الجزء الثاني - ذكر سلطان الصين والخطا الملقب بالقان

والقان عندهم سمة لكل من يلي ملك الأقطار، كمثل ما يسمى كل من ملك بلاد اللور بأتابك واسمه باشاي " بفتح الباء المعقود والشين المعجمة وسكون الياء ". وليس للكفار على وجه الأرض مملكة أعظم من مملكته.

ذكر قصره

وقصره في وسط المدينة المختصة بسكناه. وأكثر عمارته بالخشب المنقوش، وله ترتيب عجيب. وعليه سبعة أبواب: فالباب الأول منها يجلس به الكتوال، وهو أمير البوابين. وله مصاطب مرتفعة عن يمين الباب ويساره، فيها المماليك البرددارية، وهم حفاظ باب القصر، وعددهم خمسمائة رجل. وأخبرت أنهم كانوا فيما تقدم ألف رجل. والباب الثاني يجلس عليه الإصباهية، وهم الرماة، وعددهم خمسمائة. والباب الثالث يجلس عليه النزدارية " بالنون والزاي "، وهم أصحاب الرماح، وعددهم خمسمائة. والباب الرابع يجلس عليه التغدارية " بالتاء المثناة والغين المعجم "، وهم أصحاب السيوف والترسة. والباب الخامس فيه ديوان الوزارة، وبه سقائف كثيرة. فالسقيفة العظمى يقعد بها الوزير، على مرتبة هائلة مرتفعة، ويسمون ذلك الموضع المسند. وبين يدي الوزير دواة عظيمة من الذهب. وتقابل هذه السقيفة سقيفة كاتب السر، وعن يمينها سقيفة كتاب الرسائل، وعن يمين سقيفة الوزير سقيفة كتاب الأشغال. وتقابل هذه السقائف سقائف أربع. إحداها تسمى ديوان الأشراف، يقعد بها المشرف، والثانية سقيفة ديوان المستخرج، وأميرها من كبار الامراء، والمستخرج هو ما يبقى قبل العمال وقبل الأمراء من إقطاعاتهم، والثالثة ديوان الغوث، ويجلس فيها أحد الأمراء الكبار، ومعه الفقهاء والكتاب. فمن لحقته مظلمة استغاث بهم. والرابعة ديوان البريد، يجلس فيها أمير الإخباريين. والباب السداس من أبواب القصر يجلس عليه الجندارية، وأميرهم الأعظم. والباب السابع يجلس عليه الفتيان، ولهم ثلاث شقائف: إحداها سقيفة الحبشان منهم، والثانية سقيفة الهنود، والثالثة سقيفة الصينيين. ولكل طائفة منهم أمير من الصينيين.

ذكر خروج القان لقتال ابن عمه وقتله

ولما وصلنا حضرة خان بالق، وجدنا القان غائباً عنها إذ ذاك. وخرج للقاء ابن عمه فيروز القائم عليه، بناحية قراقوم وبش بالغ، من بلاد الخطا. وبينها وبين الحضرة مسيرة ثلاثة أشهر عامرة. وأخبرني صدر الجهان برهان الدين الصاغرجي، أن القان لما جمع الجيوش وحشد الحشود، اجتمع عليه من الفرسان مائة فوج، كل فوج منها من عشرة آلاف فارس. وأميرهم يسمى أمير طومان، وكان من خواص السلطان، وأهل دخلته خمسين ألفاً زائداً إلى ذلك. وكانت الرجالة خمسمائة ألف. ولما خرج خالف عليه أكثر الأمراء، واتفقوا على خلعه. لأنه كان قد غير أحكام اليساق، وهي الأحكام التي وضعها تنكيز خان جدهم الذي خرب بلاد الإسلام. فمضوا إلى ابن عمه القائم، وكتبوا إلى القان أن يخلع نفسه، وتكون مدينة الخنساء إقطاعاً له. فأبى ذلك، وقاتلهم فانهزم وقتل. وبعد أيام من وصولنا إلى حضرته ورد الخبر بذلك. فزينت المدينة وضربت الطبول والأبواق والأنفار، واستعمل اللعب والطرب مدة شهر.
ثم جيء بالقان المقتول، وبنحو مائة من المقتولين بني عمه وأقاربه وخواصه. فحفر للقان ناووس عظيم، وهو بيت تحت الأرض، وفرش بأحسن الفرش وجعل به القان بسلاحه، وجعل معه ما كان في داره من أواني الذهب والفضة، وجعل معه أربع من الجواري، وستة من خواص المماليك، معهم أواني الشراب. وبني باب البيت، وجعل فوقه التراب حتى صار كالتل العظيم.

ثم جاءوا بأربعة أفراس فأجروها عند قبره حتى وقفت، ونصبوا خشباً على القبر، وعلقوها عليه. بعد أن أدخلوا في دبر كل فرس خشبة حتى خرجت من فمه، وجعل أقارب القان المذكورون في نواويس ومعهم سلاحهم وأواني دورهم، وصلبوا على قبورهم كبارهم. وكانوا عشرة: ثلاثة من الخيل على كل قبر، وعلى قبور الباقين فرساً فرساً. وكان هذا اليوم يوماً مشهوداً لم يتخلف عنه أحد من الرجال ولا النساء المسلمين والكفار، وقد لبسوا أجمعون ثياب العزاء، وهي الطيالسة البيض للكفار والثياب البيض للمسلمين. وأقام خواتين القان وخواصه في الأخبية على قبره أربعين يوماً، وبعضهم يزيد على ذلك إلى سنة. وصنعت هنالك سوق يباع فيه ما يحتاجون إليه من طعام وسواه. وهذه الأفعال لا أذكر أن أمة تفعلها سواهم في هذا العصر. فأما الكفار من الهنود وأهل الصين فيحرقون موتاهم، وسواهم من الأمم يدفنون الميت ولا يجعلون معه أحداً. لكن أخبرني الثقات ببلاد السودان أن الكفار منهم، إذا مات ملكهم صنعوا له ناووساً، وأدخلوا معه بعض خواصه وخدامه، وثلاثين من أبناء كبارهم وبناتهم، بعد أن يكسروا أيديهم وأرجلهم، ويجعلون معهم أواني الشراب. وأخبرني بعض كبار مسوفة، ممن يسكن بلاد كوبر مع السودان، واختصه سلطانهم، أنه كان له ولد. فلما مات سلطانهم أرادوا أن يدخلوا ولده مع من أدخلوه من أولادهم، قال: فقلت لهم: كيف تفعلون ذلك وليس على دينكم، ولا من ولدكم ؟ وفديته منهم بمال عريض. ولما قتل القان كما ذكرنا، واستولى ابن عمه فيروز على الملك، اختار أن تكون حضرته مدينة قراقرم " وضبطها بفتح القاف الأول والراء وضم الثانية وضم الراء الثانية "، لقربها من بلاد بني عمه ملوك تركستان وما وراء النهر. ثم خالفت عليه الأمراء مما لم يحضر لقتل القان، وقطعوا الطرق، وعظمت الفتن.

ذكر رجوعي إلى الصين ثم إلى الهند

ولما وقع الخلاف وتسعرت الفتن، أشار علي الشيخ برهان الدين وسواه أن أعود إلى الصين قبل تمكن الفتن، ووقفوا معي إلى نائب السلطان فيروز، فبعث معي ثلاثة من أصحابه، وكتب لي بالضيافة. وسرنا منحدرين في النهر إلى الخنساء، ثم إلى قنجنفو، ثم إلى الزيتون. فلما وصلتها وجدت الجنوك على السفر إلى الهند، وفي جملتها جنك للملك الظاهر، صاحب الجاوة، وأهله مسلمون. وعرفني وكيله، وسر بقدومي. وصادفنا الريح الطيبة عشرة أيام، فلما قاربنا بلاد طوالسي، تغيرت الريح، وأظلم الجو، وكثر المطر، وأقمنا عشرة أيام لا نرى الشمس. ثم دخلنا بحراً لا نعرفه، وخاف أهل الجنك فأرادوا الرجوع إلى الصين، فلم يتمكن ذلك. وأقمنا اثنين وأربعين يوماً لا نعرف في أي البحار نحن.

ذكر الرخ

ولما كان في اليوم الثالث والأربعين، ظهر لنا بعد طلوع الفجر جبل في البحر، بيننا وبينه نحو عشرين ميلاً، والريح تحملنا إلى صوبه. فعجب البحرية وقالوا: لسنا بقرب من البر، ولا يعهد في البحر جبل، وإن اضطرتنا الريح إليه هلكنا فلجاً الناس إلى التضرع والإخلاص، وجددوا التوبة، وابتهلنا إلى الله بالدعاء، وتوسلنا بنبيه صلى الله عليه وسلم، ونذر التجار الصدقات الكثيرة، وكتبتها لهم في زمام بخطي وسكنت الريح بعض سكون، ثم رأينا ذلك الجبل عند طلوع الشمس قد ارتفع في الهواء، وظهر الضوء فيما بينه وبين البحر، فعجبنا من ذلك. ورأيت البحرية يبكون ويودعون بعضهم بعضاً، فقلت: ما شأنكم ؟ فقالوا: إن الذي تخيلناه جبلاً هو الرخ. وإن رآنا أهلكنا. وبيننا وبينه إذ ذاك اقل من عشرة أميال. ثم إن الله تعالى من علينا بريح طيبة، صرفتنا عن صوبه، فلم نره، ولا عرفنا حقيقة صورته. وبعد شهرين من ذلك اليوم وصلنا الجاوة، ونزلنا إلى سمطرة، فوجدنا سلطانها الملك الظاهر قد قدم من غزوة له، وجاء بسبي كثير. فبعث لي جاريتين وغلامين، وأنزلني على العادة، وحضرت أعراس ولده مع بنت أخيه.

ذكر إعراس ولد الملك الظاهر

وشاهدت يوم الجلوة، فرأيتهم قد نصبوا في وسط المشور منبراً كبيراً، وكسوه بثياب الحرير. وجاءت العروس من داخل القصر على قدميها بادية الوجه، ومعها نحو أربعين من الخواتين، يرفعن أذيالها، من نساء السلطان وأمرائه ووزرائه، وكلهن باديات الوجوه، ينظر إليهن كل من حضر من رفيع أو وضيع. وليست تلك عادة لهن إلا في الأعراس خاصة. وصعدت العروس المنبر، وبين يديها أهل الطرب رجالاً ونساء، يلعبون ويغنون. ثم جاء الزوج على فيل مزين، على ظهره سرير وفوقه قبة شبيه البوجة، والتاج على رأس العروس المذكور، عن يمينه ويساره نحو مائة من أبناء الملوك والأمراء، قد لبسوا البياض وركبوا الخيل المزينة، وعلى رؤوسهم الشواشي المرصعة، وهم أتراب العروس ليس فيهم ذو لحية. ونثرت الدنانير والدراهم على الناس عند دخوله. وقعد السلطان بمنظرة له يشاهد ذلك. ونزل ابنه فقبل رجله، وصعد المنبر إلى العروس فقامت إليه وقبلت يده وجلس إلى جانبها، والخواتين يروحن عليها، وجاءوا بالفوفل والتنبول. فأخذه الزوج بيده، وجعل منه في فمها. ثم أخذت هي بيديها وجعلت في فمه. ثم أخذ الزوج بفمه ورقة تنبول وجعلها في فمها، وذلك كله على أعين الناس، ثم فعلت هي كفعله. ثم وضع عليها الستر، ورفع المنبر وهما فيه، إلى داخل القصر. وأكل الناس وانصرفوا. ثم لما كان من الغد جمع الناس، وأجرى له أبوه ولاية العهد، وبايعه الناس، وأعطاهم العطاء الجزل من الثياب والذهب. وأقمت بهذه الجزيرة شهرين، ثم ركبت في بعض الجنوك.

وأعطاني السلطان كثيراً من العود والكافور والقرنقل والصندل، وزودني. وسافرت عنه، فوصلت بعد أربعين يوماً إلى كولم، فنزلت بها في جوار القزويني، قاضي المسلمين. وذلك في رمضان. وحضرت بها صلاة العيد، في مسجدها الجامع. وعادتهم أن يأتوا المسجد ليلاً. فلا يزالون يذكرون الله إلى الصبح. ثم يذكرون إلى حين صلاة العيد، ثم يصلون ويخطب الخطيب وينصرفون. ثم سافرنا من كولم إلى قالقوط، وأقمنا بها أياماً. وأردت العودة إلى دهلي. ثم خفت من ذلك، فركبت البحر فوصلت بعد ثمان وعشرين ليلة إلى ظفار. وذلك في محرم سنة ثمان وأربعين. ونزلت بدار خطيبها عيسى بن طأطأ.