الجزء الثاني - ذكر سلطان بنجالة

وهو السلطان فخر الدين الملقب بفخره " بالفاء والخاء المعجم والراء "، سلطان فاضل محب في الغرباء، وخصوصاً الفقراء والمتصوفة. وكانت مملكة هذه البلاد للسلطان ناصر الدين ابن السلطان غياث الدين بلبن، وهو الذي ولي ولده معز الدين الملك بدهلي، فتوجه لقتاله والتقيا بالنهر، وسمي لقاؤهما لقاء السعدين، وقد ذكرنا ذلك، وأنه ترك الملك لولده وعاد إلى بنجالة، فأقام بها إلى أن توفي، وولي ابنه شمس الدين إلى أن توفي فولي ابنه شهاب الدين إلى أن غلب عليه أخوه غياث الدين بهادوربور، فاستنصر شهاب الدين بالسلطان غياث الدين تغلق فنصره، وأخذ بهادوربور أسيراً، ثم أطلقه ابنه محمد لما ملك، على أن يقاسمه ملكه، فنكث عليه، فقاتله حتى قتله، وولي على هذه البلاد صهراً، له فقتله العسكر، واستولى على ملكها علي شاه، وهو إذ ذاك ببلاد اللكنوتي. فلما رأى فخر الدين أن الملك قد خرج عن أولاد السلطان ناصر الدين، وهو مولى لهم، خالف بسكاوان وبلاد بنجالة، واستقل بالملك. واشتدت الفتنة بينه وبين علي شاه. فإذا كانت أيام الشتاء والوحل، أغار فخر الدين على بلاد اللكنوتي في البحر لقوته فيه، وإذا عادت الأيام التي لا مطر فيها أغار علي شاه على بنجالة في البر لقوته فيه.

حكاية

وانتهى حب الفقراء بالسلطان فخر الدين إلى أن جعل أحدهم نائباً عنه في الملك بسدكاوان، وكان يسمى شيدا " بفتح الشين المعجم والدال المهمل بينهما ياء آخر الحروف "، وخرج إلى قتال عدو له. فخالف عليه شيدا، وأراد الاستبداد بالملك، وقتل ولد السلطان فخر الدين، ولم يكن له ولد غيره. فعلم بذلك فكر عائداً إلى حضرته، ففر شيدا ومن اتبعه إلى مدينة سنرهكاوان، وهي منيعة. فبعث السلطان بالعساكر إلى حصاره، فخاف أهلها على أنفسهم، فقبضوا على شيدا وبعثوا إلى عسكر السلطان، فكتبوا إليه بأمره. فأمرهم أن يبعثوا له رأسه فبعثوه. وقتل بسببه جماعة كبيرة من الفقراء. ولما دخلت سدكاوان لم أر سلطانها، ولا لقيته، وعلمت أنه مخالف على ملك الهند. فخفت عاقبة ذلك، وسافرت من سدكاوان بقصد جبال كامرو، وهي " بفتح الكاف والميم وضم الراء ". وبينها وبين سدكاوان مسيرة شهر، وهي جبال متسعة متصلة بالصين، وتتصل أيضاً ببلاد التبت حيث غزلان المسك. وأهل هذا الجبل يشبهون الترك، ولم قوة على الخدمة. والغلام منهم يساوي أضعاف ما يساويه الغلام من غيرهم. وهم مشهورون بمعاناة السحر والاشتغال به. وكان قصدي بالمسير إلى هذه الجبال لقاء ولي من الأولياء بها وهو الشيخ جلال الدين التبريزي.

ذكر الشيخ جلال الدين

وهذا الشيخ من كبار الأولياء وأفراد الرجال. له الكرامات الشهيرة والمآثر العظيمة، وهو من المعمرين. أخبرني رحمه الله أنه أدرك الخليفة المعتصم المستعصم بالله العباسي ببغداد، وكان بها حين قتله، وأخبرني أصحابه بعد هذه المدة أنه مات، وهو ابن مائة وخمسين، وأنه كان له نحو أربعين سنة يسرد الصوم، ولا يفطر إلا بعد مواصلة عشر، وكانت له بقرة يفطر على حليبها، ويقوم الليل كله. وكان نحيف الجسم طوالاً خفيف العارضين. وعلى يديه أسلم أهل تلك الجبال، ولذلك أقام بينهم.

كرامة له: أخبرني بعض أصحابه أنه استدعاهم قبل موته بيوم واحد، وأوصاهم بتقوى الله، وقال لهم: إني أسافر عنكم غداً إن شاء الله وخليفتي عليكم الله الذي لا إله إلا هو، فلما صلى الظهر من الغد قبضه الله في آخر سجدة منها، ووجدوا في جانب الغار الذي كان يسكنه قبراً محفوراً عليه الكفن والحنوط، فغسلوه وكفنوه وصلوا عليه ودفنوه به، رحمه الله تعالى. كرامة له أيضاً: ولما قصدت زيارة هذا الشيخ لقيني أربعة من أصحابه على مسيرة يومين من موضع سكناه، فأخبروي أن الشيخ قال للفقراء الذين معه: قد جاءكم سائح من المغرب فاستقبلوه، وأنهم أتوا لذلك بأمر الشيخ. ولم يكن عنده علم من أمري، وإنما كوشف به، وسرت معهم إلى الشيخ فوصلت زاويته خارج الغار ولا عمارة عندها وأهل تلك البلاد من مسلم وكافر يقصدون زبارته، ويأتون بالهدايا والتحف فيأكل منها الفقراء والواردون. وأما الشيخ فقد اقتصر على بقرة يفطر على حليبها بعد عشر كما قدمناه، ولما دخلت عليه قام إلي وعانقني وسألني عن بلادي وأسفاري، فأخبرته. فقال لي: أنت مسافر العرب. فقال له من حضر من أصحابه: والعجم يا سيدنا. فقال: والعجم، فأكرموه. فاحتملوني إلى الزاوية وأضافوني ثلاثة أيام.

حكاية عجيبة في ضمنها كرامات له ولما كان يوم دخولي إلى الشيخ رأيت عليه فرجية مرعز فأعجبتني، وقلت في نفسي: ليت الشيخ أعطانيها. فلما دخلت عليه للوداع، قام إلى جانب الغار وجرد الفرجية وألبسنيها مع طاقية من رأسه، ولبس مرقعة، فأخبرني الفقراء أن الشيخ لم تكن عادته أن يلبس تلك الفرجية، وإنما لبسها عند قدومي، وأنه قال لهم هذه الفرجية يطلبها المغربي، ويأخذها منه سلطان كافر، ويعطيها لأخينا برهان الدين الصاغرجي، وهي له وبرسمه كانت. فلما أخبرني الفقراء بذلك، قلت لهم: لقد حصلت لي بركة الشيخ، بأن كساني لباسه. وأنا لا أدخل بهذه الفرجية على سلطان كافر ولا مسلم، وانصرفت عن الشيخ. فاتفق لي بعد مدة طويلة أني دخلت بلاد الصين، وانتهيت إلى مدينة الخنسا. فافترق مني أصحابي لكثرة الزحام، وكانت الفرجية علي. فبينا أنا في بعض الطرق إذا بالوزير في موكب عظيم. فوقع بصره علي فاستدعاني وأخذ بيدي وسألني عن مقدمي، ولم يفارقني حتى وصلت إلى دار السلطان معه فأردت الانفصال، فمنعني وأدخلني على السلطان، فسألني عن سلاطين الإسلام فأجبته، ونظر إلى الفرجية فاستحسنها. فقال لي الوزير: جردها، فلم يمكني خلاف ذلك. فأخذها وأمر لي بعشر خلع وفرس مجهز ونفقة. وتغير خاطري لذلك. ثم ذكرت قول الشيخ إنه يأخذها سلطان كافر. فطال عجبي من ذلك. ولما كان في السنة الأخرى دخلت دار ملك الصين بخان بالق، فقصدت زاوية الشيخ برهان الدين الصاغرجي فوجدته يقرأ، والفرجية عليه بعينها، فعجبت من ذلك وقلبتها بيدي، فقال لي: لم تقلبها وأنت تعرفها ؟ فقلت له: نعم، هي التي أخذها مني سلطان الخنسا. فقال لي هذه الفرجية صنعها أخي جلال الدين برسمي. وكتب إلي أن الفرجية تصلك على يد فلان. ثم أخرج لي الكتاب فقرأته. وعجبت من صدق يقين الشيخ، وأعلمته بأول الحكاية. فقال لي: أخي جلال الدين أكبر من ذلك كله، وهو يتصرف في الكون، وقد انتقل إلى رحمة الله تعالى. ثم قال: بلغني أنه كان يصلي الصبح كل يوم بمكة، وأنه يحج كل عام. لأنه كان يغيب على الناس يومي عرفة والعيد، فلا يعرف أين ذهب. ولما وادعت الشيخ جلال الدين سافرت إلى مدينة حبنق " وضبط اسمها بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. وسكون النون وقاف "، وهي من أكبر المدن وأحسنها. يشقها النهر الذي ينزل من جبال كامرو، ويسمى النهر الأزرق، ويسافر فيه إلى بنجالة وبلاد اللكنوتي، وعليه النواعير والبساتين والقرى يمنة ويسرة، كما هي على نيل مصر. وأهلها كفار تحت الذمة، يؤخذ منهم نصف ما يزدرعون ووظائف سوى ذلك. وسافرنا في هذا النهر خمسة عشر يوماً بين القرى والبساتين فكأنما نمشي في سوق من الأسواق، وفيه من المراكب ما لا يحصى كثرة، وفي كل مركب منها طبل، فإذا التقى المركبان ضرب كل واحد طبله، وسلم بعضهم على بعض. وأمر السلطان فخر الدين المذكور أن لا يؤخذ بذلك النهر من الفقراء نول، وأن يعطى الزاد لمن لا زاد له منهم. وإذا وصل الفقير إلى مدينة أعطي نصف دينار. وبعد خمسة عشر يوماً من سفرنا في النهر، كما ذكرناه، وصلنا إلى مدينة سنرهكاوان وسنر " بضم السين المهمل والنون وسكون الراء "، وهي المدينة التي قبض أهلها على الفقير شيدا عندما لجأ إليها. ولما وصلناها وجدنا بها جنكاً يريد السفر إلى بلاد الجاوة. وبينهما أربعون يوماً. فركبنا فيه وصلنا بعد خمسة عشر يوماً إلى بلاد البرهنكار الذين أفواههم كأفواه الكلاب " وضبطها بفتح الباء الموحدة والراء والنون والكاف وسكون الهاء "، وهذه الطائفة من الهمج لا يرجعون إلى دين الهنود ولا إلى غيره، وسكناهم في بيوت قصب مسقفة بحشيش الأرض على شاطئ البحر. وعندهم من أشجار الموز والفوفل والتنبول كثير. ورجالهم على مثل صورنا إلا أن أفواهم كأفواه الكلاب. وأما نساؤهم فلسن كذلك، ولهن جمال بارع. ورجالهم عرايا لا يستترون. إلا أن الواحد يجعل ذكره وأنثييه في جعبة من القصب منقوشة معلقة في بطنه، وتستتر نساؤهم بأوراق الشجر. ومعهم جماعة من المسلمين من أهل بنجالة والجاوة ساكنون في حارة على حدة. أخبرونا أنهم يتناكحون كالبهائم، لا يستترون بذلك. ويكون للرجل منهم ثلاثون امرأة فما دون ذلك أو فوقه، وأنهم لا يزنون. وإذا زنا الرجل منهم فحد الرجل أن يصلب حتى يموت، أو يؤتى بصاحبه أو عبده فيصلب عوضاً منه، ويسرح هو. وحد المرأة أن يأمر السلطان جميع خدامه فينكحونها واحد بعد واحد بحضرته حتى تموت، ويرمون بها في البحر. ولأجل ذلك لا يتركون أحداً من أهل المراكب ينزل إليهم، إلا إن كان من المقيمين عندهم. وإنما يبايعون الناس ويشارونهم على الساحل، ويسوقون إليهم الماء على الفيلة، لأنه بعيد من الساحل. ولا يتركونهم لاستقائه خوفاً على نسائهم، لأنهن يطمحن إلى الرجال الحسان. والفيلة كثيرة عندهم، ولا يسعها أحد غير سلطانهم. ثم يشترى منهم بالأثواب. ولهم كلام غريب لايفقهه إلا من ساكنهم، وأكثر التردد إليهم. ولما وصلنا إلى ساحلهم أتوا إلينا في قوارب صغار، كل قارب من خشبة واحدة منحوتة، وجاءوا بالموز والأرز والتنبول والفوفل والسمك.

ذكر سلطانهم

وأتى إلينا سلطانهم رأكباً على فيل، عليه شبه بردعة من الجلود، ولباس السلطان ثوب من جلود المعزى، وقد جعل الوبر إلى خارج، وفوق رأسه ثلاث عصائب من الحرير ملونات، وفي يده حربة من القصب، ومعه نحو عشرين من أقاربه على الفيلة. فبعثنا إليه هدية من الفلفل والزنجبيل والقرفة والحوت الذي يكون بجزائر ذيبة المهل وأثواباً من بنجالية. وهم لا يلبسونها إنما يكسونها الفيلة في أيام عيدهم. ولهذا السلطان على كل مركب ينزل ببلاده جارية ومملوك وثياب لكسوة الفيل وحلي ذهب تجعله زوجته في محزمها وأصابع رجليها. ومن لم يعط هذه الوظيفة صنعوا له سحراً يهيج به البحر، فيهلك أو يقارب الهلاك.

حكاية  

واتفق في ليلة من ليالي إقامتنا بمرساهم أن غلاماً لصاحب المركب ممن تردد إلى هؤلاء الطائفة نزل من المركب ليلاً، وتواعد مع امرأة أحد كبرائهم إلى موضع شبه الغار على الساحل. وعلم بذلك زوجها، فجاء في جمع من أصحابه إلى الغار فوجدهما به. فحملا إلى سلطانهم، فأمر بالغلام فقطعت أنثياه وصلب. وأمر المرأة فجامعها الناس حتى ماتت. ثم جاء السلطان إلى الساحل فاعتذر عما جرى، وقال: إنا لا نجد بداً من إمضاء أحكامنا. ووهب لصاحب المركب غلاماً عوض الغلام المطلوب، ثم سافرنا عن هؤلاء. وبعد خمسة وعشرين يوماً وصلنا إلى جزيرة الجاوة " بالجيم "، وهي التي ينسب إليها اللبان الجاوي. رأيناها على مسيرة نصف يوم. وهي خضرة نضرة.وأكثر أشجارها النارجيل والفوفل والقرنفل والعود الهندي والشكي والبركي والعنبة والجمون والنارنج الحلو وقصب الكافور. وبيع أهلها وشراؤهم بقطع قصدير وبالذهب الصيني التبر غير المسبوك. والكثير من أفاويه الطيب التي ببلاد الكفار إنما هو منها، وأما ببلاد المسلمين فهو أقل من ذلك. ولما وصلنا المرسى خرج إلينا أهلها في مراكب صغار، ومعهم جوز النارجيل والموز والعنبة والسمك. وعادتهم أن يهدوا ذلك للتجار، فيكافئهم كل إنسان على قدره. وصعد إلينا أيضاً نائب صاحب البحر، وشاهد من معنا من التجار، وأذن لنا في النزول إلى البر. فنزلنا إلى البندر، وهي قرية كبيرة على ساحل البحر، بها دور اسمها السرحى " بفتح السين المهمل وسكون الراء وفتح الحاء المهمل "، وبينها وبين البلد أربعة أميال. ثم كتب بهروز نائب صاحب البحر إلى السلطان فعرفه بقدومي، فأمر الأمير دولسة بلقائي، والقاضي الشريف أمير سيد الشيرازي، وتاج الدين الأصفهاني، وسواهم من الفقهاء، فخرجوا لذلك وجاءوا بفرس من مراكب السلطان، وأفراس سواه فركبت، وركب أصحابي، ودخلنا إلى حضرة السلطان، وهي مدينة سمطرة " بضم السين المهمل وسكون الطاء وفتح الراء "، مدينة حسنة كبيرة، عليها سور خشب وأبراج خشب.