الجزء الثاني - ذكر السلطان أبي المجاهد محمد شاه ابن السلطان غياث الدين

ذكر السلطان أبي المجاهد محمد شاه ابن السلطان غياث الدين تغلق شاه ملك الهند والسند الذي قدمنا عليه

ولما مات السلطان تغلق استولى ابنه محمد على الملك من غير منازع له ولا مخالف عليه. وقد قدمنا أنه كان اسمه جونه. فلما ملك تسمى بمحمد، واكتنى بأبي المجاهد. وكل ما ذكرت من شأن سلاطين الهند، فهو مما أخبرت به وتلقيته أو معظمه من الشيخ كمال الدين بن البرهان الغزنوي قاضي القضاة. وأما أخبار هذا الملك فمعظمها مما شاهدته أيام كوني ببلاده.

ذكر وصفه

هذا الملك أحب الناس في إسداد العطايا وإراقة الدماء. فلا يخلو بابه عن فقير يغنى أو حي يقتل. وقد شهرت في الناس حكاياته في الكرم والشجاعة، وحكاياته في الفتك والبطش بذوي الجنايات. وهو أشد الناس مع ذلك تواضعاً وأكثرهم إظهاراً للعدل والحق. وشعائر الدين عنده محفوظة. وله اشتداد في أمر لصلاة والعقوبة على تركها. وهو من الملوك الذين اطردت سعادتهم، وخرق المعتاد يمن نقيبتهم. ولكن الأغلب عليه الكرم. وسنذكر من أخباره فيه عجائب لم يسمع بمثلها عمن تقدمه. وأما أشهد بالله وملائكته ورسله أن جميع ما أنقله عنه من الكرم الخارق للعادة حق يقين وكفى بالله شهيداً، وأعلم أن بعض مآثره من ذلك لا يسوغ في عقل كثير من الناس ويعدونه من قبيل المستحيل عادة، ولكنه شيء عاينته وعرفت صحته وأخذت بحظ وافر منه. لا يسعني إلا قول الحق فيه. وأكثر ذلك ثابت بالتواتر في بلاد المشرق.

ذكر أبوابه ومشوره وترتيب ذلك

ودار السلطان بدهلي تسمى دار سرى " بفتح السين المهمل والراء "، ولها أبواب كثيرة. أما الباب الأول فعليه جملة من الرجال موكلون به، ويقعد به أهل الأنفار والأبواق والصرنايات. فإذا جاء أمير أو كبير ضربوها، ويقولون في ضربهم: جاء فلان. وكذلك أيضاً في البابين الثاني والثالث. وبخارج الباب الأول دكاكين يقعد عليها الجلادون، وهم الذين يقتلون الناس. فإن العادة عندهم أنه متى أمر السلطان بقتل أحد قتل على باب المشور، ويبقى هنا ثلاثاً. وبين البابين الأول والثاني دهليز كبير، فيه دكاكين مبنية من جهتيه، يقعد عليها أهل النوبة من حفاظ الأبواب. وأما الباب الثاني فيقعد عليه البوابون الموكلون به. وبينه وبين الباب الثالث دكانة كبيرة يقعد عليها نقيب النقباء، وبين يديه عمود ذهب يمسكه بيده، وعلى رأسه كلاه من الذهب مجوهرة في أعلاها ريش الطواويس، والنقباء بين يديه على رأس كل واحد منهم شاشية مذهبة، وفي وسطه منطقة، وبيده سوطاً نصابه من ذهب أو فضة، ويفضي هذا الباب الثاني إلى مشور كبير متسع يقعد به الناس. وأما الباب الثالث فعليه دكاكين يقعد فيها كتاب الباب. ومن عوائدهم أن لا يدخل على هذا الباب أحد إلا من عينه السلطان لذلك. ويعين لكل إنسان عدد من أصحابه. وناسه يدخلون معه. وكل من يأتي إلى هذا الباب يكتب الكتاب أن فلاناً جاء في الساعة الفلانية من الساعات إلى آخر النهار، ويطالع السلطان بذلك بعد العشاء الآخرة. ويكتبون أيضاً بكل ما يحدث من الباب من الأمور. وقد عين من أبناء الملوك من يوصل ما يكتبونه إلى السلطان. ومن عوائدهم أيضاً أنه من غاب عن دار السلطان ثلاثة أيام فصاعداً لعذر أو لغير عذر، فلا يدخل هذا الباب بعدها إلا بإذن من السلطان. فإن كان له عذر من مرض أو غيره، قدم بين يديه هدية مما يناسب إهداءها إلى السلطان. وكذلك القادمون من الأسفار. فالفقيه يهدي المصحف والكتاب، وشبه الفقير يهدي المصلى والسبحة والمسواك ونحوها، والأمراء ومن أشبههم يهدون الخيل والجمال والسلاح. وهذا الباب الثالث يفضي إلى المشور الهائل الفسيح المسمى هزار أسطون " بفتح الهاء والزاي وألف وراء " ومعنى ذلك ألف سارية، وهو سواري من خشب مدهونة، عليها سقف خشب منقوش أبدع نقش، يجلس الناس تحتها. وبهذا المشور يجلس السلطان الجلوس العام.

ذكر ترتيب جلوسه

أكثر جلوسه بعد العصر، وربما جلس أول النهار. وجلوسه على مصطبة مفروشة بالبياض فوقها مرتبة. ويجعل خلف ظهره مخدة كبيرة، وعن يمينه متكأ، وعن يساره مثل ذلك. وقعوده كجلوس الإنسان للتشهد في الصلاة، وهو جلوس أهل الهند كلهم. فإذا جلس وقف أمامه الوزير، ووقف الكتاب خلف الوزير، وخلفهم الحجاب، وكبير الحجاب هو فيروز ملك ابن عم السلطان ونائبه، وهو أدنى الحجاب من السلطان، ثم يتلوه خاص حاجب، ثم يتلوه نائب خاص حاجب، ووكيل الدار ونائبه، وشرف الحجاب وسيد الحجاب، وجماعة تحت أيديهم. ثم يتلو الحجاب النقباء، وهم نحو مائة. وعند جلوس السلطان ينادي الحجاب والنقباء بأعلى أصواتهم: بسم الله. ثم يقف على رأس السلطان الملك الكبير قبولة وبيده المذبة يشرد بها الذباب، ويقف مائة من السلحدارية عن يمين السلطان ومثلهم عن يساره، بأيديهم الدرق والسيوف والقسي. ويقف في الميمنة والميسرة بطول المشور قاضي القضاة ويليه خطيب الخطباء ثم كبار الفقهاء ثم كبار الشرفاء والمشايخ ثم إخوة السلطان وأصهاره ثم الأمراء الكبار ثم كبار الأعزة وهم الغرباء ثم القواد. ثم يؤتى بستين فرساً مسرجة ملجمة بجهازات سلطانية، فمنها ما هو بشعار الخلافة، وهي التي لجمها ودوائرها من الحرير الأسود المذهب، ومنها ما يكون من الحرير الأبيض المذهب. ولا يركب بذلك غير السلطان، فيوقف النصف من هذه الخيل عن اليمين والنصف عن الشمال، بحيث يراها السلطان. ثم يؤتى بخمسين فيلاً مزينة بثياب الحرير والذهب، مكسوة أنيابها بالحديد إعداداً لقتل أهل الجرائم، وعلى عنق كل فيل فياله وبيده شبه الطبرزين من الحديد يؤدبه به، ويقومه لما يراد منه، وعلى ظهر كل فيل شبه الصندوق العظيم يسع عشرين من المقاتلة، وأكثر من ذلك ودونه على حسب ضخامة الفيل وعظم جرمه، وفي أركان هذا الصندوق أربعة أعلام مركوزة. وتلك الفيلة معلمة أن تخدم السلطان وتحط رؤوسها. فإذا خدمت قال الحجاب: بسم الله بأصوات عالية. ويوقف أيضاً نصفها عن اليمين ونصفها عن الشمال خلف الرجال الواقفين. وكل من يأتي من الناس المعينين للوقوف في الميمنة أو الميسرة يخدم عند موقف الحجاب ويقول: بسم الله. ويكون ارتفاع أصواتهم بقدر ارتفاع صوت الذي يخدم. فإذا خدم انصرف إلى موقفه من الميمنة أو الميسرة لا يتعداه، ومن كان من كفار الهنود يخدم، ويقول له الحجاب والنقباء: هداك الله، ويقف عبيد السلطان من وراء الناس كلهم، بأيديهم الترسة والسيوف، فلا يمكن الدخول بينهم إلا بين يدي الحجاب القائمين بين يدي السلطان.

ذكر دخول الغرباء وأصحاب الهدايا إليه

وإن كان بالباب أحد ممن قدم على السلطان بهدية دخل الحجاب إلى السلطان على ترتيبهم، يقدمهم أمير حاجب ونائبه خلفه، ثم خاص حاجب ونائبه خلفه، ثم وكيل الدار ونائبه، ثم سيد الحجاب وشرف الحجاب، ويخدمون في ثلاثة مواضع. ويعلمون السلطان بمن في الباب. فإذا أمرهم أن يأتوا به جعلوا الهدية التي ساقها بأيدي الرجال يقومون بها أمام الناس بحيث يراها السلطان ويستدعى صاحبها، فيخدم قبل الوصول إليه ثلاث مرات، ثم يخدم عند موقف الحجاب. فإن كان رجلاً كبيراً وقف في صف أمير حاجب، وإلا وقف خلفه. ويخاطبه السلطان بنفسه ألطف خطاب ويرحب به. وإن كان ممن يستحق التعظيم فإنه يصافحه أو يعانقه، ويطلب بعض هديته فتحضر بين يديه. فإن كانت من السلاح أو الثياب قلبها بيده، وأظهر استحسانها جبراً لخاطر مهديها وإيناساً له ورفقاً به، وخلع عليه، وأمر له بماءٍ لغسل رأسه، على عادتهم في ذلك بمقدار ما يستحقه المهدي.

ذكر دخول هدايا عماله إليه

وإذا أتى العمال بالهدايا والأموال المجتمعة من مجابي البلاد صنعوا الأواني من الذهب والفضة مثل الطسوت والأباريق وسواها، وصنعوا من الذهب والفضة قطعاً شبه الآجر يسمونها الخشت " بكسر الخاء المعجمة وسكون الشين المعجم وتاء معلوة "، ويقف العراشون، وهن عبيد السلطان صفاً، والهدية بأيديهم. كل واحد منهم ممسك قطعة، ثم يقدم الفيلة إن كان في الهدية شيء منها، ثم الخيل المسرجة الملجمة، ثم الجمال عليها الأموال. ولقد رأيت الوزير خواجه جهان قدم هديته ذات يوم حين قدم السلطان من دولة أباد، ولقيه بها في ظاهر مدينة بيانة، فأدخلت الهدية إليه على هذا الترتيب. ورأيت في جملتها صينية مليئة بأحجار الياقوت وصينية مليئة بأحجار الزمرد وثالثة باللؤلؤ الفاخر. وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق حاضراً عنده حين ذلك، فأعطاه حظاً منها. وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.

ذكر خروجه للعيدين وما يتصل بذلك

واذا كانت ليلة العيد بعث السلطان إلى الملوك والخواص وأرباب الدولة والاعزة والكتاب والحجاب والنقباء والقواد والعبيد وأهل الأخبار الخلع التي تعمهم جميعاً. فإذا كانت صبيحة العيد زينت الفيلة بالحرير والذهب والجواهر، ويكون منها ستة عشر فيلاً لا يركبها أحد، إنما هي مختصة بركوب السلطان. ويرفع عليها ست عشر شطراً " جترا " من الحرير مرصعة بالجوهر، قائمة كل شطر منها ذهب خالص. وعلى كل فيل مرتبة حرير مرصعة بالجوهر. ويركب السلطان فيلاً منها، وترفع أمامة الغاشية وهي ستارة سرجة، وتكون مرصعة بأنفس الجوهر. ويمشي بين يديه عبيده ومماليكه. وكل واحد منهم تكون على رأسه شاشية ذهب، وعلى وسطه منطقة ذهب، وبعضهم يرصعها بالجوهر. ويمشي بين يديه أيضاً النقباء، وهم نحو ثلثمائة. وعلى رأس كل واحد منهم أقروف ذهب، وعلى وسطه منطقة ذهب، وفي يده مقرعة نصابها ذهب، ويركب قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي وقاضي القضاة صدر الجهان ناصر الدين الخوارزمي وسائر القضاة وكبار الأعزة من الخراسانيين والعراقيين والشاميين والمصريين والمغاربة، كل واحد منهم على مطية، وجميع الغرباء عندهم يسمون الخراسانيين، ويركب المؤذنون على الفيلة وهم يكبرون. ويخرج السلطان من باب القصر على هذا الترتيب، والعساكر تنتظره، كل أمير بفوجه على حدة معه طبوله وأعلامه، فيقدم السلطان وأمامه من ذكرناه المشاة، وأمامهم القضاة والمؤذنون يذكرون الله تعالى، وخلف السلطان مراتبه وهي الأعلام والطبول والأبواق والأنفار والصرنايات، وخلفهم جميع أهل دخلته، ثم يتلوهم أخو السلطان مبارك خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن أخ السلطان بهرام خان بمراتبه وعساكره، ثم يليه ابن عمه ملك فيروز بمراتبه وعساكره، ثم يليه الوزير بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك مجير بن ذي الرجا بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك الكبير قبولة بمراتبه وعساكره، وهذا الملك كبير القدر عنده عظيم الجاه كثير المال، أخبرني صاحب ديوانه ثقة الملك علاء الدين على المصري المعروف بابن الشرايشي أن نفقته ونفقة عبيدة ومراتبهم ستة وثلاثون لكاً في السنة، ثم يليه الملك نكبية بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك بغرة بمراتبه وعساكره، ثم يليه الملك مخلص بمراتبه وعساكره، وهؤلاء هم الأمراء الكبار الذين لا يفارقون السلطان، وهم الذين يركبون معه يوم العيد بالمراتب، ويركب غيرهم من الأمراء دون مراتب. وجميع من يركب في ذلك اليوم يكون مدرعاً هو وفرسه. وأكثر مماليك السلطان؛ فإذا وصل السلطان إلى باب المصلى وقف على بابه، وأمر بدخول القضاة وكبار الأمراء وكبار الأعزة، ثم ينزل السلطان، ويصلي الإمام ويخطب. فإن كان عيد الأضحى أتى السلطان بجمل فنحره برمح يسمونه النيزة " بكسر النون وفتح الزاي " بعد أن يجعل على ثيابه فوطة توقياً من الدم، ثم يركب الفيل ويعود إلى قصره.

ذكر جلوسه يوم العيد وذكر السرير الأعظم والمبخرة العظمى

ويفرش القصر يوم العيد، ويزين بأبدع الزينة. وتضرب الباركة على المشور كله وهي شبه خيمة عظيمة، تقوم على أعمدة ضخام كثيرة، تحفها القباب من كل ناحية، ويصنع به أشجار من حرير ملون فيها شبه الأزهار، ويجعل منها ثلاثة صفوف بالمشور. ويجعل بين كل شجرتين كرسي ذهب عليه مرتبة مغطاة، وينصب السرير الأعظم في صدر المشور وهو من الذهب الخالص كله مرصع القوائم بالجواهر، طوله ثلاثة وعشرون شبراً وعرضه نحو النصف من ذلك، وهو منفصل، وتجمع قطعة فتتصل، وكل قطعة منها يحملها جملة رجال لثقل الذهب، وتجعل فوق المرتبة، ويرفع الشطر المرصع بالجواهر على رأس السلطان. وعندما يصعد على السرير ينادي الحجاب والنقباء بأصوات عالية: بسم الله. ثم يتقدم الناس للسلام. فأولهم القضاة والخطباء والعلماء والشرفاء والمشايخ وإخوة السلطان وأقاربه وأصهاره، ثم الأعزة ثم الوزير ثم أمراء العساكر ثم شيوخ المماليك ثم كبار الأجناد. يسلم واحد إثر واحد من غير تزاحم ولا تدافع. ومن عوائدهم في يوم العيد أن كل من بيده قرية منعم بها عليه يأتي بدنانير ذهب مصرورة في خرقة مكتوب عليها اسمه فيلقيها في طست ذهب هنالك فيجتمع منها مال عظيم يعطيه السلطان لمن شاء.

فإذا فرغ الناس من السلام، وضع لهم الطعام على حسب مراتبهم، وينصب في ذلك اليوم المبخرة العظمى، وهي شبه برج من خالص الذهب منفصلة، فإذا أرادوا اتصالها وصلوها. وتحمل القطعة الواحدة منها جملة من الرجال، وفي داخلها ثلاثة بيوت يدخل فيها المبخرون بوقود العود القماري والقاقلي والعنبر الأشهب والجاوي، حتى يعم دخانها المشور كله. ويكون بأيدي الفتيان براميل الذهب والفضة مملوءة بماء الورد وماء الزهر، يصبونه على الناس صباً. وهذا السرير وهذه المبخرة لا يخرجان إلا في العيدين خاصة. ويجلس السلطان في بقية أيام العيد على سرير ذهب دون ذلك. وتنصب باركة بعيدة لها ثلاثة أبواب، يجلس السلطان في داخلها. ويقف على الباب الأول منها عماد الملك سرتيز، وعلى الباب الثاني الملك نكبية، وعلى الباب الثالث يوسف بغرة، ويقف على اليمين أمراء المماليك السلحدارية، وعن اليسار كذلك. ويقف الناس على مراتبهم، وشحنة الباركة ملك طغى بيده عصى ذهب، وبيد نائبه عصا فضة يرتبان الناس ويسويان الصفوف، ويقف الوزير والكتاب خلفه ويقف الحجاب والنقباء، ثم يأتي أهل الطرب، فأولهم بنات الملوك الكفار من هنود المسبيات في تلك السنة فيغنين ويرقصن ويهبهن السلطان للأمراء والأعزة، ثم يأتي بعدهن سائر بنات الكفار، فيغنين ويرقصن ويهبهن لإخوته وأقاربه وأصهاره وأبناء الملوك، ويكون جلوس السلطان لذلك بعد العصر. ثم يجلس في اليوم الذي بعده بعد العصر أيضاً على ذلك الترتيب ويؤتى بالمغنيات فيغنين ويرقصن ويهبهن لأمراء المماليك. وفي اليوم الثالث يزوج أقاربه وينعم عليهم. وفي اليوم الرابع يعتق العبيد. وفي اليوم الخامس يعتق الجواري، وفي اليوم السادس يزوج العبيد بالجواري، واليوم السابع يعطي الصدقات ويكثر منها.

ذكر ترتيبه إذا قدم من سفره

وإذا قدم السلطان من أسفاره، زينت الفيلة، ورفعت على ستة عشر فيلاً منها ستة عشر شطراً، منها مزركش ومنها مرصع، وحملت أمامه الغاشية، وهي الستارة المرصعة بالجوهر النفيس، وتصنع قباب الخشب مقسومة على طبقات وتكسى بثياب الحرير. ويكون في كل طبقة الجواري المغنيات، عليهن أجمل لباس وأحسن حلية، ومنهن رواقص. ويحصل في وسط كل قبة حوض كبير، مصنوع من الجلود، مملوء بماء الجلاب محلولاً بالماء، يشرب منه جميع الناس من وارد وصادر وبلدي أو غريب، وكل من يشرب منه يعطى التنبول والفوفل، ويكون ما بين القباب مفروشاً بثياب الحرير، يطأ عليها مركب السلطان. وتزين حيطان الشارع الذي يمر به من باب المدينة إلى باب القصر بثياب الحرير. ويمشي أمامه المشاة من عبيده وهم آلاف. وتكون الأفواج والعساكر خلفه. ورأيته في بعض قدماته على الحضرة، وقد نصبت ثلاث أو أربع من الرعادات الصغار على الفيلة، ترمي بالدنانير والدراهم على الناس، فيلتقطونها من حين دخوله إلى المدينة حتى وصل إلى قصره.

ذكر ترتيب الطعام الخاص

والطعام بدار السلطان على صنفين: طعام الخاص وطعام العام. فأما الخاص فهو طعام السلطان الذي يأكل منه. وعادته أن يأكل في مجلسه مع الحاضرين، ويحضر لذلك الأمراء والخواص وأمير حاجب ابن عم السلطان وعماد الملك سرتيز، وأمير مجلس. ومن شاء السلطان تشريفه أو تكريمه من الأعزة أو كبار الأمراء دعاه فأكل معهم. وربما أراد أيضاً تشريف أحد من الحاضرين، فأخذ إحدى الصحاف بيده، وجعل عليها خبزة ويعطيه اياها، فيأخذها المعطى، ويجعلها على كفه اليسرى، ويخدم بيده اليمنى إلى الأرض. وربما بعث من ذلك الطعام إلى من هو غائب عن المجلس، فبخدم كما يصنع الحاضرون، ويأكله مع من حضره. وقد حضرت مرات الطعام الخاص، فرأيت جملة الذين يحضرون له نحو عشرين رجلاً.

ذكر ترتيب الطعام العام

وأما الطعام العام فيؤتى به من المطبخ، وأمامه النقباء يصيحون: بسم الله. ونقيب النقباء أمامهم، بيده عمود ذهب، ونائبه معه بيده عمود فضة، فإذا دخلوا من الباب الرابع، وسمع من بالمشور أصواتهم، قاموا قياماً أجمعين، ولا يبقى أحد قاعداً إلا السلطان وحده. فإذا وضع الطعام بالأرض، اصطفت النقباء صفاً، ووقف أميرهم وتكلم بكلام يمدح فيه السلطان ويثني عليه، ثم يخدم ويخدم النقباء لخدمته، ويخدم جميع من بالمشور من كبير و صغير. وعادتهم أنه من سمع كلام نقيب النقباء حين ذلك وقف إن كان ماشياً، ولزم موقفه إن كان واقفاً، ولا يتحرك أحد، ولا يتزحزح عن مقامه، حتى يفرغ ذلك الكلام. ثم يتكلم أيضاً نائبه كلاماً نحو ذلك، ويخدم النقباء وجميع الناس مرة ثانية. وحينئذ يجلسون، ويكتب كتاب الباب معرفين بحضور الطعام. وإن كان السلطان قد علم بحضوره، ويعطي المكتوب لصبي من أبناء الملوك موكل بذلك، فيأتي به إلى السلطان فإذا قرأه عين من شاء من كبار الأمراء لترتيب الناس وإطعامهم. وطعامهم الرقاق والشواء والأقراص ذات الجوانب المملوءة بالحلواء، والأرز والدجاج والسمك، وقد ذكرنا ذلك وفسرنا ترتيبهم وعادتهم، أن يكون في صدر سماط الطعام القضاة والفقهاء والخطباء والشرفاء والمشايخ، ثم أقارب السلطان، ثم الأمراء الكبار، ثم سائر الناس. ولا يقعد أحد إلا في موضع معين له، فلا يكون بينهم تزاحم ألبتة. فإذا جلسوا أتي الشربدارية وهم السقاة بأيديهم أواني الذهب والفضة والنحاس والزجاج مملوءة بالنبات المحلول بالماء، فيشربون ذلك قبل الطعام. فإذا شربوا، قال الحجاب: بسم الله، ثم يشرعون في الأكل ويجعل أمام كل إنسان من جميع ما يحتوي عليه السماط، يأكل منه وحده، ولا يأكل أحد مع أحد من طبق واحد. فإذا فرغوا من الأكل أتوا بالفقاع في أكواز القصدير. فإذا أخذوه قال الحجاب: بسم الله، ثم يؤتى بأطباق التنبول والفوفل، فيعطى كل واحد غرفة من الفوفل المهشوم، وخمس عشرة ورقة من التنبول مجموعة مربوطة بخيط حرير أحمر. فإذا أخذ الناس التنبول قال الحجاب: بسم الله، فيقفون جميعاً، ويخدم الأمير المعين للإطعام، ويخدمون لخدمته، ثم ينصرفون. وطعامهم مرتان في اليوم الواحد إحداهما قبل الظهر والأخرى بعد العصر.

ذكر بعض أخباره في الجود والكرم

وإنما أذكر منها ما حضرته وشاهدته وعاينته، ويعلم الله تعالى صدق ما أقول، وكفى به شهيداً. مع أن الذي أحكيه مستفيض متواتر. والبلاد التي تقرب من أهل الهند كاليمن وخراسان وفارس مملوءة بأخباره، يعلمونها حقيقة، ولا سيما جوده على الغرباء، فإنه يفضلهم على أهل الهند ويؤثرهم، ويجزل لهم الإحسان، ويسبغ عليهم الإنعام، ويوليهم الخطط الرفيعة، ويوليهم المواهب العظيمة. ومن إحسانه إليهم أنه سماهم الأعزة، ومنع من أن يدعوا الغرباء، وقال: إن الرجل إذا دعي غريباً انكسر خاطره وتغير حاله. وسأذكر بعضاً مما لا يحصى من عطاياه الجزيلة ومواهبه ان شاء الله تعالى.
ذكر عطائه لشهاب الدين الكازروني وحكايته كان شهاب الدين هذا صديقاً لملك التجار الكازروني الملقب ببرويز. وكان السلطان قد أقطع ملك التجار مدينة كنباية، ووعده أن يوليه الوزارة. فبعث الى صديقه شهاب الدين ليقدم عليه، فأتاه، وأعد هدية للسلطان، وهي سراجة من الملف المقطوع المزين بورقة الذهب، وصيوان مما يناسبها، وخباء وتابع وخباء راحة، كل ذلك من الملف المزين وبغال كثيرة. فلما قدم شهاب الدين بهذه الهدية على صاحبه ملك التجارة، وجده آخذاً في القدوم على الحضرة بما اجتمع عنده من مجابي بلاده وبهدية للسلطان.

وعلم الوزير خواجه جهان بما وعده به السلطان من ولاية الوزراة، فغار من ذلك وقلق بسببه. وكانت بلاد كنباية والجزرات قبل تلك المدة في ولاية الوزير، لأهلها تعلق بجانبه وانقطاع إليه وتخدم له. وأكثرهم كفار، وبعضهم عصاة يمتنعون بالجبال. فدس الوزير إليهم أن يضربوا على ملك التجار إذا خرج إلى الحضرة.

فلما خرج بالخزائن والأموال ومعه شهاب الدين بهديته، نزلوا يوماً عند الضحى على عادتهم، وتفرقت العساكر، ونام أكثرهم. فضرب عليهم الكفار في جمع عظيم، فقتلوا ملك التجار، وسلبوا الأموال والخزائن وهدية شهاب الدين، ونجا هو بنفسه. وكتب المخبرون إلى السلطان بذلك، فأمر ان يعطى شهاب الدين من مجبى بلاد نهروالة ثلاثين ألف دينار، ويعود إلى بلاده. فعرض عليه ذلك، فأبى من قبوله، وقال: ما قصدي إلا رؤية السلطان وتقبيل الأرض بين يديه. فكتبوا إلى السلطان بذلك، فأعجبه قوله، وأمر بوصوله إلى الحضرة مكرماً. وصادف يوم دخوله على السلطان يوم دخولنا نحن عليه، فخلع علينا جميعاً وأمر بإنزالنا. وأعطي شهاب الدين عطاء جزلاً. فلما كان بعد ذلك أمر لي السلطان بستة آلاف تنكة، كما سنذكره، وسأل في ذلك اليوم عن شهاب الدين أين هو ؟ فقال له بهاء الدين ابن الفلكي: يا خوند عالم نميدا ثم، معناه ما ندري، ثم قال شنيدم زحمت دارد "دار " معناه سمعت أن به مرضاً. فقال له السلطان: بروهمين زمان در خزانة يك لك تنكة زربكزي أوبيش أوبيري تادل أوخش " خوض " شود، معناه إمش الساعة إلى الخزانة، وخذ منها مائة الف تنكة من الذهب، واحملها إليه، حتى يبقى خاطره طيباً. ففعل ذلك، فأعطاه إياها. وأمر السلطان أن يشتري بها ما أحب من السلع الهندية، ولا يشتري أحد من الناس شيئاً حتى يتجهز هو، وأمر له بثلاثة مواكب مجهزة من آلاتها، ومن مرتب البحرية وزادهم، ليسافر فيها. فسافر ونزل بجزيرة هرمز، وبني بها داراً عظيمة، رأيتها بعد ذلك، ورأيت أيضاً شهاب الدين وقد فني جميع ما كان عنده، وهو بشيراز يستجدي سلطانها أبا إسحاق، وهكذا مال هذه البلاد الهندية؛ قلما يخرج أحد منها إلا النادر، وإذا خرج به وصل إلى غيرها من البلاد، بعث الله عليه آفة تفني ما بيده، كمثل ما اتفق لشهاب الدين هذا، فإنه أخذ له في الفتنة التي كانت بين ملك هرمز وابني أخيه جميع ما عنده، وخرج سليباً من ماله.

ذكر عطائه لشيخ الشيوخ ركن الدين وكان السلطان قد بعث هدية إلى الخليفة بديار مصر أبي العباس، وطلب منه أن يبعث له أمر التقدمة على بلاد الهند والسند، اعتقاداً منه في الخلافة فبعث إليه الخليفة أبو العباس ما طلبه مع شيخ الشيوخ بديار مصر ركن الدين. فلما قدم عليه، بالغ في إكرامه، وأعطاه عطاء جزلاً. وكان يقوم له متى دخل عليه ويعظمه، ثم صرفه وأعطاه أموالاً طائلة. وفي جملة ما أعطاه جملة من صفائح الخيل ومساميرها كل ذلك من الذهب الخالص، وقال له: إذا نزلت من البحر فأنعل أفراسك بها. فتوجه إلى كنباية ليركب البحر منها إلى بلاد اليمن، فوقعت قضية خروج القاضي جلال الدين، وأخذه مال ابن الكولمي، فأخذ أيضاً ما كان لشيخ الشيوخ، وفر بنفسه مع ابن الكولمي إلى السلطان. فلما رآه قال له ممازحاً: أمدى كزر " كه زر " بري بادكري " دلر باي " صنم خرى زر نيري وسر نهى، معناه جئت لتحمل الذهب، وتأكله مع الصور الحسان. فلا تحمل ذهباً، ورأسك تخليه ها هنا. قال له ذلك على معنى الانبساط، ثم قال له: اجمع خاطرك فها أنا سائر إلى المخالفين، وأعطيك أضعاف ما أخذوه لك. وبلغني بعد الانفصال عن بلاد الهند أنه وفى بما وعده، وأخلف له ما ضاع منه، وأنه وصل إلى ديار مصر.

ذكر عطائه للواعظ الترمذي ناصر الدين وكان هذا الفقيه قدم على السلطان، وأقام تحت إحسانه مدة عام. ثم أراد الرجوع إلى وطنه، فأذن له في ذلك، ولم يكن سمع كلامه ووعظه. ولما خرج السلطان يقصد بلاد المعبر، أحب سماعه قبل انصرافه. فأمر أن يهيأ له منبر من الصندل الأبيض المقاصري، وجعلت مساميره وصفائحه من الذهب، وألصق بأعلاه حجر ياقوت عظيم، وخلع على ناصر الدين عباءة عباسية سوداء مذهبه مرصعة بالجوهر وعمامة أيضاً، ونصب له المنبر بداخل السراجة وهي أفراج. وقعد السلطان على سريره، والخواص عن يمينه ويساره، وأخذ القضاة والفقهاء والأمراء مجالسهم. فخطب خطبة عظيمة ووعظ وذكر، ولم يكن فيما فعله طائل، لكن سعادته ساعدته. ولما نزل عن المنبر قام السلطان إليه وعانقه وأركبه على فيل، وأمر جميع من حضر أن يمشوا بين يديه، وكنت في جمعهم إلى سراجة. ضربت له مقابلة سراجة السلطان وكلها من الحرير الملون، وصيوانها من الحرير، وخباؤها كذلك. فقعد وقعدنا معه. وكان بجانب من السراجة أواني الذهب التي أعطاها له. وذلك تنور كبير بحيث يسع في جوفه الرجل القاعد، وقدران اثنتان وصحاف لا أذكر عددها وعدة أكواز وركوة وتميسندة ومائدة لها أربع أرجل ومحمل للكتب، كل ذلك من ذهب. ورفع عماد الدين السمناوي وتدين من أوتاد السراجة، أحدهما نحاس والثاني مقصدر. يوهم ذلك أنهما من ذهب وفضة، ولم يكونا إلا كما ذكرنا. وقد كان أعطاه حين قدومه مائة الف دينار دراهم، ومئتين من العبيد، سرح البعض وحمل البعض.
ذكر عطائه لعبد العزيز الأردويلي وكان عبد العزيز هذا فقيهاً محدثاً، قرأ بدمشق على تقي الدين بن تيمية، وبرهان الدين بن البركح، وجمال الدين المزي، وشمس الدين الذهبي وغيرهم. ثم قدم على السلطان، فأحسن إليه وأكرمه. واتفق يوماً أنه سرد عليه أحاديث في كرم العباس وابنه رضي الله عنهما، وشيئاً من مآثر الخلفاء أولادهما. فأعجب ذلك السلطان لحبه في بني العباس، وقبل قدمي الفقيه، وأمر أن يؤتى بصينية ذهب فيها ألفا تنكة، فصبها عليه بيده، وقال: هي لك مع الصينية. وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما تقدم.

ذكر عطائه لشمس الدين الأندكاني وكان الفقيه شمس الدين الأندكاني حكيماً شاعراً مطبوعاً، فمدح السلطان بقصيدة باللسان الفارسي، وكان عدد أبياتها سبعة وعشرين بيتاً، فأعطاه لكل بيت منها ألف دينار دراهم. وهذا أعظم مما يحكى عن المتقدمين الذين كانوا يعطون على بيت شعر ألف درهم، وهو عشر عطاء السلطان.

ذكر عطائه لعضد الدين الشونكاري وكان عضد الدين فقيهاً إماماً فاضلاً كبير القدر عظيم الصيت شهير الذكر ببلاده. فبلغت السلطان أخباره، وسمع بمآثره. فبعث إليه إلى بلدة شونكارة عشرة آلاف دينار دراهم ولم يره قط ولا وفد عليه.

ذكر عطائه للقاضي مجد الدين ولما بلغه خبر القاضي العالم الصالح ذي الكرامة الشهيرة مجد الدين قاضي شيراز الذي سطرنا أخباره في السفر الأول، وسيمر بعض خبره. وبعد هذا بعث إليه إلى مدينة شيراز، صحبة الشيخ زاده الدمشقي عشرة آلاف دينار دراهم.

ذكر عطائه لبرهان الدين الصاغرجي وكان برهان الدين أحد الوعاظ الأئمة، كثير الإيثار، باذلاً لما يملكه. حتى أنه كثيراً ما يأخذ الديون، ويؤثر على الناس. فبلغ خبره إلى السلطان، فبعث إليه أربعين ألف دينار، وطلب منه أن يصل إلى حضرته. فقبل الدنانير وقضى دينه منها، وتوجه إلى بلاد الخطا، وأبى أن يصل إليه، وقال: لا أمضي إلى سلطان يقف العلماء بين يديه.

ذكر عطائه لحاجي كاون وحكايته وكان حاجي كاون ابن عم السلطان أبي سعيد ملك العراق، وكان أخوه موسى ملكاً ببعض بلاد العراق. فوفد حاجي كاون على السلطان، فأكرم مثواه، وأعطاه العطاء الجزل. ورأيته يوماً وقد أتى الوزير خواجه جهان بهديته. وكان منها ثلاث صينيات، إحداها مملوءة يواقيت، والأخرى مملوءة زمرداً، والأخرى مملوءة جواهر. وكان حاجي كاون حاضراً، فأعطاه من ذلك حظاً جزيلاً، ثم إنه اعطاه أيضاً مالاً عريضاً، ومضى يريد العراق، فوجد أخاه قد توفي، وولي مكانه سليمان خان. فطلب إرث أخيه، وادعى الملك، وبايعه العسكر، وقصد بلاد فارس، ونزل بمدينة شونكارة التي بها الإمام عضد الدين الذي تقدم ذكره آنفاً. فلما نزل بخارجها تأخر شيوخها عن الخروج إليه ساعة، ثم خرجوا. فقال لهم: ما منعكم عن تعجيل الخروج إلى مبايعتنا ؟ فاعتذروا له. فلم يقبل منهم، وقال لأهل سلاحه: قلنج تجار " جقار " معناه جردوا السيوف. فجردوها، وضربوا أعناقهم، وكانوا جماعة كبيرة. فسمع من بجاور هذه المدينة من الأمراء بما فعله، فغضبوا لذلك، وكتبوا إلى شمس الدين السنماني، وهو من الأمراء الفقهاء الكبار، فأعلموه بما جرى على أهل شونكارة، وطلبوا منه الإعانة على قتاله. فتجرد في عساكره، واجتمع أهل البلاد طالبين بثار من قتله حاجي كاون من المشايخ، وضربوا على عسكره ليلاً فهزموه. وكان هو بقصر المدينة، فأحاطوا به، فاختفى في بيت الطهارة، فعثروا عليه وقطعوا رأسه، وبعثوا به إلى سليمان خان، وفرقوا أعضاءه على البلاد تشفياً منه.

ذكر قدوم ابن الخليفة عليه واخباره

وكان الأمير غياث الدين محمد بن عبد القاهر بن يوسف بن عبد العزيز ابن الخليفة المستنصر بالله العباسي البغدادي، قد وفد على السلطان علاء الدين طرمشيرين، ملك ما وراء النهر، فأكرمه وأعطاه الزاوية التي على قبر قثم بن العباس رضي الله عنهما، واستوطن بها أعواماً. ثم لما سمع بمحبة السلطان في بني العباس، وقيامه بدعوتهم، أحب القدوم عليه، وبعث له برسولين، أحدهما صاحبه القديم محمد ابن أبي الشرفي الحرباوي، والثاني محمد الهمداني الصوفي. فقدما على السلطان، وكان ناصر الدين الترمذي الذي تقدم ذكره، قد لقي غياث الدين ببغداد، وشهد لديه البغداديون بصحة نسبه فشهد هو عند السلطان بذلك. فلما وصل رسولاه إلى السلطان، أعطاهما خمسة آلاف دينار، وبعث معهما ثلاثين ألف دينار إلى غياث الدين، ليتزود بها إليه، وكتب له خطاباً بخط يده يعظمه فيه، ويسأل منه القدوم عليه. فلما وصل الكتاب رحل إليه. فلما وصل إلى بلاد السند، وكتب المخبرون بقدومه، بعث السلطان من يستقبله على العادة. ثم لما وصل إلى سرستي بعث أيضاً لاستقباله صدر الجهان قاضي القضاة كمال الدين الغرنوي وجماعة من الفقهاء، ثم بعث الأمراء لاستقباله. فلما نزل بمسعود آباد خارج الحضرة، خرج السلطان بنفسه لاستقباله. فلما التقيا ترجل غياث الدين، فترجل له السلطان، وخدم، فخدم له السلطان. وكان قد استصحب هدية في جملتها ثياب، فأخذ السلطان أحد الأثواب، وجعله على كتفه، وخدم كما يفعل الناس معه، ثم قدمت الخيل،فأخذ السلطان أحدها بيده وقدمه له، وحلف أن يركب، وأمسك بركابه حتى ركب، ثم ركب السلطان وسايره، والشجر يظلهما معاً. وأخذ التنبول بيده، وأعطاه أياه. وهذا أعظم ما أكرمه به. فإنه لا يفعله مع أحد. وقال له: لولا أني بايعت الخليفة أبا العباس لبايعتك. فقال له غياث الدين: وأنا أيضاً على تلك البيعة. وقال له غياث الدين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً: " من أحيا أرضاً مواتاً فهي له " وأنت أحببتنا. فجاوبه السلطان بألطف جواب وأبره. ولما وصلا إلى السراجة المعدة لنزول السلطان، أنزله فيها. وضرب للسلطان غيرها. وباتا في تلك الليلة بخارج الحضرة. فلما كان بالغد دخلا إلى دار الملك، وأنزله بالمدينة المعروفة بسيري، وبدار الخلافة أيضاً في القصر الذي بناه علاء الدين الخلجي، وابنه قطب الدين. وأمر السلطان جميع الأمراء أن يمضوا معه إليه، وأعد له فيه جميع ما يحتاج إليه من أواني الذهب والفضة، حتى كان من جملتها مغتسل يغتسل فيه من ذهب. وبعث له أربعمائة ألف دينار لغسل رأسه على العادة، وبعث له جملة من الفتيان والخدم والجواري، وعين له عن نفقة في كل يوم ثلاثمائة دينار، وبعث له زيادة إليها عدداً من الموائد بالطعام الخاص، وأعطاه جميع مدينة سيري، إقطاعاً. وجميع ما احتوت عليه من الدور وما يتصل لها من بساتين المخزن وأرضه، وأعطاه مائة قرية، وأعطاه حكم البلاد الشرقية المضافة لدهلي، وأعطاه ثلاثين بغلة بالسروج المذهبة، ويكون علفها من المخزن، وأمره أن لا ينزل عن دابته إذا أتى دار السلطان إلا موضعاً خاصاً لا يدخله أحد رلكباً سوى السلطان وأمر الناس جميعاً من كبير وصغير أن يخدموا له كما يخدمون السلطان. وإذا دخل على السلطان ينزل له عن سريره، وإن كان على الكرسي قام قائماً، وخدم كل واحد منهما لصاحبه، ويجلس مع السلطان على بساط واحد، وإذا قام قام السلطان لقيامه، وخدم كل واحد منهما لصاحبه، وإذا انصرف إلى خارج المجلس، جعل له بساط يقعد عليه ما شاء، ثم ينصرف، يفعل هذا مرتين في اليوم.

حكاية من تعظيمه اياه وفي أثناء مقامه بدهلي قدم الوزير من بلاد بنجالة، فأمر السلطان كبار الأمراء أن يخرجوا إلى استقباله، ثم خرج بنفسه إلى استقباله، وعظمه تعظيماً كثيراُ، وصنعت القباب بالمدينة كما تصنع للسلطان إذا قدم، وخرج ابن الخليفة للقائه أيضاً، والفقهاء والقضاة والأعيان. فلما عاد السلطان لقصره، قال للوزير: إمض إلى دار المخدوم زاده، وبذلك يدعوه، ومعنى ذلك ابن المخدوم. فسار الوزير إليه، وأهدى له ألفي تنكة من الذهب وأثواباً كثيرة. وحضر الأمير قبولة، غيره من كبار الأمراء، وحضرت أنا كذلك.

حكاية نحوها  وفد على السلطان ملك غزنة المسمى ببهرام، وكان بينه وبين ابن الخليفة عداوة قديمة فأمر بإنزاله ببعض دور مدينة سيري التي لابن الخليفة، وأمر أن يبني له بها دار فبلغ ذلك ابن الخليفة فغضب منه ومضى إلى دار السلطان فجلس على البساط الذي عادته الجلوس عليه، وبعث إلى الوزير، فقال له: سلم على خوند عالم، وقل له: إن جميع ما أعطانيه هو بمنزلي، لم أتصرف في شيء منه، بل زاد عندي ونما وأنا لا أقيم معكم، وقام وانصرف فسأل الوزير بعض أصحابه عن سبب هذا، فأعلمه أن سببه أمر السلطان ببناء الدار لملك غزنة في مدينة سيري، فدخل الوزير على السلطان فأعلمه بذلك، فركب من حينه في عشرة من ناسه، وأتى منزل ابن الخليفة، فاستأذن له، ونزل عن فرسه خارج القصر حيث ينزل الناس، فتلقاه واعتذر له، فقبل عذره، وقال له: السلطان والله ما أعلم أنك راضٍ عني حتى تضع قدمك على عنقي، فقال له: هذا ما لا أفعله ولو قتلت. فقال له السلطان وحق رأسي لا بد لك من ذلك ثم وضع رأسه على الأرض وأخذ الملك الكبير قبولة رجل ابن الخليفة بيده، فوضعها على عنق السلطان ثم قام وقال: الآن أنك راضٍ علي، وطاب قلبي. وهذه حكاية غريبة لم يسمع بمثلها عن ملك. ولقد حضرته يوم عيد وقد جاءه الملك الكبير بثلاث خلع من عند السلطان مفرجة. قد جعل مكان عقد الحرير التي تعلق بها حبات جوهر قدر البندق الكبير، وقام الملك الكبير ببابه، حتى نزل من قصره، فكساه إياه والذي أعطاه هو ما لا يحصر العد، ولا يحيط به الحد، وابن الخليفة مع ذلك كله أبخل خلق الله تعالى وله في البخل أخبار عجيبة، يعجب منها سامعها وكأنه كان من البخل بمنزلة السلطان من الكرم، ولنذكر بعض أخباره في ذلك.

حكاية

عن بخل ابن الخليفة وكانت بيني وبينه مودة، وكنت كثير التردد إلى منزله وعنده تركت ولداً لي سميته أحمد لما سافرت ولا أدري ما فعل الله بهما فقلت له يوماً: لم تأكل وحدك، ولا تجمع أصحابك على الطعام ؟ فقال لي: لا أستطيع أن أنظر إليهم على كثرتهم وهم يأكلون طعامي فكان يأكل وحده، ويعطي صاحبه محمد ابن أبي الشرفي من الطعام لمن أحب، ويتصرف في باقيه وكنت أتردد إليه فأرى دهليز قصره الذي يسكن به مظلماً لا سراج به. ورأيته مراراً يجمع الأعواد الصغار من الحطب بداخل بستانه، وقد ملأ منها مخازن فكلمته في ذلك فقال لي: يحتاج إليها. وكان يخدم أصحابه ومماليكه وفتيانه في خدمة البستان وبنائه ويقول: لا أرضى أن يأكلوا طعامي وهم لا يخدمون. وكان علي مرة دين فطلبت به فقال لي في بعض الأيام: والله لقد هممت أن أؤدي عنك دينك، فلم تسمح نفسي بذلك، ولا ساعدتني عليه.

حكاية

حدثني مرة قال: خرجت عن بغداد، وأنا رابع أربعة أحدهم محمد بن أبي الشرفي صاحبه، ونحن على أقدامنا، ولا زاد عندنا فنزلنا على عين ماء ببعض القرى، فوجدنا أحدنا في العين درهماً، فقلنا وما نصنع بدرهم، فاتفقنا على أن نشتري به خبزاً، فبعثنا أحدنا لشرائه، فأبى الخباز بتلك القرية أن يبيع الخبز وحده، وإنما يبيع خبزاً بقيراط، وتبناً بقيراط فاشترى منه الخبز والتبن، فطرحنا التبن، إذ لا دابة لنا تأكله وقسمنا الخبز لقمة لقمة، وقد انتهى حالي اليوم إلى ما تراه فقلت له: ينبغي لك أن تحمد الله على ما أولاك، وتؤثر الفقراء والمساكين بالتصدق فقال: لا أستطيع ذلك. ولم أره قط يجود بشيء، ولا يفعل معروفاً، ونعوذ بالله من الشح.

حكاية

كنت يوماً ببغداد بعد عودتي من بلاد الهند، وأنا قاعد على باب المدرسة المستنصرية التي بناها جده أمير المؤمنين المستنصر رضي الله عنه، فرأيت شاباً ضعيف الحال يشتد خلف رجل خارج عن المدرسة فقال لي بعض الطلبة: هذا الشاب الذي تراه هو ابن الأمير محمد حفيد الخليفة المستنصر الذي ببلاد الهند، فدعوته فقلت له: إني قد قدمت من بلاد الهند، وإني أعرفك بخبر أبيك فقال: قد جاءني خبره في هذه الأيام ومضى يشتد خلف الرجل،فسألت عن الرجل، فقيل لي: هو الناظر في الحبس، وهذا الشاب هو إمام ببعض المساجد، وله على ذلك أجرة درهم واحد في اليوم، وهو يطلب أجرته من الرجل، فطال عجبي منه، والله لو بعث إليه جوهرة من الجواهر التي في الخلع الواصلة إليه من السلطان لأغناه بها ونعوذ بالله من مثل هذه الحال.

ذكر ما أعطاه السلطان للأمير سيف الدين غدا ابن هبة الله بن مهنا أمير عرب الشام

ولما قدم هذا الأمير على السلطان أكرم مثواه، وأنزله بقصر السلطان جلال الدين داخل مدينة دهلي، ويعرف بكشك، لعل معناه القصر الأحمر، وهو قصر عظيم، فيه مشور كبير جداً، ودهليز هائل، على بابه قبة تشرف على هذا المشور، وعلى المشور الثاني الذي يدخل منه إلى القصر، وكان السلطان جلال الدين يقعد بها، وتلعب الكرة بين يديه في هذا المشور. وقد دخلت هذا القصر عند نزوله به فرأيته مملوءاً أثاثاً وفرشاً وبسطاً وغيرها، وذلك كله متمزق لا منتفع فيه في عادتهم بالهند أن يتركوا قصر السلطان إذا مات بجميع ما فيه، لا يتعرضون له، ويبني المتولي بعده قصراً لنفسه، ولما دخلته طفت به وصعدت إلى أعلاه فكانت لي فيه عبرة، نشأت عنها عبرة وكان معي الفقيه الطيب الأديب جمال الدين المغربي، الغرناطي، البجائي المولد مستوطن بلاد الهند، قدمها مع أبيه، وله بها أولاد فأنشدني عندما عايناه:  

وسلاطينهم سل الطين عنـهـم،

 

فالرؤوس العظام صارت عظاما

وبهذا القصر كانت وليمة عرسه، كما نذكره وكان السلطان شديد المحبة في العرب، مؤثراً لهم، معترفاً بفضائلهم فلما وصله هذا الأمير أجزل العطاء، وأحسن إليه إحساناً عظيماً وأعطاه مرة، وقد قدمت عليه، هدية أعظم ملك البايزيدي من بلاد منكبور، أحد عشر فرساً من عتاق الخيل، وأعطاه مرة أخرى عشرة من الخيل، مسرجة بالسروج المذهبة عليها اللجم المذهبة، ثم زوجه بعد ذلك بأخته فيروز خوندة.

ذكر تزوج الأمير سيف الدين بأخت السلطان ولما أمر السلطان بتزويج أخته للأمير غدا، عين للقيام بشأن الوليمة ونفقاتها الملك فتح الله، والمعروف بشونويس " بشين معجم مفتوح وواوين اولهما مسكن والآخر مكسور بينهما نون آخره سين مهمل "، وعينني لملازمة الأمير غدا، والكون معه في تلك الأيام فأتى الملك فتح الله بالصيوانات، نظلل بها المشورين بالقصر الأحمر المذكور، وضرب في كل واحد منهما قبة ضخمة جداً، وفرش ذلك بالفرش الحسان وأتى شمس الدين التبريزي، أمير المطربين ومعه الرجال المغنون والنساء المغنيات والرواقص، وكلهن مماليك السلطان، وأحضر الطباخين والخبازين والشوائين والحلوانيين والشربدارية والتنبول داران، وذبحت الانعام والطيور. وأقاموا يطعمون الناس خمسة عشر يوماً ويحضر الأمراء الكبار والأعزة ليلاً ونهاراً فلما كان قبل ليلة الزفاف بليلتين جاء الخواتين من دار السلطان ليلاً إلى هذا القصر، فزينه وفرشنه بأحسن الفرش، واستحضر الأمير سيف الدين، وكان عربياً غريباً لا قرابة له، فحففن به وأجلسنه على مرتبة معينة له، وكان السلطان قد أمر أن تكون ربيبته أم أخيه مبارك خان مقام أم الأمير غدا، وأن تكون امرأة أخرى من الخواتين مقام أخته، وأخرى مقام عمته، وأخرى مقام خالته، حتى يكون كأنه بين أهله. ولما أجلسنه على المرتبة جعلن له الحناء في يديه ورجليه، وأقام باقيهن على رأسه يغنين ويرقصن وانصرفن إلى قصر الزفاف، وأقام هو مع خواص أصحابه. وعين السلطان جماعة من الأمراء يكونون من جهته، وجماعة يكونون من جهة الزوجة. وعادتهم أن تقف الجماعة التي من جهة الزوجة على باب الموضع الذي تكون به جلوتها على زوجها، ويأتي الزوج بجماعته فلا يدخلون إلا إن غلبوا أصحاب الزوجة، أو يعطونهم الآلاف من الدنانير إن لم يقدروا عليهم، ولما كان بعد المغرب أتي إليه بخلعة حرير زرقاء مزركشة مرصعة، قد غلبت الجواهر عليها، فلا يظهر لونها مما عليها من الجواهر وبشاشية مثل ذلك، ولم أر قط خلعة أجمل من هذه الخلعة وقد رأيت ما خلعه السلطان على سائر أصهاره مثل ابن ملك الملوك عماد الدين السمناني، وابن ملك العلماء، وابن شيخ الإسلام، وابن صدر جهان البخاري، فلم يكن فيها مثل هذه.

 ثم ركب الأمير سيف الدين في أصحابه وعبيده، وفي يد كل واحد منهم عصا قد أعدها وصنعوا شبه إكليل من الياسمين والنسرين، وريبول وله رفرف يغطي وجه المتكلل به وصدره وأتوا به الأمير ليجعله على رأسه فأبى من ذلك وكان من عرب البادية، لا عهد له بأمور الملك والحضر فحاولته، وحلفت عليه حتى جعله على رأسه وأتى باب الصرف ويسمونه باب الحرم، وعليه جماعة الزوجة، فحمل عليهم بأصحابه حملة عربية، وصرعوا كل من عارضهم، فغلبوا عليهم ولم يكن لجماعة الزوجة من ثبات وبلغ ذلك السلطان فأعجبه فعله، ودخل إلى المشور، وقد جعلت العروس فوق منبر عال، مزين بالديباج، مرصع بالجوهر، والمشور ملآن بالنساء، والمطربات قد أحضرن أنواع الآلات المطربة، وكلهن وقوف على قدم إجلالاً له وتعظيماً، فدخل بفرسه حتى قرب من المنبر، فنزل وخدم عند أول درجة منه وقامت العروس قائمة، حتى صعد، فأعطته التنبول بيدها فأخذه، وجلس تحت الدرجة التي وقفت بها ونثرت دنانير الذهب على رؤوس الحاضرين من أصحابه، ولقطتها النساء والمغنيات يغنين حينئذ، والأطبال والأبواق والأنفار تضرب خارج الباب ثم قام الأمير، وأخذ بيد زوجته، ونزل وهي تتبعه، فركب فرسه يطأ به الفرش والبسط، ونثرت الدنانير عليه وعلى أصحابه، وجعلت العروس في محفة وحملها العبيد على أعناقهم إلى قصره، والخواتين بين يديها راكبات، وغيرهن من النمساء ماشيات وإذا مروا بدار أمير أو كبير، خرج إليهم ونثر عليهم الدنانير والدراهم على قدر همته، حتى أوصلوها إلى قصره ولما كان بالغد بعثت العروس إلى جميع أصحاب زوجها الثياب والدنانير والدراهم وأعطى السلطان لكل واحد منهم فرساً مسرجاً ملجماً وبدرة دراهم من ألف دينار إلى مائتي دينار، وأعطى الملك فتح الله للخواتين ثياب الحرير المنوعة والبدر، وكذلك لأهل الطرب. وعادتهم ببلاد الهند أن لا يعطي أحد شيئاً لأهل الطرب، إنما يعطيهم صاحب العرس وأطعم الناس جميعاً ذلك اليوم.

وانقضى العرس، وأمر السلطان أن يعطى للأمير غدا بلاد المالوة والجزرات وكنباية ونهروالة، وجعل فتح الله المذكور نائباً عنه عليها، وعظمه تعظيماً شديداً وكان عربياً جافياً، فلم يقدر قدر ذلك، وغلب عليه جفاء البادية، فأداه ذلك إلى النكبة بعد عشرين ليلة من زفافه.

ذكر سجن الأمير غدا ولما كان بعد عشرين يوماً من زفافه اتفق أنه وصل إلى دار السلطان، فأراد الدخول فمنعه أمير البرد " البرده " داريه، وهم الخواص من البوابين، فلم يسمع منه وأراد التقحم، فأمسك البواب بدبوقته، وهي الضفيرة ورده فضربه الأمير بعصا كانت هنالك حتى أدماه وكان هذا المضروب من كبار الأمراء، يعرف أبوه بقاضي غزنة، وهو من ذرية السلطان محمود بن سبكتكين، والسلطان يخاطبه بالأدب، ويخاطب ابنه هذا بالأخ فدخل على السلطان، والدم على ثيابه، فأخبره بما صنع الأمير غدا، ففكر السلطان هنيهة ثم قال له: القاضي يفصل بينكما وتلك جريمة لا يغفرها السلطان لأحد من ناسه، ولا بد من الموت عليها، وإنما احتمله لغربته وكان القاضي كمال الدين بالمشور، فأمر السلطان الملك تتر أن يقف معهما عند القاضي. وكان تتر حاجاً مجاوراً يحسن العربية، فحضر معهما، وقال للأمير: أنت ضربته أو قل: لا، لقصد أن يعلمه الحجة، وكان سيف الدين جاهلاً مغتراً، فقال: نعم، أنا ضربته وأتى والد المضروب، فرام الإصلاح بينهما، فلم يقبل سيف الدين فأمر القاضي بسجنه تلك الليلة فوالله ما بعثت له زوجته فراشاً ينام عليه، ولا سألت عنه خوفاً من السلطان وخاف أصحابه فودعوا أموالهم. وأردت زيارته بالسجن، فلقيني بعض الأمراء، وفهم عني أني أريد زيارته، فقال لي: أو نسيت ؟ وذكرني يقضية اتفقت لي في زيارة الشيخ شهاب الدين ابن شيخ الجام، وكيف أراد السلطان قتلي على ذلك، حسبما يقع ذكره، فرجعت ولم أزره وتخلص الأمير غدا عند الظهر من سجنه فأظهر السلطان أعماله، وأضرب عما كان أمر له بولايته وأراد نفيه، وكان للسلطان صهر يسمى بمغيث بن ملك الملوك وكانت أخت السلطان تشكوه لأخيها إلى أن ماتت فذكر جواريها أنها ماتت بسبب قهره لها وكان في نسبه مغمز، فكتب السلطان بخطه يجلي اللقيط، يعنيه، ثم كتب ويجلى موش خوار معناه آكل الفئران، يعني بذلك الأمير غدا لأن عرب البادية يأكلون اليربوع، وهو شبه الفار، وأمر بإخراجهما فجاءه النقباء ليخرجوه فأراد دخول داره ووداع أهله، فترادف النقباء في طلبه، فخرج باكياً، وتوجهت حين ذلك إلى دار السلطان فبت بها فسألني عن مبيتي بعض الأمراء، فقلت له: جئت لأتكلم في الأمير سيف الدين حتى يرد ولا ينفى. فقال: لا يكون ذلك. فقلت له: والله لأبيتن في دار السلطان، ولو بلغ مبيتي مائة ليلة، حتى يرد فبلغ ذلك السلطان فأمر برده، وأمره أن يكون في خدمة الأمير ملك قبولة اللاهوري، فأقام أربعة أعوام في خدمته. يركب لركوبه، ويسافر لسفره، حتى تأدب وتهذب ثم أعاده السلطان إلى ما كان عليه أولاً وأقطعه البلاد، وقدمه على العساكر، ورفع قدره.

ذكر تزويج السلطان بنتي وزيره لابني خداوند زاده قوام الدين الذي قدم معنا عليه

ولما قدم خداوند زاده أعطاه السلطان عطاءً جزلاً، وأحسن إليه إحساناً عظيماً، وبالغ في إكرامه، ثم زوج ولديه من بنتي الوزير خواجة جهان وكان الوزير إذ ذاك غائباً، فأتى السلطان إلى داره ليلاً، وحضر عقد النكاح، كأنه نائب عن الوزير، ووقف حتى قرأ قاضي القضاة الصداق ، والقضاة والأمراء والمشايخ قعود، وأخذ السلطان بيده الأثواب والبدر فجعلها بين يدي القاضي وولدي خداوند زاده وقام الأمراء وأبوا أن يجعل السلطان ذلك بين أيديهم بنفسه، فأمرهم بالجلوس، وأمر بعض كبار الأمراء أن يقوم مقامه، وانصرف.

حكاية في تواضع السلطان وإنصافه

ادعى عليه رجل من كبار الهنود أنه قتل أخاه من غير موجب، ودعاه إلى القاضي، فمضى على قدميه، ولا سلاح معه، إلى مجلس القاضي فسلم وخدم، وكان قد أمر القاضي قبل ذلك أنه إذا جاءه في مجلسه، فلا يقوم له ولا يتحرك فصعد إلى المجلس، ووقف بين يدي القاضي. فحكم عليه أن يرضي خصمه من دم أخيه فأرضاه.

حكاية مثلها وادعى على السلطان مرة رجل من المسلمين أنه له قبله حقاً مالياً، فتخاصما في ذلك عند القاضي، فأصدر الحكم على السلطان بإعطاء المال فأعطاه.

حكاية مثلها وادعى عليه صبي من أبناء الملوك أنه ضربه من غير موجب، ورفعه إلى القاضي فتوجه الحكم عليه أن يرضيه بالمال إن قبل ذلك، وإلا أمكنه من القصاص، فشاهدته يومئذ وقد عاد لمجلسه واستحضر الصبي، وأعطاه عصا، وقال له: وحق رأسي لتضربنني كما ضربتك. فأخذ الصبي العصا، ضربه بها إحدى وعشرين ضربة، حتى رأيت الكلا " الكلاه " قد طارت على رأسه.

ذكر اشتداده في إقامة الصلاة

وكان السلطان شديداً في إقامة الصلاة، آمراً بملازمتها في الجماعات، يعاقب على تركها أشد العقاب ولقد قتل في يوم واحد تسعة نفر على تركها كان أحدهم مغنياً، وكان يبعث الرجال الموكلين بذلك إلى الأسواق فمن وجد بها عند إقامة الصلاة، عوقب حتى انتهى إلى عقاب الستائريين الذين يمسكون دواب الخدام، على باب المشور، إذا ضيعوا الصلاة، وأمر أن يطلب الناس بعلم فرائض الوضوء والصلاة وشروط الاسلام، فكانوا يسألون عن ذلك فمن لم يحسنه عوقب، وصار الناس يتدارسون ذلك بالمشور والاسواق ويكتبونها.

ذكر اشتداده في إقامة أحكام الشرع

وكان شديداً في إقامة الشرع، ومما فعل في ذلك أن أمر أخاه مبارك خان، أن يكون قعوده بالمشور مع قاضي القضاة كمال الدين في قبة مرتفعة هنالك، مفروشة بالبسط وللقاضي بها مرتبة تحف بها المخاد، كمرتبة السلطان ويقعد أخو السلطان عن يمينه، فمن كان عليه حق من كبار الأمراء، وامتنع من أدائه لصاحبه، يحضره رجال أخي السلطان عند القاضي لينصف منه.

ذكر رفعه للمغارم والمظالم وقعوده لإنصاف المظلومين

ولما كان في سنة إحدى وأربعين أمر السلطان برفع المكوس عن بلاده، وأن لا يؤخذ من الناس إلا الزكاة والعشر خاصة وصار يجلس بنفسه للنظر في المظالم، كل يوم إثنين وخميس برحبة أمام المشور، ولا يقف بين يديه في ذلك اليوم إلا أمير حاجب وخاص حاجب وسيد الحجاب وشرف الحجاب لا غيره، ولا يمنع أحد ممن أراد الشكوى من الوقوف بين يديه، وعين أربعة من كبار الأمراء يجلسون في الأبواب الأربعة من المشور، لأخذ القصص من المشتكين، والرابع منهم هو ابن عمه ملك فيروز خان، فإن أخذ صاحب الباب الأول الرفع من الشاكي فحسن، وإلا أخذه الثاني أو الثالث أو الرابع، وإن لم يأخذوه منه، مضى به إلى صدر الجهان قاضي المماليك، فإن أخذه منه، وإلا شكا إلى السلطان، فإن صح عنده أنه مضى به إلى أحد منهم فلم يأخذه منه، أدبه وكل ما يجتمع من القصص في سائر الأيام، يطالع به السلطان بعد العشاء الآخرة.

ذكر إطعامه في الغلاء

ولما استولى القحط على بلاد الهند والسند، واشتد الغلاء حتى بلغ من القمح إلى ستة دنانير، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفقة ستة أشهر من المخزن، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب، لكل انسان في اليوم، صغيراً وكبيراً حراً وعبداً. وخرج الفقهاء والقضاة يكتبون الأزمة بأهل الحارات، ويحضرون الناس، ويعطى لكل واحد عولة ستة أشهر يقتات بها.

ذكر فتكات هذا السلطان وما نقم من أفعاله

وكان على ما قدمنا من تواضعه وإنصافه ورفقه بالمساكين وكرمه الخارق للعادة، كثير التجاسر على إراقه الدماء، لا يخلو بابه عن مقتول إلا في النادر، وكنت كثيراً ما أرى الناس يقتلون على بابه، ويطرحون هنالك. ولقد جئت يوماً فنفر بي الفرس، ونظرت إلى قطعة بيضاء في الأرض فقلت: ما هذه ؟ فقال بعض أصحابي هي صدر رجل قطع ثلاث قطع. وكان يعاقب على الصغيرة والكبيرة، ولا يحترم أحداً من أهل العلم والصلاح والشرف وفي كل يوم يرد على المشور من المسلسلين والمغلولين والمقيدون مئون فمن كان للقتل قتل أو للعذاب عذب، أو للضرب ضرب. وعادته أن يؤتى كل يوم بجميع من في سجنه من الناس إلى المشور، ما عدا يوم الجمعة، فإنهم لا يخرجون فيه، وهو يوم راحتهم، يتنظفون فيه ويستريحون أعاذنا الله من البلاء.

ذكر قتلة لأخيه وكان له أخ اسمه مسعود خان، وأمه بنت السلطان علاء الدين وكان من أجمل صورة رأيتها في الدنيا فاتهمه بالقيام عليه، وسأله عن ذلك فأقر خوفاً من العذاب فإن من أنكر ما يدعيه عليه السلطان من مثل ذلك يعذب، فيرى الناس أن القتل أهون عليهم من العذاب، فأمر به، فضربت عنقه في وسط السوق، وبقي مطروحاً هنالك ثلاثة أيام على عادتهم. وكانت أم هذا المقتول قد رجمت في ذلك الموضع قبل ذلك بسنتين، لاعترافها بالزنا رجمها القاضي كمال الدين.

ذكر قتله لثلاثمائة وخمسين رجلاً في ساعة واحدة وكان مرة عين حصة من العسكر، تتوجه مع الملك يوسف بغرة إلى قتال الكفار، ببعض الجبال المتصلة بحوز دهلي فخرج يوسف، وخرج معه معظم العسكر وتخلف قوم منهم، فكتب يوسف إلى السلطان يعلمه بذلك، فأمر أن يطاف بالمدينة، ويقبض على من وجد من أولئك المتخلفين ففعل ذلك، وقبض على ثلاثمائة وخمسين منهم فأمر بقتلهم أجمعين، فقتلوا.

ذكر تعذيبه للشيخ شهاب الدين وقتله وكان الشيخ شهاب الدين ابن شيخ الجام الخراساني الذي تنسب مدينة الجام بخراسان إلى جده، حسبما قصصنا ذلك، من كبار المشايخ الصلحاء الفضلاء، وكان يواصل أربعة عشر يوماً. وكان السلطانان، قطب الدين وتغلق يعظمانه ويزورانه ويتبركان به فلما ولي السلطان محمد أراد أن يخدم الشيخ في بعض خدمته، فإن عادته أن يخدم الفقهاء والمشايخ والصلحاء، محتجاً أن الصدر الأول رضي الله عنهم، لم يكونوا يستعملون إلا أهل العلم والصلحاء، فامتنع الشيخ شهاب الدين من الخدمة وشافهه السلطان بذلك في مجلسه العام، فأظهر الإباية والامتناع، فغضب السلطان من ذلك، وأمر الشيخ الفقيه المعظم ضياء الدين السمناني أن ينتف لحيته، فأبى ضياء الدين من ذلك، وقال: لا أفعل هذا، فأمر السلطان بنتف لحية كل واحد منهما فنتف ونفي ضياء الدين إلى بلاد التلنك ثم ولاه بعد مدة قضاء ورنكل، فمات بها، ونفي شهاب الدين إلى دولة آباد، فأقام بها سبعة اعوام، ثم بعث عنه، فأكرمه وعظمه، وجعله على ديوان المستخرج، وهو ديوان بقايا العمال، يستخرجها منهم بالضرب والتنكيل ثم زاد في تعظيمه، وأمر الأمراء أن ياتوا للسلام عليه، ويمتثلوا أقواله ولم يكن أحد في دار السلطان فوقه ولما انتقل السلطان إلى السكنى على نهر الكنك، وبنى هنالك القصر المعروف بسرك دوار، معناه شبه الجنة، وأمر الناس بالبناء هنالك، طلب منه الشيخ شهاب الدين أن يأذن له في الإقامة بالحضرة، فأذن له إلى أرض موات، على مسافة ستة أميال من دهلي فحفر بها كهفاً كبيراً، صنع في جوفه البيوت والمخازن والفرن والحمام، وجلب الماء من نهر جون، وعمر تلك الأرض، وجمع مالاً كثيراً من مستغلها لأنها كانت السنون قاحطة، وأقام هنالك عامين ونصف عام مدة مغيب السلطان. وكان عبيده يخدمون تلك الأرض نهاراً، ويدخلون الغار ليلاً ويسدونه على أنفسهم وأنعامهم، خوف سراق الكفار، لأنهم في جبل منيع هنالك، ولما عاد السلطان إلى حضرته استقبله الشيخ ولقيه على سبعة أميال منها، فعظمه السلطان وعانقه عند لقائه، وعاد إلى غاره ثم بعث عنه بعد أيام، فامتنع من إتيانه فبعث إليه مخلص الملك النذرباري، وكان من كبراء الملوك، فتلطف له في القول، وحذره بطش السلطان فقال له: لا أخدم ظالماً أبداً فعاد مخلص الملك إلى السلطان فأخبره بذلك فأمر أن يأتي به، فأتى به فقال له: أنت القائل: إني ظالم فقال: نعم، أنت ظالم، ومن ظلمك كذا و كذا، وعدد أموراً منها تخريبه لمدينة، دهلي، وإخراجه أهلها. فأخذ السلطان سيفه، ودفعه لصدر الجهان، وقال: يثبت هذا أني ظالم، واقطع عنقي بهذا السيف فقال له شهاب الدين: ومن يريد أن يشهد بذلك، فيقتل ولكن أنت تعرف ظلم نفسك وأمر بتسليمه للملك نكبية، رأس الدويدارية، فقيده بأربع قيود، وغل يديه وأقام كذلك أربعة عشر يوماً مواصلاً، لا يأكل ولا يشرب وفي كل يوم منها يؤتى بها إلى المشور، ويجمع الفقهاء والمشايخ، ويقولون له: إرجع عن قولك فيقول: لا أرجع عنه، وأريد أن أكون في زمرة الشهداء. فلما كان اليوم الرابع عشر بعث إليه السلطان بطعام مع مخلص الملك، فأبى أن يأكل، وقال: رفع رزقي من الأرض ارجع بطعامك إليه فلما أخبر بذلك السلطان، أمر عند ذلك أن يطعم الشيخ خمسة أستار " أساتير " من العذرة، وهي رطلان ونصف من أرطال المغرب فأخذ ذلك الموكلون بمثل هذه الأمور، وهم طائفة من كفار الهنود، فمدوه على ظهره، وفتحوا فمه بالكلبتين، وحلوا العذرة بالماء وسقوه ذلك. وفي اليوم بعده أتى به إلى دار القاضي صدر الجهان، وجمع الفقهاء والمشايخ ووجوه الأعزة فوعظوه، وطلبوا منه أن يرجع عن قوله، فأبى ذلك. فضربت عنقه، رحمه الله تعالى.

ذكر قتله للفقيه المدرسي عفيف الدين الكاساني وفقيهين معه وكان السلطان في سني القحط قد أمر بحفر آبار خارج دار الملك، وأن يزرع هنالك زرع، وأعطى الناس البذر، وما يلزم على الزراعة من النفقة، وكلفهم زرع ذلك للمخزن فبلغ ذلك الفقيه عفيف الدين، فقال: هذا الزرع لا يحصل المراد منه، فوشي به إلى السلطان فسجنه. وقال له: لأي شيء تدخل نفسك في أمور الملك ؟ ثم إنه سرحه بعد مدة فذهب إلى داره ولقيه في طريقه إليها صاحبان له من الفقهاء، فقالا له: الحمد لله على خلاصك. فقال الفقيه، الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين وتفرقوا فلم يصلوا إلى دورهم حتى بلغ ذلك السلطان فأمر بهم فأحضر ثلاثتهم بين يديه فقال: اذهبوا بهذا، يعني عفيف الدين، فاضربوا عنقه حمائل، وهو أن يقطع الرأس من الذراع وبعض الصدر، واضربوا أعناق الآخرين فقالوا له: أما هو فيستحق العقاب بقوله، وأما نحن فبأي جريمة تقتلنا ؟ فقال: طالما أنكما سمعتما كلامه فلم تنكراه فكأنكما وافقتما عليه، فقتلوا جميعاً رحمهم الله تعالى.

ذكر قتله أيضاً لفقيهين من أهل السند كانا في خدمته وأمر السلطان هذين الفقيهين السنديين أن يمضيا مع أمير عينه إلى بعض البلاد، وقال لهما: إنما سلمت أحوال البلاد والرعية لكما، ويكون هذا الأمير معكما، يتصرف مما تأمرانه به، فقالا له: إنما نكون كالشاهدين عليه، ونبين له وجه الحق ليتبعه. فقال لهما: إنما قصدكما أن تأكلا أموالي وتضيعاها، وتنسبا ذلك إلى هذا التركي الذي لا معرفة له. فقالا له: حاشا لله يا خوند عالم ما قصدنا هذا فقال لهما لم تقصدا غير هذا اذهبوا بهما إلى الشيخ زاده النهاوندي، وهو الموكل بالعذاب فذهب بهما إليه، فقال لهما: السلطان يريد قتلكما. فأقرا بما قولكما إياه، ولا تعذبا أنفسكما فقال: والله ما قصدنا إلا ما ذكرنا فقال لزبانيته: ذوقوهما بعض شيء، يعني من العذاب فبطحا على اقفائهما وجعل على صدر كل واحد منهما صفيحة حديد محماة، ثم قلعت بعد هنيهة، فذهب بلحم صدورهما، ثم أخذ البول والرماد فجعل على تلك الجراحات فأقرا على أنفسهما أنهما لم يقصدا إلا ما قاله السلطان، وأنهما مجرمان مستحقان للقتل، فلا حق لهما ولا دعوى في دمائها دنيا ولا أخرى، وكتبا خطهما بذلك، واعترفا به عند القاضي، فسجل على العقد، وكتب فيه أن اعترافهما كان عن غير إكراه ولا إجبار ولو قالا: أكرهنا لعذبا أشد العذاب، ورأيا أن تعجيل ضرب العنق خير لهما من الموت بالعذاب الأليم فقتلا رحمهما الله تعالى.

ذكر قتله للشيخ هود  وكان الشيخ زاده، المسمى بهود، حفيد الشيخ الصالح الولي ركن الدين بن بهاء الدين ابن أبي زكريا الملتاني، وجده الشيخ ركن الدين، معظماً عند السلطان، وكذلك أخوه عماد الدين الذي كان شبيهاً بالسلطان، وقتل يوم وقيعة كشلوخان، وسنذكره. ولما قتل عماد الدين أعطى السلطان لأخيه ركن الدين مائة قرية ليأكل منها ويطعم الصادر والوارد بزاويته فتوفي الشيخ ركن الدين، وأوصى بمكانه من الزاوية لحفيده الشيخ هود، ونازعه في ذلك ابن أخي الشيخ ركن الدين، وقال: أنا أحق بميراث عمي، فقدما على السلطان، وهو بدولة آباد وبينهما وبين ملتان ثمانون يوماً فأعطى السلطان المشيخة لهود حسبما أوصى له الشيخ، وكان كهلاً، وكان ابن أخي الشيخ فتى وأكرمه السلطان، وأمر بتضفييه في كل منزل يحله، وأن يخرج إلى لقائه أهل كل بلد يمر به إلى ملتان، وتصنع له فيه دعوة فلما وصل الأمر للحضرة، خرج الفقهاء والقضاة والمشايخ والأعيان للقائه وكنت فيمن خرج إليه، فتلقيناه وهو راكب في دولة، يجملها الرجال، وخيله مجنوبة، فسلمنا عليه، وأنكرت أنا ما كان من فعله في ركوبه الدولة، وقلت: إنما كان ينبغي له أن يركب الفرس، ويساير من خرج للقائه من القضاة والمشايخ فبلغه كلامي، فركب الفرس، واعتذر بأن فعله أولاً كان بسبب ألم منعه من ركوب الفرس. ودخل الحضرة، وصنعت لها دعوة أنفق فيها من مال السلطان عدداً كثيراً وحضر القضاة والمشايخ والفقهاء والأعزة، ومد السماط وأتوا بالطعام على العادة، ثم أعطيت الدراهم لكل من حضر على قدر استحقاقه. فأعطي قاضي القضاة خمسمائة دينار، وأعطيت أنا مائتين وخمسين ديناراً وهذه عادة لهم في الدعوى السلطانية ثم انصرف الشيخ هود إلى بلده، ومعه الشيخ نور الدين الشيرازي، بعثه السلطان ليجلسه على سجادة جده بزاويته، ويصنع له الدعوة من مال السلطان هنالك. واستقر بزاويته، وأقام بها أعواماً ثم إن عماد الملك، أمير بلاد السند، كتب إلى السلطان يذكر أن الشيخ وقرابته، يشتغلون بجمع الأموال وإنفاقها في الشهوات، ولا يطعمون أحداً بالزاوية، فنفذ الأمر بمطالبتهم بالأموال فطلبهم عماد الملك بها، وسجن بعضهم، وضرب بعضاً، وصار يأخذ منهم كل يوم عشرين ألف دينار مدة أيام، حتى استخلص ما كان عندهم ووجد لهم كثيراً من الأموال والذخائر من جملتها نعلان مرصعان بالجوهر والياقوت، بيعا بسبعة آلاف دينار، قيل: إنهما كانا لبنت الشيخ هود، وقيل لسرية له فلما اشتد الحال على الشيخ هرب يريد بلاد الأتراك فقبض عليه وكتب عماد الملك بذلك إلى السلطان، فأمره أن يبعثه ويبعث الذي قبض عليه كليهما في حكم الثقاف ، فلما وصلا إليه، سرح الذي قبض عليه وقال للشيخ هود: أين أردت أن تفر ؟ فاعتذر بعذر فقال له السلطان: إنما أردت أن تذهب إلى الأتراك، فتقول: أنا ابن الشيخ بهاء الدين زكريا، وقد فعل السلطان معي كذا، وتأتي بهم لقتالنا. اضربوا عنقه، فضربت عنقه رحمه الله تعالى.

ذكر سجنه لابن تاج العارفين وقتله لأولاده  وكان الشيخ الصالح شمس الدين ابن تاج العارفين، ساكناً بمدينة كول، منقطعاً للعبادة كبير القدر ودخل السلطان إلى مدينة كول، فذهب عنه فلم يأته فذهب السلطان إليه ثم لما قارب منزله انصرف، ولم يره، واتفق، بعد ذلك أن أميراً من الأمراء خالف على السلطان ببعض الجهات، وبايعه الناس: فنقل للسلطان أنه وقع ذكر هذا الأمير بمجلس الشيخ شمس الدين، فأثنى عليه، وقال: إنه يصلح للملك فبعث السلطان بعض الأمراء إلى الشيخ فقيده، وقيد أولاده، وقيد قاضي كول، ومحتسبها. لأنه ذكر أنهما كانا حاضرين للمجلس الذي وقع فيه ثناء الشيخ على الأمير المخالف وأمر بهم فسجنوا جميعاً، بعد أن سمل عيني القاضي، وعيني المحتسب. ومات الشيخ بالسجن وكان القاضي والمحتسب يخرجان مع بعض السجانين فيسألان الناس، ثم يردان إلى السجن، وكان قد بلغ السلطان، أن أولاد الشيخ كانوا يخالطون كفار الهنود وعصاتهم ويصبحونهم، فلما مات أبوهم، أخرجهم من السجن، وقال لهم: لا تعودوا إلى ما كنتم تفعلون. فقالوا له: وما فعلنا فاغتاظ من ذلك وأمر بقتلهم جميعاً فقتلوا ثم استحضر القاضي المذكور، فقال أخبرني بما كان يرى رأي هؤلاء الذين قتلوا، ويفعل مثل أفعالهم فأملى أسماء رجال كثيرين من كفار البلد، فلما عرض ما أملاه على السلطان قال: هذا يجب أن يخرب البلد اضربوا عنقه، فضربت عنقه رحمه الله تعالى.

ذكر قتله للشيخ الحيدري وكان الشيخ علي الحيدري ساكناً بمدينة كنباية من ساحل الهند، وهو عظيم القدر، شهير الذكر، بعيد الصيت، ينذر له التجار بالبحر النذور الكثيرة وإذا قدموا بدأوا بالسلام عليه وكان يكاشف بأحوالهم، وربما نذر أحدهم النذر وندم عليه فإذا أتى الشيخ للسلام عليه، أعلمه بما نذر له، وأمر بالوفاء به واتفق له ذلك مرات، واشتهر به فلما خالف القاضي جلال الأفغاني وقبيلته بتلك الجهات، بلغ السلطان أن الشيخ الحيدري دعا للقاضي جلال الدين، وأعطاه شاشيته من رأسه، وذكر أيضاً أنه بايعه. فلما خرج السلطان إليهم بنفسه، وانهزم القاضي جلال خلف السلطان شرف الملك أمير بخت، أحد الوافدين معنا عليه بكنباية، وأمره بالبحث عن أهل الخلاف، وجعل معه فقهاء يحكم بقولهم، فأحضر الشيخ علي الحيدري بين يديه، وثبت أنه أعطى للقائم شاشيته ودعا له، فحكموا بقتله. فلما ضربه السياف لم يفعل شيئاً وعجب الناس لذلك، وظنوا أنه يعفو عنه بسبب ذلك فأمر سيافاً آخر بضرب عنقه، فضربها رحمه الله تعالى.

ذكر قتله لطوغان وأخيه وكان طوغان الفرغاني وأخوه من كبار أهل مدينة فرغاني فوفدا على السلطان، فأحسن إليهما وأعطاهما عطاء جزيلاً وأقاما عنده مدة فلما طال مقامهما أرادا الرجوع إلى بلادهما، وحاولا الفرار فوشى بهما أحد أصحابهما إلى السلطان فأمر بتوسيطهما، فوسطا وأعطي للذي وشى بهما جميع مالهما، وكذلك عادتهم بتلك البلاد إذا وشى أحد بأحد وثبت ما وشى به فقتل، أعطي ماله.

ذكر قتله لابن ملك التجار وكان ابن ملك التجار شاباً صغيراً لا نبات بعارضيه فلما وقع خلاف عين الملك وقيامته وقتاله للسلطان، كما سنذكره، غلب على ابن ملك التجار هذا، فكان في جملته مقهوراً، فلما هزم عين الملك، وقبض الملك عليه وعلى أصحابه، كان من جملتهم ابن ملك التجار وصهره ابن قطب الملك، فأمر بهما، فعلقا من أيديهما في خشب، وأمر أبناء الملوك، فرموهما بالنشاب حتى ماتا قال الحجب خواجه أمير علي التبريزي لقاضي القضاة كمال الدين ذلك الشاب، لم يجب عليه القتل. فبلغ ذلك السلطان فقال: هلا قلت هذا قبل موته، وأمر به فضرب مائتي مقرعة أو نحوها، وسجن، وأعطى جميع ماله لأمير السيافين فرأيته في ثاني ذلك اليوم قد لبس ثيابه، وجعل قلنسوته على رأسه، وركب فرسه، فظننت أنه هو وأقام بالسجن شهوراً ثم سرحه، ورده إلى ما كان عليه، ثم غضب عليه ثانية، ونفاه إلى خراسان فاستقر بهراة، وكتب إليه يستعطفه، فوقع له على ظهر كتابه أربار آمدي باز " آي " معناه أن كنت تبت فارجع، فرجع إليه.

ذكر ضربه لخطيب الخطباء حتى مات وكان قد ولي خطيب الخطباء بدهلي النظر في زانة الجوهر في السفر، فاتفق أن جاء سراق الكفار ليلاً فضربوا على تلك الخزانة، وذهبوا بشيء منها فأمر بضرب الخطيب حتى مات. رحمه الله تعالى.

ذكر تخريبه لدهلي ونفي أهلها  وقتل الأعمى والمقعد ومن أعظم ما كان ينقم على السلطان إجلاؤه لأهل دهلي عنها، وسبب ذلك أنهم كانوا يكتبون بطائق فيها شتمه وسبه، ويختمون عليها، ويكتبون عليها، وحق رأس خوند عالم، ما يقرأها غيره ويرمونها بالمشور ليلاً فإذا فضها وجد شتمه وسبه فعزم على تخريب دهلي، واشترى من أهلها جميعاً دورهم ومنازلهم، ودفع لهم ثمنها، وأمرهم بالانتقال عنها إلى دولة آباد، فأبوا ذلك، فنادى مناديه أن لايبقى فيها أحد بعد ثلاث فانتقل معظمهم، واختفى بعضهم في الدور فأمر بالبحث عمن بقي بها، فوجد عبيده بأزقتها رجلين: أحدهما مقعد والآخر أعمى، فأتوا بهما فأمر بالمقعد فرمي به في المنجنيق، وأمر أن يجر الأعمى من دهلي إلى دولة آباد، مسيرة أربعين يوماً فتمزق في الطريق، ووصل منه رجله، ولما فعل ذلك خرج أهلها جميعاً، وتركوا أثقالهم وأمتعتهم وبقيت المدينة خاوية على عروشها، فحدثني من أثق به قال: صعد السلطان ليلة إلى سطح قصره، فنظر إلى دهلي وليس بها نار ولا دخان ولا سراج فقال: الآن طاب قلبي وتهدن خاطري ثم كتب إلى أهل البلاد أن ينتقلوا إلى دهلي ليعمروها فخربت بلادهم ولم تعمر دهلي لاتساعها وضخامتها وهي من أعظم مدن الدنيا، وكذلك وجدناها لما دخلنا إليها خالية، ليس بها الا قليل عمارة وقد ذكرنا كثيراً من مآثر هذا السلطان، ومما نقم عليه أيضاً فلنذكر جملاً من الوقائع والحوادث الكائنة في أيامه.

ذكر ما افتتح أمره أول ولايته منه على بهادور بوره

ولما ولي السلطان الملك بعد أبيه وبايعه الناس، أحضر السلطان غياث الدين بهادور بوره الذي كان أسره السلطان تغلق، فمن عليه، وفك قيوده، وأجزل له العطاء من الأموال والخيل والفيلة، وصرفه إلى مملكته وبعث معه ابن أخيه إبراهيم خان، وعاهده على أن تكون تلك المملكة مشاطرة بينهما ويكتب اسماهما معاً في السكة، ويخطب لهما وعلى أن يصرف غياث الدين ابنه محمد المعروف برباط، يكون رهينة عند السلطان فانصرف غياث الدين إلى مملكته، والتزم ما شرط عليه إلا أنه لم يبعث ابنه، وادعى انه امتنع وأساء الأدب في كلامه فبعث السلطان العساكر إلى ابن أخيه إبراهيم وأميرهم دلجي التتري، فقاتلوا غياث الدين فقتلوه وسلخوا جلده، وحشي بالتبن وطيف به على البلاد.

ذكر ثورة ابن عمته وما اتصل بذلك  وكان للسلطان تغلق ابن أخت يسمى بهاء الدين كشت اسب " بضم الكاف وسكون الشين المعجم وتاء معلوة " واسب " بالسين المهمل والباء الموحدة مسكنين "، فجعله أميراً ببعض النواحي، فلما مات خاله امتنع من بيعة ابنه، وكان شجاعاً بطلاً فبعث السلطان إليه العساكر، فيهم الأمراء الكبار، مثل الملك مجير، والوزير خواجه جهان أمير على الجمع فالتقى الفرسان، واشتد القتال، وصبر كلا العسكرين ثم كانت الكرة لعسكر السلطان ففر بهاء الدين إلى ملك من ملوك الكفار، يعرف بالراي كنبيلة والراي عندهم كمثل ما هو بلسان الروم عبارة عن السلطان وكنبيلة اسم الأقليم الذي هو به، وهو " بفتح الكاف وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء ولام مفتوحة " وهذا الراي له بلاد في جبال منيعة، وهو من أكابر السلاطين الكفار. فلما هرب إليه بهاء الدين، اتبعه عساكر السلطان وحصروا تلك البلاد واشتد الأمر على الكافر، ونفذ ما عنده من الزرع وخاف أن يؤخذ باليد فقال لبهاء الدين: إن الحال قد بلغت لما تراه، وأنا عازم على هلاك نفسي وعيالي ومن تبعني فاذهب أنت إلى السلطان فلان من الكفار، وسماه له فأقم عنده، فإنه سيمنعك وبعث معه من أوصله اليه. وأمر راي كنبيلة بنار عظيمة فأججت وأحرق فيها أمتعته وقال لنسائه وبناته " إني أريد قتل نفسي فمن أرادت موافقتي فلتفعل المرأة منهم تغتسل وتدهن بالصندل والمقاصري وتقبل الأرض بين يديه وترمي بنفسها في النار، حتى هلكن جميعاً، وفعل مثل ذلك نساء أمرائه ووزرائه وأرباب دولته ومن أراد من سائر النساء ثم اغتسل الراي وادهن بالصندل، ولبس السلاح ما عدا الدرع، وفعل كفعله من أراد الموت معه من ناسه، وخرجوا إلأى عسكر السلطان فقاتلوا حتى قتلوا جميعاً ودخل المدينة فأسر أهلها وأسر من أولاد راي كنبيلة أحد عشر ولداً، فأتى بهم السلطان فأسلموا جميعاً وجعلهم السلطان أمراء، وعظمهم لأصالتهم، ولفعل أبيهم فرأيت عنده منهم نصراً وبختيار والمهردار، وهو صاحب الخاتم الذي يختم به على الماء الذي يشرب السلطان منه وكنيته أبو مسلم وكانت بيني وبينه صحبة ومودة، ولما قتل راي كنبيلة توجهت عساكر السلطان إلى بلد الكفار الذي لجأ إليه بهاء الدين، وأحاطوا به فقال ذلك السلطان: أنا لا أقدر على أن أفعل ما فعله راي كنبيلة فقبض على بهاء الدين وأسلمه إلى عسكر السلطان، فقيدون وغلوه وأتوا به فلما أتى به إليه أمر بإدخاله إلى قرابته من النساء فشتمنه وبصقن في وجهه، وأمر بسلخه، وهو بقيد الحياة، فسلخ وطبخ لحمه مع الأرز، وبعث لأولاده وأهله، وجعل باقيه على صحفة، وطرح للفيلة لتأكله فأبت أكله وأمر بحلده فحشي بالتبن وقرن بجلد بهادور بوره، وطيف بهما على البلاد فلما وصلا إلى بلاد السند وأمير أمرائها يومئذ كشلو خان صاحب السلطان تغلق ومعينه على أخذ الملك. وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالعم ويخرج لاستقباله إذا وفد من بلاده وأمر كشلو خان بدفن الجلدين فبلغ ذلك السلطان فشق عليه فعله وأراد الفتك به.

ذكر ثورة كشلوخان وقتله  ولما اتصل بالسلطان ما كان من فعله في دفن الجلدين، بعث عنه وعلم كشلوخان أنه يريد عقابه. فامتنع وخالف وأعطى الأموال وجمع العساكر، وبعث إلى الترك والأفغان وأهل خراسان فأتاه منهم العدد الجم، حتى كافأ عسكره عسكر السلطان، أو أربى عليه كثرة. وخرج السلطان بنفسه لقتاله، فكان اللقاء على مسيرة يومين من ملتان بصحراء أبوهر. وأخذ السلطان بالحزم عند لقائه، فجعل تحت الشطر عوضاً منه الشيخ عماد الدين شقيق الشيخ ركن الدين الملتاني، وهو حدثني هذا، وكان شبيهاً به. فلما حمي القتال، انفرد السلطان في أربعة آلاف من عسكره، وقصد عسكر كشلوخان الشطر معتقدين أن السلطان في أربعة آلاف من عسكره، وقصد عسكر كشلوخان الشطر معتقدين أن السلطان تحته، فقتلوا عماد الدين، وشاع في العسكر أن السلطان قتل. فاشتغلت عساكر كشلوخان بالنهب، وفرقوا عنه، ولم يبق معه إلا القليل. فقصده السلطان بمن معه فقتله وجز رأسه. وعلم بذلك جيشه ففروا. ودخل السلطان مدينة ملتان، وقبض على قاضيها كريم الدين، وأمر بسلخه فسلخ. وأمر برأس كشلوخان فعلق على بابه. وقد رأيته معلقاً لما وصلت إلى ملتان. وأعطى السلطان الشيخ ركن الدين أخي عماد الدين ولابنه صدر الدين، مائة قرية إنعاماً عليهم ليأكلوا منها ويطعموا بزاويتهم المنسوبة لجدهم بهاء الدين زكريا، وأمكر السلطان وزيره خواجه جهان أن يذهب إلى مدينة كمال بور وهي مدينة كبيرة على ساحل البحر، وكان أهلها قد خالفوا، فأخبرني بعض افقهاء أنه حضر دخول الوزير إياها. قال: وأحضر بين يديه القاضي بهاء الخطيب، فأمر بسلخ جلديهما. فقالا: اقتلنا بغير ذلك. فقال لهما: بم استوجبتما القتل ؟ فقالا: بمخالفتنا أمر السلطان، فقال لهما: كيف أخالف أنا أمره ؟ وقد أمرني أن أقتلكما بهذه الطريقة. وقال للمتولين لسلخهما احفروا لهما حفراً تحت وجهيهما، يتنفسان فيها. فإنهم إذا سلخوا والعياذ بالله يطرحون على وجوههم. ولما فعل ذلك تمهدت بلاد السند وعاد السلطان إلى حضرته.

ذكر الوقيعة بجبل قراجيل على جيش السلطان " وأول اسمه قاف وجيم معقودة " وجبل قراجيل هذا جبل كبير، يتصل مسيرة ثلاثة أشهر. وبينه وبين دهلي مسيرة عشر، وسلطانه من أكبر السلاطين الكفار. وكان السلطان بعث ملك نكبية رأس الدويدارية إلى حرب هذا الجبل، ومعه ألف فارس، ورجاله سواهم كثير، فملك مدينة جديدة " وضبطها بكسر الجيم وسكون الدال المهمل وفتح الياء آخر الحروف "، وهي أسفل الجبل. وملك ما يليها، وسبى وخرب وأحرق، وفر الكفار إلأى أعلى الجبل. وتركوا بلادهم وأموالهم وخزائن ملكهم. وللجبل طريق واحد، وعن أسفل منه واد وفوقه الجبل، فلا يجوز فيه إلا فارس منفرد، وخلفه آخر، فصعدت عساكر المسلمين على ذلك الطريق، وتملكوا مدينة ورنكل التي بأعلى الجبل، " وضبطها بفتح الواو والراء وسكون النون وفتح الكاف "، واحتووا على ما فيها، وكتبوا إلى السلطان بالفتح، فبعث إليهم قاضياً وخطيباً، وأمرهم بالإقامة، فلما كان وقت نزول المطر، غلب المرض على العسكر وضعفوا وماتت الخيل وانحلت القسي، فكتب الأمراء إلى السلطان، واستأذنوه في الخروج عن الجبل، والنزول إلى أسفله، بخلال ما ينصرم فصل نزول المطر فيعودون. فأذن لهم في ذلك. فأخذ الأمير نكبية الأموال التي استولى عليها من الخزائن والمعادن، وفرقها على الناس ليرفعوها ويوصلوها إلى أسفل الجبل. فعندما علم الكفار بخروجهم، قعدوا لهم بتلك المهاوي وأخذوا عليهم المضيق، وصاروا يقطعون الأشجار العادية قطعاً، ويطرحونها من أعلى الجبل، فلا تمر بأحد إلا أهلكته. فهلك الكثير من الناس، وأسر الباقون منهم، وأخذ الكفار الأموال والأمتعة والخيل والسلاح. ولم يفلت من الجند إلا ثلاثة من الأمراء، كبيرهم نكبية وبدر الدين الملك دولة شاه وثالث لهما لا أذكره، وهذه الوقيعة أثرت في جيش الهند أثراً كبيراً وأضعفته ضعفاً بيناً. وصالح السلطان بعدها أهل الجبل على مال يؤدونه إليه، لأن لهم البلاد أسفل الجبل، ولا قدرة لهم على عمارتها إلا بإذنه.

ذكر ثورة الشريف جلال الدين ببلاد المعبر وما اتصل بذلك من قتل ابن أخت الوزير  وكان السلطان قد أمر على بلاد المعبر، وبينها وبين دهلي مسيرة ستة أشهر، الشريف جلال الدين أحسن شاه، فخالف وادعى الملك لنفسه. وقتل نواب السلطان وعماله، وضرب الدنانير والدراهم باسمه. وكان يكتب في إحدى صفحتي الدينار سلالة طه ويس، أبو الفقراء والمساكين، جلال الدنيا والدين، وفي الصفحة الأخرى الواثق بتأييد الرحمن، أحسن شاه السلطان. وخرج السلطان لما سمع بثورته يريد قتاله، فنزل بموضع يقال له: كشك زر، معناه قصر الذهب، وأقام به ثمانية أيام لقضاء حوائج الناس. وفي تلك الأيام أتي بابن أخت الوزير خواجه حهان. وأربعة من الأمراء أو ثلاثة، وهم مقيدون مغلولون. وكان السلطان قد بعث وزيره المذكور في مقدمته. فوصل إلى مدينة ظهار، وهي على مسيرة أربع وعشرين من دهلي، وأقام بها أياماً. وكان ابن أخته شجاعاً بطلاً، فاتفق مع الأمراء الذين أتى بهم على قتل خاله، والهرب بما عنده من الخزائن والأموال إلى الشريف القائم ببلاد المعبر، وعزموا على الفتك بالوزير عند خروجه إلى صلاة الجمعة، فوشى بهم أحد من أدخلوه في أمرهم إلى الوزير، وكان يسمى الملك نصرة الحاجب، وأخبر الوزير أن آية ما يرومونه، لبسهم الدروع تحت ثيابهم، فبعث الوزير عنهم، فوجدهم كذلك. فبعث بهم إلى السلطان، وكنت بين يدي السلطان حين وصولهم. فرأيت أحدهم وكان طوالاً ألحى ، وهو يرعد، ويتلو سورة يس، فأمر بهم، فطرحوا للفيلة المعلمة لقتل الناس، وأمر بابن أخت الوزير فرد إلى خاله ليقتله، فقتله، وسنذكر ذلك. وتلك الفيلة التي تقتل، تكسى أنيابها بحدائد مسنونة شبه سكك الحرث، لها أطراف كالسكاكين. ويركب الفيال على الفيل، فإذا رمى الرجل بين يديه لف عليه خرطومه، ورمى به إلى الهواء، ثم يتلقفه بنيابه ويطرحه بعد ذلك بين يديه، ويجعل يده على صدره، ويفعل به ما يأمره الفيال، على حسب ما أمره السلطان. فإن أمره بتقطيعه قطعه الفيل قطعاً بتلك الحدائد، وإن أمر بتركه، تركه مطروحاً فسلخ. وكذلك فعل بهؤلاء. وخرجت من دار السلطان بعد المغرب فرأيت الكلاب تأكل لحومهم. وقد ملئت جلودهم بالتبن والعياذ بالله. ولما تجهز السلطان لهذه الحركة أمرني بالإقامة بالحضرة، كما سنذكره، ومضى في سفره إلى أن بلغ دولة آباد. فثار الأمير هلاجون ببلاده، وخرج ذلك. وكان الوزير خواجه جهان قد بقي أيضاً بالحضرة لحشد الحشود وجمع العساكر.

ذكر ثورة هلاجون ولما بلغ السلطان إلى دولة آباد، وبعد عن بلاده، ثار الأمير هلاجون بمدينة لاهور، وادعى الملك، وساعده الأمير قلجند على ذلك، وصيره وزيراً له. واتصل ذلك بالوزير خواجه جهان، وهو بدهلي، فحشد الناس وجمع العساكر وجمع الخراسانيين، وكل من كان مقيماً من الخدام بدهلي أخذ أصحابه، وأخذ في الجملة أصحابي لأني كنت بها مقيماً وأعانه السلطان بأميرين كبيرين أحدهما قيران ملك صفدار، ومعناه مرتب العساكر، والثاني الملك تمور الشريدار وهو الساقي، وخرج هلاجون بعساكره، فكان اللقاء على ضفة أحد الأدوية الكبار. فانهزم هلاجون وهرب، وغرق كثير من عساكره في النهر. ودخل الوزير المدينة فسلخ بعض أهلها وقتل آخرين بغير ذلك من أنواع القتل. وكان الذي تولى قتلهم محمد ابن النجيب نائب الوزير، وهو المعروف بأجدر ملك، ويسمى أيضاً صك " سك " السلطان والصك عندهم الكلب. وكان ظالماً قاسي القلب. ويسميه السلطان أسد الأسواق. وكان ربما عض أرباب الجنايات بأسنانه شرهاً وعدواناً. وبعث الوزير من نساء المخالفين نحو ثلاثمائة إلى حصن كاليور، فسجن به. ورأيت بعضهن هنالك. وكان أحد الفقهاء له فيهن زوجة فكان يدخل إليها حتى ولدت منه في السجن.

ذكر وقوع الوباء في عسكر السلطان

ولما وصل السلطان إلى بلاد التلنك، وهو قاصد إلى قتال الشريف ببلاد المعبر، نزل مدينة بدركوت " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وسكون الدال وفتح الراء وضم الكاف وواو وتاء معلوة "، وهي قاعدة بلاد التلنك " وضبطها بكسر التاء المعلوة واللام وسكون النون وكاف معقودة "، وبينها وبين بلاد المعبر مسيرة ثلاثة أشهر. ووقع الوباء إذ ذاك في عسكره، فهلك معظمهم، ومات العبيد والمماليك وكبار الأمراء مثل ملك دولة شاه الذي كان السلطان يخاطبه بالعم، ومثل أمير عبد الله الهروي، وقد تقدمت حكايته في السفر الأول، وهو الذي أمر السلطان أن يرفع من الخزانة ما استطاع من المال، فربط ثلاث عشرة خريطة بأعضاده ورفعها. ولما رأى السلطان ما حل بالعسكر عاد إلى دولة آباد، وخالفت البلاد، وانتقضت الأطراف، وكان الملك يخرج عن يده، لولا ما سبق به القدر من استحكام سعادته.

ذكر الإرجاف بموته وفرار الملك هوشنج

ولما عاد السلطان إلى دولة آباد مرض في طريقه، فأرجف الناس بموته وشاع ذلك، فنشأت عنه فتن عريضة. وكان الملك هوشنج ابن الملك كمال الدين كرك بدولة آباد، وكان بينه وبين السلطان عهد أن لا يبايع غيره ابداً، لا في حياته ولا بعد موته. فلما أرجف بموت السلطان هرب إلى سلطان كافر يسمى بربرة، يسكن بجبال مانعة بين دولة آباد وكون تانه، فعلم السلطان بفراره وخاف وقوع الفتنة، فجد السير إلى دولة آباد، واقتفى أثر هوشنج، وحصره بالخيل. وأرسل الكافر أن يسلمه إليه فأبى وقال: لا أسلم دخيلي ولو آل بي الأمر لما آل براي كنبيلة. وخاف هوشنج على نفسه، فراسل السلطان وعاهد على أن يرحل السلطان إلى دولة آباد، ويبقى هنالك قطلوخان معلم السلطان، ليستوثق منه هوشنج، وينزل إليه على الأمان. فرحل السلطان ونزل هوشنج إلى قطلوخان، وعاهده أن لا يقتله السلطان ولا يحط منزلته، وخرج بماله وعياله وأصحابه وقدم على السلطان، فسر بقدومه وأرضاه وخلع عليه. وكان قطلوخان صاحب عهد يستنيم الناس إليه ويقولون في الوفاء عليه. ومنزلته عند السلطان علية، وتعظيمه له شديد، ومتى دخل عليه قام له إجلالاً. فكان بسبب ذلك لا يدخل عليه حتى يكون هو الذي يدعوه لئلا يتعبه بالقيام له. وهو محب في الصدقات، كثير الإيثار، مولع بالإحسان للفقراء والمساكين.

ذكر ما هم به الشريف إبراهيم من الثورة ومآل حاله وكان الشريف إبراهيم المعروف بالخريطة دار، وهو صاحب الكاغد والأقلام بدار السلطان، والياً على بلاد حانسي وسرستي. لما تحرك السلطان إلى بلاد المعبر، وأبوه هو القائم ببلاد المعبر الشريف أحسن شاه، فلما أرجف بموت السلطان، طمع إبراهيم في السلطنة، وكان شجاعاً كريماً حسن الصورة. وكنت متزوجاً بأخته حور نسب، وكانت صالحة تتهجد بالليل لها أوراد من ذكر الله عز وجل، وولدت مني بنتاً، ولا أدري ما فعل الله فيهما. وكانت تقرأ، لكنها لا تكتب. فلما هم إبراهيم بالثورة، اجتاز به أمير من أمراء السند، معه الأموال يحملها إلى دهلي. فقال له إبراهيم: إن الطريق مخوف وفيه القطع، فأقم عندي حتى يصلح الطريق وأوصلك إلى المأمن، وكان قصده أن يتحقق موت السلطان فيستولي على تلك الأموال. فلما تحقق حياته سرح ذلك الأمير، وكان يسمى ضياء الملك بن شمس الملك. ولما وصل السلطان إلى الحضرة بعد غيبته سنتين ونصف، وصل الشريف إبراهيم إليه. فوشى به بعض غلمانه، وأعلم السلطان بما كان هم به. فأراد السلطان أن يعجل بقتله، ثم تأنى لمحبته فيه. فاتفق أن أتى يوماً إلى السلطان بغزال مذبوح ينظر إلى ذبحته، فقال: ليس يجيد الذكاة، اطرحوه. فرآه إبراهيم فقال: إن ذكاته جيدة، وأنا آكله. فأخبر السلطان بقوله، فأنكر ذلك وجعله ذريعة إلى أخذه. فأمر به فقيد وغلل، ثم قرره على ما رمي به من أنه أراد أخذ الأموال التي مر بها ضياء الملك، وعلم إبراهيم أنه إنما يريد قتله بسبب أبيه، وأنه لا تنفعه معذرة، وخاف أن يعذب. فرأى الموت خيراً له، فأقر بذلك، فأمر به، فوسط، وترك هنالك. وعادتهم أنه متى قتل السلطان أحداً أقام مطروحاً بموضع قتله ثلاثاً. فإذا كان بعد الثلاث أخذه طائفة من الكبار موكلون بذلك، فحملوه إلى خندق خارج المدينة يطرحونه به، وهم يسكنون حول الخندق، لئلا يأتي أهل المقتول فيعرفونه، وربما أعطى بعضهم لهؤلاء الكفار مالاً، فتجافوا له عن قتيله حتى يدفنه، وكذلك فعل الشريف إبراهيم رحمه الله تعالى.

ذكر خلاف نائب السلطان ببلاد التلنك

ولما عاد السلطان من التلنك وشاع خبر موته، وكان ترك تاج الملك نصرة خان نائباً عنه ببلاد التلنك، وهو من قدماء خواصه، بلغه ذلك فعمل عزاء السلطان، ودعا لنفسه، وتابعه الناس بحضرة بدركوت. فبلغ خبره إلى السلطان، فبعث معلمه قطلوخان في عساكر عظيمة، فحصره بعد قتال شديد هلك فيه أمم من الناس، واشتد الحصار على أهل بدركوت، وهي منيعة، وأخذ قطلوخان في نقبها. فخرج إليه نصرة خان على الأمان في نفسه، فأمنه وبعث به إلى السلطان، وأمن أهل المدينة والعسكر.

ذكر انتقال السلطان لنهر الكنك وقيام عين الملك

ولما استولى القحط على البلاد، انتقل السلطان بعساكره إلى نهر الكنك الذي تحج إليه الهنود، على مسيرة عشرة من دهلي، وأمر الناس بالبناء، وكانوا قبل ذلك صنعوا خياماً من حشيش الأرض، فكانت النار كثيراً ما تقع فيها وتؤذي الناس، حتى كانوا يصنعون كهوفاً تحت الأرض، فإذا وقعت النار رموا أمتعتهم بها وسدوا عليها بالتراب. ووصلت أنا في تلك الأيام لمحلة السلطان، وكانت البلاد التي بغربي النهر حيث السلطان شديدة القحط، والبلاد التي بشرقيه خصبة، وأميرها عين الملك بن ماهر. ومنها مدينة عوض، ومدينة ظفر آباد، ومدينة اللكنو، وغيرها. وكان الأمير عين الملك كل يوم يحضر خمسين ألف من، منها قمح وأرز وحمص لعلف الدواب. فأمر السلطان أن تحمل الفيلة ومعظم الخيل والبغال إلى الجهة الشرقية المخصبة لترعى هنالك، وأوصى عين الملك بحفظها. وكان لعين الملك أربعة إخوة، وهم شهر الله ونصر الله وفضل الله، ولا أذكر اسم الآخر، فاتفقوا مع أخيهم عين الملك أن يأخذوا فيلة السلطان ودوابه، ويبايعوا عين الملك، ويقوموا على السلطان. وهرب إليهم عين الملك بالليل، وكاد الأمر يتم لهم. ومن عادة ملك الهند أنه يجعل مع كل أمير كبير أو صغير مملوكاً له يكون عيناً عليه، ويعرفه بجميع حاله، ويجعل أيضاً جواري في الدور يكن عيوناً له على أمرائه، ونسوة يسميهن الكناسات، يدخلن الدور بلا استئذان، ويخبرهن الجواري بما عندهن، فتخبر الكناسات بذلك المخبرين، فيخبر بذلك السلطان. ويذكرون أن بعض الأمراء كان في فراشه مع زوجته، فأراد مماستها، فحلفته برأس السلطان أن لا يفعل، فلم يسمع منها، فبعث إليه السلطان صباحاً، وأخبره بذلك، وكان سبب هلاكه. وكان للسلطان مملوك يعرف بابن ملك شاه، هو عين على عين الملك المذكور، فأخبر السلطان بفراره وجوازه النهر، فسقط في يده، وظن أنها القاضية عليه، لأن الخيل والفيلة والزرع كل ذلك عند عين الملك، وعساكر السلطان مفترقة، فأراد أن يقصد حضرته ويجمع العساكر، وحينئذ يأتي لقتاله. وشاور أرباب الدولة في ذلك. وكان أمراء خراسان والغرباء أشد الناس خوفاً من هذا القائم، لأنه هندي، وأهل الهند مبغضون في الغرباء، لإظهار السلطان لهم، فكرهوا ما ظهر له، وقالوا: يا خوند عالم، إن فعلت ذلك بلغه الخبر، فاشتد أمره ورتب العساكر، وانثال عليه طلاب الشر ودعاة الفتن، والأولى معالجته قبل استحكام قوته. وكان أول من تكلم بهذا ناصر الدين مطهر الأوهري، ووافقه جميعهم. ففعل السلطان بإشارتهم. وكتب تلك اللية إلى من قرب منه من الأمراء والعساكر، فأتوا من حينهم. وأدار في ذلك حيلة حسنة، فكان إذا قدم على محلته مثلاً مائة فارس، بعث الآلاف من عنده للقائهم ليلاً، ودخلوا معهم إلى المحلة، كأن جميعهم مدد له.وتحرك السلطان مع ساحل النهر، ليجعل مدينة قنوج وراء ظهره، ويتحصن بها لمنعتها وحصانتها. وبينها وبين الموضع الذي كان فيه ثلاثة أيام. فرحل أول مرحلة، وقد عبأ جيشه للحرب، وجعلهم صفاً واحداً، عند نزولهم كل واحد منهم بين يديه سلاحه وفرسه إلى جانبه، ومعه خباء صغير يأكل به ويتوضأ، ويعود إلى مجلسه. والمحلة الكبرى على بعد منهم. ولم يدخل السلطان في تلك الأيام الثلاثة خباء، ولا استظل بظلم. وكنت في يوم منها بخبائي، فصاح بي فتى من فتياني اسمه سنبل، واستعجلني، وكان معي الجواري، فخرجت إليه. فقال: إن السلطان أمر الساعة أن يقتل كل من معه امرأته أو جاريته، فشفع عنده الأمراء. فأمر أن لا تبقى الساعة بالمحلة أمرأة، وأن يحملن إلى حصن هنالك على ثلاثة أميال، يقال له كنبيل. فلم تبق امرأة بالمحلة، ولا مع السلطان. وبتنا تلك الليلة على تعبئة، فلما كان في اليوم الثاني رتب السلطان عسكره أفواجاً، وجعل مع كل فوج الفيلة المدرعة، عليها الأبراج، فوقها المقاتلة، وتدرع العسكر، وتهيأوا للحرب. وباتوا تلك الليلة على أهبة. ولما كان اليوم الثالث، بلغ الخبر بأن عين الملك الثائر جاز النهر، فخاف السلطان من ذلك، وتوقع أنه لم يفعله إلا بعد مراسلة الأمراء الباقين مع السلطان، فأمر في الحين بقسم الخيل العتاق على خواصه، وبعث لي حظاً منها. وكان لي صاحب يسمى أمير أميران الكرماني من الشجعان، فأعطيته فرساً منها أشهب اللون. فلما حركه جمح به، فلم يستطع إمساكه، ورماه عن ظهره فمات رحمه الله تعالى. وجد السلطان ذلك اليوم في مسيره، فوصل بعد العصر إلى مدينة قنوج، وكان يخاف أن يسبقه القائم إليها. وبات ليلته تلك، يرتب الناس بنفسه، ووقف علينا، ونحن في المقدمة مع ابن عمه ملك فيروز، ومعنا الأمير غدا ابن مهنا، والسيد ناصر الدين مطهر، وأمراء خراسان فأضافنا إلى خواصه وقال: أنتم أعزة علي، ينبغي أن تفارقوني. وكان في عاقبة ذلك الخير، فإن القائم ضرب في آخر الليل على المقدمة، وفيها الوزير خواجه جهان، فقامت ضجة في الناس كبيرة، فحينئذ أمر السلطان أن لا يبرح أحد من مكانه، ولا يقاتل الناس إلا بالسيوف. فاستل العسكر سيوفهم، ونهضوا إلى أصحابهم. وحمي القتال، وأمر السلطان أن يكون شعار جيشه دهلي وغزنة. فإذا لقي أحدهم فرساَ قال له: دهلي. فإن أجابه بغزنة، علم أنه من أصحابه، وإلا قاتله، وكان القائم إنما قصد أن يضرب على موضع السلطان، فأخطأ به الدليل، فقصد موضع الوزير، فضرب عنق الدليل. وكان في عسكر الوزير الأعاجم والترك والخراسانيون، وهم أعداء الهنود، فصدقوا القتال. وكان جيش القائم نحو الخمسين ألفاً، فانهزموا عند طلوع الفجر. وكان الملك إبراهيم المعروف بالبنجي " بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم " التتري قد أقطعه السلطان بلاد سنديلة، وهي قرية من بلاد عين الملك، فاتفق معه على الخلاف، وجعله نائبه. وكان داود بن قطب الملك وابن ملك التجار على فيلة السلطان وخيله فوافقاه أيضاً، وجعل داود حاجبه. وكان داود هذا لما ضربوا على محلة الوزير يجهر بسب السلطان ويشتمه أقبح شتم، والسلطان يسمع ذلك ويعرف كلامه. فلما وقعت الهزيمة قال عين الملك لنائبه إبراهيم التتري: ماذا ترى يا ملك إبراهيم ؟ قد فر أكثر العسكر وذوو النجدة منهم، فهل لك أن ننجو بأنفسنا ؟ فقال إبراهيم لأصحابه بلسانهم: إذا أراد عين الملك أن يفر، فإني سأقبض على دبوقته. فإذا فعلت ذلك، فاضربوا أنتم فرسه ليسقط إلى الأرض، فنقبض عليه، ونأتي به إلى السلطان، ليكون ذلك كفارة لذنبي في الخلاف معه، وسبباً لخلاصي. فلما أراد عين الملك الفرار، قال له إبراهيم: إلى أين يا سلطان علاء الدين ؟ وكان يسمى بذلك، وأمسك بدبوقته، وضرب أصحابه فرسه، فسقط على الأرض، ورمى إبراهيم بنفسه عليه فقبضه، وجاء أصحاب الوزير ليأخذوه فمنعهم وقال: لا أتركه حتى أوصله للوزير، أو أموت دون ذلك، فتركوه، فأوصله إلى الوزير. وكنت أنظر عند الصبح إلى الفيلة والأعلام يؤتى بها إلى السلطان. ثم جاءني بعض العراقيين فقال: قد قبض على عين الملك، وأتى به الوزير، فلم أصدقه. فلم يمر إلا يسير، وجاءني الملك تمور الشربدار فأخذ بيدي وقال: أبشر، فقد قبض على عين الملك، وهو عند الوزير. فتحرك السلطان عند ذلك ونحن معه إلى محلة عين الملك على على نهر الكنك، فنهبت العساكر ما فيها، واقتحم كثير من عسكر عين الملك النهر فغرقوا. وأخذوا داود بن قطب الملك وابن ملك التجار وخلق كثير معهم، ونهبت الأموال والخيل والأمتعة. ونزل السلطان على المجاز، وجاء الوزير بعين الملك، وقد أركب على ثور، وهوو عريان مستور العورة بخرقة مربوطة بحبل وباقية في عنقه، فوقف على باب السراجة، ودخل الوزير إلى السلطان، فأعطاه الشربة عناية به.

وجاء أبناء الملوك إلى عين الملك فجعلوا يسبونه ويبصقون في وجهه ويصفعون أصحابه. وبعث إليه السلطان الملك الكبير، فقال له: ما هذا الذي فعلت ؟ فلم يجد جواباً. فأمر به السلطان أن يكسى ثوباً من ثياب الزمالة، وقيد بأربعة كبول، وغلت يداه إلى عنقه، وسلم للوزير ليحفظه. وجاز إخوته النهر هاربين، ووصلوا مدينة عوض، فأخذوا أهلهم وأولادهم وما قدروا عليه من المال، وقالوا لزوجة أخيهم عين الملك: اخلصي بنفسك، وبنوك معنا. فقالت: أفلا أكون كنساء الكفار اللاتي يحرقن أنفسهن مع أوزواجهن ؟ فأنا أيضاً أموت لموت زوجي، وأعيش لعيشه، فتركوها. وبلغ ذلك السلطان، فكان سبب خيرها، وأدركته لها رقة، وأدرك الفتى سهيل نصر الله من أولئك الإخوة فقتله، وأتىالسلطان برأسه. وأتى بأم عين الملك وأخته وامرأته فسلمن إلى الوزير، وجعلن في خباء بقرب خباء عين الملك. فكان يدخل إليهن، ويجلس معهن، ويعود إلى محبسه. ولما كان بعد العصر من يوم الهزيمة، أمر السلطان بسراح لفيف من الناس الذي مع عين الملك من الزمالة والسوقة والعبيد ومن لا يعبأ به، وأتي بملك إبراهيم البنجي الذي ذكرناه، فقال ملك العسكر الملك نوا: يا خوند عالم، أقتل هذا، فإنه من المخالفين. فقال الوزير: إنه قد فدى نفسه بالقائم، فعفا عنه السلطان وسرحه إلى بلاده.

ولما كان بعد المغرب جلس السلطان ببرج الخشب، وأتى باثنين وستين رجلاً من كبار أصحاب القائم، وأتى بالفيلة، فطرحوا بين أيديها، فجعلت تقطعهم بالحدائد الموضوعة على أنيابها، وترمي ببعضهم إلى الهواء، وتتلقفه. والأبواق والأنفار والطبول تضرب عند ذلك، وعين الملك واقف يعاين مقتلهم، ويطرح منهم عليه، ثم أعيد إلى محبسه.

وأقام السلطان على جواز النهر أياماً لكثرة الناس وقلة القوارب. وأجاز أمتعته وخزائنه على الفيلة، وفرق الفيلة على خواصه، ليجيزوا أمتعتهم، وبعث إلي بفيل منها أجزت عليه رحلي. وقصد السلطان ونحن معه إلى مدينة بهرايج " وضبط اسمها بفتح الباء المحدة وهاء مسكن وراء وألف وياء آخر الحروف مكسورة وجيم "، وهي مدينة في عدوة نهر السرو، وهو واد كبير شديد الانحدار، وأجازه السلطان برسم زيارة قبر الشيخ الصالح البطل سالار عود، الذي فتح أكثر تلك البلاد، وله أخبار عجيبة وغزوات شهيرة. وتكاثر الناس للجواز وتزاحموا، حتى غرق مركب كبير كان فيه نحو ثلاثمائة نفس، لم ينج منهم إلا أعرابي من أصحاب الأمير غدا، وكنا ركبنا نحن مركباً صغيراً، فسلمنا الله تعالى. وكان العربي الذي سلم من الغرق يسمى بسالم، وذلك اتفاق عجيب.

وكان أراد أن يصعد معنا في مركبنا، فوجدنا قد ركبنا النهر، فركب في المركب الذي غرق. فلما خرج، ظن الناس أنه كان معنا. فقامت ضجة في أصحابنا وفي سائر الناس، وتوهموا أنا غرقنا. ثم لما رأونا بعد استبشروا بسلامتنا. وزرنا قبر الصالح المذكور، وهو في قبة لم نجد سبيلاً إلى دخولها لكثرة الزحام. وفي تلك الوجهة دخلنا غيضة قصب، فخرج علينا منها الكركدن، فقتل وأتى الناس برأسه. وهو دون الفيل، ورأسه أكبر من رأس الفيل بأضعاف، وقد ذكرناه.

ذكر عودة السلطان لحضرته ومخالفة علي شاه كر

ولما ظفر السلطان بعين الملك كما ذكرنا، عاد إلى حضرته بعد مغيب عامين ونصف، وعفا عن عين الملك، وعفا أيضاً عن نصرة خان القائم ببلاد التلنك، وجعلهما معا على عمل واحد، وهو النظر على بساتين السلطان. وكساهما وأركبهما، وعين لهما نفقة من الدقيق واللحم في كل يوم. وبلغ الخبر بعد ذلك أن أحد أصحاب قطلوخان، وهو علي شاه كر، ومعنى كر الأطرش، خالف على السلطان. وكان شجاعاً حسن الصورة والسيرة، فغلب على بدر كوت، وجعلها مدينة ملكه. وخرجت العساكر إليه، وأمر السلطان معلمه أن يخرج إلى قتاله، فخرج في عساكر عظيمة، وحصره ببدر كوت، ونقبت أبراجها، واشتدت به الحال، فطلب الأمان فأمنه قطلوخان، وبعث به إلى السلطان مقيداً، فعفا عنه ونفاه إلى مدينة غزنة من طرف خراسان، فأقام بها مدة. ثم اشتاق إلى وطنه، فأراد العودة إليه، لما قضاه الله من حينه، فقبض عليه ببلاد السند، وأتي به السلطان. فقال له: إنما جئت لتثير الفساد ثانية، وأمر به فضربت عنقه.

ذكر فرار أمير بخت وأخذه

وكان السلطان قد وجد على أمير بخت الملقب بشرف الملك، أحد الذين وفدوا معنا على السلطان، فحط مرتبه من أربعين ألفاً إلى ألف واحد، وبعثه في خدمة الوزير إلى دهلي. فاتفق أن مات أمير عبد الله الهروي في الوباء في التلنك، وكان ماله عند أصحابه بدهلي، فاتفقوا مع أمير بخت على الهروب. فلما خرج الوزير من دهلي إلى لقاء السلطان، هربوا مع أمير بخت وأصحابه، ووصلوا إلى أرض السند في سبعة أيام، وهو مسيرة أربعين يوماً وكان معهم الخيل مجنوبة، وعزموا على أن يقطعوا نهر السند عوماً، ويركب أمير بخت وولده ومن لا يحسن العوم في معدية قصب يصنعونها، وكانوا قد أعدوا حبالاً من الحرير برسم ذلك. فلما وصلوا إلى النهر خافوا من عبوره بالعوم، فبعثوا رجلين منهم إلى جلال الدين صاحب مدينة أوجه، فقالا له: إن ها هنا تجاراً أرادوا أن يعبروا النهر، وقد بعثوا إليك بهذا السرج، لتبيح لهم الجواز، فأنكر أمير أن يعطى التجار مثل ذلك السرج، وأمر بالقبض على الرجلين. ففر أحدهما، ولحق بشرف الملك وأصحابه، وهم نيام لما لحقهم من الإعياء ومواصلة السهر، فأخبرهم الخبر، فركبوا مذعورين وفروا، وأمر جلال الدين نائبه، فركب في العسكر، وقصدوا نحوهم. فوجدوهم قد ركبوا، فاقتفوا أثرهم فأدركوهم. فرموا العسكر بالنشاب، ورمى طاهر بن شرف الملك نائب الأمير جلال الدين بسهم، فأثبته في ذراعه، وغلب عليهم، فأتى بهم إلى جلال الدين، فقيدهم وغل أيديهم، وكتب إلى الوزير في شأنهم. فأمر الوزير أن يبعثهم إلى الحضرة، فبعثهم إليها. وسجنوا بها، فمات طاهر في السجن. فأمر السلطان أن يضرب شرف الملك مائة مقرعة في كل يوم، فبقي على ذلك مدة، ثم عفا عنه. وبعثه مع الأمير نظام الدين أمير نجلة إلى بلاد جنديري، فانتهت حاله إلى أن كان يركب البقر، ولم يكن له فرسه يركبه. وأقام على ذلك مدة، ثم وفد ذلك الامير على السلطان وهو معه. فجعله السلطان شاشنكير " جاشنكير "، وهو الذي يقطع اللحم بين يدي السلطان. ويمشي مع الطعام. ثم إنه بعد ذلك نوه به ورفع مقداره. وانتهت حاله إلى أن مرض. فزاره السلطان وأمر بوزنه بالذهب، وأعطاه ذلك. وقد قدمنا هذه الحكاية في السفر الأول. وبعد ذلك زوجه بأخته وأعطاه بلاد جنديري التي كان بها البقر في خدمة الأمير نظام الدين. فسبحان مقلب الأرض ومحول الأحوال.

ذكر خلاف شاه أفغان بأرض السند

وكان شاه أفغان خالف على السلطان بأرض ملتان من بلاد السند، وقتل الأمير بها، وكان يسمى به زاد، وادعى السلطنة لنفسه. وتجهز السلطان لقتاله، فعلم أنه لا يقاومه. فهرب ولحق بقومه الأفغان، وهم ساكنون بجبال منيعة لا يقدر عليها، فاغتاظ السلطان مما فعله، وكتب إلى عماله أن يقبضوا على من وجدوه من الأفغان ببلاده، فكان ذلك سبباً لخلاف القاضي جلال.

ذكر خلاف القاضي جلال

وكان القاضي جلال وجماعة من الأفغانيين قاطنين بمقربة من مدينة كنباية ومدينة بلوذرة، فلما كتب السلطان إلى عماله بالقبض على الأفغانيين كتب إلى ملك مقبل نائب الوزير ببلاد الجزرات ونهر واله، أن يحتال في القبض على القاضي جلابل ومن معه. وكانت بلاد بلوذرة إقطاعاً لملك الحكماء، وكان ملك الحكماء متزوجاً بربيبة السلطان زوجة أبيه تغلق، ولها بنت من تغلق هي التي تزوجها الأمير غدا. وملك الحكماء إذ ذاك في صحبة مقبل، لأن بلاده تحت نظره. فلما وصلوا إلى بلاد الجزرات أمر مقبل ملك الحكماء أن يأتي بالقاضي جلال وأصحابه. فلما وصل ملك الحكماء إلى بلاده حذرهم في خفية، لأنهم كانوا من أهل بلاده، وقال: إن مقبلاً طلبكم ليقبض عليكم فلا تدخلوا عليه إلا بالسلاح، فركبوا في نحو ثلاثمائة مدرع وأتوه وقالوا: لا ندخل إلا جملة. فظهر له أنه لا يمكن القبض عليهم وهم مجتمعون، وخاف منهم. فأمرهم الرجوع، وأظهر تأمينهم. فخلفوا عليه، ودخلوا مدينة كنباية، ونهبوا خزانة السلطان بها، وأموال الناس، ونهبوا مال ابن الكومي التاجر، وهو الذي عمر المدرسة الحسنة بإسكندرية، وسنذكره إثر هذا. وجاء ملك مقبل لقتالهم فهزموه هزيمة شنيعة. وجاء الملك عزيز الخمار والملك جهان بنبل لقتالهم في سبعة آلاف من الفرسان، فهزموه أيضاً، وتسامع بهم أهل الفساد والجرائم فانثالوا عليهم. وادعى القاضي جلال السلطنة، وبايعه أصحابه. وبعث السلطان إليه العساكر فهزمها. وكان بدولة أباد جماعة من الأفغان فخالفوا أيضاً.

ذكر خلاف ابن الملك مل

وكان ابن الملك مل ساكناً بدولة آباد في بعض من الأفغان، فكتب السلطان إلى نائبه بها، وهو نظام الدين أخو معلمه قطلوخان أن يقبض عليهم، وبعث إليه بأجمال كثيرة من القيود والسلاسل، وبعث بخلع الشتاء. وعادة ملك الهند أن يبعث لكل أمير على مدينة، ولوجوه جنده خلعتين في السنة: واحدة للشتاء والثانية للصيف. وإذا جاءت الخلع، يخرج الأمير والجند للقائها. فإذا وصولوا إلى الآتي بها نزلوا عن دوابهم، وأخذ كل واحد خلعته، وحملها على كتفه وخدم لجهة السلطان. وكتب السلطان لنظام الدين إذا خرج الأفغان ونزلوا عن دوابهم لأخذ الخلع فاقبض عليهم عند ذلك. وأتى أحد الفرسان الذين أوصلوا الخلع إلى الأفغان، فأخبرهم بما يراد بهم. فكان نظام الدين ممن احتال، فانعكست عليه، فركب وركب الأفغان معه حتى إذا لقوا الخلع، ونزل نظام الدين عن فرسه، حملوا عليه وأصحابه، فقبضوا عليه وقتلوا كثيراً من أصحابه، ودخلوا المدينة فاستولوا على الخزائن، وقدموا على أنفسهم ناصر الدين ابن ملك مل، وانثال عليهم المفسدون، فقويت شوكتهم.

ذكر خروج السلطان بنفسه إلى كنباية

ولما علم السلطان ما فعله الأفغان بكنباية ودولة آباد، خرج بنفسه، وعزم أن يبدأ بكنباية، ثم يعود إلى دولة آباد. وبعث أعظم ملك البايزيدي صهره في أربعة آلاف مقدمة، فاستقبله جند القاضي جلال، فهزموه وحصروه ببلوذرة، وقاتلوه بها. وكان في جند القاضي جلال شيخ يسمى جلول، وهو أحد الشجعان. فلا يزال يفتك في الجند ويقتل، ويطلب المبارزة فلا يتجاسر أحد على مبارزته. واتفق يوماً أنه دفع فرسه، فكبا به في حفرة فسقط عنه وقتل. ووجدوا عليه درعين، فبعثوا برأسه إلى السلطان، وصلبوا جسده بسور بلوذرة، وبعثوا يديه ورجليه إلى البلاد. ثم وصل السلطان بجنده فلم يكن للقاضي جلال من ثبات، ففر في أصحابه، وتركوا أموالهم وأولادهم، فنهب ذلك كله، ودخلت المدينة، وأقام بها السلطان أياماً ثم رحل عنها، وترك بها صهره شرف الملك أمير بخت الذي قدمنا ذكره، وقضية فراره وأخذه بالسند وسجنه، وما جرى له من الذل، ثم من العز. وأمره بالبحث عمن كان في طاعة جلال الدين، وترك معه الفقهاء ليحكم بأقوالهم. فأدى ذلك إلى قتل الشيخ علي الحيدري حسبما قدمناه. ولما هرب القاضي جلال لحق بناصر الدين ملك مل بدولة آباد، ودخل في جملته. فأتى السلطان بنفسه إليهم، واجتمعوا في نحو أربعين ألفاً من الأفغان والترك والهنود والعبيد، وتحالفوا على أن لا يفروا، وأن يقاتلوا السلطان. وأتى السلطان لقتالهم ولم يرفع الشطر الذي هو علامته. فلما استحر القتال رفع الشطر، ولما عاينوه دهشوا وانهزموا أقبح هزيمة. ولجأ ابن ملك مل والقاضي جلال في نحو أربعمائة من خواصهما إلى قلعة الدويقير، وسنذكرها وهي من أمنع القلاع في الدنيا، واستقر السلطان بمدينة دولة آباد والدويقير هي قلعتها. وبعث لهم أن ينزلوا على حكمه فأبوا أن ينزلوا إلاعلى الأمان. فأبى السلطان أن يؤمنهم، وبعث لهم الأطعمة تهاوناً بهم، وأقام هنالك. وهذا آخر عهدي بهم.

ذكر قتال مقبل وابن الكولمي

وكان ذلك قبل خروج القاضي جلال وخلافه. وكان تاج الدين الكولمي من كبار التجار، فنزل على السلطان من أرض الترك بهدايا جليلة، منها المماليك والجمال والمتاع والسلاح والثياب. فأعجب السلطان فعله وأعطاه اثني عشر لكاً، ويذكر أنه لم تكن قيمة هديته إلا لكاً واحداً. وولاه مدينة كنباية. وكانت لنظر الملك المقبل نائب الوزير، ووصل إليها، وبعث السفن إلى بلاد المليبار وجزيرة سيلان وغيرها. وجاءته التحف والهدايا في السفن، وعظمت حاله، ولما لم يبعث أموال تلك الجهات إلى الحضرة، بعث الملك مقبل إلى ابن الكولمي أن يبعث ما عنده من الهدايا والأموال مع هدايا تلك الجهات على العادة. امتنع ابن الكولمي عن ذلك وقال: أنا أحملها بنفسي، أو أبعثها مع خدامي، ولا حكم لنائب الوزير علي ولا للوزير، واغتر بما أولاه السلطان من الكرامة والعطية. فكتب مقبل إلى الوزير بذلك، فوقع له الوزير على ظهر كتابه: إن كنت عاجزاً عن بلادنا فاتركها وراجع إلينا.

ولما وصله الجواب تجهز في جنده ومماليكه، والتقيا بظاهر كنباية. فانهزم الكولمي، وقتل جملة من الفريقين. واستخفى ابن الكولمي في دار الناخوذة " الناخذا "، إلياس أحد كبراء التجار.
ودخل مقبلٌ المدينة فضرب رقاب جند ابن الكولمي، وبعث له الأمان نظير أن يأخذ ماله المختص به ويترك مال السلطان وهديته ومجبى البلد، وبعث مقبل بذلك كله مع خدامه إلى السلطان، وكتب شاكياً من ابن الكولمي، وكتب ابن الكولمي شاكياً منه. وبعث السلطان ملك الحكماء ليتنصف بينهما. وبأثر ذلك كان خروج القاضي جلال الدين. فنهب مال ابن الكولمي، وهرب ابن الكولمي في بعض مماليكه ولحق بالسلطان.

ذكر الغلاء الواقع بأرض الهند

وفي مدة غياب السلطان عن حضرته، إذ خرج يقصد بلاد المعبر، وقع الغلاء، واشتد الأمر، وانتهى المن إلى ستين درهماً، ثم زاد على ذلك. وضاقت الأحوال، وعظم الخطب، ولقد خرجت مرة إلى لقاء الوزير، فرأيت ثلاث نسوة يقطعن قطعاً من جلد فرس مات منذ أشهر ويأكلنه. وكانت الجلود تطبخ وتباع في الأسواق. وكان الناس إذا ذبحت البقر، أخذوا دماءها فأكلوها. وحدثني بعض طلبة خراسان أنهم دخلوا بلدة تسمى أكروهة، بين حانسي وسرستي فوجدوها خالية، فقصدوا بعض المنازل ليبيتو به، فوجدوا في بعض بيوته رجلاً قد أضرم ناراً، وبيده رجل آدمي، وهو يشويها في النار ويأكل منها، والعياذ بالله. ولما اشتد الحال، أمر السلطان أن يعطى لجميع أهل دهلي نفطة ستة أشهر. فكانت القضاة والكتاب والأمراء يطوفون بالأزقة والحارات، ويكتبون الناس، ويعطون لكل أحد نفقة ستة أشهر، بحساب رطل ونصف من أرطال المغرب في اليوم لكل واحد. وكنت في تلك المدة أطعم الناس من الطعام الذي أصنعه بمقبرة السلطان قطب الدين، حسبما يذكر، فكان الناس ينتعشون بذلك. و الله تعالى ينفع بالقصد فيه. وإذ قد ذكرنا من أخبار السلطان، وما كان في أيامه من الحوادث ما فيه الكفاية، فلنعد إلى ما يخصنا من ذلك، ونذكر كيفية وصولنا أولاً إلى حضرته، وتنقل الحال إلى خروجنا عن الخدمة، ثم خروجنا عن السلطان في الرسالة إلى الصين، وعودنا منها إلى بلادنا، إن شاء الله تعالى.

ذكر وصولنا إلى دار السلطان وعند قدومنا وهو غائب

ولما دخلنا حضرة دهلي قصدنا باب السلطان، ودخلنا الباب الأول ثم الثاني والثالث، ووجدنا عليه النقباء، وقد تقدم ذكرهم. فلما وصلنا إليهم تقدم بنا نقيبهم إلى مشور عظيم متسع، فوجدنا به الوزير خواجه جهان ينتظرنا. فتقدم ضياء الدين خداوند زاده، ثم تلا أخوه قوام الدين، ثم أخوهما عماد الدين، ثم تلوتهم، ثم تلاني أخوهم برهان الدين، ثم الأمير مبارك السمرقندي، ثم أرون بغا التركي، ثم ملك زاده ابن أخت خدواند زاده، ثم بدر الدين الفصال.

ولما دخلنا من الباب الثالث ظهر لنا المشور الكبير المسمى هزار اسطون " استون " ومعنى ذلك ألف سارية، وبه يجلس السلطان الجلوس العام. فخدم الوزير عند ذلك حتى قرب رأسه من الأرض، وخدمنا نحن بالركوع، وأوصلنا أصابعنا إلى الأرض، وخدمتنا لناحية سرير السلطان، وخدم جميع من معنا. فلما فرغنا من الخدمة، صاح النقباء بأصوات عالية: بسم الله، وخرجنا.

ذكر وصولنا لدار أم السلطان وذكر فضائلها

وأم السلطان تدعى المخدومة جهان، وهي من أفضل النساء، كثيرة الصدقات، عمرت زوايا كثيرة، وجعلت فيها الطعام للوارد والصادر. وهي مكفوفة البصر، وسبب ذلك انه لما ملك ابنها، جاء إليها جميع الخواتين وبنات الملوك والأمراء في أحسن زي، وهي على سرير الذهب المرصع بالجوهر، فخدمن بين يديها جميعاً، فذهب بصرها للحين، وعولجت بأنواع العلاج فلم ينفع. وولدها أشد الناس براً بها. ومن بره أنها سافرت معه مرة فقدم السلطان قبلها بمدة، فلما قدمت خرج لاستقبالها، وترجل عن فرسه وقبل رجلها، وهي في المحفة بمرأى من الناس أجمعين.

ولنعد لما قصدناه فنقول، ولما انصرفنا عن دار السلطان خرج الوزير ونحن معه إلى باب الصرف، وهم يسمونه باب الحرم، وهنالك سكنى المخدومة جهان. فلما وصلنا بابها نزلنا عن الدواب، وكل واحد منا قد أتى بهدية على قدر حاله.

ودخل معنا قاضي قضاة المماليك كمال الدين بن البرهان، فخدم الوزير والقاضي عند بابها، وخدمنا كخدمتهم، وكتب كاتب بابها هدايانا. ثم رجعوا إلى الوزير، ثم عادوا إلى القصر، ونحن وقوف. ثم أمرنا بالجلوس في سقيف هنالك، ثم أتوا بالطعام، وأوتوا بقلال من الذهب يسمونها السين " بضم السين والياء أخر الحروف "، وهي مثل القدور، ولها مرافع من الذهب تجلس عليها، يسمونها السبك " بضم السين وضم الباء الموحدة " وأتوا بأقداح وطسوت وأباريق كلها ذهب، وجعلوا الطعام سماطين، وعلى كل سماط صفان. ويكون في رأس الصف كبير القوم الواردين. ولما تقدمنا للطعام، خدم الحجاب والنقباء، وخدمنا لخدمتهم. ثم أتوا بالشربة فشربنا. وقال الحجاب: بسم الله، ثم أكلنا، وأتوا بالفقاع والتنبول. وقال الحجاب: بسم الله، فخدمنا جميعاً. ثم دعينا إلى موضع هنالك، فخلع علينا حلل الحرير المذهبة، وأتوا بنا إلى باب القصر، تحت ثياب غير مخيطة من حرير وكتان. فأعطي كل واحد منا نصيبه منها. ثم أتوا بطيفور ذهب فيه الفاكهة اليابسة، وبطيفور مثله فيه الجلاب، وطيفور ثالث فيه التنبول. ومن عادتهم أن الذي يخرج له ذلك، يأخذ الطيفور بيده، ويجعله على كاهله، ويخدمه بيده الثانية إلى الأرض. فأخذ الوزير الطيفور بيده قصد أن يعلمني كيف أفعل إيناساً منه وتواضعاً ومبرة، جزاه الله الخير. ففعلت كما فعل، وانصرفنا إلى الدار المعدة لنزولنا بمدينة دهلي، وبمقربة من دروازة بالم منها، وبعث لنا الضيافة.

ذكر الضيافة

ولما وصلت إلى الدار التي أعدت لنزولي وجدت فيها ما يحتاج إليه من فرش وبسط وحصر وأوان وسرير الرقاد، وأسرتهم بالهند خفيفة الحمل، يحمل السرير منها الرجل الواحد ولا بد لكل أحد أن يستصحب السرير في السفر، يحمله غلامه على رأسه، وهو أربع قوائم مخروطة، يعرض عليها أربعة أعواد، وتنسج عليها ضفائر من الحرير والقطن، فإذا نام الانسان عليه لم يحتج إلى ما يرطبه به، لأنه يعطي الرطوبة من ذاته. وجاءوا مع السرير بمضربين ومخدتين ولحاف، كل ذلك من الحرير وعادتهم أن يجعلوا للمضربات واللحوف " اللحف " وجوهاً تغشيها وأتوا تلك الليلة برجلين أحدهما الطاحوني ويسمونه الخراص والثاني الجزار ويسمونه القصاب فقالوا لنا خذوا من هذا كذا وكذا من الدقيق، ومن هذا كذا وكذا من اللحم، لأوزان لا أذكرها الآن وعادتهم أن يكون اللحم الذي يعطون بقدر وزن الدقيق، وهذا الذي ذكرناه في ضيافة أم السلطان، وبعدها وصلتنا ضيافة السلطان وسنذكرها. ولما كان من غير ذلك اليوم ركبنا إلى دار السلطان، وسلمنا على الوزير، فأعطاني بدرتين، كل بدرة من ألف دينار دراهم، وقال لي: هذه سر ششتي " شستي " ومعناه لغسل رأسك، وأعطاني خلعة من المرعز، وكتب جميع أصحابي وخدامي وغلماني، فجعلوا أربعة أصناف: فالصنف الأول منها أعطي كل واحد منها مائتي دينار، والصنف الثاني أعطي كل واحد منهم مائة وخمسين ديناراً والصنف الثالث أعطي كل واحد مائة دينار، والصنف الرابع أعطي كل واحد خمسة وسبعين ديناراً، وكانوا نحو أربعين وكان جملة ما أعطوه أربعة آلاف دينار ونيفاً، وبعد ذلك عينت ضيافة السلطان، وهي ألف رطل هندية من الدقيق، ثلثها من الميرا وهو الدرمك، وثلثاها من الخشكار وهو المدهون، وألف رطل من اللحم، ومن السكر والسمن والسليف والفوفل أرطال كثيرة، لا أذكر عددها والألف من ورق التنبول والرطل الهندي عشرون رطلاً من أرطال المغرب، وخمسة وعشرون من أرطال مصر، وكانت ضيافة خداوند زاده أربعة آلاف رطل من الدقيق، ومثلها من اللحم، مع ما يناسبها مما ذكرناه.

ذكر وفاة بنتي وما فعلوا في ذلك ولما كان بعد شهر ونصف من مقدمنا توفيت بنت لي سنها دون السنة. فاتصل خبر وفاتها بالوزير، فأمر أن تدفن في زاوية بناها خارج دروازة بالم، بقرب مقبرة هنالك لشيخنا إبراهيم القونوي، فدفناها بها وكتب بخبرها إلى السلطان فأتاه الجواب في عشي اليوم الثاني، وكان بين متصيد السلطان وبين الحضرة مسيرة عشرة أيام وعادتهم أن يخرجوا إلى قبر الميت صبيحة الثالث من دفنه، ويفرشون جوانب القبر بالبسط وثياب الحرير، ويجعلون على القبر الأزاهير، وهي لا تنقطع هنالك في فصل من الفصول كالياسمين وقل شبه " كل شبو " وهي زهر أصفر، وريبول وهو أبيض، والنسرين وهو على صنفين أبيض وأصفر، ويجعلون أغصان النارنج والليمون بثمارها، وإن لم يكن فيها ثمار علقوا منها حبات بالخيوط، ويصبون على القبر الفواكه اليابسة وجوز النارجيل، ويجتمع الناس ويؤتى بالمصاحف فيقرأون القرآن، فإذا ختموا أتوا بماء الجلاب فسقوه الناس، ثم يصب عليهم ماء الورد صباً، ويعطون التنبول وينصرفون. ولما كان صبيحة الثالث من دفن هذه البنت، خرجت الصبح على العادة، وأعددت ما تيسر من ذلك كله، فوجدت الوزير قد أمر بترتيب ذلك، وأمر بسراجة فضربت على القبر، وجاء الحاجب شمس الدين الفوشنجي الذي تلقانا بالسند، والقاضي نظام الدين الكرواني وجملة من كبار أهل المدينة، ولم آت إلا والقوم المذكورون، قد أخذوا مجالسهم، والحاجب بين أيديهم، وهم يقرأون القرآن فقعدت مع أصحابي بمقربة من القبر. فلما فرغوا من القرأة، قرأ القراء بأصوات حسان، ثم قام القاضي فقرأ رثاء في البنت المتوفاة، وثناء على السلطان. وعند ذكر اسمه قام الناس جميعاً قياماً فخدموا ثم جلسوا، ودعا القاضي دعاء حسناً، ثم أخذ الحاجب وأصحابه براميل ماء الورد وصبوا على الناس، ثم داروا عليهم بأقداح شربة النبات، ثم فرقوا عليهم التنبول، ثم أتي بإحدى عشرة خلعة لي ولأصحابي ثم ركب الحاجب وركبنا معه إلى دار السلطان، فخدمنا للسرير على العادة، وانصرفت إلى منزلي فما وصلت إلا وقد جاء الطعام من دار المخدومة جهان، ما ملأ الدار ودور أصحابي، وأكلوا جميعاً، وأكل المساكين. وفضلت الأقراص والحلواء والنبات، فأقمت بقاياها أياماً، وكان فعل ذلك كله بأمر السلطان. وبعد أيام جاء الفتيان من دار المخدومة جهان بالدولة وهي المحفة التي يحمل فيها النساء، ويركبها الرجال وهي شبه السرير، سطحها من ضفائر الحرير والقطن، وعليها عود شبه الذي على البوجات عندنا، معوج من القصب الهندي المغلوق، ويحملها ثمانية رجال في نوبتين: يستريح أربعة، ويحمل أربعة، وهذه الدول بالهند كالحمير بديار مصر، عليها ينصرف أكثر الناس فمن كان له عبيداً حملوه، ومن لم يكن له عبيد اكترى رجالاً يحملونه. وبالبلد منهم جماعة يسيرة، يقفون في الأسواق وعند باب السلطان، وعند أبواب الناس للكري، وتكون دول النساء مغشاة بغشاء حرير. وكذلك كانت هذه الدولة التي أتى الفتيان بها من دار أم السلطان، فحملوا فيها جاريتي، وهي أم البنت المتوفاة وبعثت أنا معها عن هدية جارية تركية فاقامت الجارية أم البنت عندهم ليلة، وجاءت في اليوم الثاني وقد أعطوها ألف دينار دراهم، وأساور ذهب مرصعة، وتهليلاً من الذهب مرصعاً وقميص كتان مزركشاً بالذهب وخلعة حرير مذهبة وتختاً بأثواب ولما جاءت بذلك أعطيته لأصحابي وللتجار الذين لهم علي الدين، محافظة على نفسي، وصوناً لعرضي لأن المخبرين يكتبون إلى السلطان بجميع أحوالي.

ذكر إحسان السلطان والوزير في أيام غيبة السلطان عن الحضرة

وفي أثناء إقامتي أمر السلطان أن يعين لي من القرى ما يكون فائدة خمسة آلاف دينار في السنة، فعينها لي الوزير وأهل الديوان، وخرجت إليها فمنها قرية تسمى بدلي " بفتح الباء الموحدة وفتح الدال المهملة وكسر اللام " وقرية تسمى بسهي " بفتح الباء الموحدة والسين المهمل وكسر الهاء " ونصف قرية تسمى بلرة " بفتح الباء الموحدة واللام والراء "، وهذه القرى على مسافة ستة عشر كروهاً، وهو الميل، بصدي يعرف بصدي هندبت، والصدي عندهم مجموع مائة قرية من قرى بلاد الهند، وأحواز المدينة مقسومة أصداء، وكل صدي له جوطري، وهو شيخ من كفار تلك البلاد، ومتصرف، وهو الذي يضم مجابيها. وكان قد وصل في ذلك الوقت سبي من الكفار، فبعث الوزير إلي عشر جوار منه، فأعطيت الذي جاء بهن واحدة منهن، فلما رضي بذلك، وأخذ أصحابي ثلاثاً صغاراً منهن، وباقيهن لا أعرف ما اتفق لهن. والسبي هنالك رخيص الثمن، لأنهن قذرات لا يعرفن مصالح الحضر، والمعلمات رخيصات الأثمان، فلا يفتقر أحد إلى شراء السبي. والكفار ببلاد الهند في بر متصل وبلاد متصلة مع المسلمين والمسلمون غالبون عليهم وإنما يمتنع الكفار بالجبال والأوعار، ولهم غيضات من القصب، وقصبهم غير مجوف، ويعظم ويلتف بعضه على بعض، ولا تؤثر فيه النار، وله قوة عظيمة فيسكنون تلك الغياض، وهي لهم مثل السور، وبداخلها تكون مواشيهم وزروعهم، ولهم فيها المياه مما يجتمع من ماء المطر فلا يقدر عليهم الا بالعساكر القوية من الرجال الذين يدخلون تلك الغياض، ويقطعون تلك القصب بآلات معدة لذلك.

ذكر العيد الذي شهدته أيام غيبة السلطان

 وأطل عيد الفطر، والسلطان لم يعد بعد إلى الحضرة، فلما كان يوم العيد ركب الخطيب على الفيل، وقد مهد له على ظهره شبه السرير، وركزت أربعة أعلام في أركانه الأربعة، وليس الخطيب ثياب السود، وركب المؤذنون على الفيلة يكبرون أمامه، وفقهاء المدينة وقضاتها وكل واحد يستصحب صدقة يتصدق بها حين الخروج إلى المصلى ونصب على المصلى صيوان قطن، وفرش ببسط، واتجمع الناس ذاكرين الله تعالى. ثم صلى بهم الخطيب وخطب وانصرف الناس إلى منازلهم، وانصرفنا إلى دار السلطان وجعل الطعام، فحضره الملوك والأمراء، والأعزة وهم الغرباء، وأكلوا وانصرفوا.

ذكر قدوم السلطان ولقائنا له

ولما كان في رابع شوال نزل السلطان بقصر اسمه تلبت "بكسر التاء المعلوة الأولى وسكون اللام وفتح الباء الموحدة ثم تاء كالأولى "، وهي على مسافة سبعة أميال من الحضرة فأمرنا الوزير بالخروج اليه فخرجنا، ومع كل انسان هديته من الخيل والجمال والفواكه الخراسانية والسيوف المصرية والمماليك والغنم المجلوبة من بلاد الأتراك فوصلنا إلى باب القصر واجتمع جميع القادمين فكانوا يدخلون إلى السلطان على قدر مراتبهم، ويخلع عليهم ثياب الكتان المزركشة بالذهب، ولما وصلت إلى النوبة، دخلت فوجدته قاعداً على كرسي، فظننته أحد الحجاب حتى رأيت معه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكنت عرفته أيام غيبة السلطان، فخدم الحاجب، فخدمت واستقبلني أمير حاجب، وهو ابن عم السلطان فيروز، وخدمت ثانية لخدمته، ثم قال لي ملك الندماء بسم الله، مولانا بدر الدين. وكانوا يدعونني بأرض الهند بدر الدين وكل من كان من أهل الطلب إنما يقال له مولانا فقربت من السلطان حتى أخذ بيدي وصافحني وأمسك يدي وجعل يخطابني بأحسن خطاب، ويقول لي بالفارسي، حلت البركة، قدومك مبارك، اجمع خاطرك، اعمل معك من المراحم، وأعطيك من الأنعام، ما يسمع به أهل بلادك، فيأتون إليك. ثم سألني عن بلادي فقلت له: بلاد المغرب فقال لي: بلاد عبد المؤمن ؟ فقلت له: نعم. وكان كلما قال لي كلاماً جيداً قبلت يده حتى قبلتها سبع مرات. وخلع علي، وانصرفت واجتمع الواردون، فمد لهم سماط. ووقف على رؤوسهم قاضي القضاة صدر الجهان كمال الدين الغزنوي، وعماد الملك عرض المماليك، والملك جلال الدين الكيجي، وجماعة من الحجاب والامراء، وحضر كذلك خداوند زاده غياث الدين، ابن عم خداوند زاده قوام الدين قاضي ترمذ الذي قدم معنا، وكان السلطان يعظمه ويخاطبه بالأخ وتردد إليه مراراً من بلاده. والواردون الذين خلع عليهم في ذلك اليوم هم خداوند زاده قوام الدين وإخوته ضياء الدين وعماد الدين وبرهان الدين وابن أخيه أمير بخت ابن السيد تاج الدين، وكان جده وجيه الدين وزير خراسان، وكان خاله علاء الدين أمير هند ووزيراً أيضاً، والأمير هبة الله ابن الفلكي التبريزي، وكان أبوه نائب الوزير بالعراق، وهو الذي بنى المدرسة الفلكية بتبريز، وملك كراي من أولاد بهرام جور " جوبين " صاحب كسرى، وهو من أهل جبل بدخشان الذي منه يجلب الياقوت البلخش واللازورد، والأمير مبارك شاه السمرقندي، وأرون بغا البخاري، وملك زاده الترمذي، وشهاب الدين الكازروني، التاجر الذي قدم تبريز بالهدية إلى السلطان فسلب في طريقه.

ذكر دخول السلطان إلى حضرته وما أمر لنا به من المراكب

وفي الغد من يوم خروجنا إلى السلطان أعطي كل واحد منا فرساً من مراكب السلطان، عليه سرج ولجام محليان وركب السلطان لدخول حضرته، وركبنا في مقدمته مع صدر الجهان، وزينت الفيلة أمام السلطان، وجعلت عليها الأعلام، ورفعت عليها ستة عشر شطراً، منها مزركشة، ومنها مرصعة، ورفع فوق رأس السلطان شطرٌ منها، وحملت أمامه الغاشية، وهي ستارة مرصعة، وجعل على بعض الفيلة رعادات صغار، فلما وصل السلطان إلى قرب المدينة، قذف في تلك الرعادات بالدنانير والدراهم مختلطة، والمشاة بين يدي السلطان وسواهم ممن حضر يلتقطون ذلك. ولم يزالوا ينثرونها إلى أن وصلوا القصر وكان بين يديه آلاف من المشاة على الأقدام وصنعت قباب الخشب المكسوة بثياب الحرير، وفيها المغنيات حسبما ذكرنا ذلك.

ذكر دخولنا اليه وما أنعم به من الإحسان والولاية

ولما كان يوم الجمعة، ثاني يوم دخول السلطان، أتينا باب المشور، فجلسنا في سقائف الباب الثالث، ولم يكن الإذن حصل لنا بالدخول، وخرج الحاجب شمس الدين الفوشنجي، فأمر الكتاب أن يكتبوا أسماءنا، وأذن لهم في دخولنا، ودخول بعض أصحابنا، وعين للدخول معي ثمانية، فدخلنا ودخلوا معنا، ثم جاءوا بالبدر والقبان، وهو الميزان، وقعد قاضي القضاة والكتاب، ودعوا من بالباب من الأعزة وهم الغرباء، فعينوا لكل نصيبه من تلك البدر، فحصل لي خمسة آلاف دينار وكان مبلغ المال مائة ألف دينار، تصدقت به أم السلطان لما قدم ابنها، وانصرفنا ذلك اليوم وكان السلطان بعد ذلك يستدعينا للطعام بين يديه، ويسأل عن أحوالنا، ويخاطبنا بأجمل الكلام ولقد قال لنا في بعض الأيام: أنتم شرفتمونا بقدومكم فما نقدر على مكافأتكم فالكبير منكم مقام والدي، والكهل مقام أخي، والصغير مقام ولدي، وما في ملكي أعظم من مدينتي هذه أعطيكم إياها فشكرناه ودعونا له.

ثم بعد ذلك أمر لنا بالمرتبات فعين لي اثني عشر ألف دينار في السنة، وزادني قريتين على الثلاث التي أمر لي بها قبل، إحداهما قرية جوزة، والثانية قرية ملك بور، وفي بعض الأيام بعث لنا خداوند زاده، وغياث الدين وقطب الملك صاحب السند فقالا لنا: إن خوند عالم يقول لكم: من كان منكم يصلح للوزارة أو الكتابة أو الإمارة أو القضاة أو التدريس أو المشيخة، أعطيته ذلك فسكت الجميع لأنهم كانوا يريدون تحصيل الأموال والانصراف إلى بلادهم، وتكلم أمير بخت ابن السيد تاج الدين الذي تقدم ذكره فقال: أما الوزارة فميراثي، وأما الكتابة فشغلي، وغير ذلك لا أعرفه.

وتكلم هبة الله الفلكي فقال مثل ذلك، وقال لي خداوند زاده بالعربي: ما تقول أنت يا سيدي ؟ وأهل تلك البلاد ما يدعون العربي إلا بالتسويد ، وبذلك يخاطبه السلطان، تعظيماً للعرب، فقلت له: أما الوزارة والكتابة فليست شغلي، وأما القضاء والمشيخة فشغلي وشغل آبائي، وأما الإمارة فتعلمون أن الأعاجم ما أسلمت إلا بأسياف العرب، فلما بلغ ذلك السلطان أعجبه كلامي وكان بهزار أسطون يأكل الطعام، فبعث عنا، فأكلنا بين يديه، وهو يأكل، ثم انصرفنا إلى خارج هزار اسطون، فقعد أصحابي وانصرفت بسبب دمل كان يمنعني الجلوس، فاستدعانا السلطان ثانية فحضر أصحابي، واعتذر واله عني بعد صلاة العصر، فصليت بالمشور المغرب والعشاء الآخرة، ثم خرج الحاجب فاستدعانا، فدخل خداوند زاده ضياء الدين، وهو أكبر الإخوة المذكورين، فجعله السلطان أمير داد وهو من الأمراء الكبار، فجلس بمجلس القاضي. فمن كان له حق على أمير أو كبير أحضره بين يديه، وجعل مرتبه على هذه الخطة خمسين ألف دينار في السنة، عين له مجاشر فائدها ذلك المقدار، فأمر له بخمسين ألفاً عن يدٍ، وخلع عليه خلعة حرير مزركشة تسمى صورة الشير، ومعناه صورة السبع، لأنه يكون في صدرها وظهرها صورة سبع، وقد خيط في باطن الخلعة بطاقة بمقدار مازركش فيها من الذهب، وأمر له بفرس من الجنس الأول، والخيل عندهم أربعة أجناس وسروجهم كسروج أهل مصر، ويكسون أعظمها بالفضة المذهبة، ثم دخل أمير بخت، فأمره أن يجلس مع الوزير في مسنده، ويقف على محاسبات الدواوين وعين له مرتباً أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر فائدها بمقدار ذلك، وأعطى أربعين ألفاً عن يد، وأعطى فرساً مجهزاً، وخلع عليه كخلعة الذي قبله، ولقب شرف الملك. ثم دخل هبة الله بن الفلكي فجعله رسول دار، ومعناه حاجب الإرسال، وعين له مرتباً أربعين ألف دينار في السنة أعطى مجاشر يكون قائدها بمقدار ذلك وأعطى أربعة وعشرين ألفاً عن يد وأعطى فرساً مجهزاً وخلعة، وجعل لقبه بهاء الملك. ثم دخلت فوجدت السلطان على سطح القصر مستنداً إلى السرير، والوزير خواجه جهان بين يديه، والملك الكبير قبولة واقف بين يديه فلما سلمت عليه، قال لي الملك الكبير: أخدم فقد جعلك خوند عالم قاضي دار الملك دهلي، وجعل مرتبك اثني عشر ألف دينار في السنة، وعين لك مجاشر بمقدارها، وأمر لك باثني عشر ألفاً نقداً تأخذها من الخزانة غداً إن شاء الله، وأعطاك فرساً بسرجه ولجامه، وأمر لك بخلعة محاربي، وهي التي يكون في صدرها وظهرها شكل محراب، فخدمت وأخذ بيدي فتقدم بي إلى السلطان، فقال لي السلطان: لا تحسب قضاء دهلي من أصغر الأشغال، هو أكبر الأشغال عندنا، وكنت أفهم قوله، ولا أحسن الجواب عنه وكان السلطان يفهم العربي ولا يحسن الجواب عنه، فقلت له: يا مولانا أنا على مذهب مالك،، وهؤلاء حنفية وأنا لا أعرف إنساناً فقال لي: قد عينت بهاء الدين الملتاني وكمال الدين البجنوري ينوبان عنك ويشاورانك، وتكون أنت تسجل على العقود وأنت عندنا بمقام الوالد، فقلت له: بل عبدكم وخديمكم فقال لي باللسان العربي، بل أنت سيدنا ومخدومنا، تواضعاً منه وفضلاً وإيناساً، ثم قال لشرف الملك أمير بخت، إن كان الذي ترتب له لا يكفيه لأنه كثير الإنفاق، فأنا أعطيه زاوية إن قجر على إقامة حال الفقراء، وقال: قل له هذا بالعربي، وكان يظن أنه يحسن العربي ولم يكن كذلك وفهم السلطان ذلك فقال له: برو ويكجا بخصبي " بخسبي " وآن حكاية بروابكوي وتفهيم كني " بكني " تافردا إن شاء الله بيش من بيايي " و" جواب أو بكري " بكوي " معناه: امشوا الليلة فارقدوا في موضع واحد، وفهمه هذه الحكاية، فإذا كان بالغد إن شاء الله تجيء إلي وتعلمني بكلامه، فانصرفنا وذلك في ثلث الليل، وقد ضربت النوبة. والعادة عندهم إذا ضربت لا يخرج أحد فانتظرنا الوزير حتى خرج، وخرجنا معه، ووجدنا أبواب دهلي مسدودة فبتننا عند السيد أبي الحسن العبادي العراقي، بزقاق يعرف بسرابور خان وكان هذا الشيخ يتجر بمال السلطان ويشتري له الأسلحة والأمتعة بالعراق وخراسان. ولما كان بالغد بعث عنا، فقبضنا الأموال والخيل والخلع، وأخذ كل واحد منا البدرة بالمال، فجعلها على كاهله، ودخلنا كذلك على السلطان فخدمنا، وأتينا بالأفراس فقبلنا حوافرها، بعد أن جعلت عليها الخرق، وقدناها بأنفسنا إلى باب دار السلطان فركبناها وذلك كله عادة عندهم، ثم انصرفنا وأمر السلطان لأصحابه بألفي دينار وعشر خلع، ولم يعط لأصحاب أحد سواي شيئاً وكان أصحابي لهم رواء ومنظر، فأعجبوا السلطان وخدموا بين يديه وشكرهم.

ذكر عطاء ثان أمر لي به وتوقفه مدة

وكنت يوماً بالمشور، بعد أيام من توليتي القضاء والإحسان إلي، وأنا قاعد تحت شجرة هنالك، وإلى جانبي مولانا ناصر الدين الترمذي العالم الواعظ، فأتى بعض الحجاب فدعا مولانا ناصر الدين، فدخل إلى السلطان، فخلع عليه، وأعطاه مصحفاً مكللاً بالجوهر، ثم أتاني بعض الحجاب فقال: أعطني شيئاً وآخذ لك خط خرد باثني عشر ألفاً، أمر لك بها خوند عالم فلم أصدقه وظننته يريد الحيلة علي، وهو مجد في كلامه، فقال بعض الأصحاب: أنا أعطيه، فأعطاه دينارين أو ثلاثة، وجاء بخط خرد ومعناه الخط الأصغر مكتوباً بتعريف الحاجب، ومعناه أمر خوند عالم أن يعطي من الخزانة الموفورة كذا لفلان بتبليغ فلان أي بتعريفه، ويكتب المبلغ اسمه ثم يكتب على تلك البراءة ثلاثة من الأمراء: وهم الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان، والخريطة دار وهو صاحب وهو صاحب خريطة الكاغد والأقلام، والأمير نكبية الدوادار صاحب الدواة، فإذا كتب كل واحد منهم خطه، تذهب البراءة إلى ديوان الوزارة فينسخها كتاب الديوان عندهم، ثم تثبت في ديوان الأشراف، ثم تثبتا في ديوان النظر، ثم تكتب البراونة، وهي الحكم من الوزير للخازن بالعطاء، ثم يثبتها الخازن في ديوانه، ويكتب تلخيصاً في كل يوم بمبلغ ما أمر به السلطان ذلك اليوم من المال، ويعرضه عليه فمن أراد التعجيل بعطائه أمر بتعجيله ومن أراد التوقيف وقف له ولكن لا بد من عطاء ذلك، ولو طالت المدة فقد توقفت هذه الاثنا عشر ألفاً ستة أشهر ثم أخذتها مع غيرها حسبما يأتي. وعادتهم إذا أمر السلطان بإحسان لأحد يحط منه العشر فمن أمر له مثلا بمائة ألفٍ، أعطي تسعين ألفاً، أو بعشرة آلاف أعطي تسعة آلاف.

ذكر طلب الغرماء ما لهم قبلي ومدحي للسلطان وأمره بخلاص ديني وتوقف ذلك مدة

وكنت حسبما ذكرته قد استدنت من التجار مالاً أنفقته في طريقي، وما صنعت به الهدية للسلطان، وما أنفقته في إقامتي فلما أرادوا السفر إلى بلادهم ألحوا علي في طلب ديونهم فمدحت السلطان في قصيدة طويلة أولها:

إليك أمير المؤمنين الـمـبـجـلا

 

أتينا نجد السير نحوك في الـفـلا

فجئت محـلاً مـن عـلائك زائراً

 

ومغناك كهفٌ لـلـزيارة أهـلا

فلو أن فوق الشمس للمجـد رتـبةً

 

لكنت لأعلاها إمامـاً مـؤهـلاً

فأنت الإمام الماجد الأوحـد الـذي

 

سجاياه حتماً أن يقـول ويفـعـلا

ولي حاجة من فيض جودك أرتجي

 

قضاها وقصدي عند مجدك سهلاً

أأذكرها أم قد كفانـي حـياؤكـم

 

فإن حياكم ذكره كـان أجـمـلا

فعجل لمن واقى مـحـلـك زائراً

 

قضا دينه إن الغـريم تـعـجـلا

فقدمتها بين يديه، وهو قاهد على كرسي، فجعلها على ركبته، وأمسك طرفها بيده، وطرفها الثاني بيدي. وكنت إذا أكملت بيتاً منها أقول لقاضي القضاة كمال الدين الغزنوي بين معناه لخوند عالم، فيبينه ويعجب السلطان وهم يحبون الشعر العربي فلما بلغت إلى قولي: فعجل لمن وافى، البيت، قال: مرحمة ومعناه: ترحمت عليك فأخذ الحجاب حينئذ بيد ليذهبوا بي إلى موقفهم، وأخدم على العادة فقال السلطان اتركوه حتى يكملها فأكملتها وخدمت، وهنأني الناس بذلك، وأقمت مدة، وكتبت رفعاً، وهم يسمونه عرض داشت، فدفعته إلى قطب الملك صاحب السند، فدفعه للسلطان فقال له: امض إلى خواجه جهان فقل له: يعطي دينه فمضى إليه وأعلمه، فقال: نعم وأبطأ ذلك أياماً وأمره السلطان في خلالها بالسفر إلى دولة آباد وفي أثناء ذلك خرج السلطان إلى الصيد، وسافر الوزير، فلم آخذ شيئاً منها إلا بعد مدة. والسبب الذي توقف به عطاؤها أذكره مستوفى وهو أنه لما عزم الذي كان لهم علي الدين إلى السفر، قلت لهم: إذا أنا أتيت دار السلطان فدرهوني على العادة في تلك البلاد، لعلمي أن السلطان متى يعلم بذلك خلصهم، وعادتهم أنهم متى كان لأحد دين على رجل من ذوي العناية وأعوزه خلاصه وقف له بباب دار السلطان فإذا أراد الدخول قال له: دروهي، وحق رأس السلطان ما تدخل حتى تخلصني، فلا يمكنه ان يبرح من مكانه حتى يخلصه، أو يرغب إليه في تأخيره. فاتفق يوماً أن خرج السلطان إلى زيارة قبر أبيه، ونزل بقصر هنالك فقلت لهم: هذا وقتكم، فلما أردت الدخول، وقفوا لي بباب القصر فقالوا لي دروهي السلطان ما تدخل حتى تخلصنا. وكتب كتاب الباب بذلك إلى السلطان، فخرج حاجب قصة شمس الدين، وكان من كبار الفقهاء، فسألهم لأي شيء درهتموه ؟ فقالوا: لنا عليه الدين فرجع إلى السلطان فأعلمه بذلك، فقال له: أسألهم كم مبلغ الدين ؟ فقالوا له خمس وخمسون ألف دينار، فعاد إليه فأعلمه فأمره أن يعود إليهم، ويقول لهم: إن خوند عالم يقول لكم: المال عندي وأنا أنصفكم منه فلا تطلبوه به وأمر عماد الدين السمناني وخداوند زاده غياث الدين أن يقعدوا بهزار أسطون، ويأتي أهل الدين بعقودهم، وينظروا إليها، ويتحققوها ففعلا ذلك وأتى الغرماء بعقودهم فدخلا إلى السلطان وأعلماه بثبوت العقود، فضحك وقال: ممازحاً: أنا أعلم أنه قاض جهز شغله فيها ثم أمر خداوند زاده أن يعطيني ذلك من الخزانة فطمع في الرشوة على ذلك وامتنع أن يكتب خط خرد، فبعثت إليه مائتي تنكة، فردها ولم يأخذها وقال لي عنه بعض خدامه: إنه طلب خمسمائة تنكة فامتنعت من ذلك وأعلمت عميد الملك بن عماد الدين السمناني بذلك، فأعلم به أباه وأعلمه الوزير، وكانت بينه وبين خداوند زاده عداوة فأعلم السلطان بذلك، وذكر له كثيراً من أفعال خداوند زاده، فغير خاطر السلطان عليه، فأمر بحبسه في المدينة وقال: لأي شيء أعطاه فلان ما أعطاه ووقفوا ذلك حتى يعلم هل يعطي خداوند زاده شيئاً إذا منعته أو يمنعه إذا أعطيته فبهذا السبب توقف عطاء ديني.

ذكر خروج السلطان إلى الصيد وخروجي معه وما صنعت في ذلك

ولما خرج السلطان إلى الصيد خرجت معه من غير تربص، وكنت قد أعددت ما يحتاج إليه، وعملت ترتيب أهل الهند، فاشتريت سراجة، وهي أفراج. وضربها هنالك مباح ولا بد منها لكبار الناس وتمتاز سراجة السلطان بكونها حمراء، وسواها بيضاء منقوشة بالأزرق، واشتريت الصيوان، وهو الذي يظل به داخل السراجة، ويرفع على عمودين كبيرين ويجعل ذلك الرجال على أعناقهم، ويقال لهم اليكوانية والعادة هنالك أن يكتري المسافر اليكوانية، وقد ذكرناهم، ويكتري من يسوق له العشب لعلف الدواب لأنهم لا يطعمونها التبن ويكتري الكهارين، وهم الذين يحملون أواني المطبخ، ويكتري من يحمله في الدولة، وقد ذكرناها، ويحملها فارغة، ويكتري الفراشين، وهم الذين يضربون السراجة، ويفرشونها، ويرفعون الأحمال على الجمال، ويكتري الدوادوية، وهم الذين يمشون بين يديه، ويحملون المشاعل بالليل، فاكتريت أنا جميع من احتجت له منهم، وأظهرت القوة والهمة، وخرجت يوم خروج السلطان وغيري أقام بعده اليومين والثلاثة، فلما كان بعد العصر من يوم خروجه ركب الفيل، وقصده أن يتطلع على أحوال الناس، ويعرف من تسارع إلى الخروج، ومن أبطأ وجلس خارج السراجة على كرسي، فجئت وسلمت ووقفت في موقفي بالميمنة، فبعث إلي الملك الكبير قبولة سرجامدار، وهو الذي يشرد الذباب عنه، فأمرني بالجلوس عناية بي، ولم يجلس في ذلك اليوم سواي ثم أتى بالفيل، وألصق به سلم فركب عليه، ورفع الشطر فوق رأسه وركب معه الخواص وجال ساعة، ثم عاد إلى السراجة. وعادته إذا ركب، ان يركب الأمراء أفواجاً كل أمير بفوجه وعلاماته وطبوله وأنفاره وصرناياته يسمون ذلك المراتب، ولا يركب أمام السلطان، إلا الحجاب وأهل الطرق والطبالة الذين يتقلدون الأطبال الصغار، والذين يضربون الصرنايات. ويكون عن يمين السلطان نحو خمسة عشر رجلاً، وعن يساره مثل ذلك، منهم قضاة القضاة والوزير وبعض الأمراء الكبار وبعض الأعزة، وكنت أنا من أهل ميمنته، ويكون بين يديه المشاءون والأدلاء، ويكون خلفه علاماته، وهي من الحرير المذهب، والأطبال على الجمال وخلف ذلك مماليكه، وأهل دخلته، وخلفهم الأمراء وجميع الناس، ولا يعلم أحد أين يكون النزول فإذا مر السلطان بمكان يعجبه النزول به أمر بالنزول، ولا تضرب سراجة أحد حتى تضرب سراجته، ثم يأتي الموكلون بالنزول فينزلون، كل واحد في منزله خلال ذلك ينزل السلطان على نهر أو بين أشجار، وتقدم بين يديه لحوم الأغنام والدجاج المسمنة والكراكي وغيرها من أنواع الصيد، ويحضر أبناء الملوك في يد كل واحد منهم سفود، ويوقدون النار ويشوون ذلك، ويؤتى بسراجة صغيرة فتضرب للسلطان ويجلس من معه من الخواص خارجها، ويؤتى بالطعام، ويستدعي من شاء فيأكل معه، وكان في بعض تلك الأيام وهو بداخل السراجة يسأل عمن بخارجها، فقال له السيد ناصر الدين مطهر الأوهري أحد ندمائه ثم فلان المغربي، وهو متغير فقال لماذا ؟ فقال: بسبب الدين الذي عليه وغرماؤه يلحون في الطلب وكان خوند عالم قد أمر الوزير بإعطائه فسافر قبل ذلك فإن طلب مولانا أن يصبر أهل الدين حتى يقدم الوزير أو أمر بإنصافهم. وحضر لهذا الملك دولة شاه وكان السلطان يخاطبه بالعم فقال: يا خوند عالم كل يوم وهو يكلمني بالعربية ولا أدري ما يقول يا سيدي ناصر الدين ماذا، وقصد أن يكرر ذلك الكلام فقال يتكلم لأجل الدين الذي عليه فقال السلطان إذا دخلنا دار الملك، فامض أنت يا أومار، ومعناه: يا عم إلى الخزانة، فأعطه ذلك المال وكان خداوند زاده حاضراً، فقال يا خوند عالم إنه كثير الإنفاق، وقد رأيته ببلادنا عند السلطان طرمشيرين. وبعد هذا الكلام استحضرني السلطان للطعام، ولا علم عندي بما جرى فلما خرجت قال لي السيد ناصر الدين: أشكر للملك دولة شاه وقال لي الملك دولة شاه: أشكر لخداوند زاده. وفي بعض تلك الأيام، ونحن مع السلطان في الصيد ركب في المحلة، وكان طريقه على منزلي وكان معه في الميمنة وأصحابي في الساقة، وكان لي خباء عند السراجة، فوقف أصحابي عندها، وسلموا على السلطان فبعث عماد الملك وملك دولة شاه ليسأل لمن تلك الأخبية والسراجة فقيل لهما: لفلان أخبراه ذلك فتبسم. فلما كان بالغد، نفذ الأمر أن أعود أنا وناصر الدين مطهر الأوهري وابن قاضي مصر وملك صبيح إلى البلد، فخلع علينا وعدنا إلى الحضرة.

ذكر الجمل الذي أهديته للسلطان

وكان السلطان في تلك الأيام سألني عن الملك الناصر هل يركب الجمل، فقلت: نعم يركب المهاري في أيام الحج فيسير إلى مكة من مصر في عشرة أيام ولكن تلك الجمال ليست كجمال هذه البلاد. وأخبرته أن عندي جملاً منها فلما عدت إلى الحضرة بعثت عن بعض عرب مصر فصور لي صورة الكور الذي تركب المهاري به من القير، وأريتها بعض النجارين فعمل الكور وأتقنه وكسوته بالملف، وصنعت له ركباً وجعلت على الجمل عباءة حسنة وجعلت له خطام حرير وكان عندي رجل من أهل اليمن يحسن عمل الحلواء، فصنع منها ما يشبه التمر وغيره، وبعثت الجمل والحلواء إلى السلطان وأمرت الذي حملها أن يدفعها على يد ملك دولة شاه وبعثت له بفرس وجملين فلما وصله ذلك دخل على السلطان وقال: يا خوند عالم رأيت العجب قال: وما ذلك ؟ قال: فلان بعث جملاً عليه سرج فقال: ائتوا به. فأدخل الجمل داخل السراجة، وأعجب به السلطان، وقال لراجلي: اركبه فركبه ومشاه بين يديه وأمر له بمائتي دينار دراهم وخلعة، وعاد الرجل إلي فأعلمني فسرني ذلك وأهديت له جملين بعد عودته إلى الحضرة.

ذكر الجملين اللذين أهديتهما إليه والحلواء وأمره بخلاص ديني وما تعلق بذلك

ولما عاد إلي راجلي الذي بعثته بالجمل، فأخبرني بما كان من شأنه صنعت كورين اثنين، وجعلت مقدم كل واحد ومؤخره مكسواً بصفائح الفضة المذهبة وكسوتها بالملف وصنعت رسناً مصفحاً بصفائح الفضة المذهبة، وجعلت لهما جلين من زردخانة مبطنين، بالكمخا، وجعلت للجملين الخلاخيل من الفضة المذهبة، وصنعت أحد عشر طيفوراً، وملأتها بالحلواء، وغطيت كل طيفور بمنديل حرير، فلما قدم السلطان من الصيد وقعد ثاني يوم قدومه بموضع جلوسه العام، غدوت عليه بالجمال، فأمر بها، فحركت بين يديه، وهرولت فطار خلخال أحدهما فقال لبهاء الدين ابن الفلكي: بايل ورداري، معنى ذلك: ارفع الخلخال، فرفعه ثم نظر إلى الطيافير فقال: جداري " جه داري " درآن طبقها حلوا است، معنى ذلك: ما معك في تلك الأطباق، حلواء هي ؟ فقلت له: نعم فقال للفقيه ناظر الدين الترمذي الواعظ: ما أكلت قط، ولا رأيت مثل الحلواء التي بعثها الينا ونحن بالمعسكر، ثم أمر بتلك الطيافير أن ترفع لموضع جلوسه فرفعت وقام إلى مجلسه، واستدعاني، وأمر بالطعام، فأكلت ثم سألني عن نوع الحلواء الذي بعثت له: فقلت له: يا خوند عالم، تلك الحلواء أنواعها كثيرة، ولا أدري عن أي نوع تسألون منها فقال: إيتوا بتلك الأطباق وهم يسمون الطيفور طبقاً، فأتوا بها وقدموها بين يديه وكشفوا عنها، فقال: عن هذا سألتك، وأخذ الصحن الذي هي فيه فقلت له: هذه يقال لها المقرصة، ثم أخذ نوعاً آخر فقال: وما اسم هذه ؟ فقلت له هي لقيمات القاضي. وكان بين يديه تاجر من شيوخ بغداد يعرف بالسامري، وينتسب إلى آل العباس رضي الله تعالى عنه، وهو كثير المال ويقول له السلطان والدي، فحسدني وأراد أن يخجلني فقال: ليست هذه لقيمات القاضي، بل هي هذه وأخذ قطعة من التي تسمى جلد الفرس وكان بإزائه ملك الندماء ناصر الدين الكافي الهروي، وكان كثيراً ما يمازح هذا الشيخ بين يدي السلطان فقال: يا خواجة أنت تكذب والقاضي يقول الحق. فقال له السلطان: وكيف ذلك؟ فقال: يا خوند عالم هو القاضي وهي لقيماته، فإنه أتى بها فضحك السلطان وقال: صدقت. فلما فرغنا من الطعام أكل الحلواء ثم شرب الفقاع بعد ذلك وأخذنا التنبول وانصرفنا فلم يكن غير هنيهة وأتاني الخازن فقال: ابعث أصحابك يقبضون المال، فبعثتهم وعدت إلى داري بعد المغرب فوجدت المال بها وهو ثلاث بدر فيها ستة آلاف ومائتان وثلاث وثلاثون تنكة، وذلك صرف الخمسة والخمسين ألفاً التي هي دين علي، وصرف الاثني عشر ألفاً التي أمر لي بها فيما تقدم، بعد حط العشر على عادتهم وصرف التنكة ديناران ونصف دينار من ذهب المغرب.

ذكر خروج السلطان وأمره لي بالإقامة بالحضرة

 وفي تاسع جمادى الأولى خرج السلطان برسم قصد بلاد المعبر، وقتال القائم بها وكنت قد خلصت أصحاب الدين، وعزمت على السفر، وأعطيت مرتب تسعة أشهر للكهارين والفراشين والكيوانية والدوادوية، وقد تقدم ذكرهم فخرج الأمر بإقامتي في جملة ناس وأخذ الحاجب خطوطنا بذلك لتكون حجة له، وتلك عادتهم خوفاً من أن ينكر المبلغ، وأمر لي بستة آلاف دينار دراهم، وأمر لابن قاضي مصر بعشرة آلاف وكذلك كل من أقام من الأعزة، وأما البلديون فلم يعطوا شيئاً، وأمر لي السلطان أن أتولى النظر في مقبرة السلطان قطب الدين، الذي تقدم ذكره. وكان السلطان يعظم تربته تعظيماً شديداً، لأنه كان خديماً له ولقد رأيته اذا أتى قبره يأخذ نعله فيقبله ويجعله فوق رأسه. وعادتهم أن يجعلوا نعل الميت عند قبره فوق متكأة. وكان إذا وصل القبر خدم له كما كان يخدم أيام حياته، وكان يعظم زوجته، ويدعوها بالأخت وجعلها مع حرمه وزوجها بعد ذلك لابن قاضي مصر، واعتنى به من أجلها وكان يمضي لزيارتها في كل جمعة. ولما خرج السلطان بعث عنا للوداع فقام ابن قاضي مصر فقال: أنا لا أودع ولا أفارق خوند عالم، فكان له في ذلك الخير، فقال له السلطان: إمض فتجهز للسفر، وقدمت بعده للوداع، وكنت أحب الإقامة، ولم تكن عاقبتها محمودة، فقال: مالك من حاجة فأخرجت بطاقة فيها ست مسائل فقال لي: تكلم بلسانك فقلت له إن خوند عالم أمر لي بالقضاء، وما قعدت لذلك بعد وليس مرادي من القضاء الا حرمته فأمرني بالقعود للقضاء وقعود النائبين معي، ثم قال لي: إيه ؟ فقلت وروضة السلطان قطب الدين، ماذا أفعل بها ؟ فإني رتبت فيها أربعمائة وستين شخصاً ومحصول أوقافها لا يفي بمرتباتهم وطعامهم. فقال للوزير بنجاه هزار ومعناه خمسين الفاً ثم قال: لا بد لك من غلة بدية يعني أعطه مائة الف منٍّ من الغلة، وهي القمح والأرز، ينفقها في هذه السنة حتى تأتي غلة الروضة والمنّ عشرون رطلاً مغربية. ثم قال لي ماذا أيضاً فقلت: إن أصحابي سجنوا بسبب القرى التي أعطيتموني، فإني عوضتها بغيرها فطلب أهل الديوان ما وصلني منها او الاستظهار بأمر خوند عالم أن يرفع عني ذلك فقال كم وصلك منها فقلت خمسة آلاف دينار فقال هي إنعام عليك فقلت له: وداري التي أمرتم لي بها مفتقرة إلى البناء فقال للوزير: عمارة كنيد، أي معناه عمروها ثم قال لي: ديكر نماند، معناه هل بقي لك كلام ؟ فقلت له: لا فقال لي: وصية ديكر هست، معناه: أوصيك أن لا تأخذ الدين لئلا تطلب فلا تجد من يبلغ خبرك إلي. أنفق على قدر ما أعطيتك قال الله تعالى: " ولا تجعل يدك مغلولةً إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط " " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا " " والذين إذا انفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً " . فأردت أن أقبل قدمه، وأمسك رأسي بيده فقبلتها وانصرفت وعدت إلى الحضرة فاشتغلت بعمارة داري، وأنفقت فيها أربعة آلاف دينار، أعطيت منها من الديوان ستمائة دينار، وزدت عليها الباقي، وبنيت بإزائها مسجداً واشتغلت بترتيب مقبرة السلطان قطب الدين وكان قد أمرني أن تبنى عليه قبة يكون ارتفاعها في الهواء مائة ذراع، بزيادة عشربن ذراعاً على ارتفاع القبة المبنية على قازان ملك العراق، وأمر أن تشتري قرية تكون وقفاً عليها، وجعلها بيدي علي أن يكون لي العشر من فائدها على العادة.

ذكر ما فعلته في ترتيب المقبرة

وعادة أهل الهند أن يرتبوا لأمواتهم ترتيباً كترتيبهم بقيد الحياة، ويؤتى بالفيلة والخيل فتربط عند باب التربة، وهي مزينة. فرتبت أنا في هذه التربة بحسب ذلك ورتبت من قراء القرآن مائة وخمسين، وهم يسمونهم الختميين، ورتبت من الطلبة ثمانين، ومن المعيدين، ويسمونهم المكررين، ثمانية، ورتبت لها مدرساً، ورتبت من الصوفية ثمانين، ورتبت الإمام والمؤذنين والقراء بالأصوات الحسان والمداحين وكتاب الغيبة والمعرفين، وجميع هؤلاء يعرفون عندهم بالأرباب، ورتبت صنفاً آخر يعرفون بالحاشية، وهم الفراشون والطباخون والدوادوية والأبدارية، وهم السقاءون والشربدارية الذين يسقون الشربة، والتنبول دارية الذين يعطون التنبول والسلحدارية والنيزدارية والشطر دارية والطشت دارية والحجاب والنقباء فكان جميعهم أربعمائة وستين. وكان السلطان أمر أن يكون الطعام بها كل يوم اثني عشر مناً من الدقيق ومثلها من اللحم، فرأيت أن ذلك قليل، والزرع الذي أمر به كثير فكنت أنفق كل يوم خمسة وثلاثين مناً من الدقيق ومثلها من اللحم وما يتبع ذلك من السكر، والنبات، والسمن، والتنبول، وكنت أطعم المرتبين وغيرهم من صادر ووارد وكان الغلاء شديداً فارتفق الناس بهذا الطعام وشاع خبره، وسافر الملك صبيح إلى السلطان بدولة آباد سأله عن حال الناس. فقال له لو كان بدهلي اثنان مثل فلان لما شكا الجهد، فأعجب ذلك السلطان، وبعث إليه بخلعة من ثيابه وكنت أصنع في المواسم وهي العيدان والمولد الكريم ويوم عاشوراء وليلة النصف من شعبان ويوم وفاة السلطان قطب الدين مائة من الدقيق ومثلها لحماً فيأكل الفقراء والمساكين، وأما أهل الوظيفة فيجعل أمام كل إنسان منهم ما يخصه ولنذكر عادتهم في ذلك.

ذكر عادتهم في إطعام الناس في الولائم

وعادتهم ببلاد الهند وببلاد السرى أنه إذا فرغ من أكل الطعام في الوليمة جعل أمام كل إنسان من الشرفاء والفقهاء والمشايخ والقضاة وعاء شبه المهد له أربع قوائم منسوج سطحه من الخوص، وجعل عليه الرقاق، ورأس غنم مشوي، وأربعة أقراص معجونة بالسمن مملوءة بالحلواء الصابونية مغطاة بأربع قطع من الحلواء كأنها الآجر وطبقاً صغيراً مصنوعاً من الجلد فيه الحلواء والسموسك، ويغطى ذلك الوعاء بثوب قطن جديد. ومن كان دون من ذكرناه جعل أمامه نصف رأسه غنم، ويسمونه الزلة ومقدار النصف مما ذكرناه. ومن كان دون هؤلاء أيضاً جعل أمامه مثل الربع من ذلك ويرفع رجال كل أحد ما جعل أمامه وأول ما رأيتهم يصنعون هذا بمدينة السرا حضرة السلطان أوزبك، فامتنعت أن يرفع رجالي ذلك إذ لم يكن لي به عهد وكذلك يبعثون أيضاً لدار كبراء الناس من طعام الولائم.

ذكر خروجي إلى هزار أمروها

وكان الوزير قد أعطاني من الغلة المأمور بها للزاوية عشرة آلاف، ونفذ لي الباقي في هزار أمروها. وكان والي الخراج بها عزيز الخمار، وأميرها شمس الدين البذخشاني. فبعثت رجالي فأخذوا بعض الإحالة، وتشكوا من تعسف عزيز الخمار. فخرجت بنفسي لاستخلاص ذلك. وبين دهلي وهذه العمالة ثلاثة أيام، وكان ذلك في أوان نزول المطر. فخرجت في نحو ثلاثين من أصحابي، واستصحبت معي أخوين من المغنين المحسنين يغنيان لي في الطريق، فوصلنا إلى بلدة بجنور، وضبط اسمها " بكسر الباء الموحدة وسكون الجيم وفتح النون وآخره راء " فوجدت بها أيضاً ثلاثة أخوة من المغنين، فاستصحبتهم. فكانوا يغنون لي نوبة والآخران نوبة. ثم وصلنا إلى أمروها وهي بلدة صغيرة حسنة، فخرج عمالها للقائي، وجاء قاضيها الشريف أمير علي، وشيخ زاويتها، وأضافاني معاً ضيافة حسنة. وكان عزيز الخمار بموضع يقال له: أفغان بور، على نهر السرو. وبيننا وبينه النهر، ولا معدية فيه. فأخذنا الأثقال في معدية صنعناها من الخشب والنبات، وجزنا في اليوم الثاني. وجاء نجيب أخو عزيز في جماعة من أصحابه، وضرب لنا سراجة. ثم جاء أخوه الوالي، وكان معروفاً بالظلم، وكانت القرى التي في عمالته ألفاً وخمسمائة قرية، ومجباها ستون لكاً في السنة، له فيها نصف العشر. ومن عجائب النهر الذي نزلنا عليه، أنه لا يشرب منه أحد في أيام نزول المطر، ولا تسقى منه دابة. ولقد أقمنا عليه ثلاثاً. فما غرف منه أحد غرفة، ولا كدنا نقرب منه، لأنه ينزل من جبل قراجيل التي بها معادن الذهب، ويمر على الخشاش المسمومة، فمن شرب منه مات. وهذا الجبل متصل مسيرة ثلاثة أشهر، وينزل منه إلى بلاد تبت حيث غزلان المسك. وقد ذكرنا ما اتفق على جيش المسلمين بهذا الجبل. وبهذا الموضع جاء إلي جماعة من الفقراء الحيدرية، وعملوا السماع، وأوقدوا النيران فدخلوها ولم تضرهم. وقد ذكرنا ذلك. وكانت قد نشأت بين أمير هذه البلاد شمس الدين البذخشاني وبين واليها عزيز الخمار منازعة. وجاء شمس الدين لقتاله، فامتنع منه بداره. وبلغت شكاية أحدهما الوزير بدهلي، فبعث إلي الوزير وإلى الملك شاه أمير المماليك بأمروها، وهم أربعة آلاف مملوك للسلطان، وإلى شهاب الدين الرومي أن ننظر في قضيتهما. فمن كان على الباطل بعثناه مثقفاً إلى الحضرة. فاجتمعوا جميعاً بمنزلي وادعى عزيز على شمس الدين دعاوى. منها أن خديماً له يعرف بالرضى الملتاني نزل بدار خازن عزيز المذكور فشرب بها الخمر، وسرق خمسة آلاف دينار من المال الذي عند الخازن. فاستفهمت الرضى عن ذلك فقال لي: ما شربت الخمر منذ خروجي من ملتان، وذلك منذ ثمانية أعوام. فقلت له: أو شربتها بملتان ؟ قال: نعم. فأمرت بجلده ثمانين وسجنته بسبب الدعوى للوث ظهر عليه. وانصرفت عن أمروها. فكانت غيبتي نحو شهرين، وكنت في كل يوم أذبح لأصحابي بقرة. وتركت أصحابي ليأتوا بالزرع المنفذ على عزيز وحمله عليه. فوزع على أهل القرى التي لنظره ثلاثون ألف منٍ يحملونها على ثلاثة آلاف بقرة. وأهل الهند لا يحملون إلا على البقر، وعليه يرفعون أثقالهم في الأسفار. وركوب الحمير عندهم عيب كبير. وحميرهم صغار الأجرام، يسمونها اللاشة، وإذا أرادوا إشهار أحدهم بعد ضربه أركبوه الحمار.

ذكر مكرمة لبعض الأصحاب

وكان السيد ناصر الدين الأوهري قد ترك عندي لما سافر ألفاً وستين تنكة، فتصرفت فيها، فلما عدت إلى دهلي وجدته قد أحال في ذلك المال خداوندزاده قوام الدين، وكان قد قدم نائباً على الوزير. فاستقبحت أن أقول له: تصرفت بالمال، فأعطيته نحو ثلثه. وأقمت بداري أياماً. وشاع أني مرضت. فأتى ناصر الدين الخوارزمي صدر الجهان لزيارتي. فلما رآني قال: ما أرى بك مرضاً ؟ فقلت له: إني مريض القلب. فقال لي: عرفني بذلك. فقلت له: ابعث إلي نائبك شيخ الإسلام أعرفه به. فبعثه إلي فأعلمته، فعاد إليه فأعلمه. فبعث إلي بألف دينار دراهم. وكان له عندي قبل هذا ألف ثانٍ. ثم طلب مني بقية المال. فقلت في نفسي: ما يخلصني منه إلا صدر الجهان المذكور، لأنه كثير المال. فبعثت إليه بفرس مسرج، قيمته وقيمة سرجه ألف وستمائة دينار، وبفرس ثان قيمته وقيمة سرجه ثمانمائة دينار، وبغلتين قيمتهما ألف ومائتا دينار، وبتركش فضة، وبسيفين غمداهما مغشيان بالفضة. وقلت له: أنظر قيمة الجميع، زابعث إلي ذلك، فأخذ ذلك، وعمل لجميعه قيمة ثلاث آلاف دينار، فبعث إلي ألفاً، واقتطع الألفين، فتغير خاطري، ومرضت بالحمى، وقلت لنفسي: إن شكوت به إلى الوزير افتضحت. فأخذت خمسة أفراس وجاريتين ومملوكين وبعثت الجميع للملك مغيث الدين محمد بن ملك الملوك عماد الدين السمناني وهو فتي السن، فرد علي ذلك، وبعث إلي مائتي تنكة واغزر، وخلصت من ذلك المال. فشتان بين فعل محمد ومحمد.

ذكر خروجي من محلة السلطان

 وكان السلطان لما توجه إلى بلاد المعبر وصل إلى التلنك، ووقع الوباء بعسكره، فعاد إلى دولة آباد، ثم وصل إلى نهر الكنك فنزل عليه، وأمر الناس بالبناء. وخرجت في تلك الأيام إلى محلته، واتفق ما سردناه من مخالفة عين الملك، ولازمت السلطان في تلك الأيام، وأعطاني من عتاق الخيل، لما قسمها على خواصه، وجعلني فيهم، وحضرت معه الوقيعة على عين الملك والقبض عليه، وجزت معه نهر الكنك ونهر السرو، لزيارة قبر الصالح البطل سالارعود " مسعود "، وقد استوفيت ذلك كله، وعدت معه إلى حضرة دهلي لما عاد إليها.

ذكر ما هم به السلطان من عقابي وما تداركني من لطف الله تعالى

وكان سبب ذلك أني ذهبت يوماً لزيارة الشيخ شهاب الدين ابن الشيخ الجام، بالغار الذي احتفره خارج دهلي، وكان قصدي رؤية ذلك الغار. فلما أخذه السلطان، سأل أولاده عمن كان يزوره، فذكروا أناساً أنا من جملتهم. فأمر السلطان أربعة من عبيده بملازمتي بالمشور. وعادته أنه متى فعل ذلك مع أحد قلما يتخلص. فكان أول يوم من ملازمتهم لي يوم الجمعة، فألهمني الله تعالى إلى تلاوة قوله: " حسبنا الله ونعم الوكيل " فقرأتها ثلاثاً وثلاثين ألف مرة، وبت بالمشور، وواصلت إلى خمسة أيام، في كل يوم منها أختم القرآن وأفطر على الماء خاصة، ثم أفطرت بعد خمس، وواصلت أربعاً، وتخلصت بعد قتل الشيخ، والحمد لله تعالى.

ذكر انقباضي عن الخدمة وخروجي عن الدنيا

ولما كان بعد مدة انقبضت عن الخدمة، ولازمت الشيخ الإمام العالم العابد الزاهد الخاشع الورع فريد الدهر ووحيد العصر كمال الدين عبد الله الغاري، وكان من الأولياء، وله كرامات كثيرة، فقد ذكرت منها ما شاهدته عند ذكر اسمه. وانقطعت إلى خدمة هذا الشيخ، ووهبت ما عندي للفقراء والمساكين. وكان الشيخ يواصل عشرة أيام، وربما واصل عشرين. فكنت أحب أن أواصل، فكان ينهاني ويأمرني بالرفق على نفسي في العبادة، ويقول لي: إن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى. وظهر لي من نفسي تكاسل بسبب شيء بقي معي، فخرجت عن جميع ما عندي من قليل وكثير، وأعطيت ثياب ظهري لفقير، ولبست ثيابه. ولزمت هذا الشيخ خمسة أشهر، والسلطان إذ ذاك غائب ببلاد السند.

ذكر بعث السلطان عني وإبايتي الرجوع إلى الخدمة واجتهادي في العبادة

ولما بلغه خبر خروجي عن الدنيا استدعاني وهو يومئذ بسوستان، فدخلت عليه في زي الفقراء، فكلمني أحسن كلام وألطفه، وأراد مني الرجوع إلى الخدمة فأبيت، وطلبت منه الإذن في السفر إلى الحجاز، فأذن لي فيه، وانصرفت عنه، ونزلت بزاوية تعرف بالنسبة إلى الملك بشير، وذلك في أواخر جمادى الثانية سنة اثنتين وأربعين. فاعتكفت بها شهر رجب وعشرة من شعبان، وانتهيت إلى مواصلة خمسة أيام، وأفطرت بعدها على قليل أرز دون إدام. وكنت أقرأ القرآن كل يوم، وأتهجد بما شاء الله. وكنت إذا أكلت الطعام آذاني، فإذا طرحته وجدت الراحة. وأقمت كذلك أربعين يوماً، ثم بعث عني ثانية.

ذكر ما أمرني به من التوجه إلى الصين في الرسالة

ولما كملت لي أربعون يوماً بعث إلي السلطان خيلاً مسرجة وجواري وغلماناً وثياباً ونفقة، فلبست ثيابه وقصدته. وكانت لي جبة قطن زرقاء مبطنة، لبستها أيام اعتكافي. فلما جردتها ولبست ثياب السلطان أنكرت نفسي. وكنت متى نظرت إلى تلك الجبة أجد نوراً في باطني، ولم تزل عندي إلى أن سلبني الكفار في البحر. ولما وصلت إلى السلطان زاد في إكرامي على ما كنت أعهده، وقال لي: إنما بعثت إليك لتتوجه عني رسولاً إلى ملك الصين. فإني أعلم حبك في الأسفار والجولان. فجهزني بما أحتاج له، وعين للسفر معي من يذكر بعد.

ذكر سبب بعث الهدية للصين وذكر من بعث معي وذكر الهدية

وكان ملك الصين قد بعث إلى السلطان مائة مملوك وجارية وخمسمائة ثوب من الكمخا، منها مائة من التي تصنع بمدينة الزيتون، ومائة من التي تصنع بمدينة الخنسا، وخمسة أمنان من المسك، وخمسة أثواب مرصعة بالجوهر، ومثلها من التراكش مزركشة، ومثلها سيوف. وطلب من السلطان يأذن له في بناء بيت الأصنام بناحية جبل قراجيل المتقدم ذكره، ويعرف الموضع الذي هو به بسمهل " بفتح السين المهمل وسكون الميم وفتح الهاء ". وإليه يحج أهل الصين. وتغلب عليه جيش الإسلام بالهند فخربوه وسلبوه. ولما وصلت هذه الهدية إلى السلطان كتب إليه بأن هذا المطلب لا يجوز في ملة الإسلام إسعافه، ولا يباح بناء كنيسة بأرض المسلمين إلا لمن يعطي الجزية. فإن رضيت بإعطائها أبحنا لك بناءه والسلام على من اتبع الهدى. وكافأة على هديته بخير منها، وذلك مائة فرس من الجياد مسرجة ملجمة ومائة مملوك ومائة جارية من كفار الهند مغنيات ورواقص، ومائة ثوب بيرمية، وهي من القطن ولا نظير لها في الحسن قيمة الثوب منها مائة دينار، ومائة شقة من ثياب الحرير المعروفة بالجز " بضم الجيم وزاي "، وهي التي يكون حرير إحداها مصبوغاً بخمسة ألوان وأربعة، ومائة ثوب من الثياب المعروفة بالصلاحية، ومثلها من الشيرين باف، ومثلها من الشان باف، وخمسمائة ثوب من المرعز، مائة منها سود، ومائة بيض، ومائة حمر، ومائة خضر، ومائة زرق، ومائة شقة من الكتان الرومي، ومائة فضلة من الملف، وسراجة، وست من القباب، وأربع حسك من ذهب، وست حسك من فضة منيلة، وأربعة طسوت من الذهب ذات أباريق كمثلها، وستة طسوت من الفضة، وعشر خلع من ثياب السلطان مزركشة، وعشر شواش من لباسه، إحداها مرصعة بالجوهر، وعشرة تراكش مزركشة، وأحدها مرصع بالجواهر، وعشرة من السيوف، أحدها مرصع الغمد بالجوهر، ودشت بان " دستبان " وهو قفاز مرصع بالجواهر، وخمسة عشر من الفتيان. وعين السلطان للسفر معي بهذه الهدية الأمير ظهير الدين الزنجاني، وهو من فضلاء أهل العلم، والفتى كافور الشريدار، وإليه سلمت الهدية، وبعث معنا الأمير محمد الهروي في ألف فارس ليوصلنا إلى الموضع الذي نركب منه البحر. وتوجه صحبتنا أرسال ملك الصين، وهم خمسة عشر رجلاً، يسمى كبيرهم ترسي، وخدامهم نحو مائة رجل. وانفصلنا في جمع كبير ومحلة عظيمة، وأمر لنا السلطان بالضيافة مدة سفرنا ببلاده.

وكان سفرنا في السابع عشر لشهر صفر سنة ثلاث وأربعين، وهو اليوم الذي اختاروه للسفر، لأنهم يختارون للسفر من أيام الشهر ثانيه، أو سابعه أو الثاني عشر أو السابع عشر أو الثاني والعشرين أو السابع والعشرين. فكان نزولنا في أول مرحلة بمنزل تلبت على مسافة فرسخين وثلث من حضرة دهلي.

ورحلنا منها إلى منزل هيلوور ، ورحلنا منه إلى مدينة بيانة " وضبط اسمها بفتح الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف مع تخفيفها وفتح النون "، وهي كبيرة حسنة البناء مليحة الأسواق، ومسجدها الجامع من أبدع المساجد، وحيطانه وسقفه حجارة. والأمير بها مظفر ابن الداية، وأمه هي داية للسلطان. وكان بها قبله الملك مجير ابن أبي الرجاء، أحد كبار الملوك، وقد تقدم ذكره، وهو ينتسب إلى قريش وفيه تجبر، وله ظلم كثير. قتل من أهل هذه المدينة جملة، ومثل بكثير منهم.

ولقد رأيت من أهلها رجلاً حسن الهيئة قاعداً في أسطوان منزله، وهو مقطوع اليدين والرجلين. وقدم السلطان مرة على هذه المدينة، فتشكى الناس من الملك مجير المذكور. فأمر السلطان بالقبض عليه، وجعلت في عنقه الجامعة وكان يقعد بالديوان بين يدي الوزير، وأهل البلد يكتبون عليه المظالم، فأمره السلطان بإرضائهم، فأرضاهم بالأموال. ثم قتله بعد ذلك. ومن كبار أهل هذه المدينة الإمام العالم عز الدين الزبيري من ذرية الزبير ابن العوام رضي الله عنه، أحد كبار الفقهاء الصلحاء. لقيته بكاليور عند الملك عز الدين البنتاني، المعروف بأعظم ملك. ثم رحلنا من بيانة فوصلنا إلى مدينة كول " وضبط اسمها بضم الكاف " مدينة حسنة ذات بساتين، وأكثر أشجارها العنبا. ونزلنا بخارجها في بسيط أفيح. ولقينا بها الشيخ الصالح العابد شمس الدين المعروف بابن العارفين، وهو مكفوف البصر معمر، وبعد ذلك سجنه السلطان، ومات في سجنه، وقد ذكرنا حديثه.

ذكر غزوة شهدناها بكول

ولما بلغنا إلى مدينة كول، بلغنا أن بعض كفار الهنود حاصروا بلدة الجلالي وأحاطوا بها، وهي على مسافة سبعة أميال من كول. قصدناها والكفار يقاتلون أهلها وقد أشرفوا على التلف، ولم يعلم الكفار بنا، حتى صدقنا الحملة عليهم، وهم في نحو ألف فارس، وثلاثة آلاف راجل، فقتلناهم عن آخرهم، واحتوينا على خيلهم وأسلحتهم، واستشهد من أصحابنا ثلاثة وعشرون فارساً وخمسة وخمسون راجلاً، واستشهد الفتى كافور الساقي الذي كانت الهدية مسلمة بيده. فكتبنا إلى السلطان بخبره، وأقمنا في انتظار الجواب. وكان الكفار في أثناء ذلك ينزلون من جبل هنالك منيع، فيغيرون على نواحي بلدة الجلالي. وكان أصحابنا يركبون كل يوم مع أمير تلك الناحية ليعينوه على مدافعتهم.

ذكر محنتي بالأسر وخلاصي منه وخلاصي من شدة بعده على يد ولي من أولياء الله تعالى

وفي بعض تلك الأيام ركبت في جماعة من أصحابي، ودخلنا بستاناً نقيل فيه، وذلك في فصل القيظ. فسمعنا الصياح، فركبنا ولحقنا كفاراً أغاروا على قرية من قرى الجلالي. فاتبعناهم فتفرقوا، وتفرق أصحابنا في طلبهم. وانفردت في خمسة من أصحابنا. فخرج علينا جملة من الفرسان والرجال من غيضة هنالك، ففررنا منهم لكثرتهم. واتبعني نحو عشرة منهم، ثم انقطعوا عني إلا ثلاثة منهم. ولا طريق بين يدي، وتلك الأرض كثيرة الحجارة. فنشبت يد فرسي بين الحجارة فنزلت عنه، واقتلعت يده، وعدت إلى ركوبه. والعادة بالهند أن يكون مع الإنسان سيفان أحدهما معلق بالسراج ويسمى الركابي والآخر في التركش. فسقط سيفي الركابي من غمده، وكانت حليته ذهباً، فنزلت فأخذته وتقلدته وركبت، وهم في أثري. ثم وصلت إلى خندق عظيم فنزلت ودخلت في جوفه فكان آخر عهدي بهم.

ثم خرجت إلى واد في وسط شجراء ملتفة في وسطها طريق. فمشيت عليها ولا أعرف منتهاها، فبينا أنا في ذلك خرج علي نحو أربعين رجلاً من الكفار بأيديهم القسي فأحدقوا بي، وخفت أن يرموني رمية رجل واحد إن فررت منهم، وكنت غير متدرع، فألقيت بنفسي إلى الأرض، واستأسرت. وهم لا يقتلون من فعل ذلك، فأخذوني وسلبوني جميع ما علي، غير جبة وقميص وسروال، ودخلوا بي إلى تلك الغابة، فانتهوا بي إلى موضع جلوسهم منها على حوض ماء بين تلك الأشجار، وأتوني بخبز ماش وهو الجلبان فأكلت منه وشربت من الماء. وكان معهم مسلمان، كلماني بالفارسية، وسألاني عن شأني، فأخبرتهما ببعضه وكتمتهما أني من جهة السلطان فقالا لي: لا بد أن يقتلك هؤلاء أو غيرهم، ولكن هذا مقدمهم. وأشاروا إلى رجل منهم، فكلمته بترجمة المسلمين وتلطفت له. فوكل بي ثلاثة منهم، أحدهم شيخ ومعه ابنه والآخر أسود خبيث. وكلمني أولئك الثلاثة، ففهمت منهم أنهم أمروا بقتلي واحتملوني عشي النهار إلى كهف. وسلط الله على الأسود منهم حمى مرعدة، فوضع رجليه علي، ونام الشيخ وابنه. فلما أصبح الصباح، تكلموا فيما بينهم، وأشاروا إلي بالنزول معهم إلى الحوض، وفهمت أنهم يريدون قتلي، فكلمت الشيخ وتلطفت إليه فرق لي، وقطعت كمي قميصي وأعطيته إياهما، لكي لا يأخذه أصحابه في إن فررت.

ولما كان عند الظهر سمعنا كلاماً عند الحوض، فظنوا أنهم أصحابهم فأشاروا إلي بالنزول معهم، فنزلنا ووجدنا قوماً آخرين، فأشاروا عليهم أن يذهبوا في صحبتهم فأبوا. وجلس ثلاثتهم أمامي، وأنا مواجه لهم. ووضعوا حبل قنب كان معهم بالأرض، وأنا أنظر إليهم وأقول في نفسي، بهذا الحبل يربطوني عند القتل. وأقمت كذلك ساعة، ثم جاء ثلاثة من أصحابهم الذين أخذوني، فتكلموا معهم، وفهمت أنهم قالوا لهم: لأي شيء ما قتلتموه ؟ فأشار الشيخ إلى الأسود. كأنه اعتذر بمرضه، وكان أحد هؤلاء الثلاثة شاباً حسن الوجه، فقال لي: أتريد أن أسرحك ؟ فقلت: نعم. فقال: اذهب. فأخذت الجبة التي كانت علي فأعطيته إياها. وأعطاني منيرة بالية عنده وأراني الطريق، فذهبت وخفت أن يبدو لهم، فيدركونني. فدخلت غيضة قصب وأخفيت نفسي فيها إلى أن غابت الشمس.

ثم خرجت وسلكت الطريق التي أرانيها الشاب، فأفضت بي إلى ماء فشربت منه، وسرت إلى ثلث الليل، فوصلت إلى جبل، فنمت تحته. فلما أصبحت سلكت الطريق فوصلت ضحى إلى جبل من الصخر عالٍ فيه شجر أم غيلان والسدر، فكنت أجني النبق فآكله حتى أثر الشوك في ذراعي آثاراً هي باقية حتى الآن. ثم نزلت من ذلك الجبل إلى أرض مزروعة قطناً، وبها أشجار الخروع، وهنالك باين، والباين عندهم بئر متسعة جداً مطوية بالحجارة لها درج ينزل عليها إلى ورد الماء وبعضها يكون في وسطه وجوانبه القباب من الحجر والسقائف والمجالس، ويتفاخر ملوك البلاد وأمراؤها بعمارتها في الطرقات التي لا ماء بها، وسنذكر بعض ما رأيناه منها فيما بعد. ولما وصلت إلى الباين شربت منه ووجدت عليه شيئاً من عساليج الخردل، قد سقطت لمن غسلها، فأكلت منها، وادخرت باقيها، ونمت تحت شجرة خروع. فبينما أنا كذلك إذ ورد الباين نحو أربعين فارساً مدرعين، فدخل بعضهم إلى المزرعة، ثم ذهبوا وطمس الله أبصارهم دوني. ثم جاء بعدهم نحو خمسين في السلاح. ونزلوا إلى الباين. وأتى أحدهم شجرة إزاء الشجرة التي كنت تحتها، فلم يشعر بي، ودخلت إذ ذاك في مزرعة القطن، وأقمت بها بقية نهاري. وأقاموا على الباين يغسلون ثيابهم ويلعبون. فلما كان الليل هدأت أصواتهم. فعلمت أنهم قد مروا أو ناموا، فخرجت حينئذ، واتبعت أثر الخيل والليل مقمر، وسرت حتى انتهيت إلى باين آخر عليه قبة، فنزلت إليه وشربت من مائه، وأكلت من عساليج الخردل التي كانت عندي، ودخلت القبة فوجدتها مملوءة بالعشب مما يجمعه الطير، فنمت عليها، وكنت أحس حركة حيوان في ذلك العشب أظنه حية فلا أبالي بها لما بي من الجهد. فلما أصبحت سلكت طريقاً واسعة تفضي إلى قرية خربة، وسلكت سواها، فكانت كمثلها. وأقمت كذلك أياماً، وفي بعضها وصلت إلى أشجار ملتفة، بينها حوض ماء، وداخلها شبه بيت، وعلى جوانب الحوض نبات الأرض كالنجيل وغيره، فأردت أن أقعد هنالك حتى يبعث الله من يوصلني إلى العمارة. ثم إني وجدت يسير قوة، فنهضت على طريق وجدت بها أثر البقر، ووجدت ثوراً عليه بردعة ومنجل، فإذا تلك الطريق تفضي إلى قرى الكفار. فاتبعت طريقاً أخرى، فأفضت بي إلى قرية خربة. ورأيت بها أسودين عريانين فخفتهما، وأقمت تحت أشجار هنالك. فلما كان الليل دخلت القرية، ووجدت داراً في بيت من بيوتها شبه خابية كبيرة، يصنعونها لاختزان الزرع، وفي أسفلها نقب يسع الرجل، فدخلتها ووجدت داخلها مفروشاً بالتبن وفيه حجر جعلت رأسي عليه ونمت. وكان فوقها طائر يرفرف بجناحيه أكثر الليل وأظنه كان يخاف فاجتمعنا خائفين.

وأقمت على تلك الحال سبعة أيام من يوم أسرت، وهو يوم السبت، وفي السابع منها وصلت إلى قرية للكفار عامرة، وفيها حوض ماء، ومنابت خضر فسألتهم الطعام فأبوا أن يعطوني، فوجدت حول بئر بها أوراق فجل فأكلتها. وجئت القرية فوجدت جماعة كفار لهم طليعة، فدعاني طليعتهم فلم أجبه، وقعدت إلى الأرض. فأتى أحدهم بسيف مسلول ورفعه ليضربني به، فلم ألتفت إليه لعظيم ما بي من الجهد، ففتشني فلم يجد عندي شيئاً، فأخذ القميص الذي كنت أعطيت كميه للشيخ الموكل بي. ولما كان في اليوم الثامن اشتد بي العطش وعدمت الماء، ووصلت إلى قرية خراب، فلم أجد بها حوضاً. وعادتهم بتلك القرى أن يصنعوا أحواضاً يجتمع بها ماء المطر فيشربون منه جميع السنة. فاتبعت طريقاً، فافضت بي إلى بئر غير مطوية، عليها حبل مضنوع من نبات الأرض وليس فيه آنية يستقى بها، فربطت خرقة كانت على رأسي في الحبل، وامتصصت ما تعلق بها من الماء، فلم يروني، فربطت خفي واستقيت به فلم يروني، فاستقيت به ثانياً، فانقطع الحبل ووقع الخف في البئر، فربطت الخف الآخر وشربت حتى رويت، ثم قطعته فربطت أعلاه على رجلي بحبل البئر، وبخرق وجدتها هنالك. فبينا أنا أربطها وأفكر في حالي إذ لاح لي شخص، فنظرت إليه فإذا رجل أسود اللون بيده إبريق وعكاز، وعلى كاهله جراب. فقال لي: سلام عليكم. فقلت له: عليكم السلام ورحمة الله وبركاته. فقال لي بالفارسية: جيكس " جه كسى " معناه: من أنت ؟ فقلت له: أنا تائه. فقال لي: وأنا كذلك. ثم ربط إبريقه بحبل كان معه واستقى ماء، فأردت أن أشرب، فقال لي: إصبر. ثم فتح جرابه، فأخرج منه غرفة حمص أسود مقلي مع قليل أرز. فأكلت منه وشربت، وتوضأ وصلى ركعتين، وتوضأت أنا وصليت. وسألني عن اسمي فقلت له: محمد، وسألته عن اسمه فقال لي: القلب الفارح. فتفاءلت بذلك وسررت به. ثم قال لي: بسم الله. ترافقني ؟ فقلت: نعم. فمشيت معه قليلاً. ثم وجدت فتوراً في أعضائي، ولم أستطع النهوض فقعدت. فقال لي: ما شأنك. فقلت له: كنت قادراً على المشي قبل أن ألقاك، فلما لقيتك عجزت. فقال: سبحان الله، اركب فوق عنقي. فقلت له: إنك ضعيف، ولا تستطيع ذلك. فقال: يقويني الله. لا بد لك فركبت على عنقه. وقال لي أكثر من قراءة: حسبنا الله ونعم الوكيل، فأكثرت من ذلك.

وغلبتني عيني فلم أفق إلا لسقوطي على الأرض، فاستيقظت ولم أر للرجل أثراً، وإذا أنا في قرية عامرة، فدخلتها فوجدتها لرعية الهنود وحاكمها من المسلمين، فأعلموه بي فجاء إلي فقلت له: ما اسم هذه القرية ؟ فقال لي: تاج بوره. وبينها وبين مدينة كول حيث أصحابنا فرسخان. وحملني ذلك الحاكم إلى بيته، فأطعمني طعاماً سخناً واغتسلت. وقال لي: عندي ثوب وعمامة أودعهما عندي رجل عربي مصري من أهل المحلة التي بكول. فقلت له: هاتهما ألبسهما إلى أن أصل إلى المحلة. فأتى بهما، فوجدتهما من ثيابي التي كنت قد وهبتها لذلك العربي لما قدمنا كول. فطال تعجبي من ذلك.

وفكرت بالرجل الذي حملني على عنقه، فتذكرت ما أخبرني به ولي الله تعالى أبو عبد الله المرشدي، حسبما ذكرناه في السفر الأول، إذ قال لي: ستدخل أرض الهند وتلقى بها أخي ويخلصك من شدة تقع فيها. وتذكرت قوله لما سألته عن اسمه فقال: القلب الفارح وتفسيره بالفارسية دلشاد، فعلمت أنه هو الذي أخبرني بلقائه، وأنه من الأولياء. ولم يحصل لي من صحبته إلا المقدار الذي ذكر، وأتيت تلك الليلة إلى أصحابي بكول معلماً لهم بسلامتي، فجاءوا إلي بفرس وثياب، واستبشروا بي ووجدت جواب السلطان قد وصلهم، وبعث بفتى يسمى بسنبل الجامدار، عوضاً من كافور المستشهد، وأمرنا أن نتمادى على سفرنا. ووجدتهم أيضاً قد كتبوا للسلطان بما كان من أمري، وتشاءموا بهذه السفرة لما جرى فيها علي وعلى كافور، وهم يريدون أن يرجعوا. فلما رأيت تأكيد السلطان في السفر أكدت عليهم، وقوي عزمي. فقالوا: ألا ترى ما اتفق في بداية هذه السفرة ؟ والسلطان يعذرك، فلنرجع إليه أو تقيم حتى يصل جوابه. فقلت لهم: لا يمكن المقام، وحيثما كنا أدركنا الجواب. فرحلنا من كول ونزلنا برج بوره، وبه زاوية حسنة، فيها شيخ حسن الصورة والسيرة يسمى بمحمد العريان، لأنه لا يلبس عليه إلا ثوباً من سرته إلى أسفل، وباقي جسده مكشوف. وهو تلميذ الصالح الولي محمد العريان القاطن بقرافة مصر نفع الله به.

حكاية

هذا الشيخ  وكان من أولياء الله تعالى، قائماً على قدم التجرد، يلبس تنورة، وهو ثوب يستر من سرته إلى أسفل. ويذكر أنه كان إذا صلى العشاء الآخرة أخرج كل ما بقي بالزاوية من طعام وإدام وماء، وفرقه على المساكين، ورمى بفتيلة السراج وأصبح على غير معلوم. وكانت عادته أن يطعم أصحابه عند الصباح خبزاً وفولاً. فكان الخبازون والفوالون يستبقون إلى زاويته، فيأخذ منهم مقدار ما يكفي الفقراء، ويقول لمن أخذ منه ذلك: اقعد، حتى يأخذ أول ما يفتح به عليه في ذلك اليوم قليلاً أو كثيراً. ومن حكاياته أنه لما وصل قازان ملك التتر إلى الشام بعساكره، وملك دمشق ما عدا قلعتها، وخرج الملك الناصر إلى مدافعته، ووقع اللقاء على مسيرة يومين من دمشق، بموضع يقال له قشحب. والملك الناصر إذ ذاك حديث السن لم يعهد الوقائع. وكان الشيخ العريان في صحبته فنزل. وأخذ قيداً فقيد به فرس الملك الناصر لئلا يتزحزح عند اللقاء لحداثة سنه فيكون ذلك سبب هزيمة المسلمين. فثبت الملك الناصر وهزم التتر هزيمة شنعاء، قتل منهم فيها كثير وغرق كثير بما أرسل عليه من المياه. ولم يعد التتر إلى قصد بلاد الإسلام بعدها. وأخبرني الشيخ محمد العريان المذكور تلميذ هذا الشيخ أنه حضر هذه الوقيعة وهو حديث السن. ورحلنا من برج بوره ونزلنا على الماء المعروف باب سياه، ثم رحلنا إلى مدينة قنوج " وضبط اسمها بكسر القاف وفتح النون وواو ساكن وجيم " مدينة كبيرة حسنة العمارة حصينة رخيصة الأسعار كثيرة السكر، ومنها يحمل إلى دهلي. وعليها سور عظيم، وقد تقدم ذكرها. وكان بها الشيخ معين الدين الباخرزي، أضافنا بها، وأميرها فيروز البدخشاني من ذرية بهرام جور " جوبين " صاحب كسرى. وسكن بها جماعة من الصلحاء الفضلاء المعروفين بمكارم الأخلاق يعرفون بأولاد شرف جهان، وكان جدهم قاضي القضاة بدولة آباد، وهو من المحسنين المتصدقين، وانتهت الرياسة ببلاد الهند إليه.

حكاية يذكر أنه عزل مرة عن القضاء وكان له أعداء، فادعى أحدهم عند القاضي الذي ولي بعده أن له عشرة آلاف دينار قبله، ولم تكن له بينة، وكان قصده أن يحلفه. فبعث القاضي له، فقال لرسوله: بم ادعى علي ؟ فقال: بعشرة آلاف دينار. فبعث إلى مجلس القاضي عشرة آلاف، وسلمت للمدعي. وبلغ خبره السلطان علاء الدين، وصح عنده بطلان تلك الدعوى، فأعاده إلى القضاء، وأعطاه عشرة آلاف. وأقمنا بهذه المدينة ثلاثاً، ووصلنا فيها جواب السلطان في شأني بأنه لم يظهر لفلان أثر، فيتوجه وجيه الملك قاضي دولة آباد عوضاً منه. ثم رحلنا من هذه المدينة فنزلنا بمنزل هنول ثم بمنزل وزير بور ثم بمنزل البجالصة، ثم وصلنا إلى مدينة موري " وضبط اسمها بفتح الميم وواو وراء " وهي صغيرة، ولها أسواق حسنة. ولقيت بها الشيخ الصالح المعمر قطب الدين المسمى بحيدر الفرغاني، وكان بحال المرض، فدعاني وزودني رغيف شعير، وأخبرني أن عمره ينيف على مائة وخمسين، وذكر لي أصحابه أنه يصوم الدهر، ويواصل كثيراً، ويكثر الأعتكاف، وربما أقام في خلوته أربعين يوماً يقتات فيها بأربعين تمرة، في كل يوم واحدة. وقد رأيت بدهلي الشيخ المسمى برجب البرقعي دخل الخلوة بأربعين تمرة فأقام بها أربعين يوماً ثم خرج، وفضل معه منها ثلاث عشرة تمرة. ثم رحلنا ووصلنا إلى مدينة مره وضبط اسمها " بفتح وسكون الراء وهاء "، وهي مدينة كبيرة، أكثر سكانها كفار تحت الذمة، وهي حصينة. وبها القمح الطيب الذي ليس مثله بسواها، ومنها يحمل إلى دهلي، وحبوبه طوال شديدة الصفرة ضخمة، ولم أر قمحاً مثله إلا بأرض الصين. وتنسب هذه المدينة إلى المالوة " بفتح اللام "، وهي قبيلة من قبائل الهنود كبار الأجسام عظام الخلق حسان الصور، لنسائهم الجمال الفائق، وهن مشهورات بطيب الخلوة ووفرة الحظ من اللذة. وكذا نساء المرهتة ونساء جزيرة ذيبة المهل. ثم سافرنا إلى مدينة علابور " وضبط اسمها بفتح العين ولام وألف وباء موحدة مضمومة وواو وراء " مدينة صغيرة أكثر سكانها الكفار تحت الذمة، وعلى مسيرة يوم منها سلطان كافر اسمه قتم " بفتح القاف والتاء المعلوة " وهو سلطان جنبيل " بفتح الجيم وسكون النون وكسر الباء الموحدة وياء مد ولام " الذي حاصر مدينة كيالير وقتل بعد ذلك.

حكاية  كان هذا السلطان الكافر قد حاصر مدينة رابري، وهي على نهر اللجون، كثيرة القرى والمزارع. وكان أميرها خطاب الأفغاني، وهو أحد الشجعان واستعان السلطان الكافر بسلطان كافر مثله يسمى رجو " بفتح الراء وضم الجيم " وبلده يسمى سلطان بور، وحاصر مدينة رابري، فبعث خطابٌ إلى السلطان يطلب منه الإعانة، فأبطأ عليه المدد وهو على مسيرة أربعين من الحضرة، فخاف أن يتغلب الكفار عليه، فجمع من قبيلة الأفغان نحو ثلاثمائة ومثلهم من المماليك، ونحو أربعمائة من سائر الناس، وجعلوا العمائم في أعناق خيلهم، وهي عادة أهل الهند إذا أرادوا الموت وباعوا نفوسهم من الله تعالى. وتقدم خطابٌ وقبيلته وتبعهم الناس، وفتحوا الباب عند الصبح، وحملوا على الكفار حملة واحدة، وكانوا نحو خمس عشر ألفاً، فهزموهم بإذن الله وقتلوا سلطانيهم: قتم ورجو، وبعثوا برأسيهما إلى السلطان. ولم ينج من الكفار إلا الشريد.