الجزء الثاني - ذكر سلطان قالقوط

وسلطانها كافر يعرف بالسامري، شيخ مسن يحلق لحيته، كما تفعل طائفة الروم، رأيته بها، وسنذكره إن شاء الله. وأمير التجار بها إبراهيم شاه بندر من أهل البحرين فاضل ذو مكارم، يجتمع إليه التجار، ويأكلون في سماطه. وقاضيها فخر الدين عثمان فاضل كريم، وصاحب الزاوية بها الشيخ شهاب الدين الكازروني، وله تعطى النذور التي ينذر بها أهل الهند والصين للشيخ أبي إسحاق الكازروني نفع الله به. وبهذه المدينة الناخوذة مثقال، الشهير الإسم، صاحب الأموال الطائلة والمراكب الكثيرة لتجارته بالهند والصين واليمن وفارس. ولما وصلنا إلى هذه المدينة، خرج إلينا إبراهيم شاه بندر، والقاضي، والشيخ شهاب الدين، وكبار التجار، ونائب السلطان الكافر والمسمى بقلاج، " بضم القاف وآخره جيم " ومعه الأطبال والأنفار والأبواق والأعلام في مراكبهم. ودخلنا المرسى في بروز عظيم ما رأيت مثله بتلك البلاد. فكانت فرحة تتبعها ترحة. وأقمنا بمرساها، وبه يومئذ ثلاثة عشر من مراكب الصين ونزلنا بالمدينة. وجعل كل واحد منا في دار. وأقمنا ننتظر زمان السفر إلى الصين ثلاثة أشهر، ونحن في ضيافة الكافر، وبحر الصين لا يسافر فيه إلا بمراكب الصين. ولنذكر ترتيبها.

ذكر مراكب الصين

ومراكب الصين ثلاثة أصناف: الكبار منها تسمى الجنوك، واحدها جنك " بجيم معقود مضموم ونون ساكن "، والمتوسطة اسمها الزو " بفتح الزاي وواو "، والصغار اسم أحدها الككم " بكافين مفتوحتين ". ويكون في المركب الكبير منها اثنا عشر قلعاً فما دونها إلى ثلاثة. وقلعها من قضبان الخيزران منسوجة كالحصر لا تحط أبداً، ويديرونها بحسب دوران الريح. وإذا أرسوا تركوها واقفة في مهب الريح، ويخدم في المركب منها ألف رجل، منهم البحرية ستمائة، ومنهم أربعمائة من المقاتلة تكون فيهم الرماة وأصحاب الدرق والجرخية، وهم الذين يرمون بالنفط، ويتبع كل مركب كبير منا ثلاثة: النصفي والثلثي والربعي. ولا تصنع هذه المراكب إلا بمدينة الزيتون من الصين، أو بصين كلان، وهي صين الصين. وكيفية إنشائها أنهم يصنعون حائطين من الخشب، يصلون ما بينهما بخشب ضخام جداً، موصولة بالعرض والطول بمسامير ضخام، طول المسمار منها ثلاثة أذرع. فإذا التأم الحائطان بهذه الخشب صنعوا على أعلاهما فرش الأسفل، ودفعوهما في البحر، وأتموا عمله، وتبقى تلك الخشب والحائطان موالية الماء ينزلون فيغتسلون ويقضون حاجتهم. وعلى جوانب تلك الخشب تكون مجاذيفهم، وهي كبار كالصواري، يجتمع على أحدها العشرة والخمسة عشر رجلاً، ويجذفون وقوفاً على أقدامهم. ويجعلون للمركب أربعة ظهور، ويكون فيه البيوت والمصاري والغرف للتجار، والمصرية منها يكون فيه البيوت والسنداس، وعليها المفتاح يسدها صاحبها، ويحمل معه الجواري والنساء، وربما كان الرجل في مصريته فلا يعرف بعه غيره ممن يكون بالمركب، حتى يتلاقيا إذا وصلا بعض البلاد. والبحرية يسكنون فيه أولادهم ويزدرعون الخضر والبقول والزنجبيل في أحواض خشب، ووكيل المركب كأنه أمير كبير، وإذا نزل إلى البر مشت الرماة والحبشة بالحراب والسيوف والأطبال والأبواق والأنفار أمامه. وإذا وصل إلى المنزل الذي يقيم به ركزوا رماحهم عن جانبي بابه، ولا يزالون كذلك مدة إقامته. ومن أهل الصين من تكون له المراكب الكثيرة، يبعث بها وكلاءه إلى البلاد. وليس في الدنيا أكثر أموالاً من أهل الصين.

ذكر أخذنا في السفر إلى الصين ومنتهى ذلك

 ولما حان وقت السفر إلى الصين، جهز لنا السلطان السامري جنكاً من الجنوك الثلاثة عشر التي بمرسى قالقوط. وكان وكيل الجنك يسمى بسليمان الصفدي الشامي، وبيني وبينه معرفة. فقلت له: أريد مصرية لا يشاركني فيها أحد، لأجل الجواري. ومن عادتي أن لا أسافر إلا بهن. فقال: إن تجار الصين قد اكتروا المصاري ذاهبين وراجعين. ولصهري مصرية أعطيكها، لكنها لا سنداس فيها. وعسى أن تمكن معاوضتها. فأمرت أصحابي فأوسقوا ما عندي من المتاع، وصعد العبيد والجواري إلى الجنك، وذلك في يوم الخميس. وأقمت لأصلي الجمعة وألحق بهم. وصعد الملك سنبل وظهير الدين مع الهدية. ثم إن فتى لي يسمى بهلال أتاني غدوة الجمعة فقال: إن المصرية التي أخدناها بالجنك ضيقة لا تصلح، فذكرت ذلك للناخوذة، فقال: ليس في ذلك حيلة، فإن أحببت أن تكون في الككم ففيه المصاري على اختيارك. فقلت: نعم. وأمرت أصحابي، فنقلوا الجواري والمتاع إلى الككم. واستقروا به قبل صلاة الجمعة. وعادة هذا البحر أن يشتد هيجانه كل يوم بعد العصر، فلا يستطيع أحد ركوبه. وكانت الجنوك قد سافرت، ولم يبق منها إلا الذي فيه الهدية، وجنك عزم أصحابه على ان يشتوا بفندرينا، والككم المذكور، فبتنا ليلة السبت على الساحل، لا نستطيع الصعود إلى الككم، ولا يستطيع من فيه النزول إلينا. ولم يكن بقي معي إلا بساط أفترشه. وأصبح الجنك والككم يوم السبت على بعد من المرسى. ورمى البحر بالجنك الذي كان أهله يريدون فندرينا، فتكسر. ومات بعض أهله، وسلم بعضهم، وكانت فيه جارية لبعض التجار عزيزة عليه، فرغب في إعطاء عشرة دنانير ذهباً لمن يخرجها. وكانت قد التزمت خشبة في مؤخر الجنك. فانتدب لذلك بعض البحرية الهرمزيين فأخرجها. وأبى أن يأخذ الدنانير، وقال: إنما فعلت ذلك لله تعالى. ولما كان الليل رمى البحر بالجنك الذي كانت فيه الهدية، فمات جميع من فيه. ونظرنا عند الصباح إلى مصارعهم، ورأيت ظهير الدين قد انشق رأسه، وتناثر دماغه، والملك سنبل قد ضرب مسمار في أحد صدغيه، ونفذ من الآخر. وصلينا عليهما ودفناهما. ورأيت الكافر سلطان قالقوط في وسطه شقة بيضاء كبيرة قد لفها من سرته إلى ركبته، وفي رأسه عمامة صغيرة، وهو حافي القدمين، والشطر بيد غلام فوق رأسه، والنار توقد بين يديه في الساحل، وزبانيته يضربون الناس لئلا ينتهبوا ما يرمي البحر. وعادة بلاد المليبار أن كل ما انكسر من مركب يرجع ما يخرج منه للمخزن إلا في هذا البلد خاصة، فإن ذلك يأخذه أربابه. ولذلك عمرت، وكثر تردد الناس إليها. ولما رأى أهل الككم ما حدث عن الجنك، رفعوا قلعهم وذهبوا، ومعهم جميع متاعي وغلماني وجواري، وبقيت منفرداً على الساحل، ليس معي إلا فتى كنت أعتقته. فلما رأى ما حل بي ذهب عني، ولم يبق عندي إلا العشرة الدنانير التي أعطانيها الجوكي، والبساط الذي كنت أفترشه. وأخبرني الناس أن ذلك الككم لا بد له أن يدخل مرسى كولم، فعزمت على السفر إليها، وبينهما مسيرة عشر في البر أو في النهر أيضاً لمن أراد ذلك. فسافرت في النهر، واكتريت رجلاً من المسلمين يحمل لي البساط. وعادتهم إذا سافروا في ذلك النهر أن ينزلوا بالعشي فيبيتوا بالقري التي على حافتيه، ثم يعودوا إلى المركب بالغدو. فكنا نفعل ذلك. ولم يكن بالمركب مسلم إلا الذي اكتريته، وكان يشرب الخمر عند الكفار إذا نزلنا، ويعربد علي، فيزيد خاطري. ووصلنا في اليوم الخامس من سفرنا إلى كنجي كري " وضبط اسمها بكاف مضموم ونون ساكن وجيم وياء مد وكاف مفتوح وراء مسكور وياء "، وهي بأعلى جبل هنالك. يسكنها اليهود، ولهم أمير منهم، ويؤدون الجزية لسلطان كولم.

ذكر القرفة والبقم

وجميع الأشجار التي على هذا النهر أشجار القرفة والبقم، وهي حطبهم هنالك. ومنها كنا نقد النار لطبخ طعامنا في ذلك الطريق. وفي اليوم العاشر وصلنا إلى مدينة كولم " وضبط اسمها بفتح الكاف واللام وبينهما واو "، وهي أحسن بلاد المليبار، وأسواقها حسان، وتجارها يعرفون بالصوليين. " بضم الصاد " لهم أموال عريضة "، يشتري أحدهم المركب بما فيه، ويوسقه من داره بالسلع. وبها من التجار المسلمين جماعة، كبيرهم علاء الدين الآوجي من أهل آوة، من بلاد العراق. وهو رافضي، ومعه أصحاب له على مذهبه، وهو يظهرون ذلك. وقاضيها فاضل من أهل قزوين. وكبير المسلمين بها محمد شاه بندر، وله أخ فاضل كريم اسمه تقيي الدين. والمسجد الجامع بها عجيب، عمره التاجر خواجه مهذب. وهذه المدينة أول ما يوالي الصين من بلاد المليبار، وإليها يسافر أكثرهم. والمسلمون بها أعزة محترمون.