قال ابن إسحاق : ويقال : صُرفت القبلة في شعبان على رأس ثمانية عشر شهرا من مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة .
قال ابن إسحاق : ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة ، فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم ، وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون، منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة ، وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام. قال ابن هشام : ويقال : عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم .
قال ابن إسحاق : فحدثني محمد بن مسلم الزهري ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، وعبدالله بن أبي بكر ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا ، عن ابن عباس ، كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقته من حديث بدر ، قالوا : لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ، ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله يُنْفِلُكُموها . فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا . وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس . حتى أصاب خبرا من بعض الركبان : أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك . فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه . فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
ذكر رؤيا عاتكة بنت عبدالمطلب
قال ابن إسحاق : فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس ، ويزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، قالا : وقد رأت عاتكة بنت عبدالمطلب ، قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال ، رؤيا أفزعتها . فبعث إلى أخيها العباس بن عبدالمطلب فقالت له : يا أخي ، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني ، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة ، فاكتم عني ما أحدثك به ؛ فقال لها : وما رأيت ؟ قالت: رأيت راكبا أقبل على بعير له ، حتى وقف بالأبطح ، ثم صرخ بأعلى صوته : ألا انفروا يا لَغُدُر لمصارعكم في ثلاث ، فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ، فبينما هم حوله مَثَل به بعيره على ظهر الكعبة ، ثم صرخ بمثلها : ألا انفروا يالغدر لمصارعكم في ثلاث : ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس ، فصرخ بمثلها . ثم أخذ صخرة فأرسلها . فأقبلت تهوي ، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت ، فما بقي بيت من بيوت مكة ، ولا دار إلا دخلتها منها فلقة ؛ قال العباس : والله إن هذه لرؤيا ، وأنت فاكتميها ، ولا تذكريها لأحد .
ثم خرج العباس ، فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وكان له صديقا ، فذكرها له ، واستكتمه إياها . فذكرها الوليد لأبيه عتبة ، ففشا الحديث بمكة ، حتى تحدثت به قريش في أنديتها .
قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت ، وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة ، فلما رآني أبو جهل قال : يا أبا الفضل ، إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا ، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم ، فقال لي أبو جهل : يا بني عبدالمطلب ، متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قال : قلت : وما ذاك ؟ قال : تلك الرؤيا التي رأت عاتكة ؛ قال : فقلت : وما رأت ؟ قال : يا بني عبدالمطلب ، أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم ، قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفُروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقا ما تقول فسيكون ، و إن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء ، نكتبْ عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب . قال العباس : فوالله ما كان مني إليه كبير ، إلا أني جحدت ذلك ، وأنكرت أن تكون رأت شيئا . قال : ثم تفرقنا .
فلما أمسيت ، لم تبق امرأة من بني عبدالمطلب إلا أتتني ، فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ، ثم لم يكن عندك غِيَر لشيء مما سمعت ، قال : قلت : قد والله فعلت ، ما كان مني إليه من كبير . وأيم الله لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفينَّكُنَّه .
قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة ، وأنا حديد مغضب أُرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه . قال : فدخلت المسجد فرأيته ، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ، ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلا خفيفا ، حديد الوجه ، حديد اللسان ، حديد النظر . قال : إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال : فقلت في نفسي : ما له لعنه الله ، أكلُّ هذا فَرَق مني أن أشاتمه ! قال : وإذا هو قد سمع ما لم أسمع : صوت ضمضم بن عمرو الغفاري ، وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره ، قد جدع بعيره ، وحوّل رحله ، وشق قيمصه ، وهو يقول : يا معشر قريش ، اللطيمةَ اللطيمةَ ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوثَ الغوثَ . قال : فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر .
إلا أن أبا لهب بن عبدالمطلب تخلف ، وبعث مكانه العاصي بن هشام ابن المغيرة ، وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها ، فاستأجره بها على أن يجُزئ عنه ، بعثه فخرج عنه ، وتخلف أبو لهب .
قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي نجيح : أن أمية بن خلف كان أجمع القعود ، وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا ، فأتاه عقبة بن أبي معيط ، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه ، بمجمرة يحملها ، فيها نار ومجمر ، حتى وضعها بين يديه ، ثم قال : يا أبا علي ، استجمر ، فإنما أنت من النساء ؛ قال : قبحك الله وقبح ما جئت به ، قال : ثم تجهز فخرج مع الناس .
قال ابن إسحاق : ولما فرغوا من جهازهم ، وأجمعوا المسير ، ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب ، فقالوا : إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا ، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر - كما حدثني بعض بني عامر بن لؤي ، عن محمد بن سعيد بن المسيَّب - في ابنٍ لحفص بن الأخيف ، أحد بني مَعيص بن عامر بن لؤي ، خرج يبتغي ضالة له بضجنان ، وهو غلام حدث في رأسه ذؤابة ، وعليه حلة له ، وكان غلاما وضيئا نظيفا ، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح ، أحد بني يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ، وهو بضجنان ، وهو سيد بني بكر يومئذ ، فرآه فأعجبه ؛ فقال : من أنت يا غلام ؟ قال : أنا ابنٌ لحفص ابن الأخيف القرشي . فلما ولىَّ الغلام ، قال عامر بن زيد : يا بني بكر ، ما لكم في قريش من دم ؟ قالوا : بلى والله ، إن لنا فيهم لدماء ؛ قال : ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برَجُله إلا كان قد استوفى دمه . قال : فتبعه رجل من بني بكر ، فقتله بدم كان له في قريش ؛ فتكلمت فيه قريش ، فقال عامر بن يزيد : يا معشر قريش ، قد كانت لنا فيكم دماء ، فما شئتم . إن شئتم فأدوا علينا ما لنا قبلكم ، ونؤدي ما لكم قبلنا ، وإن شئتم فإنما هي الدماء : رجل برجل ، فتجافوا عما لكم قِبَلَنا ، ونتجافى عما لنا قبلكم ، فهان ذلك الغلام على هذا الحي من قريش ، وقالوا : صدق ، رجل برجل . فلهوا عنه ، فلم يطلبوا به .
قال : فبينما أخوه مكرز بن حفص بن الأخيف يسير بِمرِّ الظهران ، إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن عامر بن الملوح على جمل له ، فلما رآه أقبل إليه حتى أناخ به ، وعامر متوشح سيفه ، فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله ، ثم خاض بطنه بسيفه ، ثم أتى به مكة ، فعلَّقه من الليل بأستار الكعبة . فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقا بأستار الكعبة ، فعرفوه ؛ فقالوا : إن هذا لسيف عامر بن يزيد ، عدا عليه مكرز بن حفص فقتله ، فكان ذلك من أمرهم . فبينما هم في ذلك من حربهم ، حجز الإسلام بين الناس ؛ فتشاغلوا به ، حتى أجمعت قريش المسير إلى بدر ، فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم .
وقال مكرز بن حفص في قتله عامرا :
لما رأيت أنـه هـو عـامـر |
|
تذكرت أشلاء الحبيب الملـحَّـب |
وقلت لنفسي : إنه هو عـامـر |
|
فلا ترهبيه ، وانظري أي مركـب |
وأيقنت أني إن أجللـه ضـربة |
|
متى ما أُصبه بالفُرافر يعـطـب |
خفضت له جأشي وألقيت كلكلي |
|
على بطل شاكي السلاح مجـرب |
ولم أك لما التف روعي وروعه |
|
عصارة هجن من نـسـاء ولا أب |
حللت به وِتْرِي ولم أنس ذحلـه |
|
إذا ما تناسى ذحله كـل عـيهـب |
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير ، قال : لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر ، فكاد ذلك يثنيهم ، فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي ، وكان من أشراف بني كنانة ، فقال لهم : أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشئ تكرهونه ، فخرجوا سراعا .
قال ابن إسحاق : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه - قال ابن هشام : خرج يوم الأثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان - واستعمل عمرو بن أم مكتوم - ويقال : اسمه : عبدالله بن أم مكتوم - ، أخا بني عامر بن لؤي ، على الصلاة بالناس ، ثم رد أبا لبابة من الروحاء ، واستعمله على المدينة . صاحب اللواء قال ابن إسحاق : ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبدالدار . قال ابن هشام : وكان أبيض .
قال ابن إسحاق : وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان ، إحداهما مع علي بن أبي طالب ، يقال لها : العقاب ، والأخرى مع بعص الأنصار .
قال ابن إسحاق : وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا ، فاعتقبوها ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلي بن أبي طالب ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا، وكان حمزة بن عبدالمطلب ، وزيد بن حارثة ، وأبو كبشة ، وأنسة ، موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتقبون بعيرا ، وكان أبو بكر ، وعمر ، وعبدالرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا . قال ابن إسحاق : وجعل على الساقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار . وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ ، فيما قال ابن هشام .
قال ابن إسحاق : فسلك طريقه من المدينة إلى مكة ، على نَقْب المدينة ، ثم على العقيق ، ثم على ذي الحُليفة ، ثم على أولات الجيش . قال ابن هشام : ذات الجيش .
قال ابن إسحاق : ثم مر على تُرْبان ، ثم على ملل ، ثم غَميس الحمام من مريين ، ثم على صخيرات اليمام ، ثم على السيَّالة ، ثم على فج الروحاء ، ثم على شنوكة ، وهي الطريق المعتدلة ؛ حتى إذا كان بعرق الظبية - قال ابن هشام : الظبية : عن غير ابن إسحاق - لقوا رجلا من الأعراب ، فسألوه عن الناس ، فلم يجدوا عنده خبرا ؛ فقال له الناس : سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : أوفيكم رسول الله ؟ قالوا : نعم ، فسلم عليه ؛ ثم قال : إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي هذه . قال له سلمة بن سلامة بن وقش : لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك . نزوت عليها ، ففي بطنها منك سخلة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مه ، أفحشت على الرجل ؛ ثم أعرض عن سلمة .
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج ، وهي بئر الروحاء ، ثم ارتحل منها ، حتى إذا كان بالمنصرف ، ترك طريق مكة بيسار ، وسلك ذات اليمين على النازية ، يريد بدرا ، فسلك في ناحية منها، حتى جزع واديا ، يقال له : رُحْقان ، بين النازية وبين مضيق الصفراء ، ثم على المضيق ، ثم انصب منه ، حتى إذا كان قريبا من الصفراء ، بعث بسبس بن الجهني ، حليف بني ساعدة ، وعدي بن أبي الزغباء الجهني ، حليف بني النجار ، إلى بدر يتحسسان له الأخبار ، عن أبي سفيان بن حرب وغيره .ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قدمها . فلما استقبل الصفراء ، وهي قرية بين جبلين ، سأل عن جبليهما ما اسماهما ؟ فقالوا : يقال لأحدهما ، هذا مسلح ، وللآخر : هذا مخرىء ؛ وسأل عن أهلهما ، فقيل : بنو النار وبنو حراق ، بطنان من بني غفار ، فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما ، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما . فتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفراء بيسار ، وسلك ذات اليمين على واد يقال له : ذَفِران ، فجزع فيه ، ثم نزل .
وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ؛ فاستشار الناس ، وأخبرهم عن قريش ؛ فقام أبو بكر الصديق ، فقال وأحسن . ثم قام عمر بن الخطاب ، فقال وأحسن . ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله ، امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : {( اذهب أنت وربك فقاتلا ، إنا ههنا قاعدون )} . ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه ، حتى تبلغه ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ، ودعا له به .
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أشيروا علي أيها الناس ، وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم عدد الناس ، وأنهم حين بايعوه بالعقبة ، قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا ، فإذا وصلت إلينا ، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا . فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم . فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل ؛ قال : فقد آمنا بك وصدقناك ، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا ، على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك ، فوالذي بعثك بالحق ، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا ، إنا لَصُبُرٌ في الحرب ، صُدُق في اللقاء . لعل الله يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله . فسُر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ، ونشَّطه ذلك ؛ ثم قال : سيروا وأبشروا ، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم .
قال ابن إسحاق : ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ؛ فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب ، والزبير بن العوام ، وسعد بن أبي وقاص ، في نفر من أصحابه ، إلى ماء بدر ، يلتمسون الخبر له عليه - كما حدثني يزيد بن رومان ، عن عروة بن الزبير - فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم ، غلام بني الحجاج ، وعريض أبو يسار ، غلام بني العاص بن سعيد ، فأتوا بهما فسألوهما ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ، فقالا : نحن سقاة قريش ، بعثونا نسقيهم من الماء . فكره القوم خبرهما ، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان ، فضربوهما . فلما أذلقوهما قالا : نحن لأبي سفيان ، فتركوهما . وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه ، ثم سلم ، وقال : إذا صدقاكم ضربتموهما ، وإذا كذباكم تركتموهما ، صدقا ، والله إنهما لقريش ، أخبراني عن قريش ؟ قالا : هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى - والكثيب : العقنقل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : كم القوم ؟ قالا: كثير ؛ قال : ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري ؛ قال : كم ينحرون كل يوم ؟ قالا : يوما تسعا ، ويوما عشرا؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : القوم فيما بين التسع مئة والألف . ثم قال لهما : فمن فيهم من أشراف قريش ؟ قالا : عتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وأبو البختري بن هشام ، وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد ، والحارث بن عامر بن نوفل ، وطعيمة بن عدي بن نوفل ، والنضر بن الحارث، وزمعة بن الأسود ، وأبو جهل بن هشام ، وأمية بن خلف ، ونبيه ، ومنبه ابنا الحجاج ، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود . فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ، فقال : هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها .
قال ابن إسحاق : وكان بسبس بن عمرو ، وعدي بن أبي الزغباء ، قد مضيا حتى نزلا بدرا ، فأناخا إلى تل قريب من الماء ، ثم أخذا شنَّا لهما يستقيان فيه ، ومجدي بن عمرو الجهني على الماء . فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر ، وهما يتلازمان على الماء ، والملزومة تقول لصاحبتها : إنما تأتي العير غدا أو بعد غد ، فأعمل لهم ، ثم أقضيك الذي لك . قال مجدي : صدقتِ ، ثم خلَّص بينهما . وسمع ذلك عدي وبسبس ، فجلسا على بعيريهما ، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبراه بما سمعا .
وأقبل أبو سفيان بن حرب ، حتى تقدم العير حذرا ، حتى ورد الماء ؛ فقال لمجدي بن عمرو : هل أحسست أحدا ؟ فقال : ما رأيت أحدا أنكره ، إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ، ثم استقيا في شن لهما ، ثم انطلقا . فأتى أبو سفيان مُناخهما ، فأخذ من أبعار بعيريهما ، ففتَّه ، فإذا فيه النوى ؛ فقال : هذه والله علائف يثرب . فرجع إلى أصحابه سريعا ، فضرب وجه عيره عن الطريق ، فساحل بها ، وترك بدرا بيسار ، وانطلق حتى أسرع .
قال ابن إسحاق : ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ، أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم ، فقد نجاها الله ، فارجعوا ؛ فقال أبو جهل بن هشام : والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب ، يجتمع لهم به سوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا ، فننحر الجزر ، ونطعم الطعام ، ونُسقي الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا ، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها ، فامضوا . الأخنس يرجع ببني زهرة وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ، وكان حليفا لبني زهرة و هم بالجحفة : يا بني زهرة ، قد نجَّى الله لكم أموالكم ، وخلّص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل ، وإنما نفرتم لتمنعوه وماله ، فاجعلوا لي جُبْنها وارجعوا ، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة ، لا ما يقول هذا ، يعني أبا جهل . فرجعوا ، فلم يشهدها زُهري واحد، أطاعوه وكان فيهم مطاعا . ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس ، إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد ، فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق ، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد ، ومشى القوم . وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة ، فقالوا : والله لقد عرفنا يا بني هاشم ، وإن خرجتم معنا ، أن هواكم لمع محمد . فرجع طالب إلى مكة مع من رجع . وقال طالب بن أبي طالب :
لاهُمّ إما يغزونّ طـالـبْ |
|
في عصبة محالف محـاربْ |
في مِقنب من هذه المقانب |
|
فليكن المسلوبَ غير السالـب |
وليكن المغلوب غير الغالب |
|
|
قال ابن هشام : قوله : ( فليكن المسلوب ) ، وقوله ( وليكن المغلوب ) عن غير واحد من الرواة للشعر.
قال ابن إسحاق : ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي ، خلف العقنقل وبطن الوادي ، وهو يَلْيَل ، بين بدر و بين العقنقل ، الكثيب الذي خلفه قريش ، والقُلُب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة . وبعث الله السماء ، وكان الوادي دهسا ، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبَّد لهم الأرض ، ولم يمنعهم عن السير ، وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُبادرهم إلى الماء ، حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به .
قال ابن إسحاق : فحدثني عبدالله بن أبي بكر أنه حدث : أن سعد بن معاذ قال : يا نبي الله ، ألا نبني لك عريشا تكون فيه ، ونعد عندك ركائبك ، ثم نلقى عدونا ، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا ، كان ذلك ما أحببنا ، وإن كانت الأخرى ، جلست على ركائبك ، فلحقت بمن وراءنا ، فقد تخلف عنك أقوام ، يا نبي الله ، ما نحن بأشد لك حبا منهم ، ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك ، يمنعك الله بهم ، يناصحونك ويجاهدون معك . فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير . ثم بُني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش ، فكان فيه .
قال ابن إسحاق : وقد ارتحلت قريش حين أصبحت ، فأقبلت ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تَصَوَّب من العقنقل - و هو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي - قال : اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها ، تحادك وتكذب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني ، اللهم أحنهم الغداة . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - وقد رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر - إن يكن في أحد القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر ، إن يطيعوه يرشدوا . وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري ، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري ، بعث إلى قريش ، حين مروا به ، ابنا له بجزائره أهداها لهم ، وقال : إن أحببتم أن نمدكم بسلاح ورجال فعلنا . قال : فأرسلوا إليه مع ابنه : أن وصلتك رحم ، قد قضيت الذي عليك ، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ، ولئن كنا إنما نقاتل الله، كما يزعم محمد ، فما لأحد بالله من طاقة .
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : دعوهم . فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل ، إلا ما كان من حكيم بن حزام ، فإنه لم يقتل ، ثم أسلم بعد ذلك ، فحسن إسلامه . فكان إذا اجتهد في يمينه ، قال : لا والذي نجاني من يوم بدر .
قال ابن إسحاق : وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم ، عن أشياخ من الأنصار ، قالوا : لما اطمأن القوم ، بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا : احزروا لنا أصحاب محمد ، قال : فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم ، فقال : ثلاث مائة رجل ، يزيدون قليلا أو ينقصون ، ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد ؟ قال : فضرب في الوادي حتى أبعد ، فلم ير شيئا ، فرجع إليهم فقال : ما وجدت شيئا ، ولكن قد رأيت ، يا معشر قريش ، البلايا تحمل المنايا ، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع ، قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم ، والله ما أرى أن يقتل رجل منهم ، حتى يقتل رجلا منكم ، فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك ؟ فروا رأيكم . فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس ، فأتى عتبة بن ربيعة ، فقال : يا أبا الوليد ، إنك كبير قريش وسيدها ، والمطاع فيها ، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر ؟ قال : وما ذاك يا حكيم ؟ قال : ترجع بالناس ، وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي ؛ قال : قد فعلت ، أنت علي بذلك ، إنما هو حليفي ، فعلي عقله وما أصيب من ماله ، فأت ابن الحنظلية .
قال ابن هشام : والحنظلية أم أبي جهل ، وهي أسماء بنت مخُرِّبة ، أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره ، يعني أبا جهل بن هشام . ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا ، فقال : يا معشر قريش ، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا ، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه ، قتل ابن عمه أو ابن خاله ، أو رجلا من عشيرته ، فارجعوا و خلوا بين محمد وبين سائر العرب ، فإن أصابوه فذاك الذي أردتم ، وإن كان غير ذلك ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون .قال حكيم : فانطلقت حتى جئت أبا جهل ، فوجدته قد نثل درعا له من جرابها ، فهو يهنئها . - قال ابن هشام : يهيئها - فقلت له : يا أبا الحكم ، إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا ، للذي قال ؛ فقال : انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه، كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد ، وما بعتبة ما قال ، ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور ، وفيهم ابنه ، فقد تخوفكم عليه . ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي ، فقال : هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس ، وقد رأيت ثأرك بعينك ، فقم فانشد خفرتك ، ومقتل أخيك . فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ : واعمراه ، واعمراه ، فحميت الحرب ، وحَقِب الناس ، واستوسقوا على ما هم عليه من الشر ، وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة . فلما بلغ عتبة قول أبي جهل ( انتفخ والله سحره ) ، قال : سيعلم مُصَفِّر استه من انتفخ سحره ، أنا أم هو ؟ . قال ابن هشام : السَحْر: الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السرة . وما كان تحت السرة ، فهو القُصْب ، ومنه قوله : رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار : قال ابن هشام : حدثني بذلك أبو عبيدة . ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه ، فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته ؛ فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له .
قال ابن إسحاق : وقد خرج الأسود بن عبدالأسد المخزومي ، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق ، فقال : أعاهد الله لأشربن من حوضهم ، أو لأهدمنه ، أو لأموتن دونه ؛ فلما خرج ، خرج إليه حمزة بن عبدالمطلب ، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه ، وهو دون الحوض ، فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ، ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه ، يريد - زعم - أن يبر يمينه ، وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض .
قال ثم خرج بعده عتبة بن ربيعة ، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة ، حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة ، فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة ، وهم : عوف ، ومعوذ ، ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر ، يقال : هو عبدالله بن رواحة ؛ فقالوا : من أنتم ؟ فقالوا : رهط من الأنصار ؛ قالوا : ما لنا بكم من حاجة . ثم نادى مناديهم : يا محمد ، أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قم يا عبيدة بن الحارث ، وقم يا حمزة ، وقم يا علي ، فلما قاموا ودنوا منهم ، قالوا : من أنتم ؟ قال عبيدة : عبيدة ، وقال حمزة : حمزة ، وقال علي : علي ؛ قالوا : نعم ، أكفاء كرام . فبارز عبيدة ، وكان أسن القوم ، عتبة بن ربيعة ، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة ؛ وبارز علي الوليد بن عتبة . فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله ؛ وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله ؛ واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين ، كلاهما أثبت صاحبه ؛ وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه ، واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة : أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار ، حين انتسبوا : أكفاء كرام ، إنما نريد قومنا .
قال ابن إسحاق : ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض ، وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم ، وقال : إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش ، معه أبو بكر الصديق .
قال ابن إسحاق : وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر ، وفي يده قدح يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غزية ، حليف بن عدي بن النجار - قال ابن هشام : يقال : سوَّاد ؛ مثقلة ؛ وسواد في الأنصار غير هذا ، مخفف - وهو مستنتل من الصف - قال ابن هشام : ويقال : مستنصل من الصف - فطعن في بطنه بالقدح وقال : استو يا سواد ، فقال : يا رسول الله ، أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل ؛ قال : فأقدني . فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه ، وقال : استقد ؛ قال : فاعتنقه فقبل بطنه ؛ فقال : ما حملك على هذا يا سواد ؟ قال : يا رسول الله ، حضر ما ترى ، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك . فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير ، وقاله له .
قال ابن إسحاق : ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ، ورجع إلى العريش فدخله ، ومعه فيه أبو بكر الصديق ، ليس معه فيه غيره ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ، ويقول فيما يقول : اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد ، وأبو بكر يقول : يا نبي الله : بعض مناشدتك ربك ، فإن الله منجز لك ما وعدك . وقد خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ، ثم انتبه فقال : أبشر يا أبا بكر ، أتاك نصر الله . هذا جبريل أخذ بعنان فرس يقوده ، على ثناياه النقع .
قال ابن إسحاق : وقد رمى مهجع ، مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل ، فكان أول قتيل من المسلمين ؛ ثم رمى حارثة بن سراقة ، أحد بني عدي بن النجار ، وهو يشرب من الحوض ، بسهم فأصاب نحره ، فقتل .
قال : ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرصهم ، وقال : والذي نفس محمد بيده ، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا ، مقبلا غير مدبر ، إلا أدخله الله الجنة . فقال عمير بن الحُمام أخو بني سلمة ، وفي يده تمرات يأكلهن : بخ بخ ، أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ، ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه ، فقاتل القوم حتى قتل . قال ابن إسحاق : وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، أن عوف ابن الحارث ، وهو ابن عفراء قال : يا رسول الله ، ما يضحك الرب من عبده ؟ قال: غمسه يده في العدو حاسرا . فنزع درعا كانت عليه فقذفها ، ثم أخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل .
قال ابن إسحاق : وحدثني محمد ابن مسلم بن شهاب الزهري ، عن عبدالله بن ثعلبة بن صُعَير العذري، حليف بني زهرة ، أنه حدثه : لما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، قال أبو جهل بن هشام : اللهم أقطعنا للرحم ، وآتانا بما لا يعرف ، فأحنه الغداة . فكان هو المستفتح .
قال ابن إسحاق : وحدثني العباس بن عبدالله بن معبد ، عن بعض أهله ، عن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ : إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها ، ولا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ، ومن لقي أبا البَخْتَري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله ، فإنه إنما أخرج مستكرها . قال : فقال أبوحذيفة : أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا . ونترك العباس ، والله لئن لقيته لأُلْحِمنَّه السيف - قال ابن هشام : ويقال لأُلْجِمَنه السيف - قال : فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر بن الخطاب : يا أبا حفص - قال عمر : والله إنه لأول يوم كنَّاني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص - أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف ؟ فقال عمر : يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف ، فوالله لقد نافق ، فكان أبو حذيفة يقول : ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ، ولا أزال منها خائفا ، إلا أن تكفرها عني الشهادة ، فقتل يوم اليمامة شهيدا . قال ابن إسحاق : وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكفَّ القوم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ، وكان لا يؤذيه ، ولا يبلغه عنه شيء يكرهه ، وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على وبني هاشم وبني المطلب ، فلقيه المجذر بن زياد البلوي ، حليف الأنصار ، ثم من بني سالم بن عوف ، فقال المجذر لأبي البختري : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن قتلك - ومع أبي البختري زميل له ، قد خرج معه من مكة ، وهو جنادة بن مُلَيحة بنت زهير بن الحارث بن أسد ؛ وجنادة رجل من بني ليث . واسم أبي البختري : العاص - قال : وزميلي ؟ فقال له المجذر : لا والله ما ، نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك ، فقال : لا والله ، إذن لأموتن أنا وهو جميعا ، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة . فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبي إلا القتال ، يرتجز :
لن يسلم ابن حرة زميله |
|
حتى يموت أو يرى سبيله |
فاقتتلا فقتله المجذر بن ذياد . وقال المجذر بن زياد في قتله أبا البختري :
إما جهلت أو نسيت نسـبـي |
|
فأثبت النسبة أنـي مـن بَـلـي |
الطاعنين برمـاح الـيزنـي |
|
والضاربين الكبش حتى ينحنـي |
بشر بيتم من أبوه البخـتـري |
|
أو بشون بمثلهـا مـن بَـنـي |
أنا الذي يقال أصلي من بلـى |
|
أطعن بالصعدة حتى تنـثـنـي |
وأعبط القرن بعضب مشرفي |
|
أرزم للموت كإرزام الـمـري |
فلا ترى مجذرا يفري فري قال ابن هشام : " المري " عن غير ابن إسحاق . والمري : الناقة التي يستنزل لبنها على عسر. قال ابن إسحاق : ثم إن المجذر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليه أن يستأسر فآتيك به ، فأبى إلا أن يقاتلني ، فقاتلته فقتلته . قال ابن هشام : أبو البختري : العاص بن هشام بن الحارث بن أسد .
قال ابن إسحاق : حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير ، عن أبيه ، قال ابن إسحاق : وحدثنيه أيضاً عبدالله بن أبي بكر وغيرهما ، عن عبدالرحمن بن عوف قال : كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة، وكان اسمي عبد عمرو ، فتسميت حين أسلمت عبدالرحمن ونحن بمكة ، فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول: يا عبد عمرو أرغبت عن اسم سماكه أبواك ؟ فأقول : نعم ؛ فيقول : فإني لا أعرف الرحمن ، فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به ، أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول ، وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف ، قال: فكان إذا دعاني : يا عبد عمرو لم أجبه ، قال : فقلت له : يا أبا علي ، اجعل ما شئت ، قال : فأنت عبد الإله ، قال : فقلت : نعم ، قال : فكنت إذا مررت به ، قال : يا عبد الإله فأجيبه ، فأتحدث معه .حتى إذا كان يوم بدر ، مررت به وهو واقف مع ابنه علي ابن أمية ، آخذ بيده ، ومعي أدراع قد استلبتها فأنا أحملها . فلما رآني قال لي : يا عبد عمرو فلم أجبه ، فقال : يا عبد الإله ، فقلت نعم ، هل لك فيّ فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك . قال قلت : نعم . ها الله ذا ! . قال فطرحت الأدراع من يدي ، وأخذت بيده ويد ابنه ، وهو يقول : ما رأيت كاليوم قط ، أما لكم حاجة في اللبن ؟ قال ثم خرجت أمشي بهما. قال ابن هشام : يريد باللبن ، أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن . قال ابن إسحاق : حدثني عبدالواحد بن أبي عون ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه عبدالرحمن بن عوف ، قال : قال لي أمية بن خلف ، وأنا بينه وبين ابنه ، آخذ بأيديهما : يا عبد الإله ، من الرجل منكم المُعْلم بريشة نعامة في صدره؟ قال : قلت : ذاك حمزة بن عبدالمطلب ؛ قال : ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل . قال عبدالرحمن : فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام ، فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت ، فيضجعه على ظهره ، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ، ثم يقول : لا تزال هكذا أو تفارقَ دين محمد ؛ فيقول بلال : أحد أحد - قال : فلما رآه ؛ قال : رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا . قال : قلت : أي بلال ، أبأسيري ، قال : لا نجوت إن نجا . قال : قلت : أتسمع يا ابن السوداء ، قال : لا نجوت إن نجا . قال : ثم صرخ بأعلى صوته : يا أنصار الله ، رأس الكفر أمية بن خلف ، لا نجوت إن نجا . قال : فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المُسكة وأنا أذب عنه ، قال : فأخلف رجل السيف ، فضرب رجل ابنه فوقع ، وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط . قال : فقلت : انج بنفسك ، ولا نجاء بك فوالله ما أغني عنك شيئا ، قال : فهبروهما بأسيافهم ، حتى فرغوا منهما . قال : فكان عبدالرحمن يقول : يرحم الله بلالا ، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري .
قال ابن إسحاق : وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز ، وهو يقاتل ويقول :
ما تنقم الحرب العوان مني |
|
بازل عامين حـديث سـنـي |
لمثل هذا ولدتني أمي
قال ابن هشام : وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر : أحد أحد . عود إلى مقتل أبي جهل قال ابن إسحاق : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه ، أمر بأبي جهل أن يُلتمس في القتلى . وكان أول من لقي أبا جهل ، كما حدثني ثور بن يزيد ، عن عكرمة ، عن ابن عباس، وعبدالله بن أبي بكر أيضاً قد حدثني ذلك ، قالا : قال معاذ بن عمرو بن الجموح ، أخو بني سلمة : سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة - قال ابن هشام : الحرجة : الشجر الملتف . وفي الحديث عن عمر بن الخطاب : أنه سأل أعرابيا عن الحرجة ؛ فقال : هي شجرة من الأشجار لا يوصل إليها ، وهم يقولون : أبو الحكم لا يخُلص إليه . قال : فلما سمعتها جعلته من شأني ، فصمدت نحوه ، فلما أمكنني حملت عليه ، فضربته ضربة أطنَّت قدمه بنصف ساقه ، فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يُضرب بها . قال : وضربني ابنه عكرمة على عاتقي ، فطرح يدي ، فتعلقت بجلدة من جنبي ، وأجهضني القتال عنه ، فلقد قاتلت عامة يومي ، وإني لأسحبها خلفي ، فلما آذتني وضعت عليها قدمي ، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها . قال ابن إسحاق : ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان . ثم مر بأبي جهل وهو عقير ، معوذ بن عفراء ، فضربه حتى أثبته ، فتركه و به رمق . وقاتل معوذ حتى قتل ، فمر عبدالله بن مسعود بأبي جهل ، حين أمر رسول الله صلى الله عليه سلم أن يُلتمس في القتلى ، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - انظروا ، إن خفي عليكم في القتلى ، إلى أثر جرح في ركبته ، فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبدالله بن جدعان ، ونحن غلامان ، وكنت أشف منه بيسير ، فدفعته فوقع على ركبتيه ، فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به . قال عبدالله بن مسعود : فوجدته بآخر رمق فعرفته ، فوضعت رجلي على عنقه - قال : وقد كان ضبث بي مرة بمكة ، فآذاني ولكزني ، ثم قلت له : هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ، أعمد من رجل قتلتموه ، أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟ قال : قلت : لله ولرسوله . قال ابن هشام: ضبث : قبض عليه ولزمه . قال ضابىء بن الحارث البرجمي :
فأصبت مما كان بيني وبينكـم |
|
من الود مثل الضابث الماءَ باليدِ . |
قال ابن هشام : ويقال : أعار على رجل قتلتموه ، أخبرني لمن الدائرة اليوم ؟
قال ابن إسحاق : وزعم رجال من بني مخزوم ، أن ابن مسعود كان يقول : قال لي : لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رُوَيْعِيَّ الغنم ؛ قال : ثم احتززت رأسه ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، هذا رأس عدو الله أبي جهل ؛ قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : آللهِ الذي لا إله غيره - قال : وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال : فقلت : نعم ، والله الذي لا إله غيره ، ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله . قال ابن هشام : وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي : أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص ، ومر به : إني أراك كأن في نفسك شيئا ، أراك تظن أني قتلت أباك ؛ إني لو قتله لم أعتذر إليك من قتله ، ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة ، فأما أبوك فإني مررت به ، وهو يبحث بحث الثور برَوْقه فحُدْتُ عنه، وقصد له ابن عمه علي فقتله . حديث سيف عكاشة بن محصن قال ابن إسحاق : وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي ، حليف بني عبد شمس بن عبد مناف ، يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه جذلا من حطب ، فقال : قاتل بهذا يا عُكَّاشة ، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه ، فعاد سيفا في يده طويل القامة ، شديد المتن ، أبيض الحديدة ، فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين ، وكان ذلك السيف يسمى : العون . ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل في الردة ، وهو عنده ، قتله طليحة بن خويلد الأسدي ، فقال طليحة في ذلك :
فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونـهـم |
|
أليسوا و إن لم يسلموا بـرجـال |
فإن تك أذاود أصبن ونـسـوة |
|
فلن تذهبوا فِرْغا بقتـل حـبـال |
نصبت لهم صدر الحِمالة إنهـا |
|
معاودة قِـيلَ الـكـمـاة نـزال |
فيوما تراها في الجلال مصونة |
|
ويوما تراهـا غـير ذات جـلال |
عشية غادرت ابن أقرم ثـاويا |
|
وعكاشة الغنمي عنـد حـجـال |
قال ابن هشام : حبال : ابن طليحة بن خويلد . وابن أقرم : ثابت بن أقرم الأنصاري . قال ابن إسحاق: وعكاشة بن محصن الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي على صورة القمر ليلة البدر ، قال : يارسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ؛ قال : إنك منهم ، أو اللهم اجعله منهم ؛ فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم ؛ فقال : سبقك بها عكاشة وبردت الدعوة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما بلغنا عن أهله : منا خير فارس في العرب ؛ قالوا : ومن هو يا رسول الله ؟ قال : عكاشة بن محصن ، فقال ضرار بن الأزور الأسدي : ذلك رجل منا يا رسول الله ؛ قال : ليس منكم و لكنه منا للحلف .
قال ابن هشام : ونادى أبو بكر الصديق ابنه عبدالرحمن ، وهو يومئذ مع المشركين ، فقال : أين مالي يا خبيث ؟ فقال عبدالرحمن :
لم يبق غير شِكَّة ويعبوبْ |
|
وصارم يقتل ضُلاَّل الشيبْ |
فيما ذكر لي عن عبدالعزيز بن محمد الدراوردي .
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير عن عائشة ، قال : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب ، طرحوا فيه ، إلا ما كان من أمية بن خلف ، فإنه انتفخ في درعه فملأها ، فذهبوا ليحركوه ، فتزابل لحمه ، فأقروه ، وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة . فلما ألقاهم في القليب ، وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا أهل القليب ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا . قالت : فقال له أصحابه : يا رسول الله ، أتكلم قوما موتى ؟ فقال لهم : لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقا . قالت عائشة : والناس يقولون : لقد سمعوا ما قلت لهم ، وإنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد علموا . قال ابن إسحاق : وحدثني حميد الطويل ، عن أنس بن مالك ، قال : سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل وهو يقول : يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة ، ويا أمية بن خلف ، ويا أبا جهل بن هشام ، فعدد من كان منهم في القليب : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؛ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا ؟ فقال المسلمون : يا رسول الله ، أتنادي قوما قد جيَّفوا ؟ قال : ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني .قال ابن إسحاق : وحدثني بعض أهل العلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم هذه المقالة : يا أهل القليب ، بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم ، كذبتموني وصدقني الناس ، وأخرجتموني وآواني الناس ، وقاتلتموني ونصرني الناس ؛ ثم قال : هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ للمقالة التي قال .
قال ابن إسحاق : وقال حسَّان بن ثابت :
عرفت ديار زينب بالكـثـيب |
|
كخط الوحي في الورق القشـيب |
تداولها الـرياح وكـل جـون |
|
من الوسمي منهمـر سـكـوب |
فأمسى رسمها خلقا وأمسـت |
|
يبابا بعد ساكنـهـا الـحـبـيب |
فدع عنك التـذكـر كـل يوم |
|
ورُدَّ حرارة الصـدر الـكـئيب |
وخبر بالـذي لا عـيب فـيه |
|
بصدق غير إخبـار الـكـذوب |
بما صنع المليك غـداة بـدر |
|
لنا في المشركين من النـصـيب |
غداة كأن جمعـهـم حـراء |
|
بدت أركانه جـنـح الـغـروب |
فلاقيناهـم مـنـا بـجـمـع |
|
كأُسْد الـغـاب مـردان وشـيب |
أمام مـحـمـد قـد وازروه |
|
على الأعداء في لفح الحـروب |
بأيديهم صورام مـرهـفـات |
|
وكل مجرَّب خاظي الكـعـوب |
بنو الأوس الغطارف وازرتها |
|
بنو النجار في الدين الصـلـيب |
فغادرنا أبا جهـل صـريعـا |
|
وعتبة قد تركنـا بـالـجـبـوب |
وشيبة قد تركنا فـي رجـال |
|
ذوي حسب إذا نسبـوا حـسـيب |
يناديهم رسـول الـلـه لـمـا |
|
قذفناهم كباكب في الـقـلـيب |
ألم تجدوا كلامي كان حـقـا |
|
وأمر الله يأخذ بـالـقـلـوب ؟ |
فما نطقوا ، ولو نطقوا لقالوا : |
|
صدقت وكنت ذا رأي مصـيب ! |
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر ، مما جمع الناس ، فجمع ، فاختلف المسلمون فيه ، فقال من جمعه : هو لنا ؛ وقال الذين كانوا يقاتلون العدو و يطلبونه : والله لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم ؛ وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدو : والله ما أنتم بأحق به منا ، والله لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله تعالى أكتافه ، ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ، ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو ، فقمنا دونه ، فما أنتم بأحق به منا . قال ابن اسحاق : وحدثني عبدالرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا ، عن سليمان بن موسى ، عن مكحول ، عن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدي بن عجلان فيما قال ابن هشام - قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال ؛ فقال : فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل ، وساءت فيه أخلاقنا ، فنزعه الله من أيدينا ، فجعله إلى رسوله ، فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء . يقول : على السواء . قال ابن إسحاق : وحدثني عبدالله بن أبي بكر ، قال : حدثني بعض بني ساعدة ، عن أبي أسيد الساعدي مالك بن ربيعة ، قال : أصبت سيف بني عائذ المخزوميين الذين يُسمَّى المرزبان يوم بدر ، فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل ، أقبلت حتى ألقيته في النفل . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا سُئِلَه ، فعرفه الأرقم بن أبي الأرقم ، فسأله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فأعطاه إياه .