الباب الثامن: التعريض بالقول

ولا بد لكل مطلوب من مدخل إليه، وسبب يتوصل به نحوه فلم ينفرد بالاختراع دون واسطة إلا العليم الأول جل ثناؤه. فأول ما يستعمل طلاب أوصل وأهل المحبة في كشف ما يجدونه إلى أحبتهم التعريض بالقول، إما بإنشاد شعر، أوبإرسأ ومثل، أو تعمية بيت، أو طرح لغز، أو تسليط كلام وللناس يختلفون في ذلك على قدر إدراكهم، وعلى حسب مايرونه من أحبتهم من نفار أو أنس أو فطنة أو بلادة. وإني لأعرف من ابتدأ كشف محبته إلى من كان يحب بأبيات قلتها. فهذا وشبهه يبتدئ به الطالب للمودة، فإن رأى أنسا وتسهيلاً زاد، وإن يعاين شيئاً من هذه الأمور في حين إنشاده لشيء مما ذكرنا، أو إيراده لبعض المعاني التي حددنا، فانتظاره الجواب، إما بلفظ أو بهيئة الوجه والحركات، لموقف بين أرجاء واليأس هائل، وإن كان حيناً قصيراً، ولكنه إشراف على بلوغ الأمل أو انقطاعه.


ومن التعريض بالقول: جنس ثان، ولا يكون إلا بعد الاتفاق ومعرفة المحبة من المحبوب، فحينئذ يقع التشكي وعقد المواعيد والتغرير وأحكم المودات بالتعريض، وبكلام يظهر لسامعه منه معنى غير ما يذهبان إليه، فيجيب السامع عنه بجواب غير ما يتأدى إلى المقصود بالكلام، على حسب ما يتأدى إلى سمعه ويسبق إلى وهمه، وقد فهم كل واحد منهما عن صاحبه وأجابه بما لا يفهمه غيرهما إلا من أيد بحس نافذ، وأعين بذكاء، وأمد بتجربة، ولا سيما إن أحس من معانيهما بشيء وقلما يغيب عن المتوسم المجيد، فهنالك لا خفاء عليه فيما يريدان.


وأنا أعرف فتى وجارية كانا يتحابان، فأرادها في بعض وصلها على بعض مالا يجمل. فقالت: والله لأشكونك في الملإ علانية ولأفضحنك فضيحة مستورة. فلما كان بعد أيام حضرت الجارية مجلس بعض أكابر الملوك وأركان الدولة وأجل رجال الخلافة، وفيه ممن يتوقى أمره من النساء والخدم عدد كثير، وفي جملة الحاضرين ذلك الفتى، لأنه كان بسبب من الرئيس، وفي المجلس مغنيات غيرها فلما انتهى الغناء إليها سوت عودها واندفعت تغني بأبيات قديمة، وهي:

 

غزال قد حكى بدر التـمـام

 

كشمس قد تجلت من غمـام

سبى قلبي بألحـاظ مـراض

 

وقد الغصن في حسن القـوام

خضعت خضوع صب مستكين

 

له وذللت ذلة مـسـتـهـام

فصلني يا فديتك فـي حـلال

 

فما أهوى وصالاً في حـرام

 

وعلمت أنا هذا الأمر فقلت:

 

عتاب واقع وشكـاة ظـلـم

 

أتت من ظالم حكم وخصـم

تشكت ما بها لم يدر خـلـق

 

سوى المشكو ما كانت تسمى