الجزء الثاني - ذكر أمير علابور واستشهاده

وكان أمير علابور بدر الحبشي من عبيد السلطان، وهو من الأبطال الذين تضرب بهم الأمثال، وكان لا يزال يغير على الكفار منفرداً بنفسه، فيقتل ويسبي، حتى شاع خبره واشتهر أمره وهابه الكفار.

وكان طويلاً ضخماً يأكل الشاة عن آخرها في أكلة. وأخبرت أنه كان يشرب نحو رطل ونصف من السمن بعد غذائه على عادة الحبشة ببلادهم، وكان له ابن يدانيه في الشجاعة. فاتفق أنه أغار مرة في جماعة من عبيده على قرية للكفار فوقع به الفرس في مطمورة، واجتمع عليه أهل القرية فضربه أحدهم بقتارة، والقتارة " بقاف معقود وتاء معلوة " حديدة شبه سكة الحرث، يدخل الرجل يده فيها فتكسو ذراعه ويفضل منها مقدار ذراعين، وضربتها لا تبقي، فقتله بتلك الضربة ومات فيها. وقاتل عبيده أشد القتال، فتغلبوا على القرية وقتلوا رجالها وسبوا نساءها وأخرجوا الفرس من المطمورة سالماً، فأتوا به ولده. فكان من الاتفاق الغريب أنه ركب الفرس وتوجه إلى دهلي، فخرج عليه الكفار، فقاتلهم حتى قتل، وعاد الفرس إلى أصحابه، فدفعوه إلى أهله، فركبه صهر له، فقتله الكفار عليه أيضاً. ثم سافرنا إلى مدينة كاليور " وضبط اسمها بفتح الكاف المعقود وكسر اللام وضم الياء آخر الحروف وواو وراء " ويقال فيه أيضاً: كيالير، وهي مدينة كبيرة لها حصن منيع منقطع في رأس شاهق، على بابه صورة فيل وفيال من الحجارة، وقد مر ذكره في اسم السلطان قطب الدين. وأمير هذه المدينة أحمد بن سيرخان، فاضل كان يكرمني أيام إقامتي عنده قبل هذه السفرة، ودخلت عليه يوماً وهو يريد توسيط رجل من الكفار، فقلت له: بالله لا تفعل ذلك، فإني ما رأيت أحداً قط يقتل بمحضري، فأمر بسجنه. وكان ذلك سبب خلاصه. ورحلنا من مدينة كاليور إلى مدينة برون " وضبط اسمها بفتح الباء المعقودة وسكون الراء وفتح الواو وآخره نون " مدينة صغيرة للمسلمين بين بلاد الكفار، أميرها محمد بن بيرم التركي الأصل. والسباع بها كثيرة، وذكر لي بعض أهلها أن السبع كان يدخل إليها ليلاً، وأبوابها مغلقة فيفترس الناس. حتى قتل من أهلها كثيراً، وكانوا يعجبون في شأن دخوله.

وأخبرني محمد التوفيري من أهلها، وكان جاراً لي بها أنه دخل داره ليلاً وافترس صبياً من فوق السرير. وأخبرني غيره أنه كان مع جماعة في دار عرس فخرج أحدهم لحاجة فافترسه أسد فخرج أصحابه في طلبه، فوجدوه مطرحاً بالسوق وقد شرب دمه، ولم يأكل لحمه. وذكروا أنه كذلك فعله بالناس. ومن العجب أن بعض الناس أخبرني أن الذي يفعل ذلك ليس بسبع، وإنما هو آدمي من السحرة المعروفين بالجوكية، يتصور في صورة سبع. ولما أخبرت بذلك أنكرته، وأخبرني به جماعة. ولنذكر بعضاً من أخبار هؤلاء السحرة.

ذكر السحرة الجوكية

وهؤلاء الطائفة تظهر منهم العجائب، منها أن أحدهم يقيم الأشهر لا يأكل ولا يشرب، وكثير منهم تحفر لهم تحت الأرض وتبنى عليه. فلا يترك له إلا موضع يدخل منه الهواء، ويقيم بها الشهور. وسمعت أن بعضهم يقيم كذلك سنة. ورأيت بمدينة منجرور رجلاً من المسلمين ممن يتعلم منهم، قد رفعت له طبلة، وأقام بأعلاها، لا يأكل ولا يشرب مدة خمسة وعشرين يوماً، وتركته كذلك. فلا أدري كم أقام بعدي. والناس يذكرون أنهم يركبون حبوباً، يأكلون الحبة منها لأيام معلومة وأشهر، فلا يحتاج في تلك المدة إلى طعام ولا شراب. ويخبرون بأمور معيبة. والسلطان يعظمهم ويجالسهم. ومنهم من يقتصر في أكله على البقل، ومنهم من لا يأكل اللحم وهم الأكثرون. والظاهر من حالهم أنهم عودوا أنفسهم الرياضة. ولا حاجة لهم في الدنيا وزينتها. ومنهم من ينظر إلى الإنسان فيقع ميتاً من نظرته، وتقول العامة: إنه إذا قتل بالنظر، وشق عن صدر الميت، وجد دون قلب. ويقولون: أكل قلبه. وأكثر ما يكون هذا في النساء. والمرأة التي تفعل ذلك تسمى كفتار.

حكاية

لما وقعت المجاعة العظمى ببلاد الهند بسبب القحط، والسلطان ببلاد التلنك، نفذ أمره أن يعطى لأهل دهلي ما يقوتهم بحساب رطل ونصف للواحد في اليوم. فجمعهم الوزير، ووزع المساكين منهم على الأمراء والقضاة ليتولوا إطعامهم. فكان عندي منهم خمسمائة نفس، فعمرت لهم سقائف في وادٍ ، وأسكنتهم بها. وكنت أعطيتهم نفقتهم خمسة أيام. فلما كان في بعض الأيام أتوني بامرأة منهم وقالوا: إنها كفتارة. وقد أكلت قلب صبي كان إلى جانبها، وأتوا بالصبي ميتاً. فأمرتهم أن يذهبوا بها إلى نائب السلطان، فأمر باختبارها. وذلك بأن ملأوا أربع جرات بالماء وربطوها بيديها ورجليها وطرحوها في نهر الجون، فلم تغرق. فعلم أنها كفتار، ولو لم تطف على الماء لم تكن بكفتار. فأمر بإحراقها بالنار. وأتى أهل البلد رجالاً ونساء فأخذوا رمادها. وزعموا أنه من تبخر به أمن في تلك السنة من سحر كفتار.

حكاية بعث إلي السلطان يوماً وأنا عنده بالحضرة، فدخلت عليه وهو في خلوة، وعنده بعض خواصه ورجلان من هؤلاء الجوكية، وهم يلتحفون بالملاحف، ويغطون رؤوسهم لأنهم ينتفونها بالرماد، كما ينتف الناس آباطهم. فأمرني بالجلوس فجلست فقال لهما: إن هذا العزيز من بلاد بعيدة، فأرياه ما لم يره، فقالا: نعم. فتربع أحدهما، ثم ارتفع عن الأرض حتى صار في الهواء فوقنا متربعاً، فعجبت منه، وأدركني الوهم فوقعت على الأرض. فأمر السلطان أن أسقى دواء عنده، فأفقت وقعدت، وهو على حاله متربع. فأخذ صاحبه نعلاً له من شكارة كانت معه فضرب بها الأرض كالمغتاظ فصعدت إلى أن علت فوق عنق المتربع وجعلت تضرب في عنقه، وهو ينزل قليلاً قليلاً حتى جلس معنا. فقال السلطان: إن المتربع هو تلميذ صاحب النعل. ثم قال: لولا أني أخاف على عقلك لأمرتهم أن يأتوا بأعظم مما رأيت. فانصرفت عنه، وأصابني الخفقان، ومرضت، حتى أمر لي بشربة أذهبت ذلك عني.

ولنعد لما كنا بسبيله فنقول: سافرنا من مدينة برون إلى منزل أمواري ثم منزل كجرا، وبه حوض عظيم طوله نحو ميل، وعليه الكنائس فيها الأصنام، قد مثل بها المسلمون. وفي وسطه ثلاث قباب من الحجارة الحمر على ثلاث طباق، وعلى أركانه الأربع قباب. ويسكن هنالك جماعة من الجوكية، وقد لبدوا شعورهم، وطالت، حتى صارت في طولهم، وغلبت عليهم صفرة الألوان من الرياضة. وكثير من المسلمين يتبعونهم ليتعلموا منهم، ويذكرون أن من كانت به عاهة من برص أو جذام يأوي إليهم مدة طويلة فيبرأ بإذن الله تعالى. وأول ما رأيت هذه الطائفة بمحلة السلطان طرمشيرين ملك تركستان، وكانوا نحو الخمسين. فحفر لهم غاراً تحت الأرض، وكانوا مقيمين به لا يخرجون إلا لقضاء حاجة. ولهم شبه القرن يضربونه أول النهار وآخره، وبعد العتمة. وشأنهم كله عجب. ومنهم الرجل الذي صنع السلطان غياث الدين الدامغاني سلطان بلاد المعبر حبوباً يأكلها تقويه على الجماع، وكان من أخلاطها برادة الحديد فأعجبه فعلها، فأكل منها أزيد من مقدار الحاجة فمات. وولي ابن أخيه ناصر الدين فأكرم هذا الجوكي ورفع قدره. ثم سافرنا إلى مدينة جنديري " وضبط اسمها بفتح الجيم المعقود وسكون النون وكسر الدال المهمل وياء مد وراء " مدينة عظيمة لها أسواق حافلة يسكنها أمير أمراء تلك البلاد عز الدين البنتاني وهو المدعو بأعظم ملك، وكان خيراً فاضلاً يجالس أهل العلم. وممن كان يجالسه الفقيه عز الدين الزبيري، والفقيه العالم وجيه الدين البياني نسبة إلى مدينة بيانة، التي تقدم ذكرها، والفقيه القاضي المعروف بقاضي خاصة، وإمامهم شمس الدين، وكان النائب عنه على أمور المخزن يسمى قمر الدين، ونائبه على أمور العسكر سعادة التلنكي من كبار الشجعان، وبين يديه تعرض العساكر. وأعظم ملك لا يظهر إلا في يوم الجمعة أو في غيرها نادراً. ثم سرنا من جنديري إلى مدينة ظهار " وضبط اسمها بكسر الظاء المعجم "، وهي مدينة المالوة، أكبر عمار تلك البلاد، وزرعها كثير، خصوصاً القمح. ومن هذه المدينة تحمل أوراق التنبول إلى دهلي وبينهما أربعة وعشرون يوماً، وعلى الطريق بينهما أعمدة منقوش عليها عدد الأميال فيما بين عمودين. فإذا أراد المسافر أن يعلم عدد ما سار في يومه، وما بقي له إلى المنزل وإلى المدينة التي يقصدها قرأ النقش الذي في الأعمدة فعرفه. ومدينة ظهار إقطاع للشيخ إبراهيم الذي من أهل ذيبة المهل.

حكاية

كان الشيخ إبراهيم قدم على هذه المدينة ونزل بخارجها، فأحيا أرضاً مواتاً هنالك. وصار يزدرعها بطيخاً، فتأتي في الغاية من الحلاوة. ليس بتلك الأرض مثلها. ويزرع الناس بطيخاً فيما يجاوره فلا يكون مثله، وكان يطعم الفقراء والمساكين. فلما قصد السلطان إلى بلاد المعبر أهدى إليه هذا الشيخ بطيخاً فقبله واستطابه، وأقطعه مدينة ظهار، وأمره أن يعمر زاوية بربوة يشرف عليها. فعمرها أحسن عمارة، وكان يطعم بها الوارد والصادر، وأقام على ذلك أعواماً. ثم قدم على السلطان وحمل إليه ثلاثة عشر لكاً، فقال: هذا فضل مما كنت أطعمه الناس، وبيت المال أحق به. فقبضه منه ولم يعجب السلطان فعله، لكونه جمع المال ولم ينفق جميعه في إطعام الطعام. وبهذه المدينة أراد ابن أخت الوزير خواجه جهان أن يفتك بخاله، ويستولي أمواله، ويسير إلى القائم ببلاد المعبر. فنمى خبره إلى خاله فقبض عليه، وعلى جماعة الأمراء، وبعثهم إلى السلطان، فقتل الأمراء، ورد ابن أخته إليه فقتله الوزير.

حكاية  

ولما رد ابن أخت الوزير إليه أمر به أن يقتل كما قتل أصحابه، وكانت له جارية يحبها. فاستحضرها وأطعمها التنبول وأطعمته، وعانقها مودعاً، ثم طرح للفيلة، وسلخ جلده وملء تبناً. فلما كان من الليل، خرجت الجارية من الدار، فرمت بنفسها في بئر هنالك تقرب من الموضع الذي قتل فيه، فوجدت ميتة من الغد. فأخرجت ودفن لحمه معها في قبر واحد، وسمي قبور " كور " عاشقان. وتفسير ذلك بلسانهم قبر العاشقين. ثم سافرنا من مدينة ظهار إلى مدينة أجين " وظبط اسمها بضم الهمزة وفتح الجيم وياء ونون " مدينة حسنة كثيرة العمارة. وكا يسكنها الملك ناصر الدين بن عين الملك، من الفضلاء الكرماء العلماء، استشهد بجزيرة سندابور حين افتتحها. وقد زرت قبره هنالك، وسنذكره. وبهذه المدينة كان سكنى الفقيه الطبيب جمال الدين المغربي الغرناطي الأصل. ثم سافرنا من مدينة أجين إلى مدينة دولة آباد، وهي المدينة الضخمة العظيمة الشأن الموازية لحضرة دهلي، في رفعة قدرها واتساع خطتها. وهي منقسمة ثلاثة أقسام: أحدها دولة آباد وهو مختص بسكنى السلطان وعساكره، والقسم الثاني اسمه الكتكة " بفتح الكافين والتاء المعلوة التي بينهما "، والقسم الثالث قلعتها التي لا مثل لها ولا نظير في الحصانة وتسمى الدويقير " بضم الدال المهمل وفتح الواو وسكون الياء وقاف معقود مكسور وياء مد وراء ". وبهذه المدينة سكنى الخان الأعظم قطلوخان معلم السلطان وهو أميرها، والنائب عن السلطان بها، وببلاد صاغر وبلاد التلنك وما أضيف إلى ذلك، وعمالتها مسيرة ثلاثة أشهر، عامرة كلها لحكمه ونوابه فيها. وقلعة الدويقير التي ذكرناها في قطعة حجر في بسيط من الأرض، قد نحتت وبني بأعلاها قلعة يصعد إليها بسلم مصنوع من جلود ويرفع ليلاً. ويسكن بها المفردون وهم الزماميون بأولادهم. وفيها سجن أهل الجرائم العظيمة في جيوب بها. وبها فيران ضخام أعظم من القطوط، والقطوط تهرب منها، ولا تطيق مدافعتها لأنها تغلبها. ولا تصاد إلا بحبل تدار عليها. وقد رأيتها هناك، فعجبت منها.

حكاية أخبرني الملك خطاب الأفغاني أنه سجن مرة في جب بهذه القلعة، يسمى جب الفيران. قال: فكانت تجتمع علي ليلاً لتأكلني. فأقاتلها، وألقى من ذلك جهداً. ثم إني رأيت في النوم قائلاً يقول لي: إقرأ سورة ألإخلاص مائة ألف مرة، ويفرج الله عنك. قال: فقرأتها. فلما أتممتها أخرجت. وكان سبب خروجي أن ملك مل كان مسجوناً في جب يجاورني فمرض. وأكلت الفيران أصابعه وعينيه فمات. فبلغ ذلك السلطان فقال: أخرجوا خطاباً لئلا يتفق له مثل ذلك. وإلى هذه القلعة لجأ ناصر الدين بن ملك مل المذكور، والقاضي جلال، حين هزمهما السلطان. وأهل بلاد دولة آباد هم قبيل المرهتة الذين خص الله نساءهم بالحسن، وخصوصاً في الأنوف والحواجب. ولهن من طيب الخلوة والمعرفة أكثر بحركات الجماع ماليس لغيرهن. وكفار هذه المدينة أصحاب تجارة. وأكثر تجارتهم في الجواهر، وأموالهم طائلة. وهم يسمون الساهة وأحدهم ساهٍ بإهمال السين، وهم الأكارم بديار مصر. وبدولة آباد العنب والرمان. ويثمران مرتين في السنة وهي من أعظم البلاد مجبى، وأكبرها خراجاً، لكثرة عمارتها واتساع عمالتها. وأخبرت أن بعض الهنود التزم مغارمها وعمالتها جميعاً. وهي كما ذكرناها مسيرة ثلاثة أشهر، بسبعة عشر كروراً، والكرور مائة لك، واللك مائة ألف دينار. ولكنه لم يف بذلك، فبقي عليه بقية، وأخذ ماله وسلخ جلده.

ذكر سوق المغنين

وبمدينة دولة آباد سوق للمغنين والمغنيات تسمى سوق طرب آباد، من أجمل الأسواق وأكبرها، فيه الدكاكين الكثيرة. كل دكان له باب يفضي إلى دار صاحبه. وللدار باب سوى ذلك. والحانوت مزين بالفرش، وفي وسطه شكل مهد كبير، تجلس فيه المغنية أو ترقد، وهي متزينة بأنواع الحلي، وجواريها يحركن مهدها. وفي وسط السوق قبة عظيمة مفروشة مزخرفة، يجلس فيها أمير المطربين بعد صلاة العصر من كل يوم خميس، وبين يديه خدامه ومماليكه. وتأتي المغنيات طائفة بعد أخرى، فيغنين بين يديه ويرقصن إلى وقت المغرب، ثم ينصرف. وفي تلك السوق المساجد للصلاة. ويصلي ألئمة فيها التراويح في شهر رمضان. وكان بعض سلاطين الكفار بالهند إذا مر بهذه السوق ينزل بقبتها، وتغني المغنيات بين يديه. وقد فعل ذلك بعض سلاطين المسلمين أيضاً. ثم سافرنا إلى مدينة نذربار " وضبط اسمها بنون وبذال معجم مفتوحين وراء مسكن وباء موحدة مفتوحة وألف وراء " مدينة صغيرة يسكنها المرهتة، وهم أهل الإتقان في الصنائع والأطباء والمنجمون. وشرفاء المرهتة هم البراهمة، وهم الكتريون أيضاً. وأكلهم الأرز والخضر ودهن السمسم. ولا يرون بتعذيب الحيوان ولا ذبحه. ويغتسلون للأكل كغسل الجنابة، ولا ينكحون في أقاربهم إلا فيمن كان بينهم سبعة أجداد. لا يشربون الخمر، وهي عندهم أعظم المعائب. وكذلك هي ببلاد الهند عند المسلمين. ومن شربها من مسلم جلد ثمانين جلدة، وسجن في مطمورة ثلاثة أشهر، لا تفتح عليه إلا حين طعامه.

ثم سافرنا من هذه المدينة إلى مدينة صاغر " وضبط اسمها بفتح الصاد المهمل وفتح الغين المعجم وآخره راء " وهي مدينة كبيرة على نهر كبير يسمى أيضاً صاغر كاسمها. وعليه النواعير والبساتين. فيها العنب والموز وقصب السكر. وأهل هذه المدينة أهل صلاح ودين وأمانة. وأحوالهم كلها مرضية. ولهم بساتين فيها الزوايا للوارد والصادر. وكل من يبني زاوية يحبس البستان عليها، ويجعل النظر فيه لأولاده. فإن انقرضوا عاد النظر للقضاة. والعمارة بها كثيرة. والناس يقصدونها للتبرك بأهلها، ولكونها محررة من المغارم والوظائف.

ثم سافرنا من صاغر المذكورة إلى مدينة كنباية " وضبط اسمها بكسر الكاف وسكون النون وفتح الباء الموحدة وألف وياء آخر الحروف مفتوحة " وهي على خور من البحر، وهو شبه الوادي، تدخله المراكب وبه المد والجزر. وعاينت المراكب به مرساةً في الوحل حين الجزر، فإذا كان المد عامت في الماء. وهذه المدينة من أحسن المدن في إتقان البناء وعمارة المساجد. وسبب ذلك أن أكثر سكانها التجار الغرباء. فهم أبداً يبنون بها الديار الحسنة والمساجد العجيبة، ويتنافسون في ذلك. ومن الديار العظيمة بها دار الشريف السامري الذي اتفقت لي معه قضية الحلواء، وكذبه ملك الندماء. ولم أر قط أضخم من الخشب الذي رأيته بهذه الدار وبابها كأنه باب مدينة. وإلى جانبها مسجد عظيم يعرف باسمه. ومنها دار ملك التجار الكازروني، وإلى جانبها مسجده، ومنها دار التاجر شمس الدين كلاه وز ومعناه خياط الشواشي.

حكاية

ولما وقع ما قدمناه من مخالفة القاضي جلال الأفغاني أراد شمس الدين المذكور والناخوذة الياس، وكان من كفار أهل هذه المدينة وملك الحكماء الذي تقدم ذكره، على أن يمتنعوا منه بهذه المدينة. وشرعوا في حفر خندق عليها إذ لا سور لها، فتغلب عليهم ودخلها. واختفى الثلاثة المذكورون في دار واحدة، وخافوا أن يتطلع عليهم. فاتفقوا على ان يقتلوا أنفسهم فضرب كل واحد منهم صاحبه بقتارة، وقد ذكرنا صفتها، فمات اثنان منهم، ولم يمت ملك الحكماء. وكان من كبار التجار أيضاً بها نجم الدين الجيلاني، وكان حسن الصورة كثير المال، وبنى بها داراً عظيمة ومسجداً. ثم بعث السلطان عنه وأمره عليها وأعطاه المراتب. فكان ذلك سبب تلف نفسه وماله. وكان أمير كنباية حين وصلنا إليها مقبل التلنكي، وهو كبير المنزلة عند السلطان. وكان في صحبته الشيخ زاده الأصبهاني نائباً عنه في جميع أموره. وهذا الشيخ له أموال عظيمة، وعنده معرفة بأمور السلطنة. ولا يزال يبعث الأموال إلى بلاده، ويتحيل في الفرار. وبلغ خبره إلى السلطان، وذكر عنه أنه يروم الهروب. فكتب إلى مقبل أن يبعثه فبعثه على البريد، وأحضر بين يدي السلطان ووكل به. والعادة عنده أنه متى وكل بأحد فقلما ينجو. فاتفق هذا الشيخ مع الموكل به على مال يعطيه إياه، وهربا جميعاً. وذكر لي أحد الثقات أنه رآه في ركن مسجد بمدينة قلهات، وأنه وصل بعد ذلك إلى بلاده، فحصل على أمواله، وأمن مما كان يخافه.

حكاية

وأضافنا الملك مقبل يوماً بداره، فكان من النادر أن جلس قاضي المدينة، وهو أعور العين اليمني، وفي مقابلته شريف بغدادي شديد الشبه به في صورته وعوره، إلا أنه أعور اليسرى. فجعل الشريف ينظر إلى القاضي ويضحك. فزجره القاضي، فقال له: لا تزجرني، فإني أحسن منك. قال: كيف ذلك ؟ قال: لأنك أعور اليمنى، وأنا أعور اليسرى. فضحك الأمير والحاضرون. وخجل القاضي، ولم يستطع أن يرد عليه. والشرفاء ببلاد الهند معظمون أشد التعظيم. وكان بهذه المدينة من الصالحين الحاج ناصر من أهل ديار بكر، وسكناه بقبة من قباب الجامع. دخلنا إليه، وأكلنا من طعامه. واتفق له لما دخل القاضي جلال مدينة كنباية حين خلافه، أنه أتاه، وذكر للسلطان أنه دعا له. فهرب لئلا يقتل كما قتل الحيدري. وكان بها أيضاً من الصالحين التاجر خواجه إسحاق، وله زاوية يطعم فيها الوارد والصادر، وينفق على الفقراء والمساكين. وماله على هذا ينمو ويزيد كثرة. وسافرنا من هذه المدينة إلى بلد كاوي، وهي على خور فيه المد والجزر وهي من بلاد الري جالنسي الكافر، وسنذكره. وسافرنا منها إلى مدينة قندهار " وضبط اسمها بفتح القاف وسكون النون وفتح الدال المهمل وهاء والف وراء "، وهي مدينة كبيرة للكفار على خور من البحر.