وهو السلطان منسى سليمان، ومنسى " بفتح الميم وسكون النون وفتح السين المهمل " معناه السلطان، وسليمان اسمه وهو ملك بخيل لا يرجى منه كبير عطاء، واتفق أني أقمت هذه المدة ولم أره بسبب مرضي، ثم إنه صنع له طعاماً برسم عزاء مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، واستدعى الأمراء والفقهاء والقاضي والخطيب، وحضرت معهم فأتوا بالربعات وختم القرآن، ودعوا لمولانا أبي الحسن رحمه الله، ودعوا المنسى سليمان، ولما فرغ من ذلك، تقدمت فسلمت على منسى سليمان، وأعلمه القاضي والخطيب وابن الفقيه بحالي، فأجابهم بلسانهم فقالوا لي: يقول لك السلطان: اشكر الله فقلت: الحمد لله، والشكر على كل حال.
ولما انصرفت بعث إلي الضيافة فوجهت إلى دار القاضي، وبعث القاضي بها مع رجاله إلى دار ابن الفقيه. فخرج ابن الفقيه من داره مسرعاً، حافي القدمين، فدخل علي وقال: قم، قد جاءك قماش السلطان وهديته. فقمت، وظننت أنها الخلع والأموال فإذا هي ثلاثة أقراص من الخبز وقطعة لحم بقري مقلو بالغرتي وقرعة فيها لبن رائب، فعندما رأيتها ضحكت، وطال تعجبي من ضعف عقولهم، وتعظيمهم لهذا الشيء الحقير.
وأقمت بعد بعث هذه الضيافة شهرين، لم يصل إلي فيهما شيء من قبل السلطان. ودخل شهر رمضان، وكنت خلال ذلك أتردد إلى المشور، وأسلم عليه، وأقعد مع القاضي والخطيب، فتكلمت مع دوغا الترجمان، فقال: تكلم عنده، وأنا أعبر عنك بما يجب فجلس في أوائل رمضان، وقمت بين يديه، وقلت له إني سافرت بلاد الدنيا، ولقيت ملوكها، ولي ببلادك أربعة أشهر، ولم تضفني، ولا أعطيتني شيئاً. فماذا أقول عنك عند السلاطين ؟ فقال: إني لم أرك، ولا علمت بك فقام القاضي وابن الفقيه فردا عليه، وقالا: إنه قد سلم عليك، وبعثت إليه الطعام فأمر لي عند ذلك بدار أنزل بها، ونفقة تجري علي ثم فرق على القاضي والخطيب والفقهاء مالاً، ليلة سبع وعشرين من رمضان، يسمونه الزكاة وأعطاني معهم ثلاثة وثلاثين مثقالاً وثلثاً وأحسن إلي عند سفري بمائة مثقال ذهباً.
وله قبة مرتفعة بابها بداخل داره، يقعد فيها أكثر الأوقات ولها من جهة المشور طبقات ثلاث من الخشب، مغطاة بصفائح الفضة، وتحتها ثلاث مغشاة بصفائح الذهب، أو هي فضة مذهبة، وعليها ستور ملف فإذا كان يوم جلوسه بالقبة، رفعت الستور فعلم أنه يجلس. فإذا جلس أخرج من شباك إحدى الطاقات شرابة حرير، قد ربط فيها منديل مصري مرقوم، فإذا رأى الناس المنديل، ضربت الأطبال والأبواق، ثم يخرج من باب القصر نحو ثلاثمائة من العبيد، في أيدي بعضهم القسي، وفي أيدي بعضهم الرماح الصغار والدرق، فيقف أصحاب الرماح منهم ميمنة وميسرة، ويجلس أصحاب القسي كذلك ثم يؤتى بفرسين مسرجين ملجمين، ومعهما كبشان، يذكرون أنهما ينفعان من العين.
وعند جلوسه يخرج ثلاثة من عبيده مسرعين، فيدعون نائبه قنجاه موسى وتأتي الفرارية " بفتح الفاء "، وهم الأمراء، ويأتي الخطيب والفقهاء، فيقعدون أمام السلحدارية يمنة ويسرة في المشور، ويقف دوغا الترجمان على باب المشور، وعليه الثياب الفاخرة من الزردخانة وغيرها، وعلى رأسه عمامة ذات حواشٍ، لهم في تعميمها صنعة بديعة، وهو متقلد سيفاً غمده من الذهب، وفي رجليه الخف والمهاميز، ولا يلبس أحد ذلك اليوم خفاً غيره. ويكون في يده رمحان صغيران أحدهما من ذهب، والآخر من فضة، وأسنتهما من الحديد.
ويجلس الأجناد والولاة والفتيان ومسوفة وغيرهم خارج المشور، في شارع هنالك متسع، فيه أشجار وكل فراري بين يديه أصحابه بالرماح والقسي والأطبال والأبواق، بوقاتهم من أنياب الفيلة، وآلات الطرب المصنوعة من القصب والقرع وتضرب بالسطاعة، ولها صوت عجيب وكل فراري له كنانة قد علقها بين كتفيه، وقوسه بيده، وهو راكب فرسه، وأصحابه بين مشاة وركبان ويكون بداخل المشور تحت الطيقان رجل واقف، فمن أراد أن يكلم السلطان كلم دوغا، ويكلم دوغا لذلك الواقف، ويكلم الواقف السلطان.
ويجلس أيضاً في بعض الأيام بالمشور، وهنالك مصطبة تحت شجرة لها ثلاث درجات، يسمونها البنبي " بفتح الباء المعقودة الأولى وكسر الثانية وسكون النون بينهما "، وتفرش بالحرير، ويجعل المخاد عليها، ويرفع الشطر، وهو شبه قبة من الحرير، وعليه طائر من ذهب على قدر البازي، ويخرج السلطان من باب في ركن القصر، وقوسه بيده، وكنانته بين كتفيه، وعلى رأسه شاشية ذهب، مشدودة بعصابة ذهب، لها أطراف مثل السكاكين رقاق، طولها أزيد من شبر، وأكثر لباسه جبة حمراء موبرة، من الثياب الرومية التي تسمى المطنفس، ويخرج بين يديه المغنون، بأيديهم قنابر الذهب والفضة، وخلفه نحو ثلاثمائة من العبيد أصحاب السلاح. ويمشي مشياً رويداً، ويكثر التأني وربما وقف، فإذا وصل إلى البنبي وقف ينظر في الناس، ثم يصعد برفق، كما يصعد الخطيب المنبر وعند جلوسه تضرب الطبول والأبواق والأنفار، ويخرج ثلاثة من العبيد مسرعين، فيدعون النائب والفرارية، فيدخلون ويجلسون ويؤتى بالفرسين والكبشين معهما، ويقف دوغا على الباب، وسائر الناس في الشارع تحت الأشجار.
والسودان أعظم الناس تواضعاً لملكهم، وأشدهم تذللاً له ويحلفون باسمه فيقولون: منسى سليمان كي، فإذا دعا بأحدهم عند جلوسه بالقبة لتي ذكرناها، نزع المدعو ثيابه، ولبس ثياباً خلقة، ونزع عمامته، وجعل شاشسة وسخة، ودخل رافعاً ثيابه وسراويله إلى نصف ساقه، وتقدم بذلة ومسكنة، وضرب الأرض بمرفقيه ضرباً شديداً، ووقف كالراكع يسمع كلامه.
وإذا كلم أحدهم السلطان، فرد عليه جوابه، كشف ثيابه عن ظهره، ورمى بالتراب على رأسه وظهره، كما يفعل المغتسل بالماء، وكنت أعجب منهم، كيف لا تعمى أعينهم. وإذا تكلم السلطان في مجلسه بكلام، وضع الحاضرون عمائمهم عن رؤوسهم، وأنصتوا للكلام، وربما قام أحدهم بين يديه، فيذكر أفعاله في خدمته، ويقول: فعلت كذا يوم كذا، وقتلت كذا يوم كذا، فيصدقه من علم ذلك وتصديقهم أن ينزع أحدهم وتر قوسهم، ثم يرسلها، كما يفعل إذا رمى، فإذا قال له السلطان: صدقت، أو شكره، نزع ثيابه وترب وتربع، وذلك عندهم من الأدب. قال ابن جزي، وأخبرني الصاحب العلامة الفقيه أبو القاسم بن رضوان أعزه الله أنه لما قدم الحاج موسى الونجراتي رسولاً من منسى سليمان إلى مولانا أبي الحسن رضي الله عنه، كان إذا دخل المجلس الكريم، حمل بعض ناسه معه قفة تراب فيترب لهما قال له مولاناً كلاماً حسناً، كما يفعل ببلاده.
وحضرت بمالي عيدي الأضحى والفطر فخرج الناس إلى المصلى، وهو بمقربة من قصر السلطان، وعليهم الثياب البيض الحسان، وركب السلطان، وعلى رأسه الطيلسان والسودان لا يلبسون الطيلسان إلا في العيد، ما عدا القاضي والخطيب والفقهاء، فإنهم يلبسونه في سائر الأيام وكانوا يوم العيد بين يدي السلطان، وهم يهللون ويكبرون، وبين يديه العلامات الحمر من الحرير، ونصب عند المصلى خباء فدخل السلطان إليه وأصلح من شأنه ثم خرج إلى المصلى، فقضيت الصلاة والخطبة، ثم نزل الخطيب، وقعد بين يدي السلطان، وتكلم بكلام كثير وهنالك رجل بيده رمح، يبين للناس بلسانهم كلام الخطيب، وذلك وعظ وتذكير وثناء على السلطان، وتحريض على لزوم طاعته، وأداء حقه. ويجلس السلطان في أيام الهيدين بعد العصر على البنبي ويأتي السلحدارية بالسلاح العجيب من تراكش الذهب والفضة والسيوف المحلاة بالذهب وأغمادها منه ورماح الذهب والفضة ودبابيس البلور، ويقف على رأسه أربعة من الأمراء، يشردون الذباب، وفي أيديهم حلية من الفضة، تشبه ركاب السرج ويجلس الفرارية والقاضي والخطيب على العادة، ويأتي دوغا الترجمان بنسائه الأربع وجواريه، وهن نحو مائة عليهن الملابس الحسان، وعلى رؤوسهن عصائب الذهب والفضة، فيها مفاتيح ذهب وفضة، وينصب لدوغا كرسي يجلس عليه، ويضرب بالآلة التي هي من قصب، وتحتها قريعات ويغني بشعر يمدح السلطان فيه، ويذكر غزواته وأفعاله، ويغني النساء والجواري معه، ويلعبن بالقسي، ويكون معه نحو ثلاثين من غلمانه، عليهم جباب الملف والحمر، وفي رؤوسهم الشواشي البيض وكل واحد منهم متقلد طبله يضربه ثم يأتي أصحابه من الصبيان، فيلعبون ويتقلبون في الهواء كما يفعل السندي، ولهم في ذلك رشاقة وخفة بديعة، ويلعبون بالسيوف أجمل لعبٍ ويلعب دوغا بالسيف لعباً بديعاً. وعند ذلك يأمر السلطان له بالإحسان، فيأتي بصرة فيها مائتا مثقال من التبر، وينثر ما فيها على رؤوس الناس وتقوم الفرارية، فينزعون في قسيهم شكراً للسلطان وبالغد يعطى كل واحد منهم لدوغا عطاء على قدره وفي كل يوم جمعة بعد العصر، يفعل دوغا مثل هذا الترتيب الذي ذكرناه.
وإذا كان يوم عيد، وأتم دوغا لعبه، جاء الشعراء، ويسمون الجلا " بضم الجيم "، وأحدهم جالي، وقد دخل كل واحد منهم في جوف صورة مصنوعة من الريش تشبه الشقشاق، وجعل لها رأس من الخشب له منقار أحمر كأنه رأس الشقشاق، ويقفون بين يدي السلطان بتلك الهيئة المضحكة، فينشدون أشعارهم. وذكر لي أن شعرهم نوع من الوعظ، يقولون فيه للسلطان: إن هذا البنبي الذي عليه جلس فوقه من الملوك فلان، وكان من حسن أفعاله كذا، وفلان كان من أفعاله كذا، فافعل أنت من الخير ما يذكر بعدك. ثم يصعد كبير الشعراء على درج البنبي، ويضع رأسه في حجر السلطان، ثم يصعد إلى أعلى البنبي فيضع رأسه على كتف السلطان الأيمن، ثم على كتفه الأيسر، وهو يتكلم بلسانهم، ثم ينزل. وأخبرت أن هذا الفعل لم يزل قديماً عندهم قبل الإسلام، فاستمروا عليه.
حكاية
وحضرت مجلس السلطان في بعض الأيام، فأتى أحد فقهائهم، وكان قدم من بلاد بعيدة، وقام بين يدي السلطان، وتكلم كلاماً كثيراً فقام القاضي فصدقه، ثم صدقهما السلطان فوضع كل واحد منهم عمامته عن رأسه، وترب بين يديه وكان إلى جانبي رجل من البيضان، فقال: أتعرف ما قالوه ؟ فقلت: لا أعرف فقال: إن الفقيه قد أخبر أن الجراد وقع ببلادهم، فخرج أحد صلحائهم إلى موضع الجراد، فهاله أمره، فقال: هذا جراد كثير. فأجابته جرادة منها، وقالت إن البلاد التي يكثر فيها الظلم، يبعثنا الله لفساد زرعها. فصدقه القاضي والسلطان، وقال عند ذلك للأمراء: إني برئ من الظلم، ومن ظلم منكم عاقبته، ومن علم بظالم ولم يعلمني له، فذنوب ذلك الظالم في عنقه، والله حسيبه وسائله. ولما قال هذا الكلام، وضع الفرارية عمائمهم عن رؤوسهم، وتبرأوا من الظلم.
حكاية
وحضرت الجمعة يوماً فقام أحد التجار من طلبة مسوفة، ويسمى بأبي حفص، فقال: يا أهل المسجد، أشهدكم أن منسى سليمان في دعوتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قال ذلك، خرج إليه جماعة رجال من مقصورة السلطان فقالوا له: من ظلمك ؟ من أخذ لك شيئاً ؟ فقال: منشاجو أيوالاتن، يعني مشرفها أخذ مني ما قيمته ستمائة مثقال، وأراد أن يعطيني في مقابلته مائة مثقال خاصة فبعث السلطان إليه عنه للحين فحضر بعد أيام، وصرفها للقاضي، فثبت للتاجر حقه فأخذه، وبعد ذلك عزل المشرف عن عمله.
حكاية
واتفق في يوم إقامتي بمالي أن السلطان غضب على زوجته الكبرى بنت عمه المدعوة بقاسا، ومعنى قاسا عندهم الملكة وهي شريكته في الملك على عادة السودان، ويذكر اسمها مع اسمه على المنبر، وسجنها عند بعض الفرارية، وولى في مكانها زوجته الأخرى بنجو، ولم تكن من بنات الملوك فأكثر الناس الكلام في ذلك، وأنكروا فعله، ودخل بنات عمه على بنجو يهنئنها بالمملكة، فجعلن الرماد على أذرعهن، ولم يتربن رؤوسهن ثم إن السلطان سرح قاسا من ثقافها فدخل عليها بنات عمه يهنئنها بالسراح، وتربن على العادة فشكت بنجو إلى السلطان بذلك. فغضب على بنات عمه فخفن منه، واستجرن بالجامع فعفا عنهن، واستدعاهن، وعادتهن إذا دخلن على السلطان، أن يتجردن عن ثيابهن، ويدخلن عرايا، ففعلن ذلك ورضي عنهن، وصرن يأتين باب السلطان غدواً وعشياً مدة سبعة أيام وكذلك يفعل كل من عفا عنه السلطان. وصارت قاسا تركب كل يوم في جواريها وعبيدها، وعلى رؤوسهم التراب، وتقف عند المشور متنقبة لا يرى وجهها وأكثر الأمراء الكلام في شأنها، فجمعهم السلطان في المشور وقال لهم دوغا على لسانه: إنكم قد أكثرتم الكلام في أمر قاسا، وأنها أذنبت ذنباً كبيراً.
ثم أتي بجارية من جواريها مقيدة مغلولة، فقيل لها: تكلمي بما عندك. فأخبرت أن قاسا بعثتها إلى جاطل ابن عم السلطان الهارب عنه إلى كنبرني، واستدعته ليخلع السلطان عن ملكه، وقالت له: أنا وجميع العساكر طوع أمرك، فلما سمع الأمراء ذلك قالوا: إن هذا ذنب كبير، وهي تستحق القتل عليه. فخافت قاسا من ذلك واستجارت بدار الخطيب وعادتهم أن يستجيروا هنالك بالمسجد، وإن لم يتمكن فبدار الخطيب وكان السودان يكرهون منسى سليمان لبخله، وكان قبله منسى مغا، وقبل منسى مغا منسى موسى، وكان كريماً فاضلاً يحب البيضان ويحسن إليهم، وهو الذي أعطى لأبي إسحاق الساحلي في يوم واحد أربعة آلاف مثقال، وأخبرني بعض الثقات أنه أعطى لمدرك بن فقوص ثلاثة آلاف مثقال في يوم واحد وكان جده سارق جاطه أسلم على يدي جد مدرك هذا.
حكاية وأخبرني الفقيه مدرك هذا أن رجلاً من أهل تلمسان، يعرف بابن شيخ اللبن، كان قد أحسن إلى السلطان منسى موسى في صغره بسبعة مثاقيل وثلث، وهو يومئذ صبي غير معتبر، ثم اتفق أن جاء إليه في خصومة، وهو سلطان، فعرفه، وأدناه منه، حتى جلس معه على البنبي، ثم قرره على فعله معه، وقال للأمراء: ما جزاء من فعل ما فعله من الخير ؟ فقالوا له الحسنة بعشر أمثالها، فأعطه سبعين مثقالاً، فأعطاه عند ذلك سبعمائة مثقال وكسوة وعبيداً وخدماً، وأمره أن لا ينقطع عنه، وأخبرني بهذه الحكاية أيضاً ولد ابن شيخ اللبن المذكور، وهو من الطلبة يعلم القرآن بمالي.
فمن أفعالهم الحسنة قلة الظلم فهم أبعد الناس عنه، وسلطانهم لا يسامح أحداً في شيء منه. ومنها شمول الأمن في بلادهم، فلا يخاف المسافر فيها ولا المقيم من سارق ولا غاصب. ومنها عدم تعرضهم لمال من يموت ببلادهم من البيضان، ولو كان القناطير المقنطرة، إنما يتركونه بيد ثقة من البيضان، حتى يأخذه مستحقه، ومنها مواظبتهم للصلوات، والتزامهم لها في الجماعات، وضربهم أولادهم عليها، وإذا كان يوم الجمعة، ولم يبكر الإنسان إلى المسجد، لم يجد أين يصلي لكثرة الزحام. ومن عادتهم أن يبعث كل إنسان غلامه بسجادته، فيبسطها له بموضع يستحقه بها، حتى يذهب إلى المسجد، وسجاداتهم من سعف شجر يشبه النخل، ولا ثمر له، ومنها لباسهم الثياب البيض الحسان يوم الجمعة، ولو لم يكن لأحدهم إلا قميص خلق غسله ونظفه وشهد به الجمعة، ومنها عنايتهم بحفظ القرآن العظيم، وهم يجعلون لأولادهم القيود إذا ظهر في حقهم التقصير في حفظه، فلا تفك عنهم حتى يحفظوه.
ولقد دخلت على القاضي يوم العيد، وأولاده مقيدون، فقلت له: ألا تسرحهم ؟ فقال: لا أفعل حتى يحفظوا القرآن، ومررت يوماً بشاب منهم حسن الصورة، عليه ثياب فاخرة، وفي رجله قيد ثقيل. فقلت لمن كان معي، ما فعل هذا ؟ أقتل ؟ ففهم عن الشاب وضحك وقيل لي: إنما قيد حتى يحفظ القرآن. ومن مساوئ أفعالهم كون الخدم والجواري والبنات الصغار يظهرن للناس عرايا باديات العورات. ولقد كنت أرى في رمضان كثيراً منهن على تلك الصورة. فإن عادة الفرارية أن يفطروا بدار السلطان، ويأتي كل واحد منهم بطعامه، تحمله العشرون فما فوقهن من جواريه، وهن عرايا. ومنها دخول النساء على السلطان عرايا غير مستترات، وتعري بناته، ولقد رأيت في ليلة سبع وعشرين من رمضان نحو مائة جارية خرجن بالطعام من قصره عرايا، ومعهن بنتان له ناهدان ليس عليهما ستر، ومنها جعلهم التراب والرماد على رؤوسهم تأدباً ومنها ما ذكرته من الأضحوكة في إنشاد الشعراء، ومنها أن كثيراً منهم يأكلون الجيف والكلاب والحمير.
وكان دخولي إليها في الرابع عشر لجمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين، وخروجي عنها في الثاني والعشرين لمحرم سنة أربع وخمسين. ورافقني تاجر يعرف بأبي بكر ابن يعقوب. وقصدنا طريق ميمة. وكان لي جمل أركبه. لأن الخيل غالية الأثمان، يساوي أحدها مائة مثقال، فوصلنا إلى خليج كبير يخرج من النيل، لا يجاز إلا في المراكب. وذلك الموضع كثير البعوض، فلا يمر أحد به إلا بالليل. ووصلنا الخليج ثلث الليل، والليل مقمر.
ولما وصلنا الخليج رأيت على ضفته ست عشرة دابة ضخمة الخلقة، فعجبت منها، وظننتها فيلة لكثرتها هنالك. ثم إني رأيتها دخلت في النهر. فقلت لأبي بكر ابن يعقوب: ما هذه الدواب ؟ فقال: هي خيل البحر، خرجت ترعى في البر، وهي أغلظ من الخيل. ولها أعراف وأذناب، ورؤوسها كرؤوس الخيل، وأرجلها كأرجل الفيلة. ورأيت هذه الخيل مرة أخرى لما ركبنا النيل من تنبكتو إلى كوكو، وهي تعوم في الماء، وترفع رؤوسها وتنفخ. وخاف منها أهل المركب فقربوا من البر لئلا تغرقهم. ولهم حيلة في صيدها حسنة، وذلك أن لهم رماحاً مثقوبة، قد جعل في ثقبها شرائط وثيقة، فيضربون الفرس منها. فإن صادفت الضربة رجله أو عنقه أنفذته، وجذبوه بالحبل حتى يصل إلى الساحل، فيقتلونه ويأكلون لحمه. ومن عظامها بالساحل كثير. وكان نزولنا عند هذا الخليج بقرية كبيرة، عليها حاكم من السودان حاج فاضل يسمى فربامغا " بفتح الميم والغين المعجم "، وهو ممن حج مع السلطان منسى موسى لما حج.
حكاية أخبرني فربامغا أن منسى موسى لما وصل إلى هذا الخليج، كان معه قاض من البيضان يكنى بأبي العباس، ويعرف بالدكالي، فأحسن إليه بأربعة آلاف مثقال لنفقته. فلما وصلوا إلى ميمة، شكا إلى السلطان بأن الأربعة آلاف مثقال سرقت له من داره. فاستحضر السلطان أمير ميمة، وتوعده بالقتل إن لم يحضر من سرقها. وطلب الأمير السارق فلم يجد أحداً، ولا سارق يكون بتلك البلاد. فدخل دار القاضي، واشتد على خدامه، وهددهم. فقالت له إحدى جواريه: ما ضاع له شيء، وإنما دفنها بيده في ذلك الموضع، وأشارت له إلى الموضع. فأخرجها الأمير، وأتى بها السلطان، وعرفه الخبر، فغضب على القاضي، ونفاه إلى بلاد الكفار الذين يأكلون بني آدم، فأقام عندهم أربع سنين، ثم رده إلى بلده. وإنما لم يأكله الكفار لبياضه، لأنهم يقولون: إن أكل الأبيض مضر، لأنه لم ينضج. والأسود هو النضج بزعمهم.
حكاية قدمت على السلطان منسى سليمان جماعة من هؤلاء السودان الذين يأكلون بني آدم، معهم أمير لهم. وعادتهم أن يجعلوا في آذانهم أقراطاً كباراً، وتكون فتحة القرط منها نصف شبر، ويلتحفون في ملاحف الحرير. وفي بلادهم يكون معدن الذهب. فأكرمهم السلطان وأعطاهم في الضيافة خادمة، فذبحوها وأكلوها، ولطخوا وجوههم وأيديهم بدمها، وأتوا السلطان شاكرين. وأخبرت أن عادتهم متى ما وفدوا عليه أن يفعلوا ذلك. وذكر لي عنهم أنهم يقولون إن أطيب ما في لحوم الآدميات الكف والثدي. ثم رحلنا من هذه القرية التي عند الخليج، فوصلنا إلى بلدة قري منسا، وقري " بضم القاف وكسر الراء "، ومات لي بها الجمل الذي كنت أركبه، فأخبرني راعيه بذلك، فخرجت لأنظر إليه، فوجدت السودان قد أكلوه كعادتهم في أكل الجيف. فبعثت غلامين كنت استأجرتهما على خدمتي ليشتريا لي جملاً بزاغري، وهي على مسيرة يومين. وأقام معي بعض أصحاب أبي بكر ابن يعقوب، وتوجه هو لينتظرنا بميمة. فأقمت سبعة أيام، أضافني فيها بعض الحجاج بهذه البلدة، حتى وصل الغلامان بالجمل.
حكاية وفي أيام إقامتي بهذه البلدة رأيت ليلة فيما يرى النائم كأن إنساناً يقول لي: يا محمد بن بطوطة لماذا لا تقرأ سورة يس في كل يوم ؟ فمن يومئذ ما تركت قراءتها كل يوم، في سفر ولا حضر. ثم رحلت إلى بلدة ميمة " بكسر الميم الأول وفتح الثاني " فنزلنا على آبار بخارجها.
ثم سافرنا منها إلى مدينة تنبكتو " وضبط اسمها بضم التاء المعلوة وسكون النون وضم الباء الموحدة وسكون الكاف وضم التاء المعلوة الثانية وواو "، وبينها وبين النيل أربعة أميال. وأكثر سكانها مسوفة أهل اللثام، وحاكمها يسمى فربا موسى. حضرت عنده يوماً، وقد قدم أحد مسوفة أميراً على جماعة، فجعل عليه ثوبا وعمام وسروالاً، كلها مصبوغة، وأجلسه على درقة، ورفعه كبراء قبيلته على رؤوسهم. وبهذه البلدة قبر الشاعر المفلق أبي إسحاق الساحلي الغرناطي المعروف ببلده بالطويجن، وبها قبر سراج الدين بن الكويك، أحد كبار التجار من أهل الإسكندرية.
حكاية
كان السلطان منسى موسى لما حج، نزل بروض لسراج الدين هذا، ببركة الحبش خارج مصر، وبها ينزل السلطان. واحتاج إلى مال، فتسلفه من سراج الدين، وتسلف منه أمراؤه أيضاً. وبعث معهم سراج الدين وكيله يقتضى المال، فأقام بمالي. فتوجه سراج الدين بنفسه لاقتضاء ماله، ومعه ابن له. فلما وصل تنبكتو أضافه ابو إسحاق الساحلي، فكان من القدر موته تلك الليلة. فتكلم الناس في ذلك، واتهموا أنه سم. فقال لهم ولده: إني أكلت معه ذلك الطعام بعينه. فلو كان فيه سم لقتلنا جميعاً، لكنه انقضى أجله. ووصل الوالي إلى مالي، واقتضى ماله، وانصرف إلى ديار مصر. ومن تنبكتو ركبت النيل في مركب صغير منحوت من خشبة واحدة. وكنا ننزل كل ليلة بالقرى، فنشتري ما نحتاج إليه من الطعام والسمن، بالملح وبالعطريات وبحلي الزجاج. ثم وصلت إلى بلد أنسيت اسمه، له أمير فاضل حاج يسمى فربا سليمان، مشهور بالشجاعة والشدة. لا يتعاطى أحد النزع في قوسه، ولم أر في السودان أطول منه ولا أضخم جسماً، واحتجت بهذا البلدة إلى شيء من الذرة، فجئت إليه، وذلك يوم مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه، وسألني عن مقدمي. وكان معه فقيه يكتب له. فأخذت لوحاً كان بين يديه، وكتبت فيه: يا فقيه، قل لهذا الأمير: إنا نحتاج إلى شيء من الذرة للزاد، والسلام. وناولت الفقيه اللوح يقرأ ما فيه سراً، ويكلم الأمير في ذلك بلسانه. فقرأه جهراً، وفهمه الأمير. فأخذ بيدي، وأدخلني إلى مشوره، وبه سلاح كثير من الدرق والقسي والرماح، ووجدت عنده كتاب المدهش لابن الجوزي، فجعلت أقرأ فيه.
ثم أتي بمشروب لهم يسمى الدقنو " بفتح الدال المهمل وسكون القاف وضم النون وواو "، وهو ماء فيه جريش الذرة مخلوط بيسير عسل أو لبن، وهم يشربونه عوض الماء. لأنهم إن شربوا الماء خالصاً أضر بهم، وإن لم يجدوا الذرة خلطوه بالعسل أو اللبن. ثم أتي ببطيخ أخضر فأكلنا منه، ودخل غلام خماسي فدعاه وقال لي: هذا ضيافتك، واحفظه لئلا يفر. فأخذته وأردت الانصراف، فقال: أقم حتى يأتي الطعام. وجاءت إلينا جارية له دمشقية عربية، فكلمتني بالعربي. فبينما نحن في ذلك، إذ سمعنا صراخاً بداره. فوجه الجارية لتعرف خبر ذلك، فعادت إليه، فأعلمته أن بنتاً له قد توفيت، فقال: إني لا أحب البكاء، فتعال نمش إلى البحر، يعني النيل. وله على ساحله ديار. فأتي بالفرس فقال لي: إركب. فقلت: لا أركبه، وأنت ماش. فمشينا جميعاً، ووصلنا إلى دياره على النيل. وأتي بالطعام فأكلنا. وودعته وانصرفت.
ولم أر في السودان أكرم منه ولا أفضل. والغلام الذي أعطانيه باقٍ عندي إلى الآن. ثم سرت إلى مدينة كوكو، وهي مدينة كبيرة على النيل، من أحسن مدن السودان وأكبرها وأخصبها. فيها الأرز الكثير واللبن والدجاج والسمك، وبها الفقوس العناني الذي لا نظير له. وتعامل أهلها في البيع والشراء بالودع، وكذلك أهل مالي. وأقمت بها نحو شهر. وأضافني بها محمد بن عمر، من أهل مكناسة، وكان ظريفاً مزاحاً فاضلاً، وتوفي بها بعد خروجي عنها. وأضافني بها الحاج محمد الوجدي التازي، وهو ممن دخل اليمن، والفقيه محمد الفيلالي إمام مسجد البيضان.
ثم سافرت منها برسم تكدا في البر، مع قافلة كبيرة للغدامسيين. دليلهم ومقدمهم الحاج وجين " بضم الواو وتشديد الجيم المعقودة "، ومعناه الذئب بلسان السودان. وكان لي جمل لركوبي، وناقة لحمل الزاد. فلما رحلنا أول مرحلة وقفت الناقة. فأخذ الحاج وجين ما كان عليها، وقسمه على أصحابه، فتوزعوا حمله. وكان في الرفقة مغربي من أهل تادلي، فأبى أن يرفع من ذلك شيئاً كما فعل غيره. وعطش غلامي يوماً، فطلبت منه الماء، فلم يسمح به. ثم وصلنا إلى بلاد بردامة، وهي قبيلة من البربر " وضبطها بفتح الباء الموحدة وسكون الراء وفتح الدال المهمل وميم مفتوح وتاء تأنيث ". ولا تسير القوافل إلا في خفارتهم. والمرأة عندهم في ذلك أعظم شأناً من الرجل. وهم رحالة لا يقيمون، وبيوتهم غريبة الشكل، ويقيمون أعواداً من الخشب، ويضعون عليها الحصر، وفوق ذلك أعواد مشتبكة، وفوقها الجلود أو ثياب القطن. ونساؤهم أتم النساء جمالاً، وأبدعهن صوراً، مع البياض الناصع والسمن. ولم أر في البلاد من يبلغ مبلغهن في السمن. وطعامهن حليب البقر وجريش الذرة، يشربنه مخلوطاً بالماء غير مطبوخ، عند المساء والصباح. ومن أراد التزوج منهن، سكن بهن في أقراب البلاد إليهن، ولا يتجاوز بهن كوكو ولا أيوالاتن. وأصابني المرض في هذه البلاد، لاشتداد الحر وغلبة الصفراء. واجتهدنا في السير إلى أن وصلنا إلى مدينة تكدا " وضبطها بفتح التاء المعلوة والكاف المعقودة والدال المهمل مع تشديده ". ونزلت بها في جوار شيخ المغاربة سعيد بن علي الجزولي. وأضافني قاضيها أبو إبراهيم إسحاق الجاناتي، وهو من الأفاضل، وأضافني جعفر بن محمد المسوفي. وديار تكدا مبنية بالحجارة الحمر، وماؤها يجري على معادن النحاس، فيتغير لونه وطعمه بذلك، ولا زرع بها إلا يسير من القمح، يأكله التجار والغرباء. ويباع بحساب عشرين مداً من أمدادهم بمثقال ذهب، ومدهم ثلث المد ببلادنا. وتباع الذرة عندهم بحساب تسعين مداً بمثقال ذهب. وهي كثيرة العقارب. وعقاربها تقتل من كان صبياً لم يبلغ، وأما الرجال فقلما تقتلهم.
ولقد لدغت يوماً وأنا بها ولداً للشيخ سعيد بن علي عند الصبح فمات لحينه، وحضرت جنازته. ولا شغل لأهل تكدا غير التجارة. يسافرون كل عام إلى مصر، ويجلبون من كل ما بها من حسان الثياب وسواها. ولأهلها رفاهية وسعة بال، ويتفاخرون بكثرة العبيد والخدم، وكذلك أهل مالي وأيوالاتن. ولا يبيعون المعلمات منهن إلا نادراً وبالثمن الكثير.
حكاية
أردت لما دخلت تكدا شراء خادم معلمة فلم أجدها، ثم بعث إلي القاضي أبو إبراهيم بخادم لبعض أصحابه، فاشتريتها بخمسة وعشرين مثقالاً. ثم إن صاحبها ندم ورغب في الإقالة، فقلت له: إن دللتني على سواها أقلتك. فدلني على خادم لعلي أغيول، وهو المغربي التادلي الذي أبى أن يرفع شيئاً من أسبابي حين وقعت ناقتي، وأبى أن يسقي غلامي الماء حين عطش. فاشتريتها منه، وكانت خيراً من الأولى، وأقلت صاحبي الأول. ثم ندم هذا المغربي على بيع الخادم، ورغب في الإقالة، وألح في ذلك. فأبيت الا أن أجازيه بسوء فعله، فكاد أن يجن أو يهلك أسفاً. ثم أقلته بعد.
ومعدن النحاس بخارج تكدا يحفرون عليه في الأرض، ويأتون إلى البلد، فيسبكونه في دورهم. ويفعل ذلك عبيدهم وخدمهم. فإذا سبكوه نحاساً أحمر، صنعوا منه قضباناً في طول شبر ونصف، بعضها رقاق، وبعضها غلاظ. فتباع الغلاظ منها بحساب أربعمائة قضيب بمثقال ذهب، وتباع الرقاق بحساب ستمائة وسبعمائة مثقال. وهي صرفهم، يشترون برقاقها اللحم والحطب، ويشترون بغلاظها العبيد والخدم والذرة والسمن والقمح. ويحملون النحاس منها إلى مدينة كوبر من بلاد الكفار، وإلى زغاي، وإلى بلاد برنو، وهي على مسيرة أربعين يوماً من تكدا. وأهلها مسلمون، لهم ملك اسمه إدريس، لا يظهر للناس، ولا يكلمهم إلا من وراء حجاب.
ومن هذه البلاد يؤتى بالجواري الحسان والفتيان وبالثياب المجسدة. ويحمل النحاس أيضاً منها إلى جوجرة وبلاد المورتيين وسواها.