وكان سلطان بغداد والعراق في عهد دخولي إليها في التاريخ المذكور الشيخ حسن ابن عمة السلطان أبي سعيد رحمه الله. ولما مات أبو سعيد استولى على ملكه بالعراق، وتزوج زوجته دلشاد بنت دمشق خواجة ابن الأمير الجوبان، حسبما كان فعله السلطان أبو سعيد من تزوج زوجة الشيخ حسن.وكان السلطان حسن غائباً عن بغداد في هذه المدة، متوجهاً لقتال السلطان أتابك افراسياب، صاحب بلاد اللور. ثم رحلت من بغداد فوصلت إلى مدينة الأنبار، ثم إلى هيت، ثم إلى الحديثة، ثم إلى عانة. وهذه البلاد من أحسن البلاد وأخصبها. والطريق فيما بينها كثير العمارة، كأن الماشي في سوق من الأسواق، وقد ذكرنا أنا لم نر ما يشبه البلاد التي على نهر الصين إلا هذه البلاد. ثم وصلت إلى مدينة الرحبة، وهي التي تنسب إلى مالك بن طوق. ومدينة الرحبة أحسن بلاد العراق، وأول بلاد الشام. ثم سافرنا إلى السخنة، وهي بلدة حسنة، أكثر سكانها الكفار من النصارى. وإنما سميت السخنة لحرارة مائها. وفيها بيوت للرجال وبيوت للنساء، يستحمون فيها، ويستقون الماء ليلاً، ويجعلونه في السطوح ليبرد. ثم سافرنا إلى تدمر، مدينة نبي الله سليمان عليه السلام، التي بنتها له الجن، كما قال النابغة:
يبنون تدمر بالصفاح والعمد |
ثم سافرنا منها إلى مدينة دمشق الشام، وكانت مدة مغيبي عنها عشرين سنة كاملة. وكنت تركت بها زوجة لي حاملاً، وتعرفت وأنا ببلاد الهند أنها ولدت لي ولداً ذكراَ، فبعث حينئذ إلى جده للأم، وكان من أهل مكناسة المغرب أربعين ديناراً ذهباً هندياً. فحين وصولي إلى دمشق في هذه الكرة، لم يكن لي همٌ إلا السؤال عن ولدي. فدخلت الجامع، فوفق لي نور الدين السخاوي إمام المالكية وكبيرهم، فسلمت عليه فلم يعرفني. فعرفته بنفسي، وسألته عن الولد. فقال مات منذ اثنتي عشرة سنة. وأخبرني أن فقيهاً من أهل طنجة يقيم بالمدرسة الظاهرية، فسرت إليه لأسأله عن ولدي وأهلي، فوجدته شيخاً كبيراً، فسلمت عليه وانتسبت له، فأخبرني أن ولدي توفي منذ خمس عشرة سنة، وأن الوالدة بقيد الحياة. وأقمت بدمشق الشام بقية العام والغلاء شديد، والخبز قد انتهى إلى قيمة سبع أواقى بدرهم نقرة، وأوقيتهم أربع أواقٍ مغربية. وكان قاضي القضاة المالكية إذ ذاك جمال الدين المسلاتي، وكان من أصحاب الشيخ علاء الدين القونوي، وقدم معه دمشق، فعرف بها. ثم ولي القضاء وقاضي قضاة الشافعية تقي الدين بن السبكي، وأمير دمشق ملك الأمراء أرغون شاه.
ومات في تلك الأيام بعض كبراء دمشق، وأوصى بمال للمساكين. فكان المتولي لإنفاذ الوصية يشتري الخبز ويفرقه عليهم كل يوم بعد العصر. فاجتمعوا في بعض الليالي وتزاحموا واختطفوا الخبز الذي يفرق عليهم، ومدوا أيديهم إلى خبز الخبازين. وبلغ ذلك الأمير أرغون شاه. فأخرج زبانيته، فكانوا حيث ما لقوا أحداً من المساكين، قالوا له: تعال تأخذ الخبز. فاجتمع منهم عدد كثير. فحبسهم تلك الليلة، وركب من الغد، وأحضرهم تحت القلعة، وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم. وكان أكثرهم براء عن ذلك. وأخرج طائفة الحرافيش عن دمشق فانتقلوا إلى حمص وحماة وحلب. وذكر لي أنه لم يعش بعد ذلك إلا قليلاً وقتل. ثم سافرت من دمشق إلى حمص ثم إلى حماة ثم إلى المعرة ثم إلى سرمين ثم إلى حلب. وكان أمير حلب في هذا العهد الحاج رغطي " بضم الراء وسكون الغين المعجم وفتح الطاء المهمل وياء آخر الحروف مسكنة ".
واتفق في تلك الأيام أن فقيراً يعرف بشيخ المشايخ، وهو ساكن في جبل خارج مدينة عنتاب، والناس يقصدونه ويتبركون به. وله تلميذ ملازم له، وكان متجرداً عزباً لا زوجة له، قال في بعض كلامه: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصبر عن النساء، وأنا أصبر عنهن. فشهد عليه بذلك، وثبت عند القاضي، ورفع أمره إلى ملك الأمراء، وأتي به وبتلميذه الموافق له على قوله، فأفتى القضاة الأربعة، وهم شهاب الدين المالكي، وناصر الدين العديم الحنفي، وتقي الدين الصائغ الشافعي، وعز الدين الدمشقي الحنبلي، بقتلهما معاً، فقتلا. وفي أوائل شهر ربيع الأول عام تسعة وأربعين، بلغني الخبر في حلب أن الوباء وقع بغزة، وأنه انتهى عدد الموتى فيها إلى زائد على الألف في يوم واحد. فسافرت إلى حمص، فوجدت الوباء قد وقع بها، ومات يوم دخولي إليها نحو ثلثمائة إنسان، ثم سافرت إلى دمشق ووصلتها يوم الخميس، وكان أهلها قد صاموا ثلاثة أيام ن وخرجوا يوم الجمعة إلى جامع الأقدام، حسبما ذكرناه في السفر الأول. فخفف الله الوباء عنهم، فانتهى عدد الموتى عندهم إلى ألفين وأربعمائة في اليوم، ثم سافرت إلى عجلون ثم إلى بيت المقدس، ووجدت الوباء قد ارتفع عنهم. ولقيت خطيبه عز الدين بن جماعة ابن عم عز الدين قاضي القضاة بمصر، وهو من الفضلاء الكرماء. ومرتبه على الخطابة ألف درهم في الشهر.
وصنع الخطيب عز الدين يوماً دعوة، ودعاني فيمن دها إليها، فسألته عن سببها، فأخبرني أنه نذر أيام الوباء، أنه إن ارتفع ذلك، ومر عليه يوم لا يصلى فيه على ميت، صنع الدعوة. ثم قال لي: ولما كان بالأمس، لم أصل على ميت، فصنعت الدعوة التي نذرت. ووجدت من كنت أعهده من جميع الأشياخ بالقدس قد انتقلوا إلى جوار الله تعالى رحمهم الله، فلم يبق منهم إلا القليل، مثل المحدث العالم الإمام صلاح الدين خليل بن كيكلدي العلائي، ومثل الصالح شرف الدين الخشي شيخ زاوية المسجد الأقصى، ولقيت الشيخ سليمان الشيرازي، فأضافني. ولم ألق بالشام ومصر من وصل إلى قدم آدم عليه السلام سواه.
ثم سافرت عن القدس، ورافقني الواعظ المحدث شرف الدين سليمان الملياني، وشيخ المغاربة بالقدس الصوفي الفاضل طلحة العبد الوادي. فوصلنا إلى مدينة الخليل عليه السلام. وزرناه ومن معه من الأنبياء عليهم السلام. ثم سرنا إلى غزة، فوجدنا معظمها خالياً من كثرة من مات بها في الوباء. وأخبرنا قاضيها أن العدول بها كانوا ثمانين، فبقي منهم الربع، وأن عدد الموتى بها انتهى إلى ألف ومائة في اليوم.
ثم سافرنا في البر، فوصلت إلى دمياط، ولقيت بها قطب الدين النفشواني، وهو صائم الدهر، ورافقني منها إلى فارسكور وسمنود ثم إلى أبي صير " بكسر الصاد المهمل وياء وراء "، ونزلنا في زاوية لبعض المصريين بها.
وبينما نحن بتلك الزاوية إذ دخل علينا أحد الفقراء فسلم، وعرضنا عليه الطعام فأبى وقال: إنما قصدت زيارتكم، ولم يزل ليلته تلك ساجداً وراكعاً. ثم صلينا الصبح واشتغلنا بالذكر، والفقير بركن الزاوية. فجاء الشيخ بالطعام، ودعاه فلم يجبه. فمضى إليه فوجده ميتاً. فصلينا عليه ودفناه، رحمة الله عليه. ثم سافرت إلى المحلة الكبيرة، ثم إلى نحرارية، ثم إلى أبيار، ثم إلى دمنهور، ثم إلى الإسكندرية. فوجدت الوباء قد خف بها، بعد أن بلغ عدد الموتى إلى ألف وثمانين في اليوم. ثم سافرت إلى القاهرة، وبلغني أن عدد الموتى أيام الوباء انتهى فيها إلى واحد وعشرين ألفاً في اليوم. ووجدت جميع من كان بها من المشايخ الذين أعرفهم قد ماتوا، رحمهم الله تعالى.