الجزء الثاني - ذكر الأمير الكبير قرطي

وضبط اسمه " بضم القاف وسكون الراء وفتح الطاء المهمل وسكون الياء "، وهو أمير أمراء الصين، أضافنا بداره، وصنع الدعوة، ويسمونها الطوى " بضم الطاء المهمل وفتح الواو "، وحضرها كبار المدينة. وأتى بالطباخين المسلمين فذبحوا وطبخوا الطعام. وكان هذا الأمير على عظمته يناولنا الطعام بيده، ويقطع اللحم بيده. وأقمنا في ضيافته ثلاثة أيام، وبعث ولده معنا إلى الخليج. فركبنا في سفينة تشبه الحراقة، وركب ابن الأمير في أخرى، ومعه أهل الطرب وأهل الموسيقى، وكانوا يغنون بالصيني وبالعربي وبالفارسي، وكان ابن الأمير معجباً بالغناء الفارسي، فغنوا شعراً منه. وأمرهم بتكريره مراراً، حتى حفظته من أفواههم، وله تلحين عجيب وهو:  

تا دل بـمـحـنـــت داديم

 

در بحـر فـكـر افـتـاديم

جن " جون " در نماز استـاديم

 

قوي بمحراب اندرى " اندريم "

واجتمعت بذلك الخليج طائفة كبيرة لها القلاع الملونة ومظلات الحرير. وسفنهم منقوشة بأبدع نقش. وجعلوا يتحاملون ويترامون بالنارنج والليمون. وعدنا بالعشي إلى دار الأمير، فبتنا بها. وحضر أهل الطرب فغنوا بأنواع من الغناء العجيب.

حكاية المشعوذ

وفي تلك الليلة حضر أحد المشعوذة، وهي من عبيد القان، فقال له الأمير: أرنا من عجائبك. فأخذ كرة خشب لها ثقب فيها سيور طوال، فرمى بها إلى الهواء فارتفعت حتى غابت عن الأبصار، ونحن في وسط المشور أيام الحر الشديد. فلما لم يبق من السير في يده إلا يسير، أمر متعلماً له فتعلق به وصعد في الهواء إلى أن غاب عن أبصارنا. فدعاه فلم يجبه ثلاثاً. فأخذ سكيناً بيده كالمغتاظ وتعلق بالسير إلى أن غاب أيضاً، ثم رمى بيد الصبي إلى الأرض، ثم رمى برجله، ثم بيده الأخرى، ثم برجله الأخرى، ثم بجسده، ثم برأسه، ثم هبط، وهو ينفخ، وثيابه ملطخة بالدم. فقبل الأرض بين يدي الأمير، وكلمه بالصيني وأمر له الأمير بشيء. ثم إنه أخذ أعضاء الصبي، فألصق بعضها ببعض، وركله برجله فقام سوياً. فعجبت منه. وأصابني خفقان القلب، كمثل ما كان أصابني عند ملك الهند، حين رأيت مثل ذلك. فسقوني دواء أذهب عني ما وجدت. وكان القاضي أفخر الدين إلى جانبي، فقال لي: والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو، وإنما ذلك شعوذة. وفي غد تلك الليلة دخلنا من باب المدينة الخامسة، وهي من أكبر المدن، يسكنها عامة الناس. وأسواقها حسان، وبها الحذاق بالصنائع، وبها تصنع الثياب الخنساوية. ومن عجيب ما يصنعون بها أطباق يسمونها الدست، وهي من القصب، وقد ألصقت قطعة أبدع إلصاق، ودهنت بصبغ أحمر مشرق. وتكون هذه الأطباق عشرة: واحد في جوف آخر لرقتها. تظهر لرائبها كأنها طبق واحد، ويصنعون غطاء يغطي جميعها. ويصنعون من هذا القصب صحافاً، ومن عجائبها أن تقع من العلو فلا تنكسر، ويجعل فيها الطعام السخن فلا يتغير صباغها، ولا يحول. وتجلب من هنالك إلى الهند وخراسان وسواها.

ولما دخلنا هذه المدينة بتنا ليلة في ضيافة أميرها. وبالغد دخلنا من باب يسمى كشتى وانان إلى المدينة السادسة. ويسكنها البحرية والصيادون والجلافطة والنجارون، ويدعون دودكاران " درود كران "، والأصباهية وهم الرماة، والبيادة وهم الرجالة، وجميعهم عبيد السلطان. ولا يسكن معهم سواهم، وعددهم كثير. وهذه المدينة على ساحل النهر الأعظم. بتنا بها ليلة في ضيافة أميرها، وجهز لنا الأمير قرطي مركباً بما يحتاج إليه من زاد وسواه، وبعث معنا أصحابه برسم التضييف.

وسافرنا من هذه المدينة وهي آخر أعمال الصين، زدخلنا إلى بلاد الخطا " بكسر الخاء المعجم وطاء مهمل "، وهي أحسن بلاد الدنيا عمارة. ولا يكون في جميعها موضع غير معمور، فإنه إن بقي موضع غير معمور، طلب أهله أو من يواليهم بخراجه. والبساتين والقرى والمزارع منتظمة بجانبي هذا النهر، من مدينة الخنسا إلى مدينة خان بالق. وذلك مسيرة أربعة وستين يوماً. وليس بها أحد من المسلمين إلا من كان حاضراً غير مقيم، لأنها ليست بدار مقام، وليس بها مدينة مجتمعة، إنما هي قرى وبسائط، فيها الزرع والفواكه والسكر. ولم أر في الدنيا مثلها، غير مسيرة أربعة أيام من الأنبار إلى عانة. وكنا كل ليلة ننزل بالقرى لأجل الضيافة، حتى وصلنا إلى مدينة خان بالق " وضبط اسمها بخاء معجم والف ونون مسكن وباء معقود والف ولام مكسور وقاف "، وتسمى أيضاً خانقو " بخاء معجم ونون مكسور وقاف وواو "، وهي حضرة القان، والقان هو سلطانهم الأعظم، الذي مملكته بلاد الصين والخطا. ولما وصلنا إليها أرسينا على عشرة أميال منها، على العادة عندهم. وكتب إلى أمراء البحر بخبرنا، فأذنوا لنا في دخول مرساها، فدخلناه ثم نزلنا إلى المدينة، وهي من أعظم مدن الدنيا. وليست على ترتيب بلاد الصين في كون البساتين داخلها. إنما هي كسائر البلاد والبساتين بخارجها، ومدينة السلطان في وسطها كالقصبة حسبما نذكره. ونزلت عند الشيخ برهان الدين الصاغرجي، وهو الذي بعث إليه ملك الهند بأربعين ألف دينار، واستدعاه فأخذ الدنانير وقضى بها دينه، وأبى أن يسير إليه. وقدم على بلاد الصين فقدمه القان على جميع المسلمين الذي ببلاده، وخاطبه بصدر الجهان.