الجزء الثاني - ذكر سلطان الجاوة

وهو السلطان الملك الظاهر من فضلاء الملوك وكرمائهم، شافعي المذهب محب في الفقهاء يحضرون مجلسه للقراءة والمذاكرة وهو كثير الجهاد والغزو ومتواضع يأتي إلى صلاة الجمعة ماشياً على قدميه وأهل بلاده شافعية محبون في الجهاد يخرجون معه تطوعاً وهم غالبون على من يليهم من الكفار والكفار يعطونهم الجزية على الصلح.

ذكر دخولنا إلى داره وإحسانه إلينا

ولما قصدنا إلى دار السلطان وجدنا بالقرب منه رماحاً مركوزة على جانبي الطريق، وهي علامة على نزول الناس، فلا يتجاوزها من كان راكباً. فنزلنا عندها ودخلنا المشور، فوجدنا نائب السلطان. وهو يسمى عمدة الملك. فقام إلينا وسلم علينا، وسلامهم بالمصافحة وقعدنا معه. وكتب بطاقة إلى السلطان يعلمه بذلك، وختمها ودفعها لبعض الفتيان. فأتاه الجواب على ظهرها. ثم جاء أحد الفتيان ببقشة والبقشة " بضم الباء الموحدة وسكون القاف وفتح الشين المعجم "، هي السبنية فأخذها النائب بيده، وأخذ بيدي وأدخلني إلى دويرة يسمونها فردخانة، على وزن زردخانة " إلا أن أولها فاء "، وهي موضع راحته بالنهار فإن العادة أن يأتي نائب السلطان إلى المشور بعد الصبح، ولا ينصرف إلا بعد العشاء الآخرة، وكذلك الوزراء والأمراء الكبار. وأخرج من البقشة ثلاث فوط: إحداهما من خالص الحرير، والأخرى حرير وقطن، وأخرى حرير وكتان. وأخرج ثلاثة أثواب، يسمونها التحتانيات من جنس الفوط، وأخرج ثلاثة من الثياب مختلفة الأجناس، تسمى الوسطانيات، وأخرج ثلاثة أثواب من الأرمك، أحدها أبيض، وأخرج ثلاث عمائم. فلبست فوطة منها عوضاً عن السراويل على عادتهم، وثوباً من كل جنس. وأخذ أصحابي ما بقي منها.


ثم جاءوا بالطعام، أكثره الأرز، ثم أتوا بنوع من الفقاع، ثم أتوا بالتنبول، وهو علامة الانصراف، فأخذناه وقمنا، وقام النائب لقيامنا، وخرجنا عن المشور، فركبنا وركب النائب معنا. وأتوا بنا إلى بستان عليه حائط خشب، وفي وسطها دار بناؤها بالخشب، مفروشة بقطائف قطن يسمونها المخملات " بالميم والخاء المعجم "، ومنها مصبوغ وغير مصبوغ. وفي البيت أسره من الخيزران، فوقها مضربات من الحرير، ولحف خفاف، ومخاد، يسمونها البوالشت، فجلسنا بالدار، ومعنا النائب. ثم جاء الأمير دولسة بجاريتين وخادمين، وقال لي: يقول لك السلطان هذا على قدرنا، لا على قدر السلطان محمد، ثم خرج النائب، وبقي الأمير دولسة عندي. وكانت بيني وبينه معرفة. لأنه كان ورد رسولاً على السلطان بدهلي. فقلت له: متى تكون رؤية السلطان ؟ فقال لي: إن العادة عندنا أن لا يسلم القادم على السلطان. إلا بعد ثلاثة أيام ليذهب عنه تعب السفر. ويثوب إليه ذهنه. فأقمنا ثلاثة أيام، يأتي إلينا بالطعام ثلاث مرات في اليوم، وتأتينا الفواكه والطرف مساء وصباحاً. فلما كان اليوم الرابع، وهو يوم الجمعة، أتاني الأمير دولسة فقال لي: يكون سلامك على السلطان بمقصورة الجامع بعد الصلاة. فأتيت الجامع وصليت به الجمعة مع حاجبه قيران " بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف والراء "، ثم دخلت إلى السلطان، فوجدت القاضي أمير سيد، والطلبة عن يمينه وشماله. فصافحني وسلمت عليه، وأجلسني عن شماله، وسألني عن السلطان محمد، وعن أسفاري فأجبته، وعاد إلى المذاكرة في الفقه على مذهب الإمام الشافعي. ولم يزل كذلك إلى صلاة العصر، فلما صلاها دخل بيتاً هنالك، فنزع الثياب التي كانت عليه، وهي ثياب الفقهاء، وبها يأتي الجامع يوم الجمعة ماشياً، ثم لبس ثياب الملك، وهي الأقبية من الحرير والقطن.

ذكر انصرافه إلى داره وترتيب السلام عليه

ولما خرج من الجامع وجد الفيلة والخيل على بابه، والعادة عندهم أنه إذا ركب السلطان الفيل، ركب من معه الخيل. وإذا ركب الفرس، ركبوا الفيلة. ويكون أهل العلم عن يمينه، فركب ذلك اليوم على الفيل، وركبنا الخيل وسرنا معه إلى المشور. فنزلنا حيث العادة، ودخل السلطان راكباً وقد اصطف في المشور الوزراء والأمراء والكتاب وأرباب الدولة ووجوه العسكر صفوفاً، فأول الصفوف صف الوزراء والكتاب، ووزراؤه أربعة، فسلموا عليه وانصرفوا إلى موضع وقوفهم، ثم صف المراء فسلموا وموضوا إلى مواقفهم. وكذلك تفعل كل طائفة، ثم صف الشارفاء والفقهاء، ثم صف الندماء والحكماء والشعراء، ثم صف وجوه العسكر، ثم صف الفتيان والمماليك. ووقف السلطان على فيه إزاء قبة الجلوس، ورفع فوق رأسه شطر مرصع، وجعل عن يمينه خمسون فيلاً مزينة، وعن شماله مثلها، وعن يمينه أيضاً مائة فرس، وعن شماله مثلها، وهي خيل النوبة، ووقف بين يديه خواص الحجاب. ثم أتى أهل الطرب من الرجال فغنوا بين يديه، وأتى بخيل مجللة بالحرير، لها خلاخيل ذهب وأرسان حرير مزركشة، فرقصت الخيل بين يديه. فعجبت من شأنه، وكنت رأيت ذلك عند ملك الهند. ولما كان عند الغروب دخل السلطان إلى داره، وانصرف الناس إلى منازلهم.

ذكر خلاف ابن أخيه وسبب ذلك

وكان له ابن أخ متزوج ببنته، فولاه بعض البلاد. وكان الفتى بتعشق بنتاً لبعض الأمراء، ويريد تزوجها. والعادة هنالك أنه إذا كانت لرجل من الناس أمير أو سوقي أو سواه بنت قد بلغت مبلغ النكاح، فلابد أن يستأمر للسلطان في شأنها، ويبعث السلطان من النساء من تنظر إليها، فإن أعجبته صفتها تزوجها، وإلا تركها يزوجها أولياؤها ممن شاءوا. والناس هنالك يرغبون في تزوج السلطان بناتهم، لما يحوزون به من الجاه والشرف. ولما استأمر والد البنت التي تعشقها ابن أخي السلطان، بعث السلطان من نظر إليها وتزوجها. واشتد شغف الفتى بها ولم يجد سبيلاً إليها. ثم إن السلطان خرج إلى الغزو، وبينه وبين الكفار مسيرة شهر. فخالفه ابن أخيه إلى سمطرة، ودخلها إذ لم يكون عليها سور حينئذ، وادعى الملك، وبايعه بعض الناس، وامتنع آخرون. وعلم عمه بذلك، فقفل راجعاً عائداً إليها فأخذ ابن أخيه ما قدر عليه من الأموال والذخائر، وأخذ الجارية التي تعشقها، وقصد بلاد الكفار بمل جاوه. ولهذا بنى عمه السور على سمطرة. وكانت إقامتي عنده بسمطرة خمسة عشر يوماً، ثم طلبت منه السفر إذ كان أوانه. ولا يتهيأ السفر إلى الصين في كل وقت. فجهز لنا جنكاً، وزودنا، وأحسن وأجمل جزاه الله خيراً، وبعث معنا من أصحابه من يأتي لنا بالضيافة إلى الجنك. وسافرنا بطول بلاده إحدا وعشرين ليلة، ثم وصلنا إلى مل جاوه " بضم الميم "، وهي بلاد الكفار وطولها مسيرة شهرين، وبها الأفاويه العطره والعود الطيب القاقلي والقماري، وقاقلة وقمارة من بعض بلادها، وليس ببلاد السلطان الظاهر بالجاوة إلا اللبان والكافور وشيء من القرنفل وشيء من العود الهندي، وإنما معظم ذلك بمل جاوه. ولنذكر ما شهدناه منها، ووقفنا على أعيانه وحققناه.

ذكر اللبان

وشجرة اللبان صغيرة تكون بقدر قامة الإنسان إلى ما دون ذلك، وأغصانها كأغصان الخرشف، وأوراقها صغار رقاق، وربما سقطت فبقيت الشجرة منها دون ورقة. واللبان صمغية تكون في أغصانها. وهي في بلاد المسلمين أكثر منها في بلاد الكفار.

ذكر الكافور

وأما شجرة الكافور فهي قصب كقصب بلادنا، إلا أن الأنابيب منها أطول وأغلظ. ويكون الكافور داخل الأنابيب، فإذا كسرت القصبة وجد في داخل الأنبوب مثل شكله من الكافور. والسر العجيب فيه أنه لا يتكون في تلك القصب، حتى يذبح عند أصولها شيء من الحيوان، وإلا لم يتكون شيء منه. والطيب المتناهي في البرودة الذي يقتل منه وزن الدرهم، بتجميد الروح، وهو المسمى عندهم بالحردالة، وهو الذي يذبح عند قصبه الآدمي، ويقوم مقام الآدمي في ذلك الفيلة الصغار.

ذكر العود الهندي

وأما العود الهندي فشجره يشبه شجر البلوط، إلا أن قشره رقيق، وأوراقه كأوراق البلوط سواء، ولا ثمر له. وشجرته لا تعظم كل العظم، وعروقه طويلة، وفيها الرائحة العطرة. وأما عيدان شجرته وورقها، فلا عطرية فيها. وكل ما ببلاد المسلمين من شجره فهو متملك. وأما الذي في بلاد الكفار فأكثره غير متملك. والمتملك منه ما كان بقاقلة، وهو أطيب العود. وكذلك القماري هو أطيب أنواع العود، ويبيعونه لأهل الجاوة بالأثواب. ومن القماري صنف يطبع عليه الشمع. وأما العطاس فإنه يقطع العرق منه، ويدفن في التراب أشهراً، فتبقى فيه قوته، وهو من أعجب أنواعه.

ذكر القرنفل

 وأما أشجار القرنفل فهي عادية ضخمة، وهي ببلاد الكفار أكثر منها ببلاد الإسلام، وليست بمتملكة لكثرتها. والمجلوب إلى بلادنا منها هو العيدان، والذي يسميه أهل بلادنا نوار القرنفل، هو الذي يسقط من زهره، وهو شبيه بزهر النارنج. وثمر القرنفل هو جوز بوا المعروفة في بلادنا بجوزة الطيب، والزهر المتكون فيها هو البسباسة، رأيت ذلك كله وشاهدته. ووصلنا إلى مرسى قاقلة، فوجدناه به جملة من الجنوك معد للسرقة. ولمن يستعصي عليهم من الجنوك، فإن لهم على كل جنك وظيفة. ثم نزلنا من الجنك إلى مدينة قاقلة " وهي بقافين آخرها مضموم ولامها مفتوح "، وهي مدينة حسنة، عليها سور من حجارة منحوتة، عرضه بحيث تسير فيه ثلاثة من الفيلة. وأول ما رأيت بخارجها الفيلة عليها الأحمال من العود الهندي يوقدونه في بيوتهم، وهو بقيمة الحطب عندنا أو أرخص ثمناً، هذا إذا ابتاعوا فيما بينهم. وأما للتجار فيبيعون الحمل منه بثوب من ثياب القطن، وهي أغلى عندهم من ثياب الحرير. والفيلة بها كثيرة جداً، عليها يركبون ويحملون. وكل إنسان يربط فيلته على بابه، وكل صاحب حانوت يربط فيله عنده، يركبه إلى داره ويحمل له. وكذلك جميع أهل الصين، والخطا على مثل هذا الترتيب.