الباب الرابع والعشرون: الـبـيـن

وقد علمنا أنه لا بد لكل مجتمع من افتراق، ولكل دان من تناء، وتلك عادة الله في العباد والبلاد حتى يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. وما شيء من دواهي الدنيا يعدل الافتراق، ولو سألت الأرواح به فضلاً عن الدموع كان قليلاً. وسمع بعض الحماء قائلاً يقول: الفراق أخو الموت، فقال: بل الموت أخو الفراق.


والبين ينقسم أقساماً: فأولها مدة يوقن بانصرامها وبالعودة عن قريب، وإنه لشجي في القلب، وغصة في الحلق لا تبرأ إلا بالرجعة، وأنا أعلم من كان يغيب من يحب عن بصره يوماً واحداً فيعتريه من الهلع والجزع وشغل البال وترادف الكرب ما يكاد يأتي عليه.


ثم بين منع من اللقاء، وتحظير على المحبوب من أن يراه محبه، فهذا ولو كان من تحبه ومعك في دار واحدة فهو بين: لأنه بائن عنك. وإن هذا ليولد من الحزن والأسف غير قليل، ولقد جربناه فكان مراً، وفي ذلك أقول:

 

أرى دارها في كل حين وساعة

 

ولكن من في الدار عني مغيب

وهل نافعي قرب الديار وأهلهـا

 

على وصلهم مني رقيب مراقب

فيالك جار الجنب أسمع حـسـه

 

وأعلم أن الصين أدنى وأقـرب

كصاد يرى ماء الطوى بعـينـه

 

وليس إليه من سبـيل يسـبـب

كذلك من في الحد عنك مغـيب

 

وما دونه إلا الصفيح المنصـب

 

وأقول من قصيدة مطولة:

 

متة تشتفي نفس أضر بها الوجـد

 

وتصقب دار قد طوى أهلها البعد

وعهدي بهند وهي جارة بيتـنـا

 

وأقرب من هند لطالبها الهـنـد

بلى إن في قرب الديار لـراحة

 

كما يمسك الظمآن أن يدنو الورد

 

ثم بين يتعمده المحب بعداً عن قول الوشاة، وخوفاً أن يكون بقاؤه سبباً إلى منع اللقاء، وذريعة إلى أن يفشو الكلام فيقع الحجاب الغليظ.


ثم بين يولده المحب لبعض ما يدعوه إلى ذلك من آفات الزمان، وعذره مقبول أو مطرح على قدر الجافز له إلى الرحيل.


خبر: ولعهدي بصديق لي داره المرية، فعنت له حوائج إلى شاطبة فقصدها، وكان نازلاً بها في منزلي مدة إقامته بها، وكان له بالمرية علاقة هي أكبر همه وأدهى غمه، كان يؤمل بتها وفراغ أسبابه وأن يوشك الرجعة ويسرع الأوبة، فلم يكن إلا حين لطيف بعد احتلاله عندي حتى جيش الموفق أبو الحسن مجاهد صاحب الجزائر الجيوش وقرب العساكر ونابذ خيران صاحب المرية وعزم على استئصاله، فانقطعت الطرق بسبب هذه الحرب، وتحوميت السبل واحترس البحر بالأساطيل، فتضاعف كربه إذ لم يجد إلى الانصراف سبيلاً البتة، وكاد يطفأ أسفاً، وصار لا يأنس بغير الوحدة، ولا يلجأ إلا إلى الزفير والوجوم. ولعمري لقد كان ممن لم أقدر قط فيه أن قلبه يذعن للود، ولا شراسة طبعه وتجيب إلى الهوى.


وأذكر أني دخلت قرطبة بعد رحيلي عنها ثم خرجت منصرفاً عنها فضمني الطريق مع رجل من الكتاب قد رحل لأمر مهم وتخلف سكن له، فكان يرتمض لذلك. وإني لأعلم من علق بهوى له وكان في حال شظف وكانت له في الأرض مذاهب واسعة ومناديح رحبة ووجوه متصرف كثيرة، فهان عليه ذلك وآثر الإقامة مع من يجب، وفي ذلك أقول شعراً، منه:

 

لك في البلاد منادح معلومة

 

والسيف غفل أو يبين قرابه

 

ثم بين رحيل وتباعد ديار، ولا يكون من الأوبة فيه على يقين خبر، ولا يحدث تلاق. وهو الخطب الموجع، والهم المفظع، والحادث الأشنع، والداء الدوي. وأكثر ما يكون الهلع فيه إذا كان النائي و المحبوب، وهو الذي قالت فيه الشعراء كثيراً. وفي ذلك أقول قصيدة، منها:

 

وذي علة أعيا الطبيب علاجهـا

 

ستوردني لا شك منهل مصرعي

رضيت بأن أضحى قتـيل وداده

 

كجارع سم في رحيق مشعشـع

فما لليالي مـا أقـل حـياءهـا

 

وأولعها بالنفس من كل مـولـع

كأن زماني عبشمي يخـالـنـي

 

أعنت على عثمان أهل التشـيع

 

وأقول من قصيدة:

 

أطنك تمثال الجنان أباحه

 

لمجتهد النساك من أوليائه

 

وأقول من قصيدة:

 

لأبرد باللقيا غليلاً من الهوى

 

توقع نيران الغضي هيمانه

 

وأقول شعراً منه:

 

خفيت عن الأبصار والوجد ظاهر

 

فاعجب بأعراض تبين ولا شخص

غدا الفلك الدوار حـلـقة خـاتـم

 

محيط بما فيه وأنـت لـه فـض

 

وأقول من قصيدة:

 

غنيت عن التشبيه حسناً وبـهـجة

 

كما غنيت شمس السماء عن الحلى

عجبت لنفسي بعده كيف لم تمـت

 

وهجرانه دفني وفقدانـه نـعـيي

وللجسد الغض المنعـم كـيف لـم

 

تذبـه يد خـشـــنـــاء.....

 

وإن للأوبة من البين الذي تشفق منه النفس لطول مسافته وتكاد تيأس من العودة فيه، لروعة تبلغ مالا حد وراءه وربما قتلت. في ذلك أقول:

 

للتلاقي بعد الـفـراق سـرور

 

كسرور المفيق حانت وفـاتـه

فرحة تبهج النفـوس وتـحـي

 

من دنا منه بالفراق مـمـاتـه

ربما قد تكـون داهـية الـمـو

 

ت وتودي بأهله هـجـمـاتـه

كم رأينا من عب في الماء عطشا

 

ن فزار الحمام وهـو حـياتـه

 

وإني لأعلم من نأت دار محبوبه زمناً ثم تيسرت له أوبة فلم يكن إلا بقدر التسليم واستيفائه، حتى دعته نوى ثانية فكاد أن يهلك. وفي ذلك أقول:

 

أطلت زمان البعد حتى إذا انقضـى

 

زمان النوى بالقرب عدت إلى البعد

فلم يك إلا كرة الطرف قـربـكـم

 

وعاودكم بعدي وعاودنـي وجـدي

كذا حائر في الليل ضاقت وجوهـه

 

رأى البرق في داج من الليل مسود

فأخلـفـه مـنـه رجـاء دوامـه

 

وبعض الأراجي لا تفيدو ولا تجدي

وفي الأوبة بعد الفراق أقول قطعة، منها:

لقد قرت العينان بالقرب مـنـكـم

 

كما سخنت أيام يطويكم الـبـعـد

فلله فيما قد مضى الصبر والرضى

 

ولله فيما قد قضى الشكر والحمـد

 

خبر: ولقد نعى إلى بعض من كنت أحب من بلدة نازحة، فقمت فاراً بنفسي نحو المقابر وجعلت أمشي بينها وأقول:

 

وددت بأن ظهر الأرض بطن

 

وأن البطن منها صار ظهراً

وأني مت قبل ورود خطـب

 

أتى فأثار في الأكباد جمـراً

وأن دمى لمن قد بان غسـل

 

وأن ضلوع صدري كن قبراً

 

ثم اتصل بعد حين تكذيب ذلك الخبر فقلت:

 

بشرى أتت واليأس مستحـكـم

 

والقلب في سبع طباق شـداد

كست فؤادي خضرة بعـدمـا

 

كان فؤادي لابساً لـلـحـداد

جلى سواد الغم عنـي كـمـا

 

يجلي بلون الشمس لون السواد

هذا وما آمل توصـلاً سـوى

 

صدق وفاء بـقـديم الـوداد

فالمرن قد تطلب لا لـلـحـيا

 

لكن لظل بارد ذي امـتـداد

 

ويقع في هذين الصنفين من البين الوداع، أعني رحيل المحب أو رحيل الحبوب. وإنه لمن المناظر الهائلة والمواقف الصعبة التي تفتضح فيها عزيمة كل ماضي العزائم، وتذهب قوة كل ذي بصيرة، وتسكب كل عين جمود، ويظهر مكنون الجوى. وهو فصل من فصول البين يجب التكلم فيه، كالعتاب في باب الهجر. ولعمري لو أن ظريفاً يموت في ساعة الوداع لكان معذوراً إذا تفكر فيما يحل به بعد ساعة من انقطاع الآمال، وحلول الأوجال، وتبدل السرور بالحزن. وإنها ساعة ترق القلوب القاسية، وتلين الأفئدة الغلاظ. وإن حركة الرأس وإدمان النظر والزفرة بعد الوداع لهاتكة حجاب القلب، وموصلة إليه من الجزع بمقدار ما تفعل حركة الوجه في ضد هذا.
والإشارة بالعين والتبسم ومواطن الموافقة والوداع ينقسم قسمين، أحدهما لا يتمكن فيه إلا بالنظر والإشارة، والثاني يتمكن فيه بالعناق والملازمة، وربما لعله كان لا يمكن قبل ذلك البتة مع تجاور المحال وإمكان التلاقي، ولهذا تمنى بعض الشعراء البين ومدحوا يوم النوى، وما ذاك بحسن ولا بصواب ولا بالأصيل من الرأي، فما يفي سرور ساعة بحزن ساعات، فكيف إذا كان البين أياماً وشهوراً وربما أعواماً، وهذا سوء من النظر ومعوج من القياس، وإنما أثنيت على النوى في شعري تمنياً لرجوع يومها، فيكون في كل يوم لقاء ووداع. على أن تحمل مضض هذا الاسم الكريه، وذلك عند ما يمضي من الأيام التي لا التقاء فيها، يرغب المحب عن يوم الفراق لو أمكنه في كل يوم. وفي الصنف الأول من الوداع أقول شعراً، منه:

 

تنوب عن بهجة الأنوار بهجته

 

كما تنوب عن النيران أنفاسي

 

وفي الصنف الثاني من الوداع أقول شعراً، منه:

 

 

وجه تخر لـه الأنـوار سـاجـدة

 

والوجه تم فلم ينقـص ولـم يزد

دفء وشمس الضحى بالجدي نازلة

 

وبارد ناعم والشمس فـي الأسـد

 

ومنه:

 

يوم الفراق لعمـري لـسـت أكـرهـه

 

أصلان وإن شت شمل الروح عن جسدي

ففيه عانقـت مـن أهـوى بـلا جـزع

 

وكان من قبـلـه إن سـبـل لـم يجـد

أليس من عجب دمعـي وعـبـرتـهـا

 

يوم الوصال لـيوم الـبـين ذو حـسـد

 

وهل هجس في الأفكار أو قام في الظنون أشنع وأوجعمن هجر عتاب وقع بين محبين، ثم فجأتها النوى قبل حلول الصلح وانحلال عقدة الهجران، فقاما إلى الوداع وقد نسي العتاب، وجاء ما طم عن القوى وأطار الكرى وفيه أقول شعراً، منه:

 

وقد سقط العتب المقدم وامـحـى

 

وجاءت جيوش البين تجري وتسرع

وقد ذعر البين الصـدود فـراعـه

 

فولى فما يدري له اليوم موضـع

كذئب خلا بالصيد حتـى أضـلـه

 

هزبر له من جانب الغيل مطلـع

لئن سرني في طرده الهجر أننـي

 

لإبعاده عني الحبـيب لـمـوجـع

ولا بد عند الموت من بعض راحة

 

وفي غيها الموت الوحى المصرع

 

وأعرف من أتى ليودع محبوبه يوم الفراق فوجده قد فات، فوقف على آثاره ساعة وتردد في الموضع الذي كان فيه ثم انصرف كثيباً متغير اللون كاسف البال، فما كان بعد أيام قلائل حتى اعتل ومات رحمه الله. وإن للبين في إظهار السرائر المطوية عملاً عجباً، ولقد رأيت من كان حبه مكتوما وبما يجد فيه مستتراً حتى وقع حادث الفراق فباح المكنون وظهر الخفي. وفي ذلك أقول قطعة، منها:

 

بذلت من الود ما كان قـبـل

 

منعت وأعطيتنيه جـزافـاً

وما لي به حاجة عـنـد ذاك

 

ولو وجدت قبل بلغت الشفافا

وما ينفع الطب عند الحمـام

 

وينفع قبل الردى من تلافـا

 

وأقول:

 

الآن إذ حل الفراق جدت لي

 

بخفى حب كنت تبدي بخله

فزدتني في حسرتي أضعافها

 

ويحي فهلا كان هذا قبلـه

 

ولقد أذكرني هذا أني حظيت في بعض الأزمان بمودة رجل من وزراء السلطان أيام جاهه فأظهر بعض الإمتساك، فتركته حتى ذهبت أيامه وانقضت دولته، فأبدى لي من المودة والأخوة غير قليل، فقلت:

 

بذلت لي الإعراض والدهر مقبل

 

وتبذل لي الإقبال والدهر معرض

وتبسطني إذ ليس ينفع بسطـكـم

 

فهلا أبحت البسط إذ كنت تقبض

 

ثم بين الموت وهو الفوت، وهوى الذي لا يرجى له إياب، وهو المصيبة الحالة وهو قاصمة الظهر، وداهية الدهر، وهو الويل، وهو المغطى على ظلمة الليل، وهو قاطع كل رجاء، وماحي كل طمع والمؤيس من اللقاء. وهنا حادث الألسن؛ وانجذام حبل العلاج، فلا حيلة إلا الصبر طوعاً أو كرهاً. وهو أجل ما يبتلي به المحببون، فما لمن دعى به إلا النوح والبكاء إلى أن يتلف أو يمل، فهي القرحة التي لا تنكي، والوجع الذي لا يفنى، وهو الغم الذي يتجدد على قدر بلاء من اعتمدته، وفيه أقول:

 

كل بـين واقــع

 

فموجي لم يفـت

لا تعجل قـنـطـاً

 

لم يفت من لم يمت

والذي قد مات فال

 

يأس عنه قد ثبـت

 

وقد رأينا من عرض له هذا كثيراً. وعني أخبرك أني أحد من دهى بهذه الفادحة وتعدلت له هذه المصيبة، وذلك أني كنت أشد الناس كلفاً وأعظمهم حباً بجارية لي، كانت فيما خلا اسمها نعم. وكانت أمنية المتمني وغاية الحسن خلقاً وخلقاً وموافقة لي، وكنت أبا عذرها، وكنا قد تكافأنا المودة، ففجعتني بها لأقدار واحترمتها الليالي ومر النهر وصارت ثالثة التراب والأحجار. وسيء حين وفاتها دون العشرين سنة، وكانت هي دوني في السن، فلقد أقمت بعدها سبعة أشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة إسعادها.


وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الآن. ولو قبل فداء لفديتها بكل ما أملك من تالد وطارف وببعض أعضاء جسمي العزيزة علي مسارعاً طائعاً وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها. ولقد عفى حي لها على كل ما قبله، وحرم ما كان بعده. ومما قلت فيها.

 

مهذبة بيضاء كالشمس إن بدت

 

وسائر ربات الحجال نـجـوم

إطار هواها القلب عن مستقره

 

فبعد وقوع ظل وهـو يحـوم

 

ومن مرائي فيها قصيدة منها:

 

كأني لم آنسى بألفاظك التـي

 

على عقد الألباب هن نوافث

ولم ِأتحكم في الأماني كأننـي

 

لإفراط ما حكمت فيهن عابث

 

ومنها:

 

ويبدين إعراضـاً وهـن أوالـف

 

ويقسمن في هجري وهن حوانث

 

وأقول أيضاً في قصيدة أخاطب فيها ابن عمي أبو المغيرة عبد الوهاب أحمد ابن عبد الرحمن بن حزم بن غالب وأقرضه، فأقول:

 

قفا فاسألا الأطلال أين قطينها

 

أمرت عليها بالبلى الملـوان

على دارسات مقفرات عواطل

 

كأن المغاني في الخفاء معاني

 

واختلف الناس في أي الأمرين أشد: البين أم الهجر؟ وكلاهما مرتقى صعب ومرت أحمر وبلية سوداء وسنة شهباء. وكل يستبشع من هذين ما ضاد طبعه، فأما ذو النفس الأبية، الألوف الحنانة، الثابتة على العهد، فلا شيء يعدل عنده مصيبة البين، لأنه أتى قصداً، وتعمدته النوائب عمداً، فلا يجد شيئاً يسلى نفسه ولا يصرف فكرته في معنى من المعاني إلا وجد باعثاً على صبابته؛ ومحركاً لأشجانه، وعليه لا له، وحجة لوجوده. وخاضا على البكاء على إلفه. وأما الهجر فهو داعية السلو، ورائد الإقلاع.


وأما ذو النفس التواقة الكثيرة النزوع والتطلع، القلوق العزوف، فالهجر داؤه وجالب حتفه. والبين له مسلاة ومنساة. وأما أنا فالموت عندي أسهل من الفراق، وما الهجر إلا جالب للكمد فقط. ويوشك إن دام أن يحدث إضراراً، وفي ذلك أقول:

 

وقالوا ارتحل فلعل السـلـو

 

يكون وترغب أن ترغـبـه

فقلت الردي لي قبل السلـو

 

ومن يشرب السم عن تجربه

 

وأقول:

 

سبي مهجي هواه

 

وأودت بها نـواه

كأن الغرام ضيف

 

وروحي غدا قراه

 

ولقد رأيت من يستعمل هجر محبوبه ويتعمده خوفاً من مرارة يوم البين وما يحدث به من لوعة الأسف عند التفرق، وهذا وإن لم يكن عندي من المذاهب المرضية، فهو حجة قاطعة. على أن البين أصعب من الهجر، وكيف لا وفي الناس من يلوذ بالهجر خوفاً من البين، ولم أجد أحداً في الدنيا يلوذ بالبين خوفاً من الهجر، إنما يأخذ الناس أبداً الأسهل ويتكلفون الأهون. وإنما قلنا إنه ليس من المذاهب المحمودة لأن أصحابه قد استعجلوا البلاء قبل نزوله، وتجرعوا غصة الصبر قبل وقتها ولعل ما تخوفوه لا يكون وليس من يتعجل المكروه، وهو على غير يقين مما يتعجل، بحكيم، وفيه أقول شعراً، منه:

 

ليس الصب للصبابة بينـاً

 

لسي من جانب الأحبة منا

كغي العيش عيش فقـير

 

خوف نقرو نقره قداً مـا

 

وأذكر لابن عمي أبي المغيرة هذا المعنى، من أن البين أصعب من الصد، أبياتاً من قصيدة خاطبني بها وهو ابن سبعة عشر عاماً أو نحوها، وهي:

 

أجزعت أن أزف الرحـيل

 

وولهت أن نص الـذمـيل

كلا مـصـابـك فــادح

 

وأجل فراقـهـم جـلـيل

كذب الألى زعموا بأن الصد

 

مرتـعـــه وبـــيل

لم يعرفوا كنـه الـغـلـي

 

ل وقد تحملت الحـمـول

أمـا الـفـراق فـإنــه

 

للمـوت إن أهـوى دلـيل

 

ولي في هذا المعنى قصيدة مطولة، أولها:

 

لا مثل يومك ضحوة التـنـعـيم

 

في منظر حسن وفي تـنـغـيم

قد كان ذاك اليوم ندرة عـاقـر

 

وصواب خاطئة وولـد عـقـيم

أيام برق الوصل ليس بـخـلـب

 

عندي ولا روض الهوى بهشـيم

من كل غانية تـقـول ثـديهـا

 

سيرى أمامك والإزار أقـيمـى

كل يجاذبها فحـمـرة خـدهـا

 

خجل من التأخـير والـتـقـديم

ما بي سوى تلك العيون وليس في

 

برئي سواها في الورى بزعـيم

مثل الأفاعي ليس في شيء سوى

 

أجسادهـا إبـاء لـدغ سـلـيم

 

والبين أبكى الشعراء على المعاهد فأدروا على الرسوم الدموع، وسقوا الديار ماء الشوق، وتذكر ما قد سلف لهم فيها فأعولوا وانتخبوا، وأحيت الآثار دفين شوقهم فناحوا وبكوا. ولقد أخبرني بعض الوراد من قرطبة وقد استخبرته عنها، أنه رأى دورنا ببلاط مغيث، في الجانب الغربي منها وقد امحت رسومها، وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيرها البلى وصارت صحاري مجدبة بعد العمران، وقيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب منقطعة بعد الحسن، وشعاباً مفزعة بعد الأمن ومأوى للذئاب، ومعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش، بعد رجال كالليوث، وخرائد كالدمى تفيض لديهم النعم الفاشية. تبدد شملهم فصاروا في البلاد أيادي سبا، فكأن تلك المحارب المنمقة. والمقاصير المزينة، التي كانت تشرق إشراق الشمس، ويجلو الهموم حسن منظرها، حين شملها الخراب، وعمها الهدم، كأفواه السباع فاغرة، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب أهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل من تراه قائماً فيها. وتزهد في طلبها بعد أن طالما زهدت في تركها، وتذكرت أيامي بها ولذاتي فيها وشهور صباي لديها، مع كواعب إلى مثلهن صبا الحليم، ومثلت لنفسي كونهن تحت الثرى وفي الآثار النائية والنواحي البعيدة وقد فرقتهن يد الجلاء، ومزقتهن أكف النوى، وخيل إلى بصرى بقاء تلك النصبة بعد ما علمته من حسنها وغضارتها والمراتب المحكمة التي نشأت فيما لديها، وخلاء تلك الأفنية بعد تضايقها بأهلها، وأوهمت سمعي صوت الصدى والهام عليها، بعد حركة تلك الجماعات التي ربيت بينهم فيها، وكان ليلها تبعاً لنهارها في انتشار ساكنها والتقاء عمارها، فعاد نهارها تبعاً لليلها في الهدوء والاستيحاش، فأبكى عيني، وأوجع قلبي، وقرع صفاة كبدي، وزاد في بلاء لبي، فقلت شعراً منه:

 

لئن كان أظلمانا فقد طالما سقى

 

وإن ساءنا فيها فقد طالما سرا

 

والبين يولد الحنين والاهتياج والتذكر. وفي ذلك أقول:

 

ليت الغراب يعيد اليوم لي فعسى

 

يبين بينهم عني فـقـد وقـفـا

أقول والليل قد أرخى أجـلـتـه

 

وقد تألى بألا ينقضـي فـوفـى

وللنجم قد حار في أفق السماء فما

 

يمضي ولا هو للتغوير منصرفاً

تخاله مخطئاً أو خـائفـاً وجـلاً

 

أو راقباً موعداً أو عاشقاً دنـفـاً