الباب الثالث: من أحب في النوم

ولا بد لكل حب من سبب يكون له أصلاً، وأنا مبتدئ بأبعد ما يمكن أن يكون من أسبابه ليجري الكلام على نسق، أو أن يبتدأ أبداً بالسهل والأهون. فمن أسبابه شيء لولا أني شاهدته لم أذكره لغرابته. وذلك أني دخلت يوماً على أبي السري عمار بن زياد صاحبنا مولى المؤيد فوجدته مفكراً مهتماً فسألته عما به، فتمنع ساعة ثم قال: لي أعجوبة ما سُمعت قط، قلت: وما ذاك؟ قال: رأيت في نومي الليلة جارية فاستيقظت وقد ذهب قلبي فيها وهمت بها وإني لفي أصعب حال من حبها، ولقد بقي أياماً كثيرة تزيد على الشهر مغموماً مهموماً لا يهنئه شيء وجداً، إلى أن لمته وقلت له: من الخطأ العظيم أن تشغل نفسك بغير حقيقة، وتعلق وهمك بمعدوم لا يوجد، هل تعلم من هي؟ قال: لا والله، قلت: إنك لقليل الرأي مصاب البصيرة إذ تحب من لم تره قط ولا خلق ولا هو في الدنيا، ولو عشقت صورة من صور الحمام لكنت عندي أعذر. فما زلت به حتى سلا وما كاد.

وهذا عندي من حيث النفس وأضغاثها، وداخل في باب التمني وتخيل الفكر. وفي ذلك أقول شعراً، منه:

يا ليت شعري من كانت وكيف سرت

 

أطلعة الشمس كانت أم هي القمـر

أظنة الـعـقـل أبـداه تـتـدبـره

 

أو صورة الروح أبدتها لي الفكـر

أو صورة مثلت في النفس من أملي

 

فقد تخيل في إدراكهـا الـبـصـر

أو لم يكن كل هـذا فـهـي حـادثة

 

أتى بها سبباً في حتـفـي الـقـدر