أخبار عن المنافقين

شقاء عبدالله بن أبي ، وأبي عامر بن صيفي

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة - كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة - وسيد أهلها عبدالله بن أبي بن سلول العوفي ، ثم أحد بن الحبلى ، لا يختلف عليه في شرفه من قومه اثنان ، لم تجتمع الأوس والخزرج قبله ولا بعده على رجل من أحد الفريقين ، حتى جاء الإسلام ، غيره، ومعه في الأوس رجل ، هو في قومه من الأوس شريف مطاع ، أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان ، أحد بني ضبيعة بن زيد ، وهو أبو حنظلة ، الغسيل يوم أحد ، وكان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح ، وكان يقال له ‏‏:‏‏ الراهب ‏‏.‏‏ فشقيا بشرفهما وضرَّهما ‏‏.‏‏ نفاق ابن أبي فأما عبدالله بن أُبي فكان قومه قد نظموا له الخرز ليتوجوه ثم يملكوه عليهم ، فجاءهم الله تعالى برسوله صلى الله عليه وسلم، وهم على ذلك ‏‏.‏‏ فلما انصرف قومه عنه إلى الإسلام ضغن ، ورأى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استلبه ملكا ‏‏.‏‏ فلما رأى قومه قد أبوا إلا الإسلام دخل فيه كارها مصرا على نفاق وضغن ‏‏.‏‏

كفر أبي عامر بن صيفي

وأما أبو عامر فأبى إلا الكفر والفراق لقومه حين اجتمعوا على الإسلام ، فخرج منهم إلى مكة ببضعة عشر رجلا مفارقا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثني محمد بن أبي أمامة عن بعض آل حنظلة بن أبي عامر - ‏‏:‏‏ لا تقولوا ‏‏:‏‏ الراهب ، ولكن قولوا‏‏:‏‏ الفاسق ‏‏.‏‏

جزاء بن صيفي لتعريضه به صلى الله عليه وسلم

قال ابن اسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني جعفر بن عبدالله بن أبي الحكم ، وكان قد أدرك وسمع ، وكان راوية ‏‏:‏‏ أن أبا عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة ، قبل أن يخرج إلى مكة ، فقال ‏‏:‏‏ ما هذا الدين الذي حئت به ‏‏؟‏‏ فقال ‏‏:‏‏ جئت بالحنيفية دين إبراهيم ، قال ‏‏:‏‏ فأنا عليها ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ إنك لست عليها ؛ قال ‏‏:‏‏ بلى ، قال ‏‏:‏‏ إنك أدخلت يا محمد في الحنيفية ما ليس منها ، قال ‏‏:‏‏ ما فعلت ، ولكني جئت بها بيضاء نقية ؛ قال ‏‏:‏‏ الكاذب أماته الله طريدا غريبا وحيدا - يعرض برسول الله صلى الله عليه وسلم - أي أنك جئت بها كذلك ‏‏.‏‏  قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ أجل ، فمن كذب ففعل الله تعالى ذلك به ‏‏.‏‏ فكان هو ذلك عدو الله ، خرج إلى مكة ، فلما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة خرج إلى الطائف ‏‏.‏‏ فلما أسلم أهل الطائف لحق بالشام ‏‏.‏‏ فمات بها طريدا غريبا وحيدا ‏‏.‏‏ الاختصام في ميراثه إلى قيصر وكان قد خرج معه علقمة بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب ، وكنانة بن عبد ياليل بن عمرو بن عمير الثقفي ، فلما مات اختصما في ميراثه إلى قيصر ، صاحب الروم ‏‏.‏‏ فقال قيصر ‏‏:‏‏ يرث أهل المدر أهل المدر ، ويرث أهل الوبر أهل الوبر ، فورثه كنانة ابن عبد ياليل بالمدر دون علقمة ‏‏.‏‏ فقال كعب بن مالك لأبي عامر فيما صنع ‏‏:‏‏

معاذ الله من عمل خـبـيث

 

كسعيك في العشيرة عبد عمرو

فإما قلت لي شرف ونخـل

 

فقد ما بعتَ إيمانـا بـكـفـر

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ ويروى ‏‏:‏‏ فإما قلت لي شرف ومال قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وأما عبدالله بن أُبي فأقام على شرفه في قومه مترددا ، حتى غلبه الإسلام ، فدخل فيه كارها ‏‏.‏‏

تعرض ابن أبي له صلى الله عليه وسلم ، وغضب قومه منه

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أسامة بن زيد بن حارثة، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ‏‏:‏‏ ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة يعوده من شكو أصابه على حمار عليه إكاف ، فوقه قطيفة فدكية مختطمة بحبل من ليف ، وأردفني رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فمر بعبدالله بن أبي ، وهو في ظل مزاحم أُطُمِه ‏‏.‏‏ قال ابن هشام ‏‏:‏‏ مزاحم ‏‏:‏‏ اسم الأطم ‏‏.‏‏ قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحوله رجال من قومه ، فلما رآه رسول الله تذمم من أن يجاوزه حتى ينزل ، فنزل فسلم ثم جلس قليلا فتلا القرآن ودعا إلى الله عز وجل ، وذكر بالله وحذر ، وبشر وأنذر قال ‏‏:‏‏ وهو زام لا يتكلم ، حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته ، قال ‏‏:‏‏ يا هذا ، إنه لا أحسن من حديثك هذا إن كان حقا فاجلس في بيتك فمن جاءك له فحدثه إياه ، ومن لم يأتك فلا تغُتَّه به ، ولا تأته في مجلسه بما يكره منه ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فقال عبدالله بن رواحة في رجال كانوا عنده من المسلمين ‏‏:‏‏ بلى ، فاغشنا به ، وائتنا في مجالسنا ودورنا وبيوتنا ، فهو والله مما نحب ، ومما أكرمنا الله به وهدانا له ، فقال عبدالله بن أبي حين رأى من ‏‏(‏‏ خلاف قومه ما رأى ‏‏:‏‏

متى ما يكن مولاك خصمك لا تزل

 

تذل ويصـرعْـك الـذين تُـصـارع

وهل ينهض البازي بغير جناحـه

 

وإن جُذ يوما ريشـه فـهـو واقـع

قال ابن هشام ‏‏:‏‏ البيت الثاني عن غير ابن إسحاق ‏‏.‏‏

غضبه صلى الله عليه وسلم من قول ابن أبي

قال ابن إسحاق ‏‏:‏‏ وحدثني الزهري ، عن عروة بن الزبير ، عن أسامة ، قال ‏‏:‏‏ وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل على سعد بن عبادة ، وفي وجهه ما قال عدو الله ابن أبي ، فقال ‏‏:‏‏ والله يا رسول الله إني لأرى في وجهك شيئا ، لكأنك سمعت شيئا تكرهه ؛ قال ‏‏:‏‏ أجل ، ثم أخبره بما قال ابن أبي ، فقال سعد ‏‏:‏‏ يا رسول الله ، ارفق به ، فوالله لقد جاءنا الله بك ، وإنا لننظم له الخرز لنتوِّجه ، فوالله إنه ليرى أن قد سلبته ملكا ‏‏.‏‏

ذكر من اعتل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة

مرض أبي بكر وبلال وعامر بن فهيرة ، و حديث عائشة عنهم

قال ابن إسحاق ‏:‏ وحدثني هشام بن عروة ، وعمر بن عبدالله بن عروة ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت ‏:‏ لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، قدمها وهي أوبأ أرض الله من الحمى ، فأصاب أصحابه منها بلاء وسقم ، فصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ‏.‏قالت ‏:‏ فكان أبو بكر ، وعمر بن فهيرة ، وبلال ، مَوْليا أبي بكر ، مع أبي بكر في بيت واحد ، فأصابتهم الحمى ، فدخلت عليهم أعودهم ، وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب ، وبهم ما لا يعلمه إلا االله من شدة الوعك ، فدنوت من أبي بكر ، فقلت له ‏:‏ كيف تجدك يا أبت ‏؟‏ فقال ‏:‏

كل امرىء مُصبَّح في أهله

 

والموت أدنى من شراك نعله

قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ والله ما يدري أبي ما يقول ‏.‏ قالت ‏:‏ ثم دنوت إلى عامر ابن فهيرة ، فقلت له ‏:‏ كيف تجدك يا عامر ‏؟‏ فقال ‏:‏

لقد وجدتُ الموت قبل ذوقه

 

إن الجبان حتفه من فـوقـه

كل امرىء مجاهد بطوقه

 

كالثور يحمي جلده بـرَوْقـه

بطوقه يريد ‏:‏ بطاقته ، فيما قال ابن هشام ‏:‏ قالت ‏:‏ فقلت ‏:‏ والله ما يدري عامر ما يقول ‏!‏ قالت ‏:‏ وكان بلال إذا تركته الحمَّى اضطجع بفناء البيت ثم رفع عقيرته فقال ‏:‏

ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة

 

بفخّ وحَوْلي إذخـر وجـلـيل

وهل أردنْ يوما مياه مَجِـنَّة

 

وهل يبدون لي شامة وطفـيل

قال ابن هشام ‏:‏ شامة وطفيل ‏:‏ جبلان بمكة ‏.‏

دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم بنقل وباء المدينة إلى مهيعة

قالت عائشة رضي الله عنها ‏:‏ فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمعت منهم ، فقلت ‏:‏ إنهم ليهذون وما يعقلون من شدة الحمى ‏.‏ قالت ‏:‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ اللهم حبِّب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة ، أو أشد ، وبارك لنا في مُدّها وصاعها وانقل وباءها إلى مهيعة ، ومهيعة ‏:‏ الجحفة ‏.‏

ما جهد المسلمين من الوباء

قال ابن إسحاق ‏:‏ وذكر ابن شهاب الزهري ، عن عبدالله بن عمرو ابن العاصي ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة ، حتى جهدوا مرضا ، وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، حتى كانوا ما يصلُّون إلا وهُم قعود ، قال ‏:‏ فخرج عليهم رسول الله صلى الله عيه وسلم وهم يصلون كذلك ، فقال لهم ‏:‏ اعلموا أن صلاة القاعد على النِّصْف من صلاة القائم ‏.‏ قال ‏:‏ فتجشم المسلمون القيام على ما بهم من الضعف والسقم التماس الفضل ‏.‏ بدء قتال المشركين قال ابن إسحاق ‏:‏ ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تهيأ لحربه ، قام فيما أمره الله به من جهاد عدوه ، وقتال من أمره الله به ممن يليه من المشركن ، مشركي العرب ، وذلك بعد أن بعثه الله تعلى بثلاث عشرة سنة ‏.‏ تاريخ الهجرة بالإسناد المتقدم عن عبدالملك بن هشام ، قال ‏:‏ حدثنا زياد بن عبدالله البكائي ، عن محمد بن إسحاق المطلبي ، قال ‏:‏ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة يوم الإثنين ، حين اشتد الضحاء ، وكادت الشمس تعتدل ، لثنتي عشرة ليلة مضت من شهر ربيع الأول ، وهو التاريخ ، فيما قال ابن هشام ‏.‏ عمره صلى الله عليه وسلم حين الهجرة قال ابن إسحاق ‏:‏ ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ابن ثلاث وخمسين سنة ، وذلك بعد أن بعثه الله عز وجل بثلاث عشرة سنة ، فأقام بها بقية شهر ربيع الأول ، وشهر ربيع الآخر ، وجماديين ، ورجبا ، وشعبان ، وشهر رمضان ، وشوالا ، وذا القعدة ، وذا الحجة - وولي تلك الحجة المشركون - والمحرم ، ثم خرج غازيا في صفر على رأس اثني عشر شهرا من مقدمه المدينة ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة سعد بن عبادة ‏.‏ غزوة ودان ، وهي أول غزواته عليه الصلاة والسلام موادعة بني ضمرة و الرجوع من غير حرب قال ابن إسحاق ‏:‏ حتى بلغ وَدّان ، وهي غزوة الأبواء ، يريد قريشا وبني ضمرة بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، فوادعته فيها بنو ضمرة ، وكان الذي وادعه منهم عليهم مخَشيّ بن عمرو الضمري ، وكان سيدهم في زمانه ذلك ‏.‏ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، ولم يلق كيدا ، فأقام بها بقية صفر ، وصدرا من شهر ربيع الأول ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ وهي أول غزوة غزاها ‏.‏ سرية عبيدة بن الحارث ، وهي أول راية عقدها عليه الصلاة والسلام.

أول سهم رمي به في الإسلام

قال ابن إسحاق ‏:‏ وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في مُقامه ذاك بالمدينة عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف بن قصي في ستين أو ثمانين راكبا من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، فسار حتى بلغ ماء بالحجاز ، بأسفل ثنيِّة المرة ، فلقي بها جمعا عظيما من قريش ، فلم يكن بينهم قتال ، إلا أن سعد بن أبي وقاص قد رمي يومئذ بسهم ، فكان أول سهم رمي به في الإسلام ‏.‏ من فر من المشركين إلى المسلمين في هذه السرية ثم انصرف القوم عن القوم ، وللمسلمين حامية ‏.‏ وفر من المشركين إلى المسلمين المقداد بن عمرو البهراني ، حليف بني زهرة ، وعتبة بن غزوان بن جابر المازني ، حليف بني نوفل بن عبد مناف ، وكانا مسلمين ، ولكنهما خرجا ليتوصَّلا بالكفار ‏.‏ وكان على القوم عكرمة ابن أبي جهل ‏.‏ قال ابن هشام ‏:‏ حدثني ابن أبي عمرو بن العلاء ، عن أبي عمرو المدني ‏:‏ أنه كان عليهم مِكْرز بن حفص بن الأخيف ، أحد بني معيص بن عامر ابن لؤي بن غالب بن فهر ‏.‏ شعر أبي بكر في هذه السرية قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، في غزوة عبيدة بن الحارث - قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لأبي بكر رضي الله عنه - ‏:‏

أمن طيف سلمى بالبطاح الدمـائث

 

أرقت وأمر في الـعـشـيرة حـادث

ترى من لؤي فـرقة لا يصـدهـا

 

عن الكفر تذكير ولا بـعـث بـاعـث

رسول أتاهم صادق فـتـكـذبـوا

 

عليه وقالوا ‏:‏ لست فينـا بـمـاكـث

إذا ما دعوناهم إلى الحـق أدبـروا

 

وهروا هرير المجحرات اللـواهـث

فكم قد متتـنـا فـيهـم بـقـرابة

 

وترك التُّقى شيء لهـم غـيرُ كـارث

فإن يرجعوا عن كفرهم وعقوقهـم

 

فما طيبات الحل مـثـل الـخـبـائث

وإن يركبوا طغيانهم وضـلالـهـم

 

فليس عذاب اللـه عـنـهـم بـلابـث

ونحن أنـاس مـن ذؤابة غـالـب

 

لنا العز منها في الـفـروع الأثـائث

فأولي برب الراقصـات عـشـية

 

حراجيج تحدى في السريح الـرثـائث

كأدم ظباء حـول مـكة عـكـف

 

يردن حياض البـئر ذات الـنـبـائث

لئن لم يفيقوا عاجلا من ضلالـهـم

 

ولسـت إذا آلـيت قـولا بـحـانـث

لتبتدرنهَّـم غـارة ذات مـصـدق

 

تحرم أطهار النـسـاء الـطـوامـث

تغادر قتلى تعصب الطير حولـهـم

 

ولا ترأف الكفار رأف ابـن حـارث

فأبلغ بنـي سـهـم لـديك رسـالة

 

وكل كفور يبتغـي الـشـر بـاحـث

فإن تشعثوا عرضي على سوء رأيكم

 

فإني من أعراضكـم غـير شـاعـث

شعر ابن الزبعرى يرد على أبي بكر فأجابه عبدالله بن الزبعرى السهمي ، فقال ‏:‏

أمن رسم دار أقفرت بالعثاعث

 

بكيت بعين دمعهـا غـير لابـث

ومن عجب الأيام والدهر كله

 

له عجب من سابقـات وحـادث

لجيش أتانا ذي عـرام يقـوده

 

عبيدة يُدعى في الهياج ابن حارث

لنترك أصناما بمكة عـكـفـا

 

مواريث موروث كريم لـوراث

فلما لقيناهم بـسـمـر ردينة

 

وجرد عتاق في العجاج لواهـث

وبيض كأن الملح فوق متونها

 

بأيدي كماة كاللـيوث الـعـوائث

نقيم بها إصعار من كان مائلا

 

ونشقي الذحول عاجلا غير لابث

فكفوا على خوف شديد وهيبة

 

وأعجبهم أمر لهـم أمـر رائث

ولو أنهم لم يفعلوا ناح نسـوة

 

أيامى لهم ، من بين نسء وطامث

وقد غودرت قتلى يخبر عنهمُ

 

حفي بهم أو غافل غير بـاحـث

فأبلغ أبا بكـر لـديك رسـالة

 

فما أنت عن أعراض فهر بماكث

ولما تجب مني يمين غلـيظة

 

تجدد حربا حلفة غـير حـانـث

قال ابن هشام ‏:‏ تركنا منها بيتا واحدا ، وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذه القصيدة لابن الزبعرى ‏.‏ شعر سعد بن أبي وقاص يذكر رميته في هذه السرية قال ابن إسحاق ‏:‏ وقال سعد بن أبي وقاص في رميته تلك فيما يذكرون ‏:‏

ألا هل أتى رسول الله أني

 

حميت صحابتي بصدور نبلي

أذود بهـا أوائلـهـم ذيادا

 

بكل حُزُونة وبكـل سَـهْـلِ

فما يعتدُّ رام فـي عـدو

 

بسهم يا رسول الله قـبـلـي

وذلك أن دينك دين صـدق

 

وذو حـق أتـيت بـه وعـدل

ينجَّى المؤمنون به ، ويجُزى

 

به الكفار عند مقـام مَـهْـل

فمهلا قد غويت فلا تَعِبْنـي

 

غويَّ الحي ويحك يا ابن جهل

قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العم بالشعر ينكرها لسعد ‏.‏ أول راية في الإسلام كانت لعبيدة قال ابن إسحاق‏:‏ فكانت راية عبيدة بن الحارث - فيما بلغني - أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام ، لأحد من المسلمين ‏.‏ وبعض العلماء يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه حين أقبل من غزوة الأبواء ، قبل أن يصل إلى المدينة ‏.‏

سرية حمزة إلى سيف البحر

ما فعلته هذه السرية وبعث في مقامه ذلك ، حمزة بن عبدالمطلب بن هاشم ، إلى سيف البحر ، من ناحية العيص ، في ثلاثين راكبا من المهاجرين ، وليس فيهم من الأنصار أحد ‏.‏ فلقي أبا جهل بن هشام بذلك الساحل في ثلاث مئة راكب من أهل مكة ‏.‏ فحجز بينهم مجديُّ بن عمرو الجهني ‏.‏ وكان موادعا للفريقين جميعا ، فانصرف بعض القوم عن بعض ، ولم يكن بينهم قتال ‏.‏ من قال أن أول راية في الإسلام كانت لحمزة رضي الله عنه ، و شعر حمزة في ذلك وبعض الناس يقول ‏:‏ كانت راية حمزة أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد من المسلمين ‏.‏ وذلك أن بعثه وبعث عبيدة كانا معا ، فشُبِّه ذلك على الناس ‏.‏ وقد زعموا أن حمزة قد قال في ذلك شعرا يذكر فيه أن رايته أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان حمزة قد قال ذلك ، فقد صدق إن شاء الله ، لم يكن يقول إلا حقا ، فالله أعلم أي ذلك كان ‏.‏ فأما ما سمعنا من أهل العلم عندنا ، فعبيدة بن الحارث أول من عقد له ‏.‏ فقال حمزة في ذلك ، فيما يزعمون ‏:‏ قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لحمزة رضي الله عنه ‏:‏

ألا يا لقومي للتحلم والجـهـل

 

وللنقص من رأي الرجال وللعقل

وللراكبينا بالمظالم لـم نـطـأ

 

لهم حرمات من سـوام ولا أهـل

كأنا تَبلْناهم ولا تبل عـنـدنـا

 

لهم غير أمر بالعفاف وبالـعـدل

وأمر بإسلام فلا يقـبـلـونـه

 

وينزل منهم مثل منزلة الـهـزل

فما برحوا حتى انتدبت لغـارة

 

لهم حيث حلوا أبتغي راحة الفضل

بأمر رسول الله ، أول خافـق

 

عليه لواء لم يكن لاح من قبلـي

لواء لديه النصر من ذي كرامة

 

إله عزيز فعله أفضل الـفـعـل

عشية ساروا حاشدين وكلـنـا

 

مراجله من غيظ أصحابه تغلـي

فلما تراءينا أناخوا فعقَّلوا مطايا

 

وعقَّلنا مدى غـرض الـنـبـل

فقلنا لهم ‏:‏ حبل الإله نصيرنـا

 

وما لكم إلا الضلالة من حـبـل

فثار أبو جهل هنالـك بـاغـيا

 

فخاب وردَّ الله كيد أبـي جـهـل

وما نحن إلا في ثلاثين راكبـا

 

وهم مئتان بعد واحـدة فـضـل

فيا للؤي لا تطيعوا غواتـكـم

 

وفيئوا إلى الإسلام والمنهج السهل

فإني أخاف أن يُصبَّ علـيكـم

 

عذاب فتدعوا بالندامة والـثـكـل

شعر أبو جهل يرد على حمزة فأجابه أبو جهل بن هشام ، فقال ‏:‏

عجبت لأسباب الحفيظة والجهل

 

وللشاغبين بالخلاف وبـالـبـطـل

وللتاركين ما وجدنـا جـدودنـا

 

عليه ذوي الأحساب والسؤدد الجزل

أتونا بإفك كي يضلوا عقولـنـا

 

وليس مضلا إفكهم عقل ذي عقـل

فقلنا لهم ‏:‏ يا قومنا لا تخالـفـوا

 

على قومكم إن الخلاف مدى الجهل

فإنكم إن تفعلـوا تـدع نـسـوة

 

لهن بواك بـالـرزية والـثـكـل

وإن ترجعوا عما فعلتم فإنـنـا

 

بنو عمكم أهل الحفائظ والفـضـل

فقالوا لنا ‏:‏ إنا وجدنا مـحـمـدا

 

رضا لذوي الأحلام منا وذي العقل

فلما أبوا إلا الخـلاف وزينـوا

 

جماع الأمور بالقبيح من الفـعـل

تيممتهم بالساحـلـين بـغـارة

 

لأتركهم كالعصف ليس بذي أصـل

فورَّعني مجديّ عنهم وصحبتي

 

وقد وازروني بالسيوف وبالنـبـل

لإلٍّ علينا واجب لا نـضـيعـه

 

أمين قواه غير منتكث الـحـبـل

فلولا ابن عمرو كنت غادرت منهم

 

ملاحم للطير العكـوف بـلا تـبـل

ولكنه آلـى بـإلٍّ فـقـلَّـصـت

 

بأيماننا حد السيوف عـن الـقـتـل

فإن تُبقني الأيام أرجعْ عـلـيهـم

 

ببيض رقاق الحد محدثة الـصـقـل

بأيدي حماة من لؤي بن غـالـب

 

كرام المساعي في الجدوبة والمحـل

         

قال ابن هشام ‏:‏ وأكثر أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لأبي جهل ‏.‏ غزوة بواط يومها قال ابن إسحاق‏:‏ ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول يريد قريشا ‏.‏ ابن مظعون في المدينة قال ابن هشام ‏:‏ واستعمل على المدينة السائب بن عثمان بن مظعون ‏.‏ العودة إلى المدينة قال ابن إسحاق ‏:‏ حتى بلغ بواط ، من ناحية رضوى ، ثم رجع إلى المدينة ولم يلق كيدا ، فلبث بها بقية شهر ربيع الآخر وبعض جمادى الأولى ‏.‏ غزوة العشيرة من استعمله صلى الله عليه وسلم على المدينة ثم غزا قريشا ، فاستعمل على المدينة أبا سلمة بن عبدالأسد ، فيما قال ابن هشام ‏.‏ الطريق الذي سلكه صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغزوة قال ابن إسحاق ‏:‏ فسلك على نقب بني دينار ، ثم على فيفاء الخبار ، فنزل تحت شجرة ببطحاء ابن أزهر ، يقال لها ‏:‏ ذات الساق ، فصلى عندها ‏.‏ فثمَّ مسجده صلى الاله عليه وسلم ، وصُنع له عندها طعام ، فأكل منه ، وأكل الناس معه ، فموضع أثافي البرمة معلوم هنالك ، واستُقي له من ماء به ، يقال له ‏:‏ المشترب ، ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم فترك الخلائق بيسار ، وسلك شعبة يقال لها ‏:‏ شعبة عبدالله ، وذلك اسمها اليوم ، ثم صب لليسار حتى هبط يليل ، فنزل بمجتمعه ومجتمع الضبوعة ، واستقى من بئر بالضبوعة ، ثم سلك الفرش ‏:‏ فرش ملل ، حتى لقي الطريق بصحيرات اليمام ، ثم اعتدل به الطريق ، حتى نزل العشيرة من بطن ينبع ‏.‏ فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الآخرة ، وادع فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ، ثم رجع إلى المدينة ، ولم يلق كيدا ‏.‏ تكنيته صلى الله عليه وسلم عليا أبا تراب وفي تلك الغزوة قال لعلي بن أبي طالب عليه السلام ما قال ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ فحدثني يزيد بن محمد بن خيثم المحاربي ، عن محمد بن كعب القرظي، عن محمد بن خيثم أبي يزيد ، عن عمار بن ياسر ، قال ‏:‏ كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة ؛ فلما نزلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقام بها ؛ رأينا أناسا من بني مدلج يعملون في عين لهم وفي نخل ؛ فقال لي علي بن أبي طالب ‏:‏ يا أبا اليقظان ، هل لك في أن تأتي هؤلاء القوم ، فننظر كيف يعملون ‏؟‏ قال ‏:‏ قلت ‏:‏ إن شئت ؛ قال ‏:‏ فجئناهم ، فنظرنا إلى عملهم ساعة ، ثم غشينا النوم ‏.‏ فانطلقت أنا وعلي حتى اضطجعنا في صور من النخل ، وفي دقعاء من التراب فنمنا ، فوالله ما أهبَّنا إلا رسول الله ، صلى الله عليه وسلم يحركنا برجله ‏.‏ وقد تترَّبْنا من تلك الدقعاء التي نمنا فيها ، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب ‏:‏ ما لك يا أبا تراب ‏؟‏ لما يرى عليه من التراب ‏.‏ أشقى رجلين ثم قال ‏:‏ ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين ‏؟‏ قلنا ‏:‏ بلى ، يا رسول الله ؛ قال ‏:‏ أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذه - و وضع يده على قرنه - حتى يَبُلَّ منها هذه ‏.‏ وأخذ بلحيته ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد حدثني بعض أهل العلم ‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سمَّى عليا أبا تراب ، أنه كان إذا عتب على فاطمة في شيء لم يكلمها ، ولم يقل لها شيئا تكرهه ، إلا أنه يأخذ ترابا فيضعه على رأسه ‏.‏ قال ‏:‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى عليه التراب عرف أنه عاتب على فاطمة ، فيقول ‏:‏ ما لك يا أبا تراب ‏؟‏ فالله أعلم أي ذلك كان ‏.‏ سرية سعد بن أبي وقاص ذهابه إلى الخرار و رجوعه من غير حرب قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد كان بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين ذلك من غزوة سعد بن أبي وقاص ، في ثمانية رهط من المهاجرين ، فخرج حتى بلغ الخرَّار من أرض الحجاز ، ثم رجع ولم يلق كيدا ‏.‏قال ابن هشام ‏:‏ ذكر بعض أهل العلم أن بعث سعد هذا كان بعد حمزة ‏.‏

غزوة سفوان ، وهي غزوة بدر الأولى

إغارة كرز و الخروج في طلبه قال ابن إسحاق ‏:‏ ولم يُقم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة حين قدم من غزوة العشيرة إلا ليالي قلائل لا تبلغ العشر ، حتى أغار كرز ابن جابر الفهري على سرح المدينة ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلبه ، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة ، فيما قال ابن هشام ‏.‏ فوات كرز و الرجوع من غير حرب قال ابن إسحاق ‏:‏ حتى بلغ واديا ، يقال له‏:‏ سفوان، من ناحية بدر ، و فاته كرز بن جابر ، فلم يدركه ، وهي غزوة بدر الأولى ‏.‏ ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فأقام بها بقية جمادى الآخرة ورجبا وشعبان ‏.‏ سرية عبدالله بن جحش ونزول‏:‏ ‏(‏ يسألونك عن الشهر الحرام ‏)‏ ‏.‏ بعثه و الكتاب الذي حمله من الرسول صلى الله عليه و سلم وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب ، مقفله من بدر الأولى ، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ، ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتابا وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه ، فيمضي لما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحدا ‏.‏ أصحاب ابن جحش في هذه السرية وكان أصحاب عبدالله بن جحش من المهاجرين ، ثم من بني عبد شمس ابن عبد مناف ‏:‏ أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ؛ ومن حلفائهم ‏:‏ عبدالله بن جحش ، وهو أمير القوم ، وعكاشة بن محصن ابن حرثان ، أحد بني أسد بن خزيمة ، حليف لهم ‏.‏ ومن بني نوفل بن عبد مناف ‏:‏ عتبة بن غزوان بن جابر ، حليف لهم ‏.‏ ومن بني زهرة بن كلاب ‏:‏ سعد بن أبي وقاص‏.‏ ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة ، حليف لهم من عنز ابن وائل ، وواقد بن عبدالله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة ابن يربوع ، أحد بني تميم ، حليف لهم ، وخالد بن البكير ، أحد بني سعد بن ليث ، حليف لهم ‏.‏ ومن بني الحارث بن فهر ‏:‏ سهيل بن بيضاء ‏.‏

ابن جحش يفتح الكتاب

فلما سار عبدالله بن جحش يومين فتح الكتاب ، فنظر فيه فإذا فيه ‏:‏ إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة ، بين مكة والطائف ، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم ‏.‏ فلما نظر عبدالله بن جحش في الكتاب ، قال ‏:‏ سمعا وطاعة ؛ ثم قال لأصحابه ‏:‏ قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة ، أرصد بها قريشا ، حتى آتيه منهم بخبر ؛ وقد نهاني أن أستكره أحدا منكم ‏.‏ فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ؛ فأما أنا فماض لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه ، لم يتخلف عنه منهم أحد ‏.‏ من تخلف عن السرية بمعدن وسببه و سلك على الحجاز ، حتى إذا كان بمعدن ، فوق الفرع ، يقال له ‏:‏ بحران ، أضل سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان بعيرا لهما ، كانا يعتقبانه ‏.‏ فتخلفا عليه في طلبه ‏.‏ ومضى عبدالله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة ‏.‏

السرية تلتقي بتجارة لقريش

فمرت به عير لقريش تحمل زبيبا وأدما ، وتجارة من تجارة قريش ، فيهما عمرو بن الحضرمي ‏.‏ اسم الحضرمي ونسبه قال ابن هشام ‏:‏ واسم الحضرمي ‏:‏ عبدالله بن عباد ، ويقال ‏:‏ مالك بن عباد أحد الصدف ، واسم الصدف ‏:‏ عمرو بن مالك ، أحد السكون ابن أشرس بن كندة ، ويقال ‏:‏ كنديّ ‏.‏ قال ابن إسحاق ‏:‏ وعثمان بن عبدالله بن المغيرة ، وأخوه نوفل بن عبدالله ، المخزوميان ، والحكم بن كيسان ، مولى هشام بن المغيرة ‏.‏ ما جرى بين الفريقين و ما خلص به ابن جحشفلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريبا منهم ، فأشرف لهم عكاشة بن محصن ، وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه أمنوا ، وقالوا عُمَّار ، لا بأس عليكم منهم ‏.‏ وتشاور القوم فيهم وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم ‏:‏ والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم ، فليمتنعن منكم به ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ؛ فتردد القوم ، وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم ، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم ، وأخذ ما معهم‏.‏ فرمى واقد بن عبدالله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسر عثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان ؛ وأفلت لقومَ نوفلُ بن عبدالله فأعجزهم ‏.‏ وأقبل عبدالله ابن جحش وأصحابه بالعير وبالأسيرين ، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ‏.‏ وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش ‏:‏ أن عبدالله قال لأصحابه ‏:‏ إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخمس - وذلك قبل أن يفرض الله تعالى الخمس من المغانم - فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خمس العير ، وقسم سائرها بين أصحابه ‏.‏ إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم قتالهم في الأشهر الحرم قال ابن إسحاق ‏:‏ فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ؛ قال ‏:‏ ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام ‏.‏ فوقَّف العير والأسيرين ‏.‏ وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا ؛ فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سُقط في أيدي القوم ، وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ‏.‏ وقالت قريش ‏:‏ قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم ، وأخذوا فيه الأموال ، وأسروا فيه الرجال ؛ فقال من يرد عليهم من المسلمين ، ممن كان بمكة ‏:‏ إنما أصابوا ما أصابوا في شعبان ‏.‏ توقع اليهود بالمسلمين الشر وقالت يهود - تفاءَلُ بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم - عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبدالله ، عمرو ، عمرت الحرب ؛ والحضرمي ، حضرت الحرب ؛ وواقد بن عبدالله ، وقدت الحرب ‏.‏ فجعل الله ذلك عليهم لا لهم ‏.‏ القرآن يقر ما فعله ابن جحش فلما أكثر الناس في ذلك ، أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏ {(‏ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه ، قل قتال فيه كبير ، وصد عن سبيل الله وكفر به ، والمسجد الحرام ، وإخراج أهله منه أكبر عند الله ‏)} ‏ أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكم منه وأنتم أهله ، أكبر عند الله من قتل من قتلتم منهم ‏ (‏ والفتنة أكبر من القتل ‏) ‏ ‏:‏ أي قد كانوا يفتنون المسلم في دينه ، حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه ، فذلك أكبر عند الله من القتل ‏ (‏ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ‏) ‏ ‏:‏ أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه ، غير تائبين ولا نازعين ‏.‏ فلما نزل القرآن بهذا من الأمر ، وفرج الله تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق ، قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العير والأسيرين ، وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبدالله والحكم بن كيسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏:‏ لا نُفديكموهما حتى يقدم صاحبانا - يعني سعد بن أبي وقاص ، وعتبة بن غزوان - فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما ، نقتل صاحبيكم ‏.‏ فقدم سعد وعتبة ، فأفداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ‏.‏ إسلام ابن كيسان و موت عثمان كافرا فأما الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عله وسلم حتى قُتل يوم بئر معونة شهيدا ‏.‏ وأما عثمان بن عبدالله فلحق بمكة ، فمات بها كافرا ‏.‏ طمع ابن جحش أمير السرية في الأجر وما نزل في ذلك من القرآن فلما تجلى عن عبدالله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ، طمعوا في الأجر ، فقالوا ‏:‏ يا رسول الله ، أنطمع أن تكون لنا غزوة نُعطى فيها أجر المجاهدين ‏؟‏ فأنزل الله عز وجل فيهم ‏:‏ ‏ (‏ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ، والله عفور رحيم ‏) ‏ ، فوضعهم الله عز وجل من ذلك على أعظم الرجاء ‏.‏والحديث في هذا عن الزهري ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ‏.‏ إحلال الفيء وقسمه قال ابن إسحاق ‏:‏ وقد ذكر بعض آل عبدالله بن جحش ‏:‏ أن الله عز وجل قسم الفيء حين أحله ، فجعل أربعة أخماس لمن أفاءه الله ، وخمسا إلى الله ورسوله ، فوقع على ما كان عبدالله بن جحش صنع في تلك العير ‏.‏ أول غنيمة للمسلمين قال ابن هشام ‏:‏ وهي أول غنيمة غنمها المسلمون ‏.‏ وعمرو بن الحضرمي أول من قتله المسلمون ، وعثمان بن عبدالله ، والحكم بن كيسان أول من أسر المسلمون ‏.‏ شعر عبدالله بن جحش في هذه السرية قال ابن إسحاق ‏:‏ فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبدالله بن جحش ، ويقال ‏:‏ بل عبدالله بن جحش قالها ، حين قالت قريش ‏:‏ قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه المال ، وأسروا فيه الرجال - قال ابن هشام ‏:‏ هي لعبدالله ابن جحش - ‏:‏

تعدون قتلا في الحرام عظـيمة

 

وأعظم منه لو يرى الرشدَ راشـدُ

صدودكم عما يقول مـحـمـد

 

وكفر به والـلـه راء وشـاهـد

وإخراجكم من مسجد الله أهلـه

 

لئلا يُرى لله في البـيت سـاجـد

فإنا وإن عيرتمونا بـقـتـلـه

 

وأرجف بالإسلام بـاغ وحـاسـد

سقينا من ابن الحضرمي رماحنا

 

بنخلة لما أوقـد الـحـرب واقـد

دما وابنُ عبدالله عثمان بينـنـا

 

ينازعه غُلّ مـن الـقـدّ عـانـد