قال ابن إسحاق : وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة - وسيد أهلها عبدالله بن أبي بن سلول العوفي ، ثم أحد بن الحبلى ، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين ، حتى جاء الإسلام ، غيره، ومعه في الأوس رجل ، هو في قومه من الأوس شريف مطاع ، أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان ، أحد بني ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة ، الغسيل يوم أحد ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، وكان يقال له : الراهب . فشقيا بشرفهما وضرَّهما . نفاق ابن أبي فأما عبدالله بن أُبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم ، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، وهم على ذلك . فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا . فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن .
وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام ، فخرج منهم إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثني محمد بن أبي أمامة عن بعض آل حنظلة بن أبي عامر - : لا تقولوا : الراهب ، ولكن قولوا: الفاسق .
قال ابن اسحاق : وحدثني جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم ، وكان قد أدرك وسمع ، وكان راوية : أن أبا عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة ، قبل أن يخرج إلى مكة ، فقال : ما هذا الدين الذي حئت به ؟ فقال : جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال : فأنا عليها ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك لست عليها ؛ قال : بلى ، قال : إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها ، قال : ما فعلت ، ولكني جئت بها بيضاء نقية ؛ قال : الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا - يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم - أي أنك جئت بها كذلك . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أجل ، فمن كذب ففعل الله تعالى ذلك به . فكان هو ذلك عدو الله ، خرج إلى مكة ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج إلى الطائف . فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام . فمات بها طريدا غريبا وحيدا . الاختصام في ميراثه إلى قيصر وكان قد خرج معه علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب ، وكنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي ، فلما مات اختصما في ميراثه إلى قيصر ، صاحب الروم . فقال قيصر : يرث أهل المدر أهل المدر ، ويرث أهل الوبر أهل الوبر ، فورثه كنانة ابن عبد ياليل بالمدر دون علقمة . فقال كعب بن مالك لأبي عامر فيما صنع :
معاذ الله من عمل خـبـيث |
|
كسعيك في العشيرة عبد عمرو |
فإما قلت لي شرف ونخـل |
|
فقد ما بعتَ إيمانـا بـكـفـر |
قال ابن هشام : ويروى : فإما قلت لي شرف ومال قال ابن إسحاق : وأما عبدالله بن أُبي فأقام على شرفه في قومه مترددا ، حتى غلبه الإسلام ، فدخل فيه كارها .
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أسامة بن زيد بن حارثة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه إكاف ، فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف ، وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه . قال : فمر بعبدالله بن أبي ، وهو في ظل مزاحم أُطُمِه . قال ابن هشام : مزاحم : اسم الأطم . قال ابن إسحاق : وحوله رجال من قومه ، فلما رآه رسول الله تذمم من أن يجاوزه حتى ينزل ، فنزل فسلم ثم جلس قليلا فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ، وذكر بالله وحذر ، وبشر وأنذر قال : وهو زام لا يتكلم ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته ، قال : يا هذا ، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدثه إياه ، ومن لم يأتك فلا تغُتَّه به ، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه . قال : فقال عبدالله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين : بلى ، فاغشنا به ، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا ، فهو والله مما نحب ، ومما أكرمنا الله به وهدانا له ، فقال عبدالله بن أبي حين رأى من ( خلاف قومه ما رأى :
متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل |
|
تذل ويصـرعْـك الـذين تُـصـارع |
وهل ينهض البازي بغير جناحـه |
|
وإن جُذ يوما ريشـه فـهـو واقـع |
قال ابن هشام : البيت الثاني عن غير ابن إسحاق .
قال ابن إسحاق : وحدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أسامة ، قال : وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل على سعد بن عبادة ، وفي وجهه ما قال عدو الله ابن أبي ، فقال : والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئا ، لكأنك سمعت شيئا تكرهه ؛ قال : أجل ، ثم أخبره بما قال ابن أبي ، فقال سعد : يا رسول الله ، ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، وإنا لننظم له الخرز لنتوِّجه ، فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكا .
قال ابن إسحاق : وحدثني هشام بن عروة ، وعمر بن عبدالله بن عروة ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم .قالت : فكان أبو بكر ، وعمر بن فهيرة ، وبلال ، مَوْليا أبي بكر ، مع أبي بكر في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب ، وبهم ما لا يعلمه إلا االله من شدة الوعك ، فدنوت من أبي بكر ، فقلت له : كيف تجدك يا أبت ؟ فقال :
كل امرىء مُصبَّح في أهله |
|
والموت أدنى من شراك نعله |
قالت : فقلت : والله ما يدري أبي ما يقول . قالت : ثم دنوت إلى عامر ابن فهيرة ، فقلت له : كيف تجدك يا عامر ؟ فقال :
لقد وجدتُ الموت قبل ذوقه |
|
إن الجبان حتفه من فـوقـه |
كل امرىء مجاهد بطوقه |
|
كالثور يحمي جلده بـرَوْقـه |
بطوقه يريد : بطاقته ، فيما قال ابن هشام : قالت : فقلت : والله ما يدري عامر ما يقول ! قالت : وكان بلال إذا تركته الحمَّى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال :
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة |
|
بفخّ وحَوْلي إذخـر وجـلـيل |
وهل أردنْ يوما مياه مَجِـنَّة |
|
وهل يبدون لي شامة وطفـيل |
قال ابن هشام : شامة وطفيل : جبلان بمكة .
قالت عائشة رضي الله عنها : فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم ، فقلت : إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى . قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة ، أو أشد ، وبارك لنا في مُدّها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة ، ومهيعة : الجحفة .
قال ابن إسحاق : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مُقامه ذاك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز ، بأسفل ثنيِّة المرة ، فلقي بها جمعا عظيما من قريش ، فلم يكن بينهم قتال ، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمي به في الإسلام . من فر من المشركين إلى المسلمين في هذه السرية ثم انصرف القوم عن القوم ، وللمسلمين حامية . وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني ، حليف بني زهرة ، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني ، حليف بني نوفل بن عبد مناف ، وكانا مسلمين ، ولكنهما خرجا ليتوصَّلا بالكفار . وكان على القوم عكرمة ابن أبي جهل . قال ابن هشام : حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء ، عن أبي عمرو المدني : أنه كان عليهم مِكْرز بن حفص بن الأخيف ، أحد بني معيص بن عامر ابن لؤي بن غالب بن فهر . شعر أبي بكر في هذه السرية قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، في غزوة عبيدة بن الحارث - قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لأبي بكر رضي الله عنه - :
أمن طيف سلمى بالبطاح الدمـائث |
|
أرقت وأمر في الـعـشـيرة حـادث |
ترى من لؤي فـرقة لا يصـدهـا |
|
عن الكفر تذكير ولا بـعـث بـاعـث |
رسول أتاهم صادق فـتـكـذبـوا |
|
عليه وقالوا : لست فينـا بـمـاكـث |
إذا ما دعوناهم إلى الحـق أدبـروا |
|
وهروا هرير المجحرات اللـواهـث |
فكم قد متتـنـا فـيهـم بـقـرابة |
|
وترك التُّقى شيء لهـم غـيرُ كـارث |
فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهـم |
|
فما طيبات الحل مـثـل الـخـبـائث |
وإن يركبوا طغيانهم وضـلالـهـم |
|
فليس عذاب اللـه عـنـهـم بـلابـث |
ونحن أنـاس مـن ذؤابة غـالـب |
|
لنا العز منها في الـفـروع الأثـائث |
فأولي برب الراقصـات عـشـية |
|
حراجيج تحدى في السريح الـرثـائث |
كأدم ظباء حـول مـكة عـكـف |
|
يردن حياض البـئر ذات الـنـبـائث |
لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالـهـم |
|
ولسـت إذا آلـيت قـولا بـحـانـث |
لتبتدرنهَّـم غـارة ذات مـصـدق |
|
تحرم أطهار النـسـاء الـطـوامـث |
تغادر قتلى تعصب الطير حولـهـم |
|
ولا ترأف الكفار رأف ابـن حـارث |
فأبلغ بنـي سـهـم لـديك رسـالة |
|
وكل كفور يبتغـي الـشـر بـاحـث |
فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم |
|
فإني من أعراضكـم غـير شـاعـث |
شعر ابن الزبعرى يرد على أبي بكر فأجابه عبدالله بن الزبعرى السهمي ، فقال :
أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث |
|
بكيت بعين دمعهـا غـير لابـث |
ومن عجب الأيام والدهر كله |
|
له عجب من سابقـات وحـادث |
لجيش أتانا ذي عـرام يقـوده |
|
عبيدة يُدعى في الهياج ابن حارث |
لنترك أصناما بمكة عـكـفـا |
|
مواريث موروث كريم لـوراث |
فلما لقيناهم بـسـمـر ردينة |
|
وجرد عتاق في العجاج لواهـث |
وبيض كأن الملح فوق متونها |
|
بأيدي كماة كاللـيوث الـعـوائث |
نقيم بها إصعار من كان مائلا |
|
ونشقي الذحول عاجلا غير لابث |
فكفوا على خوف شديد وهيبة |
|
وأعجبهم أمر لهـم أمـر رائث |
ولو أنهم لم يفعلوا ناح نسـوة |
|
أيامى لهم ، من بين نسء وطامث |
وقد غودرت قتلى يخبر عنهمُ |
|
حفي بهم أو غافل غير بـاحـث |
فأبلغ أبا بكـر لـديك رسـالة |
|
فما أنت عن أعراض فهر بماكث |
ولما تجب مني يمين غلـيظة |
|
تجدد حربا حلفة غـير حـانـث |
قال ابن هشام : تركنا منها بيتا واحدا ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لابن الزبعرى . شعر سعد بن أبي وقاص يذكر رميته في هذه السرية قال ابن إسحاق : وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون :
ألا هل أتى رسول الله أني |
|
حميت صحابتي بصدور نبلي |
أذود بهـا أوائلـهـم ذيادا |
|
بكل حُزُونة وبكـل سَـهْـلِ |
فما يعتدُّ رام فـي عـدو |
|
بسهم يا رسول الله قـبـلـي |
وذلك أن دينك دين صـدق |
|
وذو حـق أتـيت بـه وعـدل |
ينجَّى المؤمنون به ، ويجُزى |
|
به الكفار عند مقـام مَـهْـل |
فمهلا قد غويت فلا تَعِبْنـي |
|
غويَّ الحي ويحك يا ابن جهل |
قال ابن هشام : وأكثر أهل العم بالشعر ينكرها لسعد . أول راية في الإسلام كانت لعبيدة قال ابن إسحاق: فكانت راية عبيدة بن الحارث - فيما بلغني - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، لأحد من المسلمين . وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء ، قبل أن يصل إلى المدينة .
ما فعلته هذه السرية وبعث في مقامه ذلك ، حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم ، إلى سيف البحر ، من ناحية العيص ، في ثلاثين راكبا من المهاجرين ، وليس فيهم من الأنصار أحد . فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاث مئة راكب من أهل مكة . فحجز بينهم مجديُّ بن عمرو الجهني . وكان موادعا للفريقين جميعا ، فانصرف بعض القوم عن بعض ، ولم يكن بينهم قتال . من قال أن أول راية في الإسلام كانت لحمزة رضي الله عنه ، و شعر حمزة في ذلك وبعض الناس يقول : كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين . وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا ، فشُبِّه ذلك على الناس . وقد زعموا أن حمزة قد قال في ذلك شعرا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان حمزة قد قال ذلك ، فقد صدق إن شاء الله ، لم يكن يقول إلا حقا ، فالله أعلم أي ذلك كان . فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا ، فعبيدة بن الحارث أول من عقد له . فقال حمزة في ذلك ، فيما يزعمون : قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لحمزة رضي الله عنه :
ألا يا لقومي للتحلم والجـهـل |
|
وللنقص من رأي الرجال وللعقل |
وللراكبينا بالمظالم لـم نـطـأ |
|
لهم حرمات من سـوام ولا أهـل |
كأنا تَبلْناهم ولا تبل عـنـدنـا |
|
لهم غير أمر بالعفاف وبالـعـدل |
وأمر بإسلام فلا يقـبـلـونـه |
|
وينزل منهم مثل منزلة الـهـزل |
فما برحوا حتى انتدبت لغـارة |
|
لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل |
بأمر رسول الله ، أول خافـق |
|
عليه لواء لم يكن لاح من قبلـي |
لواء لديه النصر من ذي كرامة |
|
إله عزيز فعله أفضل الـفـعـل |
عشية ساروا حاشدين وكلـنـا |
|
مراجله من غيظ أصحابه تغلـي |
فلما تراءينا أناخوا فعقَّلوا مطايا |
|
وعقَّلنا مدى غـرض الـنـبـل |
فقلنا لهم : حبل الإله نصيرنـا |
|
وما لكم إلا الضلالة من حـبـل |
فثار أبو جهل هنالـك بـاغـيا |
|
فخاب وردَّ الله كيد أبـي جـهـل |
وما نحن إلا في ثلاثين راكبـا |
|
وهم مئتان بعد واحـدة فـضـل |
فيا للؤي لا تطيعوا غواتـكـم |
|
وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل |
فإني أخاف أن يُصبَّ علـيكـم |
|
عذاب فتدعوا بالندامة والـثـكـل |
شعر أبو جهل يرد على حمزة فأجابه أبو جهل بن هشام ، فقال :
عجبت لأسباب الحفيظة والجهل |
|
وللشاغبين بالخلاف وبـالـبـطـل |
||
وللتاركين ما وجدنـا جـدودنـا |
|
عليه ذوي الأحساب والسؤدد الجزل |
||
أتونا بإفك كي يضلوا عقولـنـا |
|
وليس مضلا إفكهم عقل ذي عقـل |
||
فقلنا لهم : يا قومنا لا تخالـفـوا |
|
على قومكم إن الخلاف مدى الجهل |
||
فإنكم إن تفعلـوا تـدع نـسـوة |
|
لهن بواك بـالـرزية والـثـكـل |
||
وإن ترجعوا عما فعلتم فإنـنـا |
|
بنو عمكم أهل الحفائظ والفـضـل |
||
فقالوا لنا : إنا وجدنا مـحـمـدا |
|
رضا لذوي الأحلام منا وذي العقل |
||
فلما أبوا إلا الخـلاف وزينـوا |
|
جماع الأمور بالقبيح من الفـعـل |
||
تيممتهم بالساحـلـين بـغـارة |
|
لأتركهم كالعصف ليس بذي أصـل |
||
فورَّعني مجديّ عنهم وصحبتي |
|
وقد وازروني بالسيوف وبالنـبـل |
||
لإلٍّ علينا واجب لا نـضـيعـه |
|
أمين قواه غير منتكث الـحـبـل |
||
فلولا ابن عمرو كنت غادرت منهم |
|
ملاحم للطير العكـوف بـلا تـبـل |
||
ولكنه آلـى بـإلٍّ فـقـلَّـصـت |
|
بأيماننا حد السيوف عـن الـقـتـل |
||
فإن تُبقني الأيام أرجعْ عـلـيهـم |
|
ببيض رقاق الحد محدثة الـصـقـل |
||
بأيدي حماة من لؤي بن غـالـب |
|
كرام المساعي في الجدوبة والمحـل |
||
قال ابن هشام : وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لأبي جهل . غزوة بواط يومها قال ابن إسحاق: ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول يريد قريشا . ابن مظعون في المدينة قال ابن هشام : واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون . العودة إلى المدينة قال ابن إسحاق : حتى بلغ بواط ، من ناحية رضوى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا ، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى . غزوة العشيرة من استعمله صلى الله عليه وسلم على المدينة ثم غزا قريشا ، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد ، فيما قال ابن هشام . الطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة قال ابن إسحاق : فسلك على نقب بني دينار ، ثم على فيفاء الخبار ، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر ، يقال لها : ذات الساق ، فصلى عندها . فثمَّ مسجده صلى الاله عليه وسلم ، وصُنع له عندها طعام ، فأكل منه ، وأكل الناس معه ، فموضع أثافي البرمة معلوم هنالك ، واستُقي له من ماء به ، يقال له : المشترب ، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائق بيسار ، وسلك شعبة يقال لها : شعبة عبدالله ، وذلك اسمها اليوم ، ثم صب لليسار حتى هبط يليل ، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة ، واستقى من بئر بالضبوعة ، ثم سلك الفرش : فرش ملل ، حتى لقي الطريق بصحيرات اليمام ، ثم اعتدل به الطريق ، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع . فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة ، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيدا . تكنيته صلى الله عليه وسلم عليا أبا تراب وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ما قال . قال ابن إسحاق : فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم المحاربي ، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خيثم أبي يزيد ، عن عمار بن ياسر ، قال : كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة ؛ فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها ؛ رأينا أناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل ؛ فقال لي علي بن أبي طالب : يا أبا اليقظان ، هل لك في أن تأتي هؤلاء القوم ، فننظر كيف يعملون ؟ قال : قلت : إن شئت ؛ قال : فجئناهم ، فنظرنا إلى عملهم ساعة ، ثم غشينا النوم . فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور من النخل ، وفي دقعاء من التراب فنمنا ، فوالله ما أهبَّنا إلا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله . وقد تترَّبْنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها ، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : ما لك يا أبا تراب ؟ لما يرى عليه من التراب . أشقى رجلين ثم قال : ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين ؟ قلنا : بلى ، يا رسول الله ؛ قال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه - و وضع يده على قرنه - حتى يَبُلَّ منها هذه . وأخذ بلحيته . قال ابن إسحاق : وقد حدثني بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سمَّى عليا أبا تراب ، أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها ، ولم يقل لها شيئا تكرهه ، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه . قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة ، فيقول : ما لك يا أبا تراب ؟ فالله أعلم أي ذلك كان . سرية سعد بن أبي وقاص ذهابه إلى الخرار و رجوعه من غير حرب قال ابن إسحاق : وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص ، في ثمانية رهط من المهاجرين ، فخرج حتى بلغ الخرَّار من أرض الحجاز ، ثم رجع ولم يلق كيدا .قال ابن هشام : ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة .
إغارة كرز و الخروج في طلبه قال ابن إسحاق : ولم يُقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر ، حتى أغار كرز ابن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة ، فيما قال ابن هشام . فوات كرز و الرجوع من غير حرب قال ابن إسحاق : حتى بلغ واديا ، يقال له: سفوان، من ناحية بدر ، و فاته كرز بن جابر ، فلم يدركه ، وهي غزوة بدر الأولى . ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا وشعبان . سرية عبدالله بن جحش ونزول: ( يسألونك عن الشهر الحرام ) . بعثه و الكتاب الذي حمله من الرسول صلى الله عليه و سلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا . أصحاب ابن جحش في هذه السرية وكان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين ، ثم من بني عبد شمس ابن عبد مناف : أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ؛ ومن حلفائهم : عبدالله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعكاشة بن محصن ابن حرثان ، أحد بني أسد بن خزيمة ، حليف لهم . ومن بني نوفل بن عبد مناف : عتبة بن غزوان بن جابر ، حليف لهم . ومن بني زهرة بن كلاب : سعد بن أبي وقاص. ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عنز ابن وائل ، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة ابن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم ، وخالد بن البكير ، أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم . ومن بني الحارث بن فهر : سهيل بن بيضاء .
فلما سار عبدالله بن جحش يومين فتح الكتاب ، فنظر فيه فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم . فلما نظر عبدالله بن جحش في الكتاب ، قال : سمعا وطاعة ؛ ثم قال لأصحابه : قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها قريشا ، حتى آتيه منهم بخبر ؛ وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم . فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ؛ فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه ، لم يتخلف عنه منهم أحد . من تخلف عن السرية بمعدن وسببه و سلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن ، فوق الفرع ، يقال له : بحران ، أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما ، كانا يعتقبانه . فتخلفا عليه في طلبه . ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة .
فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ، وتجارة من تجارة قريش ، فيهما عمرو بن الحضرمي . اسم الحضرمي ونسبه قال ابن هشام : واسم الحضرمي : عبدالله بن عباد ، ويقال : مالك بن عباد أحد الصدف ، واسم الصدف : عمرو بن مالك ، أحد السكون ابن أشرس بن كندة ، ويقال : كنديّ . قال ابن إسحاق : وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبدالله ، المخزوميان ، والحكم بن كيسان ، مولى هشام بن المغيرة . ما جرى بين الفريقين و ما خلص به ابن جحشفلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا ، وقالوا عُمَّار ، لا بأس عليكم منهم . وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ؛ فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم. فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان ؛ وأفلت لقومَ نوفلُ بن عبدالله فأعجزهم . وأقبل عبدالله ابن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش : أن عبدالله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم - فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه . إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم قتالهم في الأشهر الحرم قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؛ قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام . فوقَّف العير والأسيرين . وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا ؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا . وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال ؛ فقال من يرد عليهم من المسلمين ، ممن كان بمكة : إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان . توقع اليهود بالمسلمين الشر وقالت يهود - تفاءَلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم - عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبدالله ، عمرو ، عمرت الحرب ؛ والحضرمي ، حضرت الحرب ؛ وواقد بن عبدالله ، وقدت الحرب . فجعل الله ذلك عليهم لا لهم . القرآن يقر ما فعله ابن جحش فلما أكثر الناس في ذلك ، أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم : {( يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، قل قتال فيه كبير ، وصد عن سبيل الله وكفر به ، والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله )} أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله ، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم ( والفتنة أكبر من القتل ) : أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه ، فذلك أكبر عند الله من القتل ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ) : أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين . فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق ، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا نُفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما ، نقتل صاحبيكم . فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم . إسلام ابن كيسان و موت عثمان كافرا فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عله وسلم حتى قُتل يوم بئر معونة شهيدا . وأما عثمان بن عبدالله فلحق بمكة ، فمات بها كافرا . طمع ابن جحش أمير السرية في الأجر وما نزل في ذلك من القرآن فلما تجلى عن عبدالله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ، طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول الله ، أنطمع أن تكون لنا غزوة نُعطى فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل الله عز وجل فيهم : ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ، والله عفور رحيم ) ، فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء .والحديث في هذا عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير . إحلال الفيء وقسمه قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش : أن الله عز وجل قسم الفيء حين أحله ، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه الله ، وخمسا إلى الله ورسوله ، فوقع على ما كان عبدالله بن جحش صنع في تلك العير . أول غنيمة للمسلمين قال ابن هشام : وهي أول غنيمة غنمها المسلمون . وعمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون ، وعثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون . شعر عبدالله بن جحش في هذه السرية قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبدالله بن جحش ، ويقال : بل عبدالله بن جحش قالها ، حين قالت قريش : قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال ، وأسروا فيه الرجال - قال ابن هشام : هي لعبدالله ابن جحش - :
تعدون قتلا في الحرام عظـيمة |
|
وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشـدُ |
صدودكم عما يقول مـحـمـد |
|
وكفر به والـلـه راء وشـاهـد |
وإخراجكم من مسجد الله أهلـه |
|
لئلا يُرى لله في البـيت سـاجـد |
فإنا وإن عيرتمونا بـقـتـلـه |
|
وأرجف بالإسلام بـاغ وحـاسـد |
سقينا من ابن الحضرمي رماحنا |
|
بنخلة لما أوقـد الـحـرب واقـد |
دما وابنُ عبدالله عثمان بينـنـا |
|
ينازعه غُلّ مـن الـقـدّ عـانـد |