الجزء الثاني - ذكر سلطان بلاد المعبر

هو غياث الدين الدامغاني، وكان في أول أمره فارساً من فرسان الملك مجير ابن أبي الرجا، أحد خدام السلطان محمد، ثم خدم الأمير حاجي ابن السيد السلطان جلال الدين، ثم ولي الملك، وكان يدعى سراج الدين قبله. فلما ولي تسمى غياث الدين. وكانت بلاد المعبر تحت حكم السلطان محمد ملك دهلي، ثم ثار بها صهري الشريف جلال الدين أحسن شاه، وملك بها خمسة أعوام، ثم قتل، وولي أحد أمرائه وهو علاء الدين أديجي " بضم الهمزة وفتح الدال المهمل وسكون الياء آخر الحروف وكسر الجيم "، فملك سنة. ثم خرج إلى غزو الكفار فأخذ لهم أموالاً كثيرة وغنائم واسعة، وعاد إلى بلاده. وغزاهم في السنة الثانية، فهزمهم وقتل منهم مقتلة عظيمة. واتفق يوم قتله لهم أن رفع المغفر عن رأسه ليشرب، فأصابه سهم غرب، فمات من حينه. فولوا صهره قطب الدين. ثم لم يحمدوا سيرته فقتلوه بعد أربعين يوماً. وولي بعده السلطان غياث الدين، وتزوج بنت السلطان الشريف جلال الدين التي كنت متزوجاً أختها بدهلي.

ذكر وصولي إلى السلطان غياث الدين

ولما وصلنا إلى قرب من منزله بعث بعض الحجاب لتلقينا، وكان قاعداً في برج خشب، وعادتهم بالهند أن لا يدخل أحد على السلطان دون خف. ولم يكن عندي خف، فأعطاني بعض الكفار خفاً. وكان هنالك من المسلمين جماعة، فعجبت من كون الكافر كان أتم مروءة منهم. ودخلت على السلطان، فأمرني بالجلوس، ودعا القاضي الحاج صدر الزمان بهاء الدين. وأنزلني في جواره في ثلاثة من الأخبية، وهم يسمونها الخيام. وبعث بالفرش وبطعامهم، وهو الأرز واللحم. وعادتهم هنالك أن يسقوا اللبن الرائب على الطعام. كما يفعل ببلادنا. ثم اجتمعت به بعد ذلك، وألقيت له أمر جزائر ذيبة المهل، وأن يبعث الجيش إليها. فأخذ في ذلك بالعزم، وعين المراكب لذلك. وعين الهدية لسلطانتها، والخلع للوزراء والأمراء، والعطايا لهم. وفوض إلي في عقد نكاحه مع أخت السلطانة، وأمر بوسق ثلاثة مراكب بالصدقة لفقراء الجزائر، وقال لي: يكون رجوعك بعد خمسة أيام. فقال له قائد البحر سرلك: لا يمكن السفر إلى الجزائر إلا بعد ثلاثة أشهر من الآن. فقال لي السلطان: أما إذا كان الأمر هكذا، فامض إلى فتن حتى نقضي هذه الحركة، وتعود إلى حضرتنا مترة، ومنها تكون الحركة. فأقمت معه بخلال ما بعثت إلى الجواري والأصحاب.

ذكر ترتيب رحيله وشنيع فعله في قتل النساء والولدان

وكانت الأرض التي نسلكها غيضة واحدة من الأشجار والقصب، بحيث لا يسلكها أحد. فأمر السلطان أن يكون مع كل واحد ممن في الجيش من كبير وصغير قدوم لقطع ذلك. فإذا نزلت المحلة ركب إلى الغابة والناس معه، فقطعوا تلك الأشجار من غدوة النهار إلى الزوال. ثم يؤتى بالطعام فيأكل جميع الناس، طائفة بعد أخرى، ثم يعودون إلى قطع الأشجار إلى العشي. وكل من وجدوه من الكفار في الغيضة أسروه، وصنعوا خشبة محددة الطرفين، فجعلوها على كتفيه يحملها. ومعه امرأته وأولاده. ويؤتى بهم إلى المحلة. وعادتهم أن يصنعوا على المحلة سوراً من خشب، يكون له أربعة أبواب، ويسمونه الكتكر " بفتح الكافين وسكون التاء المعلوه وآخره راء "، ويصنعون على دار السلطان كتكراً ثانياً، ويصنعون خارج الكتكر الأكبر مصاطب، ارتفاعها نحو نصف قامة، ويوقدون عليها النار بالليل، ويبيت عندها العبيد والمشاءون، ومع كل واحد منهم حزمة من رقيق القصب. فإذا أتى أحد من الكفار ليضربوا على المحلة ليلاً، أوقد كل واحد منهم الحزمة التي بيده، فعاد الليل شبه النهار، لكثرة الضياء. وخرجت الفرسان في اتباع الكفار، فإذا كان عند الصباح قسم الكفار المأسورون بالأمس أربعة أقسام، وأتي إلى كل باب من أبواب الكتكر بقسم منهم. فركزت بالخشب التي كانوا يحملونها بالأمس عنده، ثم ركزوا فيها حتى تنفذهم، ثم تذبح نساؤهم، ويربطن بشعورهن إلى تلك الأخشاب، ويذبح الأولاد الصغار في حجورهن، ويتركون هنالك. وتنزل المحلة، ويشتغلون بقطع غيضة أخرى، ويصنعون بمن أسروه كذلك. وذلك أمر شنيع، ما علمته لأحد من الملوك. وبسببه عجل الله حينه. ولقد رأيته يوماً، والقاضي عن يمينه، وأنا عن شماله، وهو يأكل معنا، وقد أتي بكافر معه امرأته وولد سنه سبع، فأشار إلى السيافين بيده أن يقطعوا رأسه. ثم قال لهم: وزن أو بسر أو، معناه: وابنه وزوجته، فقطعت رقابهم. وصرفت بصري عنهم، فلما قمت وجدت رؤوسهم مطروحة بالأرض. وحضرت عنده يوماً، وقد أتي برجل من الكفار، فتكلم بما لم أفهمه. فإذا بجماعة من الزبانية قد استلوا سكاكينهم، فبادرت القيام، فقال لي: إلى أين ؟ فقلت: أصلي العصر. ففهم عني وضحك وأمر بقطع يديه ورجليه. فلما عدت وجدته متشحطاً في دمائه.

ذكر هزيمته للكفار وهي من أعظم فتوحات الإسلام

 وكان فيما يجاور بلاده سلطان كافر يسمى بلال ديو " بفتح الباء الموحدة ولام وألف ولام ثانية ودال مهمل مكسور وياء آخر الحروف مفتوحة واو مسكن "، وهو من كبار سلاطين الكفار، يزيد عسكره على مائة ألف، ومعه نحو عشرين ألفاً من المسلمين، أهل الدعارة وذوي الجنايات والعبيد الفارين، فطمع في الاستيلاء على بلاد المعبر، وكان عسكر المسلمين بها ستة آلاف، منهم النصف من الجياد، والنصف الثاني لا خير فيهم، ولا غناء عندهم. فلقوه بظاهر مدينة كبان، فهزمهم. ورجعوا إلى حضرة مترة، ونزل الكافر على كبان، وهي من أكبر مدنهم وأحصنها، وحاصرها عشرة أشهر، ولم يبق لهم من الطعام إلا قوت أربعة عشر يوماً. فبعث لهم الكافر أن يخرجوا على الأمان، ويتركوا له البلد. فقالوا له: لا بد من مطالعة سلطاننا بذلك. فوعدهم إلى تمام أربعة عشر يوماً. فكتبوا إلى السلطان غياث الدين بأمرهم، فقرأ كتابهم على الناس يوم الجمعة، فبكوا، وقالوا: نبيع أنفسنا من الله. فإن الكافر إن أخذ تلك المدينة انتقل إلى حصارنا، فالموت تحت السيوف أولى بنا. فتعاهدوا على الموت، وخرجوا من الغد، ونزعوا العمائم عن رؤوسهم وجعلوها في أعناق الخيل، وهي علامة من يريد الموت. وجعلوا ذوي النجدة والأبطال منهم في المقدمة، وكانوا ثلاثمائة. وجعلوا على الميمنة سيف الدين بهادور، وكان فقيهاً ورعاً شجاعاً، وعلى الميسرة الملك محمد السلحدار. وركب السلطان في القلب ومعه ثلاث آلاف، وجعل الثلاثة الآلاف الباقين ساقة لهم، وعليهم أسد الدين كيخسرو الفارسي. وقصدوا محلة الكافر عند القايلة، وأهلها على غرة، وخيلهم في المرعى. فأغاروا عليها. وظن الكفار أنهم سراق. فخرجوا إليهم على غير تعبية، وقاتلوهم. فوصل السلطان غياث الدين، فانهزم الكفار شر هزيمة، وأراد سلطانهم أن يركب، وكان ابن ثمانين سنة، فأدركه ناصر الدين ابن أخي السلطان الذي ولي الملك بعده، فأراد قتله، ولم يعرفه. فقال له أحد غلمانه: هو السلطان. فأسره وحمله إلى عمه، فأكرمه في الظاهر حتى جبى منه الأموال والفيلة والخيل، وكان يعده السراح. فلما استصفى ما عنده، ذبحه وسلخه، وملأ جلده بالتبن. فعلق على سور مترة، ورأيته بها معلقاً، ولنعد إلى كلامنا فنقول: ورحلت عن المحلة، فوصلت إلى مدينة فتن " بفتح الفاء والتاء والمثناة المشددة ونون "، وهي كبيرة حسنة على الساحل، ومرساها عجيب قد صنعت فيه قبة خشب كبيرة قائمة على الخشب الضخام، يصعد إليها على طريق خشب مسقف، فإذا جاء العدو ضموا إليها الأجفان التي تكون بالمرسى، وصعدها الرجال والرماة، فلا يصيب العدو فرصة. وبهذه المدينة مسجد حسن مبني بالحجارة، وبها العنب الكثير والرمان الطيب. ولقيت الشيخ الصالح محمداً النيسابوري أحد الفقراء المولهين الذين يسدلون شعورهم على أكتافهم، ومعه سبع رباه، يأكل مع الفقراء ويقعد معهم وكان معه نحو ثلاثين فقيراً، لأحدهم غزالة تكون مع الأسد في موضع واحد فلا يعرض لها. وأقمت بمدينة فتن، وكان السلطان غياث الدين قد صنع له أحد الجوكية حبوباً لقوة على الجماع. وذكروا أن من جملة أخلاطها برادة الحديد، فأكل منها فوق الحاجة فمرض، ووصل إلى فتن. فخرجت إلى لقائه، واهديت له هدية. فلما استقر بها بعث عن قائد البحر خواجه سرور فقال له: لا تشتغل بسوى المراكب المعينة للسفر إلى الجزائر. وأراد أن يعطيني قيمة الهدية فأبيت، ثم ندمت، لأنه مات. فلم آخذ شيئاً. وأقام بفتن نصف شهر، ثم رحل إلى حضرته. وأقمت أنا بعده نصف شهر، ثم رحلت إلى حضرته، وهي مدينة متره " بضم الميم وسكون التاء المعلوة وفتح الراء "، مدينة كبيرة متسعة الشوارع. وأول من اتخذها حضرة صهري السلطان الشريف جلال الدين أحسن شاه. وجعلها شبيهة بدهلي، وأحسن بناءها. ولما قدمتها وجدت بها وباء يموت منه الناس موتاً ذريعاً، فمن مرض مات من ثاني يوم مرضه أو ثالثه، وإن أبطأ موته فإلى الرابع. فكنت إذا خرجت لا أرى إلا مريضاً أو ميتاً. واشتريت بها جارية على أنها صحيحة، فماتت في يوم آخر. ولقد جاءت إلي في بعض الأيام امرأة كان زوجها من وزراء السلطان أحسن شاه، ومعها ابن لها سنه ثمانية أعوام، نبيل كيس فطن. فشكت ضعف حالها، فأعطيتهما نفقة، وهما صحيحان سويان. فلما كان من الغد جاءت تطلب لولدها كفناً، وإذا به قد توفي من حينه. وكنت أرى بمشور  السلطان حين مات المئتين من الخدم اللاتي أتي بهن لدق الأرز المعمول منه الطعام لغير السلطان، وهن مريضات قد طرحن أنفسهن في الشمس. ولما دخل السلطلن مترة، وجد أمه وامرأته وولده مرضى. فأقام بالمدينة ثلاثة أيام، ثم خرج إلى نهر على فرسخ منها، كانت عليه كنيسة للكفار. وخرجت إليه في يوم خميس، فأمر بإنزالي إلى جانب القاضي. فلما ضربت لي الأخبية رأيت الناس يسرحون، ويموج بعضهم في بعض. فمن قائل: إن السلطان مات، ومن قائل: إن ولده هو الميت. ثم تحققنا ذلك، فكان الولد هو الميت، ولم يكن له سواه. فكان موته مما زاد في مرضه. وفي الخميس بعده توفيت أم السلطان.

ذكر وفاة السلطان وولاية ابن أخيه وانصرافي عنه

وفي الخميس الثالث توفي السلطان غياث الدين، وشعرت بذلك، فباردت الدخول إلى المدينة خوف الفتنة. ولقيت ناصر الدين ابن أخيه الوالي بعده خارجاً إلى المحلة، قد وجه عنه، إذا ليس للسلطان ولد. فطلب إلي الرجوع معه، فأبيت. وأثر ذلك في قلبه. وكان ناصر الدين هذا. خديماً بدهلي قبل أن يملك عمه. فلما ملك عمه هرب في زي الفقراء إليه، فكان من القدر ملكه بعده. ولما بويع، مدحته الشعراء، فأجزل لهم العطاء وأول من قام منشداً القاضي صدر الزمان، فأعطاه خمسمائة دينار وخلعة، ثم الوزير المسمى بالقاضي، فأعطاه ألفي دينار دراهم، وأعطاني أنا ثلاثمائة دينار وخلعة. وبث الصدقات في الفقراء والمساكين. ولما خطب الخطيب أول خطبة باسمه، نثرت عليه الدنانير والدراهم في أطباق الذهب والفضة. وعمل عزاء السلطان غياث الدين فكانوا يختمون القرآن على قبره كل يوم، ثم يقرأ العشارون، ثم يؤتى بالطعام فيأكل الناس، ثم يعطون الدراهم، كل إنسان على قدره. وأقاموا على ذلك أربعين يوماً. ثم يفعلون ذلك في مثل يوم وفاته من كل سنة. وأول ما بدأ به السلطان ناصر الدين أن عزل وزير عمه، وطلبه بالأموال. وولي الوزارة الملك بدر الدين الذي بعثه عمه إلي وأنا بفتن ليتلقاني، فتوفي سريعاً. فولي الوزارة خواجه سرور قائد البحر، وأمر أن يخاطب بخواجه جهان، كما يخاطب الوزير بدهلي. ومن خاطبه بغير ذلك غرم دنانير معلومة. ثم إن السلطان ناصر الدين قتل ابن عمته المتزوج بنت السلطان غياث الدين، وتزوجها بعده. وبلغه أن الملك مسعوداً زاره في محبسه قبل موته، فقتله أيضاً، وقتل الملك بهادور، وكان من الشجعان الكرماء الفضلاء، وأمر لي بجميع ما كان عينه عمه من المراكب برسم الجزائر. ثم أصابنتي الحمى القاتلة هنالك، فظننت أنها القاضية. وألهمني الله إلى التمر الهندي، وهو هنالك كثير، فأخذت نحو رطل منه، وجعلته في الماء ثم شربته. فأسهلني ثلاثة أيام، وعافاني الله من مرضي. فكرهت تلك المدينة، وطلبت الإذن في السفر، فقال لي السلطان: كيف تسافر ولم يبق لأيام السفر إلى الجزائر غير شهر واحد ؟ أقم حتى نعطيك جميع ما أمر لك به خوند عالم. فأبيت، وكتب لي إلى فتن لأسافر في أي مركب أردت. وعدت إلى فتن، فوجدت ثمانية من المراكب تسافر إلى اليمن، فسافرت في أحدها، ولقينا أربعة أجفان، فقاتلتنا يسيراً ثم انصرفت. ووصلنا إلى كولم، وكان في بقية مرض، فأقمت بها ثلاثة أشهر. ثم ركبت في مركب بقصد السلطان جمال الدين الهنوري، فخرج علينا الكفار بين هنور وفاكنور.

ذكر سلب الكفار لنا

ولما وصلنا إلى الجزيرة الصغرى بين هنور وفاكنور، خرج علينا الكفار في يوم اثني عشر مركباً حربياً، وقاتلوها قتالاً شديداً، وتغلبوا علينا، فأخذوا جميع ما عندي مما كنت أدخره للشدائد، وأخذوا الجواهر واليواقيت التي أعطانيها ملك سيلان، وأخذوا ثيابي والزرادات التي كانت عندي مما أعطانيه الصالحون والأولياء، ولم يتركوا لي ساتراً خلا السراويل، وأخذوا ما كان لجميع الناس، وأنزلونا بالساحل. فرجعت إلى قالقوط، فدخلت بعض المساجد. فبعث إلي أحد الفقهاء بثوب، وبعث القاضي بعمامة، وبعث بعض التجار بثوب آخر. وتعرفت هنالك بتزوج الوزير عبد الله بالسلطانة خديجة بعد موت الوزير جمال الدين، وبأن زوجتي التي تركتها حاملاً ولدت ولداً ذكراً فخطر لي السفر إلى الجزائر. وتذكرت العداوة التي بيني وبين الوزير عبد الله، ففتحت المصحف، فخرج لي " تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا " فاستخرت الله، وسافرت. فوصلت بعد عشرة أيام إلى جزائر ذيبة المهل، ونزلت منها بكلنوس. فأكرمني واليها عبد العزيز المقدوشاوي وأضافني وجهز لي كندرة. ووصلت بعد ذلك إلى هللي، وهي الجزيرة التي تخرج السلطانة وأخواتها إليها برسم التفرج والسباحة، ويسمون ذلك التتجر. ويلعبون في المراكب، ويبعث لها الوزراء والأمراء بالهدايا والتحف متى كانت بها. وجدت بها أخت السلطانة وزوجها الخطيب محمد ابن الوزير جمال الدين وأمها التي كانت زوجتي. فجاء الخطيب إلي، وأتوا بالطعام. ومر بعض أهل الجزيرة إلى الوزير عبد الله فأعلموه بقدومي. فسأل عن حالي، وعمن قدم معي. وأخبر أني جئت برسم حمل ولدي، وكان سنه نحو عامين. وأتته أمه تشكو من ذلك. فقال لها: أنا لا أمنعه من حمل ولده. وصادرني في دخول الجزيرة، وأنزلني بدار تقابل برج قصره، ليتطلع على حالي. وبعث إلي بكسوة كاملة، وبالتنبول وماء الورد على عادتهم. وجئت بثوبي حرير للرمي عند السلام، فأخذوهما، ولم يخرج الوزير إلي ذلك اليوم. وأتي إلي بولدي فظهر لي أن إقامته معهم خير له. فرددته إليهم، وأقمت خمسة أيام وظهر لي أن تعجيل السفر أولى. فطلبت الإذن في ذلك، فاستدعاني الوزير، ودخلت عليه وأتوني بالثوبين اللذين أخذوهما مني، فرميتهما عند السلام على العادة. وأجلسني إلى جانبه، وسألني عن حالي، وأكلت معه الطعام، وغسلت يدي معه في الطست، وذلك شيء لا يفعله مع أحد. وأتوا بالتنبول وانصرفت، وبعث إلي بأثواب وبساتي من الودع، وأحسن في أفعاله وأجمل. وسافرت، فأقمنا على ظهر البحر ثلاثاً وأربعين ليلة، ثم وصلنا إلى بلاد بنجالة " وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون النون وجيم معقود وألف ولام مفتوح "، وهي بلاد متسعة كثيرة الأرز. ولم أر في الدنيا أرخص أسعاراً منها، لكنها مظلمة. وأهل خراسان يسمونها دوزخست " دوزخ " بور " بر " نعمة، معناه جهنم ملأى بالنعم. رأيت الأرز يباع في أسواقها خمسة وعشرين رطلاً دهلية بدينار فضي، والدينار الفضي هو ثمانية دراهم، ودرهمهم كالدرهم النقرة سواء، والرطل الدهلي عشرون رطلاً مغربية. وسمعتهم يقولن: إن ذلك غلاء عندهم. وحدثني محمد المصمودي المغربي، وكان من الصالحين وسكن هذا البلد قديماً ومات عندي بدهلي، أنه كانت له زوجة وخادم، فكان يشتري قوت ثلاثتهم في السنة بثمانية رداهم، وأنه كان يشتري الأرز في قشره بحساب ثمانين رطلاً دهلية بثمانية دراهم، فإذا دقه خرج منه خمسون رطلاً صافية، وهي عشرة قناطير. ورأيت البقرة تباع بها للحلب بثلاثة دنانير فضية وبقرهم الجواميس، ورأيت الدجاج السمان تباع بحساب ثمانٍ بدرهم واحد، وفراخ الحمام، تباع خمسة عشر بدرهم، ورأيت الكبش السمين يباع بدرهمين. ورطل السكر بأربعة دراهم، وهو رطل دهلي ورطل الجلاب بثمانية دراهم ورطل السمن بأربعة دراهم ورطل السيرج بدرهمين، ورأيت ثوب القطن الرقيق الجيد الذي ذرعه ثلاثون ذراعاً يباع بدينارين، ورأيت الجارية المليحة للفراش تباع بدينار من الذهب الواحد، وهو ديناران ونصف دينار من الذهب المغربي، واشتريت بنحو هذه القيمة جارية تسمى عاشورة، وكان لها جمال بارع. واشترى بعض أصحابي غلاماً صغير السن حسناً اسمه لؤلؤ بدينارين من الذهب. وأول مدينة دخلناها من بلاد بنجالة مدينة سدكاوان، وضبط اسمها " بضم السين وسكون الدال المهملين وفتح الكاف والواو وآخره نون "، وهي مدينة عظيمة على ساحل البحر الأعظم، ويجتمع بها نهر الكنك الذي يحج إليه الهنود، ونهر الجون، ويصبان في البحر. ولهم في النهر مراكب كثيرة يقاتلون بها أهل بلاد اللكنوتي.