الباب الحادي والعشرون: الـهـجـر

ومن آفات الحب أيضاً الهجر، وهو على ضروب: فأولها هجر يوجبه تحفظ من رقيب حاضر؛ وإنه لأحلى من كل وصل، ولولا أن ظاهر اللفظ وحكم التسمية يوجب إدخاله في هذا الباب لرجعت به عنه ولأجللته عن تسطيره فيه. فحينئذ ترى الحبيب منحرفاً عن محبه مقبلاً بالحديث على غيره معرضاً بمعرض لئلا تلحق ظنته أو تسبق استرابته. وترى المحب أيضاً كذلك. ولكن طبعه له جاذب، ونفسه له صارفة بالرغم، فتراه حينئذ منحرفاً كمقبل، وساكناً كناطق، وناظراً إلى جهة نفسه في غيرها. والحاذق الفطن إذا كشف بوهمه عن باطن حديثهما علم أن الخافي غير البادي، وما جهر به غير نفس الخبر، وأنه لمن المشاهد الجالبة للفتن والمناظر المحركة للسواكن الباعثة للخواطر المهيجة للضمائر الجاذبة للفتوة. ولي أبيات في شيء من هذا أوردتها. وإن كان فيها غير هذا المعنى على ما شرطنا، منها:

 

يلوم أبو العباس جهلاً بطبـعـه

 

كما عير الحوت النعامة بالصدى

 

ومنها:

وكم صاحب أكرمته غير طائع

 

ولا مكره إلا لأمر تـعـمـدا

وما كان ذاك البر إلا لـغـيره

 

كما نصبوا للطير بالحب مصيداً

 

وأقول من قصيدة محتوية على ضروب من الحكم وفنون الآداب الطبيعية:

 

وسراء أحشائي لمـن أنـا مـؤثـر

 

وسراء أبنائي لـمـن أتـحـبـب

فقد يشرب الصاب الكـريه لـعـلة

 

ويترك صفو الشهد وهو محـبـب

وأعدل في إجهاد نفسي فـي الـذي

 

أريد وإني فيه أشـقـى وأتـعـب

يهل اللؤلؤ المكنـون والـدر كـلـه

 

رأيت بغير الغوص في البحر يطلب

وأصرف نفسي عن وجوه طباعهـا

 

إذا في سواها صح ما أنـا أرغـب

كما نسخ الله الـشـرائع قـبـلـنـا

 

بما هو أدنى للـصـلاح وأقـرب

وألقى سجايا كل خلق بـمـثـلـهـا

 

ونعت سجاياي الصحيح المـهـذب

كما صار لون الـمـاء لـون إنـائه

 

وفي الأصل لون الماء أبيض معجب

         

 

ومنها:

أقمت ذوي ودي مقام طبائعـي

 

حياتي بها والموت منهن يرهب

 

ومنها:

وما أنا ممـن تـطـبـيه بـشـاشة

 

ولا يقتضي ما في ضميري التجنب

أزيد نفاراً عـنـد ذلـك بـاطـنـاً

 

وفي ظاهري أهل وسهل ومرحب

فإني رأيت الحرب يعلو إشتعالـهـا

 

ومبدؤها في أول الأمر مـلـعـب

وللحية الرقشاء وشـي ولـونـهـا

 

عجيب وتحت الوشي سم مـركـب

وإن فرند السيف أعجب مـنـظـراً

 

وفيه إذا هز الحـمـام الـمـذرب

وأجعل ذل النفس عـزة أهـلـهـا

 

إذا هي نالت ما بها فيه مـذهـب

فقد يضع الإنسان في الترب وجهـه

 

ليأتي غداً وهو المصون المقـرب

فذل يسوق العز أجود لـلـفـتـى

 

من العز يتلوه من الذل مـركـب

وكم مأكل أربـت عـواقـب غـيه

 

ورب طوى بالخصب آت ومعقـب

وما ذاق عز النفس مـن لا يذلـهـا

 

ولا التذ طعم الروح من ليس ينصب

ورودك نهل الماء من بعد ظـمـأة

 

ألذ من العل الـمـكـين وأعـذب

 

ومنها:

 

وفي كل مخلوق تـراه تـفـاضـل

 

فرد طيباً إن لـم يتـح لـك أطـيب

ولا ترضى ورد الريق إلا ضـرورة

 

إذا لم يكن في الأرض حاشاه مشرب

ولا تقربن ملـح الـمـياه فـإنـهـا

 

شجى والصدى بالحر أولى وأوجـب

 

ومنها:

 

فخذ من جراها ما تيسر واقتنع

 

ولا تك مشغولاً بمن هو يغلب

فما لك شرط عندهـا لا ولا يد

 

ولا هي إن حصلت أم ولا أب

 

ومنها:

 

ولا تيأسن مـمـا ينـال بـحـيلة

 

وإن بعدت فالأمر ينأى ويصعـب

ولا تأمن الإظلام فالفجر طـالـع

 

ولا تلتبس بالضوء فالشمس تغرب

 

ومنها:

 

ألح فإن الماء يكدح في الصفا

 

إذا طال ما يأتي عليه ويذهب

وكثر ولا تفشل وقلل كثير مـا

 

فعلت فماء المزن جم وينضب

فلو يتغذى المرء بالسم قـاتـه

 

وقام له منه غذاء مـجـرب

 

ثم هجر يوجبه التذلل، وهو ألذ من كثير الوصال، ولذلك لا يكون إلا عن ثقة كل واحد من المتحابين بصاحبه، واستحكام البصيرة في صحة عقده فحينئذ يظهر المحبوب هجراناً ليرى صبر محبه، وذلك لئلا يصفو الدهر البتة، وليأسف المحب إن كان مفرط العشق عند ذلك لا لما حل، لكن مخافة أن يترقى الأمر إلى ما هو أجل، يكون ذلك الهجر سبباً إلى غيره، أو خوفاًً من آفة حادث ملل. ولقد عرض لي في الصبا هجر مع بعض من كنت آلف، على هذه الصفة وهو لا يلبث أن يضمحل ثم يعود. فلما كثر ذلك قلت على سبيل المزاح شعراً بديهياً ختمت كل بيت منه بقسم من أو قصيدة طرفة بن العبد المعلقة، وهي التي قرأناها مشروحة على أبي سعيد الفتى الجعفري عن أبي بكر المقرئ عن أبي جعفر النحاس، رحمهم الله، في المسجد الجامع بقرطبة، وهي:

 

تذكرت وداً للـحـبـيب كـأنـه

 

لخولة أطلال ببـرقة ثـمـهـد

وعهدي بعهد كان لي منه ثـابـت

 

يلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد

وقفت به لا موقنـاً بـرجـوعـه

 

ولا آيساً أبكي وأبكي إلى الـغـد

إلى أن أطال الناس عذلي وأكثروا

 

يقولون لا تهلك أسى وتـجـلـد

كأن فنون السخط ممـن أحـبـه

 

خلايا سفين بالعواصـف مـن دد

كأن انقلاب الهجر والوصل مركب

 

يجور به الملاح طوراً ويهتـدي

فوقت رضي يتلوه وقت تسـخـط

 

كما قسم الترب المفـايل بـالـيد

ويبسم نحوي وهو غضبان معرض

 

مظاهر سمطى لؤلؤ وزبـرجـد

 

ثم هجر يوجبه العتاب لذنب يقع من المحب، وهذا فيه بعض الشدة، لكن فرحة الرجعة وسرور الرضى يعدل ما مضى، فإن لرضى المحبوب بعد سخطه لذة في القلب لا تعدلها لذة. وموقفاً من الروح لا يفوقه شيء من أسباب الدنيا. وهل شاهد مشاهد أو رأت عين أرقام في فكر ألذ وأشهى من مقام قد قام عنه كل رقيب، وبعد عنه كل بغيض، وغاب عنه كل واش، واجتمع فيه محبان قد تصارما لذنب وقع من المحب منهما وطال ذلك قليلاً، وبدأ بعض الهجر ولم يكن ثم مانع من الإطالة للحديث، فابتدأ المحب في الاعتذار والخضوع والتذلل والأدلة بحجته من الإدلال والإذلال والتذمم بما سلف، فطوراً يدلي ببراءته، وطوراً يرد بالعفو ويستدعى المغفرة ويقر بالذنب ولا ذنب له، ولاحبوب في كل ذلك ناظر إلى الأرض يسارقه اللحظ الخفي وربما أدامه فيه ثم يبسم مخفياً لتبسمه، وذلك علامة الرضى. ثم ينجلي مجلسهما عن قبول العذر، ويقبل القول، وامتحت ذنوب النقل، وذهبت آثار السخط، ووقع الجواب بنعم وذنبك مغفور، ولو كان فكيف ولا ذنب، وختما أمرهما بالوصل الممكن وسقوط العتاب والإسعاد وتفرقا على هذا.


هذا مكان تتقاصر دونه الصفات وتتلكن بتحديده الألسنة؛ ولقد وطئت بساط الخلفاء وشاهدت محاضر الملوك فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه، ورأيت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء. وانبساط مدبري الدول، فما رأيت أشد تبجحاً ولا أعظم سروراً بما هو فيه من محب أيقن أن قلب محبوبه عنده ووثق بميله إليه وصحة مودته له.


وحضرت مقام المعتذين بين أيدي السلاطين، ومواقف المتهمين بعظيم الذنوب مع المتمردين الطاغين، فما رأيت أذل من موقف محب هيمان بين يدي محبوب غضبان قد غمره السخط وغلب عليه الجفاء. ولقد امتحنت الأمرين وكنت في الحالة الأولى أشد من الحديد وأنفذ من السيف، لا أجيب إلى الدنية ولا أساعد على الخضوع، وفي الثانية أذل من الرداء، وألين من القطن، أبادر إلى أقصى غايات التذلل، وأغتنم فرصة الخضوع لو نجع، وأتحلل بلساني، وأغوص على دقائق المعاني ببياني، وأفنن القول فنوناً، وأتصدى لكل ما يوجب الترضي.


والتجني بعض عوارض الهجران، وهو يقع في أول الحب وآخره، فهو في أوله علامة لصحة المحبة، وفي آخره علامة لفتورها وباب للسلو.


خبر: واذكر في مثل هذا أني كنت مجتازاً في بعض الأيام بقرطبة في مقبرة باب عامر في أمة من الطلاب وأصحاب الحديث، ونحن نريد مجلس الشيخ أبي القاسم عبد الرحم بن أبي يزيد المصري بالرصافة أستاذي رضي الله عنه، ومعنا أبو بكر عبد الرحمن بن سليمان البلوي من أهل سبتة، وكان شاعراً مفلقاً وهو ينشد لنفسه في صفة متجن معهود أبياتاً له، منها:

 

سريع إلى ظهر الطريق وإنه

 

إلى نقض أسباب المودة يسرع

يطول علينـا أن نـرفـع وده

 

إذا كان في ترقيعه يتقـطـع

 

فوافق إنشاد البيت الأول من هذين البيتين خطور أبي الحسين بن علي الفاس رحمه الله تعالى وهو يؤم أيضاً مجلس ابن أبي يزيد، فسمعه فتبسم رحمه الله نحونا وطوانا ماشياً وهو يقول: بل إلى عقد المودة إن شاء الله، هذا على جد أبي الحسين رحمه الله وفضله وتقربه وبراءته ونسكه وزهده وعلمه فقلت في ذلك:

 

دع عنك نقض مودتي متعمداً

 

واعقد حبال وصالنا يا ظالم

ولترجعن أردته أو لم تـرد

 

كرهاً لما قال الفقيه العالـم

 

ويقع فيه الهجر والعتاب. ولعمري إن فيه إذا كان قليلاً للذة، وأما إذا تفاقم فهو فأل غير محمود، وأمارة وبيئة المصدر، وعلامة سوء، وهي بجملة الأمر مطية الهجران، ورائد الصريمة، ونتيجة التجني، وعنوان الثقل، ورسول الانفصال، وداعية القلى، ومقدمة الصد، وإنما يستحسن إذا لطف وكان أصله الإشفاق. وفي ذلك أقول:

 

لعلك بعد عتبك أن تجـودا

 

بما منه عتبت وأن تـزيدا

فكم يوم رأينا فيه صحـواً

 

وأسمعنا بآخره الرعـودا

وعاد الصحو بعد كما علمنا

 

وأنت كذاك نرجو أن تعودا

وكان سبب قولي هذه الآبيات عتاب وقع في يوم هذه صفته من أيام الربيع فقلتها في ذلك الوقت، وكان لي في بعض الزمن صديقان وكانا أخوين فغابا في سفر ثم قدما، وقد أصابني رمد فتأخرا عن عيادتي، فكتبت إليهما، والمخاطبة للأكبر منهما، شعراً منه:

وكنت أعدد أيضاً عـلـى

 

أخيك بمؤلمة السـامـع

ولكن إذا الدجن عطى ذكا

 

ء فما الظن بالقمر الطالع

 

ثم هجر يوجبه الوشاة، وقد تقدم القول فيهم وفيما يتولد من دبيب عقاربهم، وربما كان سبباً للمقاطعة البتة.


ثم هجر الملل، والملل من الأخلاق المطبوعة في الإنسان، وأحرى لمن دهى به ألا يصفو له صديق، ولا يصح له إخاء، ولا يثبت على عهد، ولا يصبر على إلف، ولا تطول مساعدته لمحب، ولا يعتقد منه ود ولا بغض. وأولى الأمور بالناس ألا يغروه منهم وأن يفروا عن صحبته ولقائه. فلن يظفروا منه بطائل، ولذلك أبعدنا هذه الصفة عن المحبين وجعلناها في المحبوبين، فهم بالجملة أهل التجني والتظني. والتعرض للمقاطعة. وأما من تزيا باسم الحب وهو ملول فليس منهم، وحقه ألا يتجرع مذاقه، وينفي عن أهل هذه الصفة ولا يدخل في جملتهم.


وما رأيت قط هذه الصفة أشد تغلباً منها على أبي عامر محمد بن عامر رحمه الله، فلو وصف لي واصف بعض ما علمته منه لما صدقته وأهل هذا الطبع أسرع الخلق محبة، وأقلهم صبراً على المحبوب وعلى المكروه والصد، وانقلابهم على الود على قدر تسرعهم إليه. فلاتثق بملول ولا تشغل به نفسك، ولا تعنها بالرجاء في وفائه. فإن دفعت إلى محبته ضرورة فعده ابن ساعته، واستأنفه كل حين من أحيانه بحسب ما تراه من تلونه، وقابله بما يشاكله. ولقد كان أبو عامر المحدث عنه يرى الجارية فلا يصبر عنها، ويحيق به من الاغتنام والهم ما يكاد أن يأتي عليه حتى يملكها، ولو حال دونه ذلك شوك القتاد، فإذا أيقن بتصيرها إليه عادت المحبة نفاراً، وذلك الأنس شروداً، والقلق إليها قلقاً منها، ونزاعه نحوها نزاعاً عنها، فيبيعها بأوكس الأثمان هذا كان دأبه حتى أتلف فيما ذكرنا من عشرات ألوف الدنانير عدداً عظيماً، وكان رحمه الله مع هذا من أهل الأدب والحذق الذكاء والنبل والحلاوة والتوقد، مع الشرف العظيم والمنصب الفخم والجاه العريض. وأما حسن وجهه وكمال صورته فشيء تقف الحدود عنه وتكل الأوهام عن وصف أقله ولا يتعاطى أحد وصفه. ولقد كانت الشوارع تخلو من السيارة ويتعمدون الخطور على باب داره في الشارع الآخذ من النهر الصغير على باب دارنا في الجانب الشرقي بقرطبة إلى الدرب المتصل بقصر الزاهرة، وفي هذا الدرب كانت داره رحمه الله ملاصقة لنا، لا لشيء إلا للنظر منه. ولقد مات من محبته جوار كن علقن أو هامهن به، ورثين له فخانهن مما أملنه منه، فصرن رهائن البلى وقتلتهن الوحدة.


وأنا أعرف جارية منهن كانت تسمى عفراء، عهدي بها لا تتستر بمحبته حيثما جلست، ولا تجف دموعها، وكانت قد تصيرت من داره إلى البركات الخيال صاحب الفتيان. ولقد كان رحمه الله يخبرني عن نفسه أنه يمل اسمه فضلاً عن غير ذلك.


وأما إهوانه فإنه تبدل بهم في عمره على قصره مراراً، وكان لا يثبت على زي واحد كأبي براقش، حيناً يكون في ملابس الملوك وحيناً في ملابس الفتاك.


فيجب على من امتحن بمخالطة من هذه صفته على أي وجه كان ألا يستفرغ عامة جهده في محبته، وأن يقيم اليأس من دوامه خصما لنفسه؛ فإذا لاحت له مخايل الملل قاطعة أياماً حتى ينشط باله، ويبعد به عنه، ثم يعاوده، فربما دامت المودة مع هذا. وفي ذلك أقول:

 

لا ترجون ملولاً

 

ليس الملول بعده

ود الملول فدعه

 

عارية مستـرده

 

ومن الهجر ضرب يكون متوليه المحب، وذلك عندما يرى من جفاء محبوبه والميل عنه إلى غيره، أو لثقيل يلازمه، فيرى الموت ويتجرع غصص الأسى، والعض على نقيف الحنظل أهون من رؤية مايكره، فينقطع وكبده تتقطع، وفي ذلك أقول:

 

هجرت من أهواه لا عن قلى

 

يا عجباً للعاشق الـهـاجـر

لكن عيني لم تطـق نـظـرة

 

إلى محبا الـرشـأ الـغـادر

فالموت أحلى مطمعاً من هوى

 

يباح لـلـوارد والـصـادر

وفي الفؤاد الـنـار مـذكـية

 

فاعجب لصب جزع صابـر

وقد أبـاح الـلـه فـي دينـه

 

تقية الـمـأسـور لـلآسـر

وقد أحل الكفر خوف الـردى

 

حتى ترى المؤمن كالكـافـر

 

خبر: ومن عجيب ما يكون فيها وشنيعه أني أعرف من هام قلبه بمتناه عنه نافر منه، فقاسى الوجد زمناً طويلاً، ثم سنحت له الأيام بسانحة عجيبة من الوصل أشرف بها على بلوغ أمله، فحين لم يكن بينه وبين غاية رجائه إلا كهؤلاء عاد الهجر والبعد إلى أكثر ما كان قبل. فقلت في ذلك:

 

كانت إلى دهري لي حـاجة

 

مقرونة في البعد بالمشتـرى

فساقها باللطـف حـتـى إذا

 

كانت من القرب على محجر

أبعدها عني فـعـادت كـأن

 

لم تبد للعين ولم تـظـهـر

 

وقلت:

 

دنا أمـلـي حـتـى مـددت لأخـذه

 

يداً فانثني نحو الـمـجـرة راحـلاً

فأصبحت لا أرجو وقد كنت موقـنـاً

 

وأضحى مع الشعري وقد كان حاصلاً

وقد كنت محسوداً فأصبحت حـاسـداً

 

وقد كنت مأمولاً فأصبـحـت آمـلاً

كذا الدهر في كراتـه وانـتـقـالـه

 

فلا يأمنن الدهر من كـان عـاقـلاً

 

ثم هجر القلى، وهنا ضلت الأساطير ونفدت الحيل وعظم البلاء؛ وهو الذي خلى العقول ذواهل، فمن دهى بهذه الداهية فليتصد لمحبوب محبوبه، وليتعمد ما يعرف أنه يستحسنه. ويجب أن يجتنب ما يدري أنه يكرهه، فربما عطفه ذلك عليه إن كان المحبوب ممن يدري قدر الموافقة والرغبة فيه، وأما من لم يعلم قدر هذا فلا طمع في استصرافه، بل حسناتك عنده ذنوب. فإن لم يقدر المرء على استصرافه فليتعمد السلوان وليحاسب نفسه بما هو فيه من البلاء والحرمان، ويسعى في نيل رغبته على أي وجه أمكنه. ولقد رأيت من هذه صفته، وفي ذلك أقول قطعة أولها:

 

دهيت بمن لو أدفع الموت دونه

 

لقال إذاً يا ليتني في المقابـر

 

ومنها:

 

ولا ذنب لي إذ صرت أحدو ركائبي

 

إلى الورد والدنيا تسيء مصادري

وماذا على الشمس المنيرة بالضحى

 

إذا قصرت عنها ضعاف البصائر

 

وأقول:

 

ما أقبح الهجر بعد وصل

 

وأحسن الوصل بعد هجر

كالو فر تحويه بعد فقـر

 

والفقر يأتيك بعـد وفـر

 

وأقول:

 

معهود أخلاقك قـسـمـان

 

والدهر فيك اليوم صنفـان

فإنك النعمان فيما مـضـى

 

وكان للنعـمـان يومـان

يوم نعيم فيه سعـد الـورى

 

ويوم بـأسـاه وعــدوان

فيوم نعماك لـغـيري ويو

 

مى منك ذو بؤس وهجران

أليس حبي لك مـسـاهـلاً

 

لأن تجـازيه بـإحـسـان

 

وأقول قطعة منها:

 

يا من جميع الحسن منتظم

 

فيه كنظم الدر في العقـد

ما بال حتفي منك يطرقني

 

قصداً ووجهك طالع السعد

 

وأقول قصيدة أولها:

 

أساعة توديعك أم ساعة الـحـشـر

 

وليلة بيني منك أم ليلة الـقـشـر

وهجرك تعذيب الموحد ينقـضـي

 

ويرجو التلاقي أم عذاب ذوي الكفر

 

ومنها:

 

سقى الله أياماً مـضـت ولـيالـياً

 

تحاكي لنا النيلوفر الغض في النشر

فأوراقه الأيام حـسـنـاً وبـهـجة

 

وأوسطه الليل المقصر للـعـمـر

لهونا بها فـي غـمـرة وتـآلـف

 

تمر فلا ندري وتأتي فـلا نـدري

فأعقبـنـا مـنـه زمـان كـأنـه

 

ولا شك حسن العقد أعقب بالغـدر

 

ومنها:

 

فلا تيأسي يا نفس عل زماننا

 

يعود بوجه مقبل غير مدبـر

كما صرف الرحمن ملك أمية

 

إليهم ولوذي بالتجمل والصبر

 

وفي هذه القصيدة أمدح أبا بكر هشام بن محمد أخا أمير المؤمنين عبد الرحمن المرتضى رحمه الله.


فأقول:

 

أليس يحيط الروح فينـا بـكـل مـا

 

دنا وتناءى وهو في حجب الصـدر

كذا الدهر جسم وهو في الدهر روحه

 

محيط بما فيه وإن شئت فاستـقـر

 

ومنها:

 

إتاوتها تـهـدي إلـيه ومـنـه

 

تقبلها منهم يقاوم بـالـشـكـر

كذا كل نهر في البلاد وأن طمت

 

غزارته ينصب في لجج البحر