الجزء الثاني - ذكر أشجار بلاد الهند وفواكهها

فمنها العنبة " بفتح العين وسكون النون وفتح الباء الموحدة "، وهي شجرة تشبه أشجار النارنج، إلا أنها أعظم أجراماً وأكثر أوراقاً وظلها أكثر الظلال، غير أنه ثقيل فمن نام تحته وعك. وثمرها على قدر الإجاص الكبير. فإذا كان أخضر قبل تمام نضجه أخذوا ما سقط منه، وجعلوا عليه الملح ، وصيروه كما يصير الليم والليمون ببلادنا. وكذلك يصيرون أيضاً الزنجبيل الأخضر وعناقيد الفلفل. ويأكلون ذلك مع الطعام، يأخذون بأثر كل لقمة يسيراً من هذه المملوحات فإذا نضجت العنبة في أوان الخريف، اصفرت جباتها فأكلوها كالتفاح. فالبعض يقطعها بالسكين، والآخر يمصها مصاً. وهي حلوة يمازج حلاوتها يسير حموضة. ولها نواة كبيرة يزرعونها فتنبت منها الأشجار، كما تزرع نوى النارنج وغيرها. والشكي والبركي " بفتح الشين المعجم وكسر الكاف، وفتح الباء الموحدة وكسر الكاف ". وهي أشجار عادية، أوراقها كأوراق الجوز، وثمرها يخرج من أصل الشجر، فما اتصل منه بالأرض فهو البركي، وحلاوته أشد وطعمه أطيب، وما كان فوق ذلك فهو الشكي وثمره يشبه القرع الكبار، وجلوده تشبه جلود البقر، فإذا اصفر في أوان الخريف قطعوه وشقوه. فيكون في داخل كل حبة المائة والمائتان. فما بين ذلك من حبات تشبه الخيار، بين كل حبة وحبة صفاق أصفر اللون، ولكل حبة نواة تشبه الفول الكبير، وإذا شويت هذه النواة أو طبخت يكون طعمها كطعم الفول، إذ ليس يوجد هنالك. ويدخرون هذه النوى في التراب الأحمر فتبقى إلى سنة أخرى. وهذا الشكي والبركي هو خير فاكهة ببلاد الهند. والتندو " بفتح التاء المثناة وسكون النون وضم الدال " وهو ثمر شجر الأبنوس، وحباته قدر حبات المشمش، ولونها، وهو شديد الحلاوة، والجوز " بضم الجيم المعقودة " وأشجار. عادية ويشبه ثمرة الزيتون، وهو أسود اللون، ونواه واحدة كالزيتون، والنارنج الحلو، وهو وعندهم كثير. وأما النارنج الحامض فعزيز الوجود. ومنه صنف ثالث يكون بين الحلو والحامض، وثمره على قدر الليم وهو طيب جداً، وكنت يعجبني أكله، ومنها المهوا " وبفتح الميم والواو " وأشجار عادية وأوراقه كأوراق الجوز، إلا أن فيها حمرة وصفرة، وثمره مثل الأجاص الصغير شديد الحلاوة. وفي أعلى كل حبة منه حبة صغيرة بمقدار حبة العنب مجوفة وطعمها كالعنب.


إلا أن الإكثار من أكلها يحدث في الرأس صداعاً، ومن العجب أن هذه الحبوب إذا يبست في الشمس كان طعمها كطعم التين، وكنت آكلها عوضاً عن التين إذ لا يوجد ببلاد الهند. وهم يسمون هذه الحبة الأنكور " بفتح الهمزة وسكون النون وضم الكاف المعقودة والواو والراء "، وتفسيره بلسانهم العنب. والعنب بأرض الهند عزيز جداً، ولا يكون بها إلا في موضع بحضرة دهلي، وببلاد أخرى، ويثمر مرتين في السنة. ونوى هذا الثمر يصنعون منه الزيت، ويستصبحون به. ومن فواكههم فاكهة يسمونها كسيرا " بفتح الكاف وكسر السين المهمل وياء مد وراء " يحفرون عليها الأرض، وهي شديدة الحلاوة تشبه القسطل. وببلاد الهند من فواكه بلادنا الرمان، ويثمر مرتين في السنة. ورأيته ببلاد جزائر ذيبة المهل لا ينقطع له ثمر، وهم يسمونه أنار " بفتح الهمزة والنون "، وأظن ذلك هو الأصل في تسمية الجلنار، فإن جل بالفارسية الزهر، ونار الرمان.

ذكر الحبوب التي يزرعها أهل الهند ويقتاتون بها

وأهل الهند يزرعون مرتين في السنة. فإذا نزل المطر عندهم في أوان القيظ زرعوا الزرع الخريفي، وحصدوه بعد ستين يوماً من زراعته. ومن هذه الحبوب الخريفية عندهم الكذرو " بضم الكاف وسكون الذال المعجم وضم الراء وبعدها واو "، وهو نوع من الدخن. وهذا الكذور هو أكثر الحبوب عندهم. ومنها القال " بالقاف " وهو أشبه أنلي، ومنها الشاماخ " بالشين والخاء المعجمتين " وهو أصغر حباً من القال. وربما نبت هذا الشاماخ من غير زراعة، وهو طعام الصالحين وأهل الورع والفقراء والمساكين. يخرجون لجمع ما نبت منه من غير زراعة، فيمسك أحدهم قفة كبيرة بيساره، وتكون بيمناه مقرعة يضرب بها الزرع فيسقط في القفة، فيجمعون منه ما يقتاتون به جميع السنة. وحب هذا الشاماخ صغير جداً، وإذا جمع جعل في الشمس، ثم يدق في مهارس الخشب. فيطير قشره. ويبقى لبه أبيض، ويصنعون منه عصيدة يطبخونها بحليب الجواميس، وهي أطيب من خبزه. وكنت آكلها كثيراً ببلاد الهند وتعجبني. ومنها الماش، وهو نوع من الجلبان، ومنها المنج " بميم مضموم ونون وجيم "، وهو نوع من الماش، إلا أن حبوبه مستطيلة ولونه صافي الخضرة، ويطبخون المنج مع الأرز ويأكلونه بالسمن ويسمونه كشرى " بالكاف والشين المعجم والراء "، وعليه يفطرون في كل يوم. وهو عندهم كالحريرة ببلاد المغرب. ومنها اللوبيا وهي نوع من الفول، ومنها الموث " بضم الميم " وهو مثل الكذرو، إلا أن حبوبه أصغر، وهو من علف الدواب عندهم، وتسمن الدواب بأكله، والشعير عندهم لا قوة له، وإنما علف الدواب من هذا الموت، أو الحمص ويجرشونه ويبلونه بالماء ويطعمونه الدواب، ويطعمونها عوضاً من القصيل أوراق الماش، بعد أن تسقى الدابة السمن عشرة أيام، في كل يوم مقدار ثلاثة أرطال أو أربعة، ولا تركب في تلك الأيام. وبعد ذلك يطعمونها أوراق الماش كما ذكرنا شهراً أو نحوه وهذه الحبوب التي ذكرناها هي الخريفية وإذا حصدوها بعد ستين يوماً من زراعتها ازدرعوا الحبوب الربيعية، وهي القمح والشعير والحمص والعدس. وتكون زراعتها في الأرض التي كانت الحبوب الخريفية مزدرعة فيها. وبلادهم كريمة طيبة التربة. وأما الأرز فانهم يزرعونه ثلاث مرات في السنة، وهو من أكبر الحبوب عندهم. ويزدرعون السمسم وقصب السكر مع الحبوب الخريفية التي تقدم ذكرها.


" ولنعد إلى ما كنا بسبيله فأقول " سافرنا من مدينة أبوهر، في صحراء مسيرة يوم، في أطرافها جبال منيعة يسكنها كفار الهنود، وربما قطعوا الطريق. وأهل بلاد الهند أكثرهم كفار. فمنهم رعية تحت ذمة المسلمين، يسكنون القرى، ويكون عليهم حاكم من المسلمين يقدمه العامل أو الخديم الذي تكون القرية في إقطاعه، ومنهم عصاة محاربون يمتنعون بالجبال ويقطعون الطريق.

ذكر غزوة لنا بهذا الطريق وهي أول غزوة شهدتها ببلاد الهند

ولما أردنا السفر من مدينة أبوهر، خرج الناس منها أول النهار، وأقمت بها إلى نصف النهار في لمة من أصحابي، ثم خرجنا، ونحن اثنان وعشرون فارساً. منهم عرب ومنهم أعاجم، فخرج علينا في تلك الصحراء ثمانون رجلاً من الكفار وفارسان. وكان أصحابي ذوي نجدة وعتي، فقاتلناهم أشد القتال، فقتلنا أحد الفارسين منهم وغنمنا فرسه، من رجالهم نحو اثني عشر رجلاً وأصابتني نشابة، وأصابت فرسي نشابة ثانية ومن الله بالسلامة منها، لأن نشابهم لا قوة لها، وجرح لأحد أصحابنا فرس عوضناه له بفرس الكافر، وذبحنا فرسه المجروح، فأكله الترك من أصحابنا. وأوصلنا تلك الرؤوس إلى حصن أبي بكهر فعلقناها على سوره. وكان وصولنا في نصف الليل إلى حصن أبي بكهر المذكور " وضبط اسمه بفتح الباء الموحدة وسكون الكاف وفتح الهاء وآخره راء ". وسافرنا منه فوصلنا بعد يومين إلى مدينة أجودهن " وضبط اسمها بفتح الهمزة وضم الجيم وفتح الدال المهمل والهاء وآخره نون "، مدينة صغيرة هي للشيخ الصالح فريد الدين البذاوني الذي أخبرني الشيخ الصالح الولي برهان الدين الأعرج بالإسكندرية أني سألقاه، فلقيته والحمد لله، وهو شيخ ملك الهند، وأنعم عليه بهذه المدينة. وهذا الشيخ مبتلى بالوسواس والعياذ بالله، فلا يصافح أحداً ولا يدنو منه، وإذا ألصق ثوبه بثوب أحد غسل ثوبه. دخلت زاويته ولقيته وأبلغته سلام الشيخ برهان الدين، فعجب وقال: أنا دون ذلك. ولقيت ولديه الفاضلين معز الدين، وهو أكبرهما ولما مات أبوه تولى الشياخة بعده، وعلم علم الدين. وزرت قبر جده القطب الصالح فريد الدين البذاوني، منسوبة إلى مدينة " بذاون " بلد السنبل. " وهي بفتح الباء الموحدة والذال المعجم وضم الواو وآخرها نون " ولما أردت الانصراف عن هذه المدينة، قال لي علم الدين: لا بد لك من رؤية والدي فرأيته وهو في أعلى سطح له، وعليه ثياب بيض وعمامة كبيرة لها ذؤابة وهي مائلة إلى جانب. ودعا لي وبعث إلي بسكر ونبات.

ذكر أهل الهند الذين يحرقون أنفسهم بالنار

ولما انصرفت عن هذا الشيخ، رأيت الناس يهرعون من عسكرنا، ومعهم بعض أصحابنا. فسألته ما الخبر ؟ فأخبروني أن كافراً من الهنود مات، وأججت النار لحرقه، وامرأته تحرق نفسها معه. ولما احترقا جاء أصحابي وأخبروا أنها عانقت الميت حتى احترقت معه. وبعد ذلك كنت في تلك البلاد أرى المرأة من كفار الهنود متزينة راكبة، والناس يتبعونها من مسلم وكافر، والأطبال والأبواق بين يديها، ومعها البراهمة، وهم كبراء الهنود. وإذا كان ذلك ببلاد السلطان استأذنوا السلطان في إحراقها فيؤذن لهم فيحرقونها. ثم اتفق بعد مدة أني كنت بمدينة أكثر سكانها الكفار تعرف بأبجري ، وأميرها مسلم من سامرة السند، وعلى مقربة منها الكفار العصاة، فقطعوا الطريق يوماً، وخرج الأمير المسلم لقتالهم، وخرجت معه رعية من المسلمين والكفار، ووقع بينهم قتال شديد، مات فيه من رعية الكفار سبعة نفر - وكان لثلاثة منهم ثلاث زوجات، فاتفقن على إحراق أنفسهن. وإحراق المرأة بعد زوجها عندهم أمر مندوب إليه غير واجب لكن من أحقرت نفسها بعد زوجها أحرز أهل بيتها شرفاً بذلك، ونسبوا إلى الوفاء، ومن لم تحرق نفسها، لبست خشن الثياب، وأقامت عند أهلها بائسة ممتهنة لعدم وفائها. ولكنها لا تكره على إحراق نفسها. ولما تعاهدت النسوة الثلاث اللائي ذكرناهن على إحراق أنفسهن، أقمن قبل ذلك ثلاثة أيام في غناء وطرب وأكل وشرب، كأنهن يودعن الدنيا. ويأتي إليهن النساء من كل جهة. وفي صبيحة اليوم الرابع أتيت كل واحدة منهن بفرس فركبته، وهي متزينة متعطرة، وفي يمناها جوزة نارجيل تلعب بها، وفي يسراها مرآة تنظر فيها وجهها، والبراهمة يحفون بها، وأقاربها معها، وبين يديها الأطبال والأبواق والأنفار. وكل إنسان من الكفار يقول لها: أبلغي السلام إلى أبي أو أخي أو أمي أو صاحبي، وهي تقول: نعم، وتضحك إليهم. وركبت مع أصحابي لأرى كيفية صنعهن في الاحتراق. فسرنا معهن نحو ثلاثة أميال، وانتهينا إلى موضع مظلم كثير المياه والأشجار متكاثف الظلال، وبين أشجاره أربع قباب، في كل قبة صنم من الحجارة. وبين القباب صهريج ماء قد تكاثفت عليه الظلال، وتزاحمت الأشجار فلا تتخللها الشمس. فكان ذلك الموضع بقعة من بقع جهنم، أعاذنا الله منها. ولما وصلن إلى تلك القباب، نزلن إلى الصهريج، وانغمسن فيه، وجردن ما عليهن من ثياب وحلي، فتصدقن به. وأتيت كل واحدة منهن بثوب قطن خشن غير مخيط، فربط بعضه على وسطها، وبعضه على رأسها وكتفيها. والنيران قد أضرمت على قرب من ذلك الصهريج، في موضع منخفض، وصب عليها روغن كنجت " كنجد "، وهو زيت الجلجلاان فزاد في اشتعالها. وهنالك نحو خمسة عشر رجلاً بأيديهم حزم من الحطب الرقيق، ومعهم نحو عشرة بأيديهم خشب كبار، وأهل الأطبال والأبواق وقوف ينتظرون مجيء المرأة، وقد حجبت النار بملحفة، يمسكها الرجال بأيديهم لئلا يدهشها النظر إليها. فرأيت إحداهن لما وصلت إلى تلك الملحفة، نزعتها من أيدي الرجال بعنف وقالت لهم: مارا ميترساني ازاطش " آنش " من ميدانم أواطاش است رهكاني مارا؛ وهي تضحك، ومعنى هذا الكلام أبالنار تخوفونني ؟ أنا أعلم أنها نار محرقة. ثم جمعت يديها على رأسها خدمة للنار، ورمت بنفسها فيها. وعند ذلك ضربت الأطبال والأنفار والأبواق، ورمى الرجال ما بأيديهم من الحطب عليها، وجعل الآخرون تلك الخشب من فوقها لئلا تتحرك، وارتفعت الأصوات وكثر الضجيج. ولما رأيت ذلك كدت أسقط عن فرسي لولا أصحابي تداركوني بالماء. فغسلوا وجهي وانصرفت. وكذلك يفعل أهل الهند أيضاً في الغرق. يغرق كثير منهم أنفسهم في نهر الكنك، وهو الذي إليه يحجون. وفيه يرمى برماد هؤلاء المحرقين. وهم يقولون: إنه من الجنة. وإذا أتى أحدهم ليغرق نفسه يقول لمن حضره " لا تظنوا أني أغرق نفسي لأجل شيء من أمور الدنيا أو لقلة مال، إنما قصدي التقرب إلى كساي، وكساي " بضم الكاف والسين المهمل " اسم الله عز وجل بلسانهم، ثم يغرق نفسه. فإذا مات أخرجوه وأحرقوه ورموا برماده في البحر المذكور. ولنعد إلى كلامنا الأول، فنقول: سافرنا من مدينة أجودهن فوصلنا بعد مسيرة أربعة أيام منها إلى مدينة سرستي " وضبط اسمها بسينين مفتوحين بينهما راء ساكنة ثم تاء مثناة مكسورة وياء " مدينة كبيرة كثيرة الأرز، وأرزها طيب ومنها يحمل إلى حضرة دهلي، ولها مجبى كثير جداً. أخبرني الحاجب شمس الدين البوشنجي بمقداره ونسيته. ثم سافرنا منها إلى مدينة حانسي " وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة وألف ونون ساكن وسين مهمل مكسور وياء " وهي من أحسن المدن وأتقنها وأكثرها عمارة، ولها سور عظيم ذكروا أن بانيه رجل من كبار سلاطين الكفار يسمى تورة " بضم التاء المعلوة وفتح الراء ". وله عندهم حكايات وأخبار. من هذه المدينة كمال الدين صدر الجهان قاضي قضاة الهند، وأخوه قطلوخان معلم السلطان، وأخواهما نظام الدين وشمس الدين الذي انقطع إلى الله وجاور بمكة حتى مات. ثم سافرنا من حانسي فوصلنا بعد يومين إلى مسعود أباد. وهي على عشرة أميال من حضرة دهلي، وأقمنا بها ثلاثة أيام، وحانسي ومسعود أباد هما للملك المعظم هوشنج " بضم الهاء وفتح الشين المعجم وسكون النون وبعدها جيم " ابن الملك كمال كرك، وكرك " بكافين معقودين أولاهما مضمومة " ومعناه الذئب، وسيأتي ذكره. وكان سلطان الهند الذي قصدنا حضرته غائباً عنها بناحية مدينة قتوج، وبينها وبين حضرة دهلي عشرة أيام، وكانت بالحضرة والدته وتدعى المخدومة جهان، وجهان اسم الدنيا. وكان بها أيضاً وزيره خواجه جهان المسمى بأحمد بن إياس، الرومي الأصل. فبعث الوزير إلينا أصحابه ليتلقونا، وعين للقاء كل واحد منا من كان من صنفه. فكان من الذين عينهم للقائي الشيخ البسطامي، والشريف المازندراني وهو حاجب الغرباء، والفقيه علاء الدين الملتاني المعروف بقنرة " بضم القاف وفتح النون وتشديدها " وكتب إلى السلطان بخبرنا، وبعث الكتاب مع الدواة، وهي بريد الرجالة، حسبما ذكرناه، فوصل إلى السلطان، وأتاه الجواب في تلك الأيام الثلاثة التي أقمناها بمسعود أباد، وبعد تلك الأيام خرج إلى لقائنا القضاة والفقهاء والمشايخ وبعض الأمراء، وهم يسمون الأمراء ملوكاً. فحيث يقول أهل ديار مصر وغيرها الأمير يقولن هم الملك. وخرج إلى لقائنا الشيخ ظهير الدين الزنجاني، وهو كبير المنزلة عند السلطان. ثم رحلنا من مسعود أباد فنزلنا بمقربة من قرية تسمى بالم " بفتح الباء المعقودة وفتح اللام " وهي للسيد الشريف ناصر الدين مطهر الأوهري، أحد ندماء السلطان، وممن له عنده الحظوة التامة. وفي غد ذلك اليوم وصلنا إلى حاضرة دهلي قاعدة بلاد الهند "وضبط اسمها بكسر الدال المهمل وسكون الهاء وكسر اللام"، وهي المدينة العظيمة الشأن الضخمة الجامعة بين الحسن والحصانة، وعليها السور الذي لا يعلم له في بلاد الدنيا نظير، وهي أعظم مدن الهند بل مدن الإسلام كلها بالمشرق.

ذكر وصفها

ومدينة دهلي كبيرة الساحة كثيرة العمارة، وهي الآن أربع مدن متجاورات متصلات، إحداها المسماة بهذا الاسم دهلي، وهي القديمة من بناء الكفار. وكان افتتاحها سنة أربع وثمانين وخمسمائة، والثانية تسمى سيري " بكسر السين المهمل والراء بينهما ياء مد "، وتسمى أيضاً دار الخلافة، وهي التي أعطاها السلطان لغياث الدين حفيد الخليفة المستنصر العباسي لم قدم عليه، وبها كان سكنى السلطان علاء الدين وابنه قطب الدين، وسنذكرهما، والثالثة تسمى تغلق أباد باسم بانيها السلطان تغلق والد سلطان الهند الذي قدمنا عليه. وكان سبب بنائه لها أنه وقف يوماً بين يدي السلطان قطب الدين، فقال له: يا خوند عالم، كان ينبغي أن تبني هنا مدينة. فقال له السلطان متهكماً: إذا كنت سلطاناً فابنها. فكان من قدر الله أن كان سلطاناً فبناها، وسماها باسمه. والرابعة تسمى جهان بناه، وهي مختصة بسكنى السلطان محمد شاه ملك الهند الآن الذي قدمنا عليه. وهو الذي بناها. وكان أراد أن يضم هذه المدن الأربع تحت سور واحد فبنى منه بعضاً وترك بناء باقيه، لعظم ما يلزم في بنائه.

ذكر سور دهلي وأبوابها

والسور المحيط بمدينة دهلي لا يوجد له نظير. عرض حائطه أحد عشر ذراعاً. وفيه بيوت يسكنها السمار وحفاظ الأبواب. وفيها مخازن للطعام ويسمونها الأنبارات، ومخازن للعدد، ومخازن للمجانيق، والرعادات ويبقى الزرع بها مدة طائلة لا يتغير، ولا تطرقه آفة. ولقد شاهدت الأرز يخرج من بعض تلك المخازن ولونه قد اسود، ولكن طعمه طيب. ورأيت أيضاً الكذرو يخرج منها. وكل ذلك من اختزان السلطان بلبن منذ تسعين سنة. ويمشي في داخل السور الفرسان والرجال من أول المدينة إلى آخرها. وفيه طيقان مفتحة إلى جهة المدينة يدخل منها الضوء وأسفل هذا السور مبني بالحجارة، وأعلاه بالآجر، وأبراجه كثيرة متقاربة. ولهذه المدينة ثمانية وعشرون باباً، وهم يسمون الباب دروازة. فمنها دروازة بذاون، وهي الكبرى، ودروازة المندوي، وبها رحبة الزرع، ودروازة جل " بضم الجيم " وهي موضع البساتين، ودروازة شاه: اسم رجل، ودروازة بالم: اسم قرية قد ذكرناها، ودروازة نجيب: اسم رجل، ودروازة كمال كذلك، ودروازة غزنة، نسبة إلى مدينة غزنة التي في طرف خراسان، وبخارجها مصلى العيد وبعض المقابر، ودروازة البجالصة " بفتح الباء والجيم والصاد المهمل "، وبخارج هذه الدروازة مقابر دهلي، وهي مقبرة حسنة يبنون بها القباب. ولا بد عند كل قبر من محراب، وإن كان لا قبة له، ويزرعون بها الأشجار المزهرة مثل قل كل شنبو وريبول راي بيل والنسرين وسواها. والأزاهير هنالك لا تنقطع في فصل من الفصول.

ذكر جامع دهلي

وجامع دهلي كبير الساحة، حيطانه وسقفه وفرشه كل ذلك من الحجارة البيض المنحوتة، أبدع نحت، ملصقة بالرصاص أتقن إلصاقه، لا خشبة به أصلاً. وفيه ثلاث عشرة قبة من حجارة، ومنبره أيضاً من الحجر، وله أربعة من الصحون. وفي وسط الجامع العمود الهائل الذي لا يدرى من أي المعادن هو. ذكر لي بعض حكمائهم أنه سمي هفت جوش " بفتح الهاء وسكون الفاء وتاء معلوة وجيم مضموم وآخره شين معجم "، ومعنى ذلك سبعة معادن، وأنه مؤلف منها. وقد جلي من هذا العمود مقدار السبابة، ولذلك المجلو منه بريق عظيم، ولا يؤثر فيه الحديد. وطوله ثلاثون ذراعاً، وأدرنا به عمامة فكان الذي أحاط بدائرته منها ثماني أذرع. وعند الباب الشرقي من أبواب المسجد صنمان كبيران جداً من النحاس مطروحان بالأرض، وقد ألصقا بالحجارة، ويطأ عليها كل داخل إلى المسجد أو خارج منه. وكان موضع هذا المسجد بدخانة، وهو بيت الأصنام، فلما افتتحت جعل مسجداً، وفي الصحن الشمالي من المسجد الصومعة التي لا نظير لها في بلاد الإسلام. وهي مبنية بالحجارة الحمر، خلافاً لحجارة سائر المسجد، فإنها بيض. وحجارة الصومعة منقوشة، وهي سامية الارتفاع، وفحلها من الرخام الأبيض الناصع، وتفافيحها من الذهب الخالص، وسعة ممرها بحيث تصعد فيه الفيلة. حدثني من أثق به أنه رأى الفيل حين بنيت يصعد بالحجارة إلى أعلاها. وهي من بناء السلطان معز الدين ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن. وأراد السلطان قطب الدين أن يبنى بالصحن الغربي صومعة أعظم منها، فبنى مقدار الثلث منها، واخترم دون تمامها. وأراد السلطان محمد إتمامها، ثم ترك ذلك تشاؤماً. وهذه الصومعة من عجائب الدينا في ضخامتها وسعة ممرها، بحيث تصعده ثلاثة من الفيلة متقارنة. وهذا الثلث المبني مساوٍ لارتفاع جميع الصومعة التي ذكرنا أنها بالصحن الشمالي. وصعدتها مرة فرأيت معظم دور المدينة، وعاينت الأسوار على ارتفاعها وسموها منحطة، وظهر لي الناس في أسفلها كأنهم الصبيان الصغار. ويظهر لناظرها من أسفلها أن ارتفاعها ليس بذلك، لعظم جرمها وسعتها. وكان السلطان قطب الدين أراد أن يبني أيضاً مسجداً جامعاً بسيري المسماة دار الخلافة، فلم يتم منه غير الحائط القبلي والمحراب، وبناؤه بالحجارة البيض والسود والحمر والخضر. ولو كمل لم يكن له مثل في البلاد. وأراد السلطان محمد إتمامه، وبعث عرفاء البناء ليقدروا النفقة فيه، فزعموا أنه ينفق في إتمامه خمسة وثلاثون لكا فترك ذلك استكثاراً له. وأخبرني بعض خواصه أنه لم يترك استكثاراً، لكنه تشاءم به لما كان السلطان قطب الدين قد قتل قبل تمامه.

ذكر الحوضين العظيمين بخارجها

وبخارج دهلي الحوض العظيم المنسوب إلى السلطان شمس الدين للمش، ومنه يشرب أهل المدينة، وهو بالقرب من مصلاها. وماؤها يجتمع من ماء المطر. وطوله نحو ميلين وعرضه على النصف من طوله. والجهة الغربية من ناحية المصلى مبنية بالحجارة مصنوعة أمثال الدكاكين، بعضها أعلى من بعض، وتحت كل دكان درج ينزل عليها إلى الماء، وبجانب كل دكان قبة حجارة فيها مجالس للمتنزهين والمتفرجين. وفي وسط الحوض قبة عظيمة من الحجارة المنقوشة مجعولة طبقتين. فإذا كثر الماء في الحوض، ولم يكن سبيل إليها إلا في القوارب، فإذا قل الماء دخل إليها الناس، وداخلها مسجد. وفي أكثر الأوقات يقيم بها الفقراء المنقطعون إلى الله المتوكلون عليه، وإذا جف الماء في جوانب هذا الحوض زرع فيها قصب السكر والخيار والقثاء والبطيخ الأخضر والأصفر وهو شديد الحلاوة صغير الجرم. وفيما بين دهلي ودار الخلافة حوض الخاص وهو أكبر من حوض السلطان شمس الدين. وعلى جوانبه نحو أربعين قبة، ويسكن حوله أهل الطرب، وموضعهم يسمى طرب أباد. ولهم سوق هنالك من أعظم الأسواق، ومسجد جامع ومساجد سواه كثيرة. وأخبرت أن النساء المغنيات لساكنات هنالك يصلين التراويح في شهر رمضان بتلك المساجد مجتمعات، ويؤم بهن الائمة، وعددهن كبير، وكذلك الرجال المغنون. ولقد شاهدت الرجال أهل الطرب في عرس الأمير سيف الدين غدا بن مهنا. لكل واحد منهم مصلى تحت ركبته، فاذا سمع الأذان قام فتوضأ وصلى.

ذكر بعض مزاراتها

فمنها قبر الشيخ الصالح قطب الدين بختيار الكعكي، وهو ظاهر البركة كثير التعظيم. وسبب تسمية هذا الشيخ بالكعكي أنه كان إذا أتاه الذين عليهم الديون شاكين من الفقر أو القلة، أو الذين لهم البنات ولم يجدوا ما يجهزوهن به إلى أزواجهن، يعطي من أتاه منهم كعكعة من الذهب أو من الفضة، حتى عرف من أجل ذلك بالكعكي رحمه الله، ومنها قبر الفقيه الفاضل نور الدين الكرلاني " بضم الكاف وسكون الراء والنون " ومنها قبر الفقيه علاء الدين الكرماني نسبة إلى كرمان، وهو ظاهر البركة ساطع النور ومكانه يظهر قبلة المصلى. وبذلك الموضع قبور رجال صالحين كثيرة نفع الله تعالى بهم.

ذكر بعض علمائها وصلحائها

فمنهم الشيخ الصالح العالم محمود الكبا " بالباء الموحدة "، وهو من كبار الصالحين. والناس يزعمون أنه ينفق من الكون، لأنه لا مال له ظاهر، وهو يطعم الوارد والصادر، ويعطي الذهب والدراهم والأثواب، وظهرت له كرامات كثيرة، واشتهر بها. رأيته مرات كثيرة، وحصلت لي بركته، ومنهم الشيخ الصالح العالم علاء الدين النيلي كأنه منسوب إلى نيل مصر، والله أعلم، كان من أصحاب الشيخ الصالح نظام الدين البزواني. وهو يعظ الناس في كل يوم جمعة، فيتوب كثير منهم بين يديه، ويحلقون رؤوسهم، ويتواجدون ويغشى على بعضهم.


حكاية

شاهدته في بعض الأيام وهو يعظ. فقرأ القارئ بين يديه: " يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزله الساعة شيءٌ عظيمٌ يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديدٌ " . ثم كررها الفقيه علاء الدين. فصاح أحد الفقراء من ناحية المسجد صيحة عظيمة، فأعاد الشيخ الآية، فصاح الفقير ثانية ووقع ميتاً. وكنت فيمن صلى عليه، وحضر جنازته. ومنهم الشيخ الصالح العابد صدر الدين الكهراني " بضم الكاف وسكون الهاء وراء ونون " وكان يصوم الدهر ويقوم الليل وتجرد عن الدنيا جميعاً ونبذها، ولباسه عباءة. ويزوره السلطان وأهل الدولة، وربما احتجب عنهم. فرغب السلطان منه أن يقطعه قرى يطعم منها الفقراء والواردين فأبى ذلك. وزاره يوماً وأتى إليه بعشرة آلاف دينار فلم يقبلها وذكروا أنه لا يفطر إلا بعد ثلاث، وأنه قيل له في ذلك فقال: لا أفطر حتى اضطر، فتحل لي الميتة، ومنهم الإمام الصالح العالم العابد الورع الخاشع فريد دهره ووحيد عصره كمال الدين عبد الله الغاري " بالغين المعجم والراء " نسبة إلى غار كان يسكنه خارج دهلي بمقربة من زاوية الشيخ نظام الدين البذاوني زرته بهذا الغار ثلاث مرات. كرامة له: كان لي غلام فأبق مني، وألفيته بيد رجل من الترك، فذهبت إلى انتزاعه من يده، فقال لي الشيخ: إن هذا الغلام لا يصلح لك فلا تأخذه. وكان التركي راغباً في المصالحة، فصالحته بمائة دينار أخذتها منه، وتركته له. فلما كان بعد ستة أشهر قتل سيده، وأتى به إلى السلطان، فأمر بتسليمه لأولاد سيده فقتلوه. ولما شاهدت لهذا الشيخ هذه الكرامة انقطعت إليه ولازمته وتركت الدنيا ووهبت جميع ما كان عندي للفقراء والمساكين وأقمت عنده مدة، فكنت أراه يواصل عشرة أيام وعشرين يوماً، ويقوم أكثر الليل. ولم أزل معه حتى بعث عني السلطان، ونشبت في الدنيا ثانية. والله تعالى يختم بالخير وسأذكر ذلك فيما بعد إن شاء الله تعالى، وكيفية رجوعي إلى الدنيا.

ذكر فتح دهلي ومن تداولها من الملوك

حدثني الفقيه العالم العلامة قاضي القضاة بالهند والسند كمال الدين محمد بن البرهان الغزنوي الملقب بصدر الجهان، أنم مدينة دهلي افتتحت من أيدي الكفار في سنة أربع وثمانين وخمسمائة. وقد قرأت أنا ذلك مكتوباً على محراب الجامع الأعظم بها. وأخبرني أيضاً أنها افتتحت على يد الأمير قطب الدين أيبك " واسمه بفتح الهمزة وسكون الياء آخر الحروف وفتح الباء الموحدة "، وكان يلقب سياه " سالار "، ومعناه مقدم الجيوش. وهو أحد مماليك السلطان المعظم شهاب الدين محمد بن سنام الغوري ملك غزنة وخراسان، المتغلب على ملك إبراهيم بن السلطان الغازي محمود بن سبكتكين الذي ابتدأ فتح الهند. وكان السلطان شهاب الدين المذكور بعث الأمير قطب الدين بعسكر عظيم ففتح الله عليه مدينة لاهور. وسكنها وعظم شأنه، وسعى به إلى السلطان، وألقى إليه جلساؤه أنه يريد الانفراد بملك الهند، وأنه قد عصى وخالف. وبلغ هذا الخبر إلى قطب الدين فبادر بنفسه، وقدم على غزنة ليلاً، ودخل على السلطان، ولا علم عند الذين وشوا به إليه. فلما كان بالغد قعد السلطان على سريره، وأقعد أيبك تحت السرير، بحيث لا يظهر، وجاء الندماء والخواص الذين سعوا به. فلما استقر بهم الجلوس سألهم السلطان عن شأن أيبك، فذكروا له أن عصى وخالف، وقالوا: قد صح عندنا أنه ادعى الملك لنفسه. فضرب السلطان سريره برجله، وصفق بيديه وقال: يا أيبك، قال: لبيك، وخرج عليهم، فسقط في أيديهم، وفزعوا إلى تقبيل الأرض. فقال لهم السلطان: قد غفرت لكم هذه الزلة. وإياكم والعودة إلى الكلام في أيبك. وأمره أن يعود إلى بلاد الهند، فعاد إليها، وفتح مدينة دهلي وسواها. واستقر بها الإسلام إلى هذا العهد. وأقام قطب الدين بها إلى أن توفي.

ذكر السلطان شمس الدين للمش

" وضبط اسمه بفتح اللام الأولى وسكون الثانية وكسر الميم وشين معجم "، وهو أول من ولي الملك بمدينة دهلي مستقلاً به وكان قبل تملكه مملوكاً للأمير قطب الدين أيبك وصاحب عسكره نائباً عنه، فلما مات قطب الدين استبد بالملك، وأخذ الناس بالبيعة. فأتاه الفقهاء يقدمهم قاضي القضاة إذ ذاك وجيه الدين الكاساني، فدخلوا عليه وقعد بين يديه، وقعد القاضي إلى جانبه على العادة وفهم السلطان عنهم ما أرادوا أن يكلموه به، فرفع طرف البساط الذي هو قاعد عليه، وأخرج لهم عقداً يتضمن عتقه. فقرأه القاضي والفقهاء، وبايعوه جميعاً. واستقل بالملك، وكانت مدته عشرين سنة. وكان عادلاً صالحاً فاضلاً، ومن مآثره أنه اشتد في رد المظالم وإنصاف المظلومين وأامر أن يلبس كل مظلوم ثوباً مصبوغاً وأهل الهند جميعاً يلبسون البياض فكان متى قعد للناس أو ركب فرأى أحداً عليه ثوب مصبوغ نظر في قضيته وأنصفه ممن ظلمه ثم أنه أعيا في ذلك فقال: إن بعض الناس تجري عليهم المظالم بالليل، وأريد تعجيل إنصافهم، فجعل على باب قصره أسدين مصورين من الرخام موضوعين على برجين هنالك، وفي أعناقهما سلسلتان من الحديد فيهما جرس كبير، فكان المظلوم يأتي ليلاً فيحرك الجرس، فيسمعه السلطان وينظر في أمره للحين وينصفه. ولما توفي السلطان شمس الدين خلف من الأولاد الذكور ثلاثة وهم ركن الدين الوالي بعده، ومعز الدين، وناصر الدين، وبنتاً تسمى رضية وهي شقيقة معز الدين منهم فتولى بعده ركن الدين كما ذكرناه.

ذكر السلطان ركن الدين ابن السلطان شمس الدين

ولما بويع ركن الدين بعد موت أبيه افتتح أمره بالتعدي على أخيه معز الدين فقتله وكانت رضية شقيقته، فأنكرت ذلك عليه، فأراد قتلها. فلما كان في بعض أيام الجمع خرج ركن الدين إلى الصلاة. فصعدت رضية على سطح القصر القديم المجاور للجامع الأعظم، وهو يسمى دولة خانة، ولبست عليها ثياب المظلومين، وتعرضت للناس، وكلمتهم من أعلى السطح، وقالت لهم: إن أخي قتل أخاه، وهو يريد قتلي معه. وذكرتهم أيام أبيها وفعله الخير وإحسانه إليهم فثاروا عند ذلك إلى السلطان ركن الدين وهو في مسجد فقبضوا عليه وأتوا به إليها فقالت لهم: القاتل يقتل فقتلوه قصاصاً بأخيه وكان آخرهما ناصر الدين صغيراً فاتفق الناس على تولية رضية.

ذكر السلطانة رضية

ولما قتل ركن الدين اجتمعت العساكر على تولية أخته رضية الملك، فولوها. واستقلت بالملك أربع سنين وكانت تركب بالقوس والتركش والقربان، كما يركب الرجال ولا تستر وجهها، ثم إنها اتهمت بعبد لها من الحبشة فاتفق الناس على خلعها وتزويجها، فخلعت وزوجت من بعض أقاربها وولي الملك أخوها ناصر الدين.

ذكر السلطان ناصر الدين ابن السلطان شمس الدين

ولما خلعت رضية ولي ناصر الدين أخوها الأصغر، واستقل بالملك مدة. ثم إن رضية وزوجها خالفا عليه، وركبا في مماليكهما ومن تبعهما من أهل الفساد وتهيأ لقتاله، وخرج ناصر الدين معه مملوكه النائب عنه غياث الدين بلبن متولي الملك بعده فوقع اللقاء وانهزم عسكر رضية، وفرت بنفسها، فأدركها الجوع وأجهدها الإعياء، فقصدت حراثاً رأته يحرث الأرض، فطلبت منه ما تأكله، فأعطاها كسرة خبز فأكلتها، وغلب عليها النوم، وكانت في زي الرجال، فلما نامت نظر إليها الحراث وهي نائمة، فرأى تحت ثيابها قباء مرصعاً فعلم أنها امرأة فقتلها وسلبها وطرد فرسها ودفنها في فدانه، وأخذ بعض ثيابها فذهب إلى السوق يبيعها، فأنكر أهل السوق شأنه وأتوا به الشحنة، وهو الحاكم، فضربه فأقر بقتلها ودلهم على مدفنها فاستخرجوها وغسلوها وكفنوها ودفنت هنالك وبني عليها قبة وقبرها الآن يزار ويتبرك به ، وهو على شاطئ النهر الكبير المعروف بنهر الجون، على مسافة فرسخ واحد من المدينة. واستقل ناصر الدين بالملك بعدها، واستقام له الأمر عشرين سنة وكان ملكاً صالحاً ينسخ نسخاً من الكتاب العزيز ويبيعها فيقتات بثمنها. وقد وقفني القاضي كمال الدين على مصحف بخطه متقن محكم الكتابة، ثم إن نائبه غياث الدين بلبن قتله، وملك بعده ولبلبن هذا خبر ظريف نذكره.

ذكر السلطان غياث الدين بلبن

" وضبط اسمه بباءين موحدتين بينهما لام والجميع مفتوحات وآخرها نون "، ولما قتل بلبن مولاه السلطان ناصر الدين استقل بالملك بعده عشرين سنة، وقد كان قبلها نائباً له عشرين سنة أخرى وكان من خيار السلاطين، عادلاً حليماً فاضلاً. ومن مكارمه أنه بنى داراً، وسماها دار الأمن فمن دخلها من أهل الديون قضي دينه ومن دخلها خائفاً أمن، ومن دخلها وقد قتل أحداً أرضى عنه أولياء المقتول، ومن دخلها من ذوي الجنايات أرضى أيضاً من يطلبه. وبتلك الدار دفن لما مات. وقد زرت قبره.

حكاية

يذكر أن أحد الفقراء ببخارى رأى بها بلبن هذا وكان قصيراً حقيراً دميماً فقال له: يا تركك، وهي لفظة تعبر عن الاحتقار. فقال له: لبيك يا خوند، فأعجبه كلامه، فقال له: إشتر لي من هذا الرمان، وأشار إلى رمان يباع في بالسوق، فقال: نعم وأخرج فليسات لم يكن عنده سواها واشترى له من ذلك الرمان. فلما أخذها الفقير قال له: وهبناك ملك الهند. فقبل بلبن يد نفسه، وقال: قبلت ورضيت واستقر ذلك في ضميره، واتفق أن بعث السلطان شمس الدين للمش تاجراً يشتري له المماليك بسمرقند وبخارى وترمذ فاشترى مائة مملوك كان من جملتهم بلبن، فلما دخل بالمماليك على السلطان أعجبه جميعهم إلا بلبن، لما ذكرناه من دمامته فقال: لا أقبل هذا فقال له بلبن: يا خوند عالم لمن اشتريت هؤلاء المماليك ؟ فضحك منه وقال: اشتريتهم لنفسي. فقال: اشترني أنا لله عز وجل. فقال: نعم وقبله وجعله في جملة المماليك فاحتقر شأنه وجعل في السقائين وكان أهل المعرفة بعلم النجوم يقولون للسلطان شمس الدين: إن أحد مماليكه يأخذ الملك من يد ابنك ويستولي عليه ولا يزالون يلقون ذلك، وهو لا يلتفت إلى أقوالهم لصلاحه وعدله، إلى أن ذكر ذلك للخاتون الكبرى أم أولاده فذكرت له ذلك، وأثر في نفسه، وبعث على المنجمين فقال: أتعرفون المملوك الذي يأخذ ملك ابني إذا رأيتموه ؟ فقالوا له: نعم عندنا علامة نعرفه بها فأمر السلطان بعرض مماليكه، وجلس لذلك فعرضوا بين يديه طبقة طبقة، والمنجمون ينظرون إليهم ويقولون: لم نره بعد، وحان وقت الزوال، فقال السقاءون بعضهم لبعض: إنا قد جعنا، فلنجمع شيئاً من الدراهم، ونبعث أحدنا إلى السوق ليشتري لنا ما نأكله فجمعوا الدراهم، وبعثوا بها بلبن، إذ لم يكن فيهم أحقر منه. فلم يجد بالسوق ما أرادوه فتوجه إلى سوق أخرى وأبطأ وجاءت نوبة السقائين في العرض وهو لم يأت بعد، فأخذوا زقه وماعونه وجعلوه على كاهل صبي، وعرضوه على أنه بلبن فلما نودي اسمه جاز الصبي بين أيديهم وانقضى العرض. ولم ير المنجمون الصورة التي يطلبونها. وجاء بلبن بعد تمام العرض، لما أراد الله من إنفاذ قضائه. ثم إنه ظهرت نجابته، فجعل أمير السقائين، ثم صار من جملة الأجناد، ثم من الأمراء، ثم تزوج السلطان ناصر الدين بنته قبل أن يلي الملك ولما ولي الملك جعله نائباً عنه مدة عشرين سنة، ثم قتله بلبن واستولى على ملكه عشرين سنة أخرى كما تقدم ذكر ذلك، وكان للسلطان بلبن ولدان أحدهما الخان الشهيد ولي عهده، وكان والياً لأبيه ببلاد السند، ساكناً بمدينة ملتان وقتل في حرب له مع التتر، وترك ولدين: كي قباد وكي خسرو. وولد السلطان بلبن الثاني يسمى ناصر الدين، وكان والياً لأبيه ببلاد اللكنوتي وبنجالة. فلما استشهد الخان الشهيد جعل السلطان بلبن العهد إلى ولده كي خسرو، وعدل به عن ابن نفسه ناصر الدين وكان لناصر الدين كذلك ولد ساكن بحضرة دهلي مع جده بيسمى معز الدين، وهو الذي تولى الملك بعد جده في خبر عجيب نذكره، وأبوه إذ ذاك حي كما ذكرناه.

ذكر السلطان معز الدين بن ناصر ابن السلطان غياث الدين بلبن

ولما توفي السلطان غياث الدين ليلاً، وابنه ناصر الدين غائب ببلاده اللكنوتي، وجعل العهد لابن ابنه الشهيد كي خسرو، حسبما قصصناه، كان ملك الأمراء نائب السلطان غياث الدين عدواً لكي خسرو فأراد عليه حيلة تمت، وهي أنه كتب بيعة دلس فيها على خطوط الأمراء الكبار بأنهم بايعوا السلطان معز الدين حفيد السلطان بلبن ودخل على كي خسرو كالمتنصح له فقال له: إن الأمراء قد بايعوا ابن عمك، وأخاف عليك منهم. فقال كي خسروا: فما الحيلة ؟ قال: انج بنفسك هارباً إلى بلاد السند فقال: وكيف الخروج والأبواب مسدودة ؟ قال له: إن المفاتيح بيدي، وأنا أفتح لك فشكره على ذلك وقبل يده، وقال له: اركب الآن، فركب في خاصته ومماليكه، وفتح له الباب وأخرجه، وسد في أثره، واستأذن على معز الدين فبايعه، فقال: كيف لي بذلك وولاية العهد لابن عمي ؟ فأعلمه بما أدار عليه من الحيلة، وبإخراجه. فشكره على ذلك ومضى به إلى دار الملك، وبعث إلى الأمراء والخواص فبايعوا ليلاً فلما أصبح بايعه سائر الناس واستقام له الملك وكان أبوه حياً ببلاد بنجالة واللكنوتي فاتصل به الخبر فقال: أنا وارث الملك وكيف يلي ابني الملك ويستقل به وأنا بقيد الحياة ؟ فتجهز في جيوشه قاصداً حضرة دهلي، وتجهز ولده في جيوشه كذلك قاصداً لمدافعته عنها، فتوفيا معاً بمدينة كرا، وهي على ساحل نهر الكنك الذي تحج الهنود إليه فنزل ناصر الدين على شاطئه مما يلي كرا ونزل ولده السلطان معز الدين مما يلي الجهة الأخرى، والنهر بينهما وعزما على القتال، ثم أن الله تعالى أراد حقن دماء المسلمين، فألقى في قلب ناصر الدرين الرحمة لآبنه وقال: إذا ملك ولدي فذلك شرف، وأنا أحق أن أرغب في ذلك، وألقى في قلب السلطان معز الدين الضراعة لأبيه فركب كل واحد منهما منفرداً عن جيوشه، والتقيا في وسط النهر فقبل السلطان رجل أبيه واعتذر له. فقال له أبوه: قد وهبتك ملكي ووليتك وبايعه وأراد الرجوع إلى بلاده فقال له ابنه: لا بد لك من الوصول إلى بلادي، فمضى معه إلى دهلي، ودخل القصر وأقعده أبوه على سرير الملك ووقف بين يديه وسمي ذلك اللقاء الذي كان بينهما بالنهر: لقاء السعدين، لما كان فيه من حقن الدماء، وتواهب الملك والتجافي عن المنازعة. وأكثرت الشعراء في ذلك. وعاد ناصر الدين إلى بلاده، فمات بها بعد سنين وترك بها ذرية منهم غياث الدين بهادور الذي أسره السلطان تغلق وأطلقه ابنه محمد بعد وفاته، واستقام الملك لمعز الدين أربعة أعوام بعد ذلك وكانت كالأعياد. رأيت بعض من أدركها يصف خيراتها ورخص أسعراها، وجود معز الدين وكرمه وهو الذي بني الصومعة بالصحن الشمالي من جامع دهلي ولا نظير لها في البلاد. وحكى لي بعض أهل الهند أن معز الدين كان يكثر النكاح والشرب، فاعتلته علة أعجز الأطباء دواؤها، ويبس أحد شقيه فقام عليه نائبه جلال الدين فيروزشاة الخلجي " بفتح الخاء المعجم واللام والجيم ".

ذكر السلطان جلال الدين

ولما اعترى السلطان معز الدين ما ذكرناه من يبس أحد شقيه خالف عليه نائبه جلال الدين وخرج إلى ظاهر المدينة فوقف على تل هنالك بجانب قبة تعرف بقبة الجيشاني. فبعث معز الدين الأمراء لقتاله، فكان كل من يبعثه منهم يبايع جلال الدين ويدخل في جملته ثم دخل المدينة وحصره في القصر ثلاثة أيام. وحدثني من شاهد ذلك أن السلطان معز الدين أصابه الجوع في تلك الأيام، فلم يجد ما يأكله، فبعث إليه أحد الشرفاء من جيرانه ما أقام أوده، ودخل عليه القصر فقتل، وولي بعده جلال الدين وكان حليماً فاضلاً، وحلمه أداه إلى القتل، كما سنذكره واستقام له الملك سنين وبنى القصر المعروف باسمه، وهو الذي أعطاه السلطان محمد لصهره الأمير غدا بن مهنا، لما زوجه، بأخته، وسيذكر ذلك، فكان للسلطان جلال الدين ولد اسمه ركن الدين، وابن أخ اسمه علاء الدين زوجه بابنته وولاه مدينة كرا ومانكبور ونواحيها، وهي من أخصب بلاد الهند كثيرة القمح والأرز والسكر وتصنع بها الثياب الرفيعة، ومنها تجلب إلى دهلي، وبينهما مسيرة ثمانية عشر يوماً وكانت زوجة علاء الدين تؤذيه، فلا زال يشكوها إلى عمه السلطان جلال الدين حتى وقعت الوحشة بينهما بسببها وكان علاء الدين شهماً شجاعاً مظفراً منصوراً، وحب الملك ثابت في نفسه، إلا أنه لم يكن له مال إلا ما يستفيده بسيفه من غنائم الكفار. فاتفق أنه ذهب مرة إلى الغزو ببلاد الدويقير، وتسمى بلاد الكتكة أيضاً وسنذكرها، وهي كرسي بلاد المالوه والمرهتة، وكان سلطانها أكبر سلاطين الكفار، فعثرت بعلاء الدين بتلك الغزوة دابة له عند حجر فسمع له طنيناً، فأمر بالحفر هنالك فوجد تحته كنزاً عظيماً، ففرقه في أصحابه ووصل إلى الدويقير، فأذعن له سلطانها بالطاعة، ومكنه من المدينة من غير حرب وأهدى له هدايا عظيمة فرجع إلى المدينة كرا، ولم يبعث إلى عمه شيئاً من الغنائم فأغرى الناس عمه به فبعث إليه، فامتنع من الوصول إليه فقال السلطان جلال الدين أنا أذهب إليه وآتي به فإنه محل ولدي فتجهز في عساكره وطوى المراحل حتى حل بساحل مدينة كرا، حيث نزل السلطان معز الدين لما خرج إلى لقاء أبيه ناصر الدين، وركب النهر برسم الوصول إلى ابن أخيه، وركب ابن أخيه أيضاً في مركب ثان عازماً على الفتك به وقال لأصحابه: إذا أنا عانقته فاقتلوه فلما التقيا وسط النهر عانقه ابن أخيه وقتله أصحابه كما وعدهم، واحتوى على ملكه وعساكره.

ذكر السلطان علاء الدين محمد شاه الخلجي

ولما قتل عمه استقل بالملك، وفر إليه أكثر عساكر عمه، وعاد بعضهم إلى دهلي، واجتمعوا على ركن الدين وخرج إلى دفاعه فهربوا جميعاً إلى السلطان علاء الدين، وفر ركن الدين إلى السند، ودخل علاء الدين دار الملك، واستقام له الأمر عشرين سنة. وكان من خيار السلاطين وأهل الهند يثنون عليه كثيراً، وكان يتفقد أمور الرعية بنفسه، ويسأل عن أسعارهم، ويحضر المحتسب وهم يسمونه الرئيس في كل يوم برسم ذلك ويذكر أنه سأله يوماً عن سبب غلاء اللحم، فأخبره أنه ذلك لكثرة المغرم على البقر في المرتب فأمر برفع ذلك، وأمر بإحضاره التجار وأعطاهم الأموال وقال لهم: اشتروا بها البقر والغنم وبيعوها، ويرتفع ثمنها لبيت المال، ويكون لكم أجرة على بيعها ففعلوا ذلك، وفعل مثل هذا في الأثواب التي يؤتى بها من دولة أباد وكان إذا غلا ثمن الزرع فتح المخازن وباع الزرع حتى يرخص السعر. ويذكر أن السعر ارتفع ذات مرة فأمر ببيع الزرع بثمن عينه، فامتنع الناس من بيعه بذلك الثمن، فأمر ألا يبيع أحد زرعاً غير زرع المخزن وباع للناس ستة أشهر، فخاف المحتكرون فساد زرعهم بالسوس فرغبوا أن يؤذن لهم على أن يبيعوه بأقل من القيمة الأولى التي امتنعوا من بيعه بها. وكان لا يركب لجمعة ولا لعيد ولا سواهما وسبب ذلك إنه كان له ابن أخ يسمى سليمان شاه وكان يحبه ويعظمه، فركب يوماً إلى الصيد وهو معه، وأضمر في نفسه أن يفعل ما فعل هو بعمه جلال الدين من الفتك فلما نزل للغداء، رماه بنشابة فصرعه وغطاه بعض عبيده بترس وأتى ابن أخيه ليجهز عليه، فقال له العبيد: إنه قد مات فصدقهم وركب فدخل القصر على الحرم وأفاق السلطان علاء الدين من غشيته وركب، واجتمعت العساكر عليه، وفر ابن أخيه فأدرك وأتي به إليه فقتله، وكان بعد ذلك لا يركب. وكان له من الأولاد خضر خان وشادي خان وأبو بكر خان ومبارك خان، وهو قطب الدين الذي ولي الملك، وشهاب الدين. وكان قطب الدين مهتضماً عنده ناقص الحظ قليل الحظوة وأعطى جميع إخوته المراتب، وهي الأعلام والأطبال، ولم يعطه شيئاً؛ وقال له يوماً، لا بد أن أعطيك مثل ما أعطيت إخوتك فقال له: الله هو الذي يعطيني فهال أباه هذا الكلام وفزع منه. ثم إن السلطان اشتد عليه المرض، وكانت زوجته أم ولده خضر خان، وتسمى ماه حق، والماه القمر بلسانهم، لها أخ يسمى سنجر، فعاهدت أخاها على تمليك ولدها خضر خان وعلم بذلك ملك نائب أكبر أمراء السلطان، وكان يسمى الألفي، لأن السلطان إشتراه بألف تنكة، وهي ألفان وخمسمائة من دنانير المغرب، فوشى إلى السلطان بما اتفقوا عليه، فقال لخواصه إذا دخل علي سنجر فإني معطيه ثوباً، فإذا لبسه، فأمسكوا بأكمامه واضربوا به الأرض واذبحوه فلما دخل عليه فعلوا ذلك وقتلوه وكان خضر خان غائباً، بموضع يقال له: سندبت، على مسيرة يوم من دهلي، توجه لزيارة شهداء مدفونين به، لنذر كان عليه أن يمشي تلك المسافة راجلاً ويدعو لوالده بالراحة. فلما بلغه أن أباه قتل خاله حزن عليه حزناً شديداً ومزق جيبه، وتلك عادة لأهل الهند يفعلونها إذا مات لهم من يعز عليهم، فبلغ والده ما فعله فكره ذلك، فلما دخل عليه عنفه ولامه، وأمر به فقيدت يداه ورجلاه، وسلمه لملك نائب المذكور، وأمره أن يذهب إلى حصن كاليور وضبطه " بفتح الكاف المعقودة وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وآخره راء " ويقال له أيضاً كيالير بزيادة ياء ثانية، وهو حصن منقطع بين كفار الهنود منيع على مسيرة عشر من دهلي، وقد سكنته أنا مدة، فلما أوصله إلى هذا الحصن سلمه للكتوال وهو أمير الحصن، وللمفردين وهم الزماميون، وقال لهم: لا تقولوا هذا ابن السلطان فتكرموه، إنما هو أعدى عدو له، فاحفظوه كما يحفظ العدو. ثم إن المرض اشتد بالسلطان فقال الملك نائب: ابعث من يأتي بابني خضر خان لأوليه العهد: فقال له نعم وماطله بذلك فمتى سأل عنه، قال: هو ذا يصل إلى أن توفي السلطان رحمه الله.

ذكر ابنه السلطان شهاب الدين

 ولما توفي السلطان علاء الدين اقعد ملك نائب ابنه الأصغر شهاب الدين على سرير الملك، وبايعه الناس، وتغلب ملك نائب عليه، وسمل أعين أبي بكر خان وشادي خان، وبعث بهما إلى كاليور، وأمر بسمل عيني أخيهما خضر خان المسجون هنالك، وسجنوا وسجن قطب الدين، لكنه لم تسمل عيناه. وكان للسلطان علاء الدين مملوكان من خواصه، يسمى أحدهما ببشير والآخر بمبشر، فبعثت إليهما الخاتون الكبرى زوجة علاء الدين، وهي بنت السلطان معز الدين، فذكرتهما بنعمة مولاهما، وقالت: إن هذا الفتى ملك نائب قد فعل في أولادي ما تعلمانه، وأنه يريد أن يقتل قطب الدين. فقالا لهما: سترين ما نفعل، وكانت عادتهما أن يبيتا عند نائب ملك ويدخلا عليه بالسلاح، فدخلا عليه تلك الليلة وهو في بيت من الخشب مكسو بالملف يسمونه الخرمقة ينام في أيام المطر فوق سطح القصر، فاتفق أنه أخذ السيف من يد أحدهما فقلبه ورده إليه، فضربه به المملوك وثنى عليه صاحبه، واحتزا رأسه وأتيا به إلى مجلس قطب الدين، فرمياه بين يديه، وأخرجاه. فدخل على أخيه شهاب الدين وأقام بين يديه أياماً كأنه نائب له، ثم عزم خلعه فخلعه.

ذكر السلطان قطب الدين ابن السلطان علاء الدين

وخلع قطب الدين أخاه شهاب الدين وقطع إصبعه، وبعث به إلى كاليور فحبس مع إخوته. واستقام الملك لقطب الدين. ثم إنه بعد ذلك خرج من حضرة دهلي إلى دولة أباد، وهي على مسيرة أربعين يوماً منها. والطريق بينهما تكنفه الأشجار من الصفصاف وسواه. فكأن الماشي به في بستان. وفي كل ميل منه ثلاث داوات، وهي البريد وقد ذكرنا ترتيبه، وفي كل داوة جميع ما يحتاج المسافر إليه. فكأنه يمشي في سوق مسيرة الأربعين يوماً. وكذلك يتصل الطريق إلى بلاد التلنك. والمعبر مسيرة ستة أشهر. وفي كل منزلة قصر للسلطان وزاوية للوارد والصادر، فلا يفتقر الفقير إلى حمل زاد في ذلك الطريق. ولما خرج السلطان قطب الدين في هذه الحركة اتفق بعض الأمراء على الخلاف عليه وتولية ولد أخيه خضر خان المسجون، وسنه نحو عشرة أعوام، وكان مع السلطان. فبلغ السلطان ذلك، فأخذ ابن أخيه المذكور وأمسك برجليه، وضرب برأسه إلى الحجارة حتى نثر دماغه وبعث أحد الأمراء ويسمى ملك شاه إلى كاليور حيث أبو هذا الولد وأعمامه وأمره بقتلهم جميعاً. فحدثني القاضي زين الدين مبارك قاضي هذا الحصن قال: قدم عاينا ملك شاه ضحوة يوم، وكنت عند خضر خان بمحبسه، فلما سمع بقدومه خاف وتغير لونه. ودخل عليه الأمير فقال له: فيم جئت ؟ قال: في حاجة خوند عالم. فقال له: نفسي سالمة، فقال: نعم، وخرج عنه واستحضر الكتوال وهو صاحب الحصن والمفردين وهم الزماميون، وكانوا ثلاثمائة رجل، وبعث عني وعن العدول، واستظهر بأمر السلطان فقرأوه، وأتوا إلى شهاب الدين المخلوع فضربوا عنقه وهو متثبت غير جزع، ثم ضربوا عنق أبي بكر خان وشادي خان، ولما أتوا ليضربوا عنق خضر خان فزع وذهل، وكانت أمه معه فسدوا الباب دونها، وقتلوه وسحبوهم جميعاً في حفرة بدون تكفين ولا غسل. واخرجوا بعد سنين فدفنوا بمقابر آبائهم. وعاشت أم خضر خان مدة، ورايتها بمكة سنة ثمان وعشرين. وحصن كاليور هذا في رأس شاهق كأنه منحوت من الصخر لا يحاذيه جبل، وبداخله جباب الماء ونحو عشرين بئراً عليها الأسوار مضافة إلى الحصن، منصوباً عليها المجانيق والرعادات. ويصعد إلى الحصن في طريق متسعة يصعدها الفيل والفرس. وعند باب الحصن صورة فيل منحوت من الحجر وعليه صورة فيال. وإذا رآه الإنسان على بعد لم يشك أنه فيل حقيقة. وأسفل الحصن مدينة حسنة مبنية كلها بالحجارة البيض المنحوتة، مساجدها ودورها، ولا خشب فيها ماعدا الأبواب. وكذلك دار الملك بها والقباب والمجالس. وأكثر سوقتها كفار، وفيها ستمائة فارس من جيش السلطان لا يزالون في جهاد، لأنها بين الكفار. ولما قتل قطب الدين إخوته واستقل بالملك، ولم يبق من ينازعه ولا من يخالف عليه بعث الله تعالى عليه من خاصته، الحظي لديه أكبر أمرائه وأعظمهم منزله عنده ناصر الدين خسرو خان ففتك به وقتله واستقل بملكه، إلا أن مدته لم تطل بالملك، فبعث الله تعالى عليه من قتله بعد خلعه السلطان تغلق، حسبما يشرح كله مستوفى إن شاء الله تعالى إثر هذا ونسطره.

ذكر السلطان خسروخان ناصر الدين

وكان خسروخان من أكبر أمراء قطب الدين، وهو شجاع حسن الصورة، وكان فتح بلاد جنديري وبلاد المعبر، وهي من أخصب بلاد الهند. وبينهما وبين دهلي مسيرة ستة أشهر. وكان قطب الدين يحبه حباً شديداَ ويؤثره، فجر ذلك حتفه على يديه. وكان لقطب الدين معلم يسمى قاضي خان صدر الجهان، وهو أكبر أمرائه وكليت " كليد " دار، وهو صاحب مفاتيح القصر. وعادته أن يبيت كل ليلة على باب السلطان ومعه أهل النوبة، وهم ألف رجل يبيتون مناوبة بين أربع ليال، ويكونون صفين فيما بين أبواب القصر، وسلاح كل واحد منهم بين يديه، فلا يدخل أحد إلا فيما بين سماطيهم. وإذا تم الليل أتى أهل نوبة النهار. ولأهل النوبة أمراء وكتاب يتطوفون عليهم ويكتبون من غاب منهم أو حضر. وكان معلم السلطان قاضي خان يكره أفعال خسرو خان، ويسوءه ما يراه من إيثاره لكفار الهنود وميله إليهم، وأصله منهم. ولا يزال يلقي ذلك إلى السلطان فلا يسمع منه ويقول له دعه وما يريد، لما أراد الله من قتله على يده. فلما كان في بعض الأيام قال خسرو خان للسلطان: إن جماعة من الهنود يريدون أن يسلموا. ومن عادتهم في تلك البلاد أن الهندي إذا أراد الإسلام أدخل إلى السلطان فيكسوه كسوة حسنة ويعطيه قلادة أو أساور من ذهب على قدره، فقال له السلطان: ائتني بهم. فقال: إنهم يستحيون أن يدخلوا إليك نهاراً لأجل أقربائهم وأهل ملتهم. فقال له: ائتني بهم ليلاً. فجمع خسرو خان جماعة من شجعان الهنود وكبرائهم، فيهم أخوه خان خانان، وذلك أوان الحر، والسلطان ينام فوق سطح القصر، ولا يكون عنده في ذلك الوقت إلا بعض الفتيان. فلما دخلوا الأبواب الأربعة وهم شاكو السلاح ووصلوا إلى الباب الخامس، وعليه قاضي خان، أنكر شأنهم، وأحس بالشر. فمنعهم من الدخول وقال: لا بد أن أسمع من خوند عالم بنفسي الإذن في دخولهم، وحينئذ يدخلون. فلما منعهم من الدخول هجموا عليه فقتلوه. وعلت الضجة بالباب، فقال السلطان: ما هذا ؟ فقال خسرو خان: هم الهنود الذين أتوا ليسلموا، فمنعهم قاضي خان من الدخول. وزاد الضجيج، فخاف السلطان وقام يريد الدخول إلى القصر، وكان بابه مسدوداً، والفتيان عنده فقرع الباب واحتضنه خسرو خان من خلفه، وكان السلطان أقوى منه فصرعه. ودخل الهنود فقال لهم خسرو خان: هو ذا فوقي فاقتلوه، فقتلوه وقطعوا رأسه ورموا به من سطح القصر إلى صحنه. وبعث خسرو خان من حينه إلى الأمراء والملوك وهم لا يعلمون بما اتفق. فكلما دخلت طائفة وجده على سرير الملك فبايعوه ولما أصبح أعلن بأمره، وكتب المراسم وهي الأوامر إلى جميع البلاد. وبعث لكل أمير خلعة فطاعوا له جميعاً. وأذعنوا إلى تغلق شاه ولد السلطان محمد شاه، وكان إذا ذاك وأميراً بدبال بور، من بلاد السند. فلما وصلته خلعة خسرو خان طرحها بالأرض، وجلس فوقها. وبعث إليه أخاه خان خانان فهزمهم. ثم آل أمره إلى أن قتله كما سنشرحه في أخبار تغلق. ولما ملك خسرو خان أثر الهنود، وأظهر أموراً منكرة، منها النهي عن ذبح البقر على قاعدة كفار الهنود، فإنهم لا يجيزون ذبحها، وجزاء من ذبحها عندهم أن يخاط في جلدها ويحرق. وهم يعظمون البقر ويشربون أبوالها للبركة، وللاستشفاء إذا مرضوا. ويلطخون بيوتهم وحيطانهم بأرواثها. وكان ذلك مما بغض خسرو خان إلى المسلمين وأمالهم عنه إلى تغلق، فلم تطل مدة ولايته ولا امتدت أيام ملكه كما سنذكره.

ذكر السلطان غياث الدين تغلق شاه

" وضبط اسمه بضم التاء المعلوة وسكون الغين المعجم وضم اللام وآخره قاف " حدثني الشيخ الإمام الصالح العالم العامل العابد ركن الدين ابن الشيخ الصالح شمس الدين أبي عبد الله ابن الولي الإمام العالم العابد بهاء الدين زكريا القرشي الملتاني بزاويته. أن السلطان تغلق كان من الأتراك المعروفين بالقرونة " بفتح القاف والراء وسكون الواو وفتح النون "، وهم قانطون بالجبال التي بين بلاد السند والترك. وكان ضعيف الحال، فقدم بلاد السند في خدمة بعض التجار، وكان كلوانياً له، والكلواني " بضم الكاف المعقود " هو راعي الخيل " جلوبان "، وذلك على أيام السلطان علاء الدين، وأمير السند إذ ذاك أخوه أولوخان " بضم الهمزة واللام " فخدمه تغلق، وتعلق بجانبه، فرتبه في البياة " بكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف "، وهم الرجالة. ثم ظهرت نجابته فأثبت في الفرسان، ثم كان من الأمراء الصغار وجعله أولوخان أمير خيله. ثم كان بعد ذلك من الأمراء الكبار، وسمي بالملك الغازي، ورأيت مكتوباً على مقصورة الجامع بملتان، وهو الذي أمر بعملها، إني قاتلت التتر تسعاً وعشرين مرة، فهزمتهم. فحينئذ سميت بالملك الغازي. ولما ولي قطب الدين ولاه مدينة دبال بور وعمالتها " وهي بكسر الدال المهمل وفتح الباء الموحدة "، وجعل ولده الذي هو الآن سلطان الهند أمير خيله، وكان يسمى جونه " بفتح الجيم والنون " ولما ملك تسمى بمحمد شاه. ثم لما قتل قطب الدين وولي خسرو خان أبقاه الله على إمارة الخيل. فلما أراد تغلق الخلاف كان له ثلاثمائة من أصحابه الذين يعتمد عليهم في القتال، وكتب إلى كشلوخان، وهو يومئذ بملتان، وبينهما وبين دبال بور ثلاثة أيام، يطلب منه القيام بنصرته، ويذكره نعمة قطب الدين، ويحرضه على طلب ثأره. وكان ولد كشلو خان بدهلي فكتب إلى تغلق أنه لو كان ولدي عندي لأعنتك على ما تريد. فكتب تغلق إلى ولده محمد شاه يعلمه بما عزم عليه، ويأمره أن يفر إليه ويستصحب معه ولد كشلو خان، فأدار ولده الحيلة على خسرو خان. وتمت له كما أراد، فقال له: إن الخيل قد سمنت وتبدنت وهي تحتاج البراق وهو التضمير، فأذن له في تضميرها. فكان يركب كل يوم في أصحابه فيسير بها الساعة والساعتين والثلاث، واستمر إلى أربع ساعات، إلى أن غاب يوماً إلى وقت الزوال، وذلك وقت طعامهم، فأمر السلطان بالركوب في طلبه، فلم يوجد له خبر. ولحق بأبيه واستصحب معه ولد كشلو خان. وحينئذ أظهر تغلق الخلاف، وجمع العساكر وخرج معه كشلو خان في أصحابه، وبعث السلطان أخاه خان خانان لقتالهما، فهزماه شر هزيمة، وفر عسكره إليهما، ورجع خان خانان إلى أخيه، وقتل أصحابه، وأخذت خزائنه وأمواله وقصد تغلق حضرة دهلي. وخرج إليه خسروخان في عساكره، ونزل بخارج دهلي بموضع يعرف بآصيا أباد " آسياباد " ومعنى ذلك رحى الريح، وأمر بالخزائن ففتحت، وأعطى الأموال بالبدر، لا بوزن ولا عد. ووقع اللقاء بينه وبين تغلق، وقاتلت الهنود أشد قتال. وانهزمت عساكر تغلق، ونهبت محلته، وانفرد في أصحابه الأقدمين الثلاثمائة، فقال لهم: إلى أين الفرار حيثما أدركنا قتلنا، واشتغلت عساكر خسرو خان بالنهب، وتفرقوا عنه ولم يبق معه الا قليل. فقصد تغلق وأصحابه موقفه، والسلطان هنالك يعرف بالشطر " جتر " الذي يرفع فوق رأسه، وهو الذي يسمى بديار مصر القبة، والطير، ويرفع بها في الأعياد. وأما بالهند والصين فلا يفارق السلطان في سفر ولا حضر. فلما قصده تغلق وأصحابه حمي القتال بينهم وبين الهنود. وانهزم أصحاب السلطان ولم يبق معه أحد، وهرب فنزل عن فرسه ورمى بثيابه وسلاحه، وبقي في قميص واحد، وأرسل شعره بين كتفيه كما يفعل فقراء الهند، ودخل بستاناً هنالك. واجتمع الناس على تغلق، وقصد المدينة، فأتاه الكتوال بالمفاتيح، ودخل القصر ونزل بناحية منه وقال لكشلو خان: أنت تكون السلطان. فقال كشلو خان: بل أنت تكون السلطان. وتنازعا، فقال له كشلو خان: فإن أبيت أن تكون سلطاناً فيتولى ولدك. فكره هذا، وقبل حينئذ، وقعد على سرير الملك وبايعه الخاص والعام، ولما كان بعد ثلاث اشتد لجوع بخسرو خان، وهو مختف بالبستان، فخرج وطاف به فوجد القيم فسأله طعاماً فلم يكن عنده فأعطاه خاتمه وقال: اذهب فارهنه في طعام فلما ذهب بالخاتم إلى السوق أنكر الناس أمره ورفعوه إلى الشحنة وهو الحاكم فأدخله على السلطان تغلق فأعلمه بمن دفع إليه الخاتم. فبعث ولده محمداً ليأتي به فقبض عليه وأتاه به راكباً على تتو " بتائين مثناتين أولاهما مفتوحة والثانية مضمومة "، وهو البرذون. فلما مثل بين يديه قال له: إني جائع فأتني بطعام. فأمر له بالشربة ثم الطعام ثم بالقفاع ثم بالتنبول. فلما أكل قام قائماً وقال: يا تغلق افعل معي فعل الملوك، ولا تفضحني. فقال له: لك ذلك. وأمر به فضربت رقبته وذلك في الموضع الذي قتل هو به قطب الدين، ورمي برأسه وجسده من أعلى السطح كما فعل هو برأس قطب الدين، وبعد ذلك أمر بغسله وتكفينه. ودفن في مقبرته، واستقام الملك لتغلق أربعة أعوام. وكان عادلاً فاضلاً.

ذكر ما رامه ولده من القيام عليه فلم يتم له ذلك ولما استقر تغلق بدار الملك بعث ولده ليفتح بلاد التلنك " وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة " وهي على مسيرة ثلاثة أشهر من مدينة دهلي. وبعث معه عسكراً عظيماً فيه كبار الامراء، مثل الملك تمور " بفتح التاء المعلوة وضم الميم وآخره راء " ومثل الملك تكين " بكسر التاء المعلوة والكاف وآخره نون " ومثل ملك كافور والمهردار " بضم الميم " ومثل ملك بيرم " بالباء الموحدة مفتوحة والياء أخر الحروف والراء مفتوحة " وسواهم. فلما بلغ إلى أرض التلنك أراد المخالفة. وكان له نديم من الفقهاء الشعراء يعرف بعبيد، فأمره أن يلقي إلى الناس أن السلطان تغلق توفي، وظنه أن الناس يبايعونه مسرعين إذا سمعوا ذلك. فلما ألقى ذلك إلى الناس أنكره الأمراء، وضرب كل واحد منهم طبله وخالف، فلم يبق معه أحد. وأرادوا قتله، فمنعهم منه ملك تمور، وقام دونه. ففر إلى أبيه في عشرة من الفرسان سماهم ياران موافق، ومعناه الأصحاب الموافقون. فأعطاه أبوه الأموال والعساكر وأمره بالعود إلى تلنك فعاد إليها. وعلم أبوه بما كان أراد. فقتل الفقيه عبيداً، وأمر بملك كافور المهردار فدق له عمود في الأرض محدود الطرف، وركز في عنقه حتى خرج من جنبه طرفه، ورأسه، إلى أسفل. وترك على تلك الحال. وفر من بقي من الأمراء إلى السلطان شمس الدين ابن السلطان ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن، واستقروا عنده.

ذكر مسير تغلق إلى بلاد اللكنوتي وما اتصل لذلك إلى وفاته  وأقام الأمراء الهاربون عند السلطان شمس الدين، ثم إن شمس الدين توفي، وعهد لولده شهاب الدين فجلس مجلس أبيه. ثم غلب عليه أخوه الأصغر غياث الدين بهادور، بورة، ومعناه بالهندية الأسود، واستولى على الملك، وقتل أخاه قطلوخان وسائر إخوته. وفر شهاب الدين وناصر الدين منهم إلى تغلق، فتجهز معهما لقتال أخيهما، وخلف ولده محمداً نائباً عنه في ملكه، وجد السير إلى بلاد اللكنوتي فانتصر عليها، وأسر سلطانها غياث الدين بهادور، وقدم به أسيراً إلى حاضرة ملكه. وكان بمدينة دهلي الوالي نظام الدين البذواني، ولا يزال محمد شاه ابن السلطان يتردد إليه. ويعظم خدامه، ويسأله الدعاء. وكان يأخذ الشيخ حالٌ تغلب عليه. فقال ابن السلطان لخدامه؛ إذا كان الشيخ في حاله التي تغلب عليه فأعلموني بذلك. فلما أخذته الحال أعلموه فدخل عليه، فلما رآه الشيخ قال: وهبنا لك الملك، ثم توفي الشيخ في أيام غيبة السلطان. فحمل ابنه محمد نعشه على كاهله، فبلغ ذلك أباه فأنكره وتوعده. وكان قد رأى منه أموراً، ونقم عليه استكثاره من شراء المماليك، وإجزاله العطايا، واستجلاله قلوب الناس، فزاد حنقه عليه. وبلغه أن المنجمين زعموا أنه لا يدخل مدينة دهلي بعد سفره ذلك فتوعده. ولما عاد من سفره وقرب من الحاضرة أمر ولده أن يبني له قصراً، وهم يسمونه الكشك " بضم الكاف وشين معجم مسكن " على واد هنالك يسمى أفغان بور، فبناه في ثلاثة أيام. وجعل أكثر بنائه بالخشب، مرتفعاً على الأرض، قائماً على سواري خشب، وأحكمه بهندسة تولى النظر فيها الملك زاده المعروف بعد ذلك بخواجه جهان، واسمه أحمد بن إياس، كبير وزراء السلطان محمد، وكان إذ ذاك شحنة العمارة. وكانت الحكمة التي اخترعوها فيه أنه متى وطئت الفيلة جهة منه وقع ذلك القصر وسقط. ونزل السلطان بالقصر وأطعم الناس وتفرقوا. واستأذنه ولده في أن يعرض الفيلة بين يديه وهي مزينة فأذن له. وحدثني الشيخ ركن الدين أنه كان يومئذ مع السلطان ومعهما ولد السلطان المؤثر لديه محمود، فجاء محمد ابن السلطان فقال للشيخ: يا خوند هذا وقت العصر، انزل فصل، قال لي الشيخ: فنزلت. وأتي بالأفيال من جهة واحدة حسبما دبروه، فلما وطئتها سقط الكشك على السلطان وولده محمود، قال الشيخ: فسمعت الضجة، فعدت ولم أصل، فوجدت الكشك قد سقط. فأمر ابنه أن يؤتى بالفؤوس والمساحي للحفر عنه، وأشار بالإبطاء، فلم يؤت بهما إلا وقد غربت الشمس. فحفروا ووجدوا السلطان قد حنى ظهره على ولده ليقيه الموت. فزعم بعضهم أنه خرج ميتاً وزعم بعضهم أنه أخرج حياً فأجهز عليه، وحمل ليلاً إلى مقبرته التي بناها خارج البلدة المسماة باسمه تغلق أباد فدفن بها. وقد ذكرنا السبب في بنائه لهذه المدينة. وبها كانت خزائن تغلق وقصوره، وبه القصر الأعظم الذي جعل قراميده مذهبة، فإذا طلعت الشمس كان لها نور عظيم وبصيص يمنع البصر من إدامة النظر إليها، واختزن بها الأموال الكثيرة. ويذكر أنه صهريجاً وأفرغ فيه الذهب إفراغاً، فكان قطعة واحدة. فصرف جميع ذلك ولده محمد شاه لما ولي، وبسبب ما ذكرناه من هندسة الوزير خواجه جهان في بناء الكشك الذي سقط على تغلق، وكانت حظوته عند ولده محمد شاه وإيثاره، فلم يكن أحد يدانيه في المنزلة لديه، ولا يبلغ مرتبته عنده من الوزراء ولا غيرهم.