ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف. وله قرن واحد بين عينيه، طوله نحو ثلاثة أذرع، وعرضه نحو الشبر. ولما خرج علينا عارضه بعض الفرسان في طريقه فضرب الفرس الذي كان تحته بقرنه فأنفذ فخذه وصرعه، وعاد إلى الغيضة فلم نقدر عليه. وقد رأيت الكركدن مرة ثانية في هذا الطريق بعد صلاة العصر، وهو يرعى نبات الأرض. فلما قصدناه هرب منا. ورأيته مرة أخرى ونحن مع ملك الهند، دخلنا غيضة قصب وركب السلطان على الفيل وركبنا معه الفيلة، ودخلت الرجالة والفرسان فأثاروه وقتلوه واستاقوا رأسه إلى المحلة. وسرنا من نهر السند يومين ووصلنا إلى مدينة جناني " وضبط اسمها بفتح الجيم والنون الأولى وكسر الثانية " مدينة كبيرة على ساحل نهر السند لها أسواق مليحة، وسكانها طائفة يقال لهم السامرة، استوطنوها قديماً واستقر بها أسلافهم حين فتحها على أيام الحجاج بن يوسف، حسبما أثبت المؤرخون في فتح السند. وأخبرني الشيخ الإمام العالم العامل العابد الزاهد ركن الدين أبو الشيخ الفقيه الصالح شمس الدين ابن الشيخ الإمام العابد الزاهد بهاء الدين زكريا القرشي، وهو أحد الثلاثة الذين أخبرني الشيخ الولي الصالح برهان الدين الأعرج بمدينة الإسكندرية أني سألقاهم في رحلتي فلقيتهم والحمد لله، أن جده الأعلى كان يسمى بمحمد بن قاسم القرشي، وشهد فتح السند في العسكر الذي بعثه لذلك الحجاج بن يوسف أيام إماراته على العراق، وأقام بها وتكاثرت ذريته. وهؤلاء الطائفة المعرفون بالسامرة لا يأكلون مع أحد ولا ينظر إليهم أحد حين يأكلون، ولا يصاهرون أحداً من غيرهم، ولا يصاهر إليهم أحد. وكان لهم في هذا العهد أمير يسمى ونار " بضم الواو وفتح النون "، وسنذكر خبره. ثم سافرنا من مدينة جناني إلى أن وصلنا إلى مدينة سيوستان " وضبط اسمها بكسر السين الأول المهمل وياء مد وواو مفتوح وسين مكسور وتاء معلوة وآخره نون " وهي مدينة كبيرة وخارجها صحراء ورمال، لا شجر بها إلا شجر أم غيلان. ولا يزرع على نهرها شيء ما عدا البطيخ. وطعامهم الذرة والجلبان ويسمونه المشنك " بميم وشين معجم مضمومين ونون مسكن "، ومنه يصنعون الخبز، وهي كثيرة السمك والألبان الجاموسية. وأهلها يأكلون السقنقور، وهي دويبة شبيهة بأم حبين التي يسميها المغاربة حنيشة الجنة إلا أنها لا ذنب لها. ورأيتهم يحتفرون الرمل ويستخرجونها منه ويشقون بطنها ويرمون بما فيه ويحشونه بالكركم، وهم يسمونه زردشوبة، ومعناه العود الأصفر، وهو عندهم عوض الزعفران. ولما رأيت تلك الدويبة وهم يأكلونها استقذرتها فلم آكلها. ودخلنا هذه المدينة في احتدام القيظ وحرها الشديد. فكان أصحابي يقعدون عريانين، يجعل أحدهم فوطة على وسطه وفوطة على كتفيه مبلولة بالماء، فما يمضي اليسير من الزمان حتى تيبس تلك الفوطة، فيبلها مرة أخرى. وهكذا أبداً. ولقيت بهذه المدينة خطيبها المعروف بالشيباني، وأراني كتاب أمير المؤمنين الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لجده الأعلى بخطابة هذه المدينة. وهم يتوارثونها من ذلك العهد حتى الآن.

ونص الكتاب: هذا ما أمر به عبد الله أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز لفلان وتاريخه سنة تسع وتسعين، وعليه مكتوب بخط أمير المؤمنين لفلان عمر بن عبد العزيز الحمد لله وحده على ما أخبرني الخطيب المذكور. ولقيت بها الشيخ المعمر محمد البغدادي وهو بالزاوية التي على قبر الشيخ الصالح عثمان المرتدي. وذكر أن عمره يزيد على مائة وأربعين سنة، وأنه حضر مقتل المستعصم بالله آخر خلفاء بني العباس رضي الله عنهم لما قتله الكافر هلاون بن تنكيز التتري . وهذا الشيخ على كبر سنه قوي الجثة يتصرف على قدميه.

حكاية

كان يسكن بهذه المدينة الأمير ونار السامري الذي تقدم ذكره، والأمير قيصر الرومي، وهما في خدمة السلطان، ومعهما نحو ألف وثمانمئة فارس. وكان يسكن بها كافر من الهنود اسمه رتن " بفتح الراء وبفتح التاء المعلوة والنون "، وهو من الحذاق بالحساب والكتابة. فوفد على ملك الهند مع بعض الأمراء، فاستحسنه السلطان وسماه عظيم السند، وولاه بتلك البلاد، وأقطعه سيوستان وأعمالها، وأعطاه المراتب، وهي الأطبال والعلامات كما يعطى كبار الأمراء. فلما وصل إلى تلك البلاد عظم على ونار وقيصر وغيرهم تقديم الكافر عليهم، فأجمعوا على قتله. فلما كان بعد أيام من قدومه أشاروا إليه بالخروج إلى أحواز المدينة ليتطلع على أمورها فخرج معهم. فلما جن الليل أقاموا ضجة بالمحلة، وزعموا أن السبع ضرب عليها. وقصدوا ضرب الكافر فقتلوه، وعادوا إلى المدينة فأخذوا ما كان بها من مال السلطان، وذلك اثنا عشر لكاً واللك مائة ألف دينار، وصرف اللك عشرة آلاف دينار من ذهب الهند. وصرف الدينار الهندي ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب. وقدموا على أنفسهم ونار المذكور، وسموه ملك فيروز، وقسم الأموال على العسكر. ثم خاف على نفسه لبعده عن قبيلته، فخرج فيمن معه من أقاربه، وقصد قبيلته، وقدم الباقون من العسكر على أنفسهم قيصر الرومي. واتصل خبرهم بعماد الملك سرتيز مملوك السلطان، وهو يومئذ أمير أمراء السند وسكناه بملتان. فجمع العساكر وتجهز في البر وفي نهر السند. وبين ملتان وسيوستان عشرة أيام، وخرج إليه قيصر، فوقع اللقاء وانهزم قيصر ومن معه أشنع هزيمة، وتحصنوا بالمدينة، فحاصرهم ونصب المجانيق عليهم، واشتد عليهم الحصار، فطلبوا الأمان بعد أربعين يوماً من نزوله عليهم فأعطاهم الأمان. فلما نزلوا إليه غدرهم وأخذ أموالهم وأمر بقتلهم. فكان كل يوم يضرب أعناق بعضهم ويوسط البعض ويسلخ آخرين منهم ويملأ جلودهم تبناً ويعلقها على السور. فكانت تلك الجلود مصلوبة، ترعب من ينظر إليها. وجمع رؤوسهم في وسط المدينة، فكانت مثل التل هنالك. ونزلت بتلك المدينة إثر هذه الوقعة بمدرسة فيها كبيرة، وكنت أنام على سطحها فإذا استيقظت من الليل أرى تلك الجلود المصلوبة فتشمئز النفس منها، ولم تطب نفسي بالسكنى بالمدرسة فانتقلت عنها. وكان الفقيه الفاضل العادل علاء الملك الخراساني المعروف بفصيح الدين قاضي هراة في متقدم التاريخ، قد وفد على ملك الهند فولاه مدينة لاهري وأعمالها من بلاد السند، وحضر هذه الحركة مع عماد الملك سرتيز بمن معه من العساكر. فعزمت على السفر معه إلى مدينة لاهري. وكان له خمسة عشر مركباً قدم بها في نهر السند تحمل أثقاله فسافرت.