الباب الخامس والعشرون: الـقـنـوع

ولا بد للمحب، إذا حرم الوصل، من القنوع بما يجد! وإن في ذلك لمتعللاً للنفس، وشغلاً للرجا، وتجديداً للمنى، وبعض الراحة. وهو مراتب على قدر الإصابة والتمكن.


فأولها الزيارة، وإنها لأمل من الآمال، ومن سرى ما يسنح في الدهر مع ما تبدى من الخفر والحياء، لما يعلمه كل واحد منها مما نفس صاحبه. وهي على وجهين: أحدهما أن يزور المحب محبوبه، وهذا الوجه واسع. والوجه الثاني أن يزور المحبوب محبه. ولكن لا سبيل إلى غير النظر والحديث الظاهر. وفي ذلك أقول:

 

فإن تنأ عني بـالـوصـال فـإنـنـي

 

سأرضى بلحظ العين إن لم يكن وصل

فحسبي أن ألقـاك فـي الـيوم مـرة

 

وما كنت أرضى ضعف ذامنك لي قبل

كذا همه الـوالـي تـكـون رفـيعة

 

ويرضى خلاص النفس إن وقع العزل

 

وأما رجع السلام والمخاطبة فأمل من الآمال، وإن كنت أنا أقول في قصيدة لي:

 

فها أنا ذا أخفي وأقنع راضـياً

 

برجع سلام إن تيسر في الحين

 

فإنما هذا لمن ينتقل من مرتبة إلى ما هو أدنى منها. وإنما يتفاضل المخلوقات في جميع الأوصاف على قدر إضافتها إلى ما هو فوقها أو دونها. وإني لأعلم من كان يقول لمحبوبه: عدني واكذب، قنوعاً بأن يسلى نفسه في وعده وإن كان غير صادق. فقلت في ذلك:

 

إن كان وصلك ليس فيه مطمع

 

والقرت ممنوع فعدني واكذب

فعسى التعلل بالتقائك ممسـك

 

لحياة قلب بالصدود مـعـذب

فلقد يسلى المجـدبـين إذا رأوا

 

في الأفق يلع ضوء برق خلب

 

وما يدخل في هذا الباب شيء رأيته ورآه غيري معي، أن رجلاً من إخواني جرحه من كان يحبه بمدية، فلقد رأيته وهو يقبل مكان الجرح ويندبه مرة بعد مرة. فقلت في ذلك:

 

يقولون شجك من همت فيه

 

فقلت لعمري ما شـجـى

ولكن أحس دمى قـربـه

 

فطار إلـيه ولـم ينـثـن

قافيا تلى ظلماً محـسـنـاً

 

فديتك من ظالم محـسـن

 

ومن القنوع أن يسر الإنسان ويرضى ببعض آلات محبوبه، وإن له من النفس لموقعاً حسناً وإن لم يكن فيه إلا ما نص الله تعالى علينا، ومن ارتداد يعقوب بصيراً حين شم قميص يوسف عليهما السلام، وفي ذلك أقول:

 

لما منعت القرب من سيدي

 

ولج في هجري ولم ينصف

صرت بإبصاري أثـوابـه

 

أو بعض ما قد مسه أكتفي

كذاك يعقوب نبي الـهـدى

 

إذ شفه الحزن على يوسف

شم قميصاً جاء من عـنـده

 

وكان مكفوفاً فمنه شفـي

 

وما رأيت قط متعاشقين إلا وهما يتهاديان خصل الشعر مبخرة بالعنبر مرشوشة بماء الورد، وقد جمعت في أصلها بالمصطكي وبالشمع الأبيض المصفى ولفت في تطاريف الوشي والخز وما أشبه ذلك لتكون تذكرة عند البين.


وأما تهادي المساويك بعد مضغها والمصطكي إثر استعمالها فكثير بين كل متحابين قد حظر عليهما اللقاء. وفي ذلك أقول قطعة منها:

 

أرى ريقها ماء الـحـياة تـيقـنـاً

 

على أنها لم تبق لي في الهوى حشى

 

خبر: وأخبرني بعض إخواني عن سليمان بن أحمد الشاعر أنه رأى ابن سهل الحاجب بجزيرة صقلبة، وذكر أنه كان غاية في الجمال، فشاهده يوماً في بعض المتنزهات ماشيا وامرأة خلفه تمشي إليه، فلما أبعد أتت إلى المكان الذي قد أثر فيه مشيه فجعلت تقبله وتلثم الأرض التي فيها أثر رجله. وفي ذلك أقول قطعة، أولها:

 

يلومونني في موطى خفه خـطـا

 

ولو علموا عاد الذي لام يحـسـد

فيأهل أرض لاتجود سحـابـهـا

 

خذوا بوصاتي تستقلوا وتحمـدوا

خذوا من تراب فيه موضع وطئه

 

وأضمن أن المحل عنكم يبـعـد

فكل تراب واقـع فـيه رجـلـه

 

فذاك صعيد طيب ليس يجـحـد

كذلك فعل السامـري وقـد بـدا

 

لعينيه من جبريل إثر مـمـجـد

فصير جوف العجل من ذلك الثرى

 

فقام له مـنـه خـوار مـمـدد

 

وأقول:

 

لقد بوركت أرض بها أنت قاطن

 

وبورك من فيها وحل بها السعد

فأحجارها در وسعداتـهـا ورد

 

وأموالها شهد وتربـتـهـا نـد

 

ومن القنوع الرضا مزار الطيف، وتسليم الخيال. وهذا إنما يحدث عن ذكر لا يفارق، وعهد لا يحول، وفكر لا ينقضي. فإذا نامت العيون وهدأت الحركات سرى الطيف. وفي ذلك أقول:

 

زار الخيال فتى طالت صبابـتـه

 

على احتفاظ من الحراس والحفظة

فبت في ليلتي جذلان مبتـهـجـا

 

ولذة الطيف تنسى لـذة الـيقـظة

 

وأقول:

 

أتى طيف نعم مضجعي بعد هـدأة

 

ولليل سلطـان وظـل مـمـدد

وعهدي بها تحت التراب مـقـيمة

 

وجاءت كما قد كنت من قبل أعهد

فعدنا كما كنـا وعـاد زمـانـنـا

 

كما قد عهدنا قبل والعود أحـمـد

 

وللشعراء في علة مزار الطيف أقاويل بديعة بعيدة المرمى، مخترعة، سبق إلى معنى من المعاني، فأبو إسحاق بن سيار النظام رأس المعتزلة جعل علته مزار الطيف خوف الأرواح من الرقيب المرقب، على بهاء الأبدان. وأبو تمام حبيب بن أوس الطائي جعل علته أن نكاح الطيف لا يفسد الحب ونكاح الحقيقة يفسده. والبحتري جعل علة إقباله استضاءته بنار وجده، وعلة زواله خوف الغرق في دموعه. وأنا أقول من غير أن أمثل شعري بأشعارهم، فلهم فضل التقدم والسابقة إنما نحن لاقطون وهم الحاصدون، ولكن اقتداء بهم وجريا في ميدانهم وتتبعاً لطريقتهم التي نهجوا وأوضحوا، أبياتاً بينت فيها مزار الطيف مقطعة:

 

أغار عليك من إدراك طـرفـي

 

وأشفق أن يذيبك لمس كـفـي

فأمتنع الـلـقـاء حـذار هـذا

 

وأعتمد التلاقي حـين أغـفـي

فروحي إن أنم بك ذو انـفـراد

 

من الأعضاء مستتر ومخـفـي

ووصل الروح ألطف فيك وقعـاً

 

من الجسم المواصل ألف ضعف

 

وحال المزور في المنام ينقسم أقساماً أربعة: أحدهما محب مهجور قد تطاول غمه، ثم رأى في هجعته أن حبيبه وصله فسر بذلك وابتهج، ثم استيقظ فأسف وتلهف حيث علم أن ما كان فيه أماني النفس وحديثها. وفي ذلك أقول:

 

أنت في مشرق النهار بخيل

 

وإذا الليل جن كنت كريماً

تجعل الشمس منك لي عوضا هي

 

هات ماذا الفعال منك قـويمـاً

زارني طيفك البـعـيد فـيأتـي

 

واصلاً لـي وعـائداً ونـديمـاً

غير أني منعتني من تمام العـي

 

ش لكن أبحت لي التشـمـيمـا

فكأني من أهل الأعراف لا الفر

 

دوس داري ولا أخاف الجحيمـا

 

والثاني محب مواصل مشفق من تغير يقع، قد رأى في وسنه أن حبيبه يهجره فاهتم لذلك هماً شديداً، ثم هب من نومه فعلم أن ذلك باطل وبعض وساوس الإشفاق: والثالث محب داني الديار يرى أن النتائي قد فدحه، فيكترث ويوجل ثم ينتبه فيذهب مابه ويعود فرحاً. وفي ذلك أقول قطعة، منها:

 

رأيتك في نومي كأنك راحـل

 

وقمنا إلى التوديع والدمع هامل

وزال للكرى عني وأنت معانقي

 

وغمي إذا عاينـت ذلـك زائل

فجددت تعنيقاً وضما كأنـنـي

 

عليك من البين المفرق واجـل

 

والرابع محب نائي المزار، يرى أن المزار قد دنا، والمنازل قد تصاقبت فيرتاح ويأنس إلى فقد الأسى، ثم يقوم من سنته فيرى أن ذلك غير صحيح، فيعود إلى أشد ما كان فيه من الغم، وقد جعلت في بعض قولي علة النوم والطمع في طيف الخيال، فقلت:

 

طاف الخيال على مستهتر كلف

 

لولا ارتقاب مزار الطيف لم ينم

لا تعجبوا إذ سرى والليل معتكر

 

فنوره مذهب في الأرض للظلم

 

ومن القنوع أن يقنع المحب بالنظر إلى الجدران ورؤية الحيطان التي تحتوي على من يحب، وقد رأينا من هذه صفته. ولقد حدثني ِأبو الوليد أحمد بن محمد ابن إسحاق الخازن رحمه الله عن رجل جليل، أنه حدث عن نفسه بمثل هذا ومن القنوع أن يرتاح المحب، إلى أن يرى من رأى محبوبه ويأنس به ومن أتى من بلاده، وهذا كثير. وفي ذلك أقول:

 

توحش من سكانه فكأنهم

 

مساكن عاد أعقبته ثمود

 

وما يدخل في هذا الباب أبيات لي، موجبها أني تنزهت أنا وجماعة من إخواني من أهل الأدب والشرف إلى بستان لرجل من أصحابنا، فجلنا ساعة ثم أفضى بنا القعود إلى مكان دونه يتمنى، فتمددنا في رياض أريضة، وأرض عريضة لبصر فيها منفسح، وللنفس لديها مسرح، بين جداول تطرد كأباريق اللجين وأطيار تغرد بألحان تزري بما أبدعه معبد، والغريض، وثمار مهدلة قد ذللت للأيدي ودنت للمتناول، وظلال مظلة تلاحظنا الشمس من بينها فنتصور بين أيدينا كرقاع الشطرنج والثياب المدبجة، وماء عذب يوجدك حقيقة طعم الحياة وأنهار متدفقة تنساب كبطون الحيات لها خرير يقوم ويهدأ، ونواوير مونقة مختلفة الألوان تصفقها الرياح الطيبة النسيم، وهواء سجسج، وأخلاق جلاس تفوق كل هذا، في يوم ربيع ذي شمس ظليلة، تارة يغطيها العيم الرقيق والمزن اللطيف، وتارة تتجلى، فهي كالعذراء الخفرة والخريدة الخجلة تتراءى لعاشقها من بين الأستار ثم تغيب فيها، حذر عين مراقبة. وكان بعضنا مطرقاً كأنه يحادث أخرى، وذلك لسر كان له فعرض لي بذلك، وتداعبنا حينا فكلفت أن أقول إلى لسانه شيئاً في ذلك، فقلت بديهة، وما كتبوها إلا من تذكرها بعد انصرافنا، وهي:

 

ولما تروحنا بـأكـنـاف روضة

 

مهدلة الأفنان في تربها النـدي

وقد ضحكت أنوارها وتضوعت

 

أساورها في ظل فيء مـمـدد

وأبدت لنا الأطيار حسن صريفها

 

فمن بين شاك شجوه ومـغـرد

وللماء فيما بيننـا مـتـصـرف

 

وللعين مرتاد هـنـاك ولـلـيد

وما شئت من أخلاق أروع ماجد

 

كريم السجايا للفخـار مـشـيد

تنغض عندي كل ما قد وصفتـه

 

ولم يهنني إذ غاب عني سـيدي

فيا ليتني في السجن وهو معانقي

 

وأنتم معاً في قصر دار المجدد

فمن رام منا أن يبـدل حـالـه

 

بحال أخيه أو بملـك مـخـلـد

فلا عاش إلا في شقاء ونـكـبة

 

ولا زال في بؤسي وخزي مردد

 

فقال هو ومن حضر: آمين آمين. وهذه الوجوه التي عددت وأوردت في حقائق القناعة هي الموجودة في أهل المودة، بلا تزيد ولا إعياء. وللشعراء فن من القنوع أرادوا فيه إظهار غرضهم وإبانة اقتدارهم على المعاني الغامضة والمرمى البعيدة، وكل قال على قدر قوة طبعه، إلا أنه تحكم باللسان وتشدق في الكلام واستطال بالبيان، وهو غير صحيح في الأصل: فمنهم من قنع بأن السماء تظله هو ومحبوبه والأرض تقلهما. ومنهم من قنع باستوائهما في إحاطة الليل والنهار بهما، وأشباه هذا: وكل مبادر إلى احتواء الغاية في الاستقصاء، وإحراز قصب السبق في التدقيق. ولي في هذا المعنى قول لا يمكن لمتعقب أن يجد بعده متناولاً، ولا وراءه مكاناً، مع تبيني علة قرب المسافة البعيدة، وهو:

 

وقالوا بعيد قلت حسبي بـأنـه

 

معي في زمان لا يطيق محيداً

تمر على الشمس مثل مرورها

 

به كل يوم يستـنـير جـديداً

فمن ليس بيني في المسير وبينه

 

سوى قطع يوم هل يكون بعيداً

وعلم إله الخلق يجمعنا مـعـاً

 

كفى ذا التداني ما أريد مزيداً

 

فبينت كما ترى أني قانع بالاجتماع مع من أحب في علم الله، الذي السموات والأفلاك والعوالم كلها وجميع الموجودات لا تنفصل منه ولا تتجزأ فيه ولا يشذ عنه منها شيء، ثم اقتصرت من علم الله تعالى على أنه في زمان، وهذا أعم مما قاله غيري في إحاطة الليل والنهار، وإن كان الظاهر واحداً في البادي إلي السامع؛ لأن كل المخلوقات واقعة تحت الزمان، وإنما الزمان اسم موضوع لمرور الساعات وقطع الفلك وحركاته وأجرامه، والليل والنهار متولدان عن طلوع الشمس وغروبها، وهما متناهيان في بعض العالم الأعلى، وليس هذا الزمان، فإنهما بعض الزمان، وإن كان لبعض الفلاسفة قول إن الظل متماد، فهذا يخطئه العيان، وعلل الرد عليه بينة ليس هذا موضعها، ثم بينت أنه وإن كان في أقصى المعمور من المشرق وأنا في أقصى المعمور من المغرب، وهذا طول السكنى، فليس بيني وبينه إلا مسافة يوم؛ إذ الشمس تبدو في أول النهار في أول المشارق وتغرب في آخر النهار في آخر المغارب.


ومن القنوع فصل أورده وأستعيذ بالله منه ومن أهله، واحمده على ما عرف نفوسنا من منافرته، وهو أن يضل العقل جملة، ويفسد القريحة، ويتلف التمييز ويهون الصعب، ويذهب الغيرة، ويعدم الأنفة، فيرضى الإنسان بالمشاركة فيمن يحب. وقد عرض هذا لقوم أعاذنا الله من البلاء. وهذا لا يصح إلا مع كلبية في الطبع، وسقوط من العقل الذي هو عيار على ما تحته، وضعف حس. ويؤيد هذا كله حب شديد معم. فإذا اجتمعت هذه الأشياء وتلاحقت بمزاج الطبائع ودخول بعضها في بعض نتج بينهما هذا الطبع الخسيس، وتولدت هذه الصفة الرذلة، وقام منها هذا الفعل المقذور القبيح، وأما رجل معه أقل همة وأيسر مروءة فهذا منه أبعد من الثريا ولو مات وجداً وتقطع حباً وفي ذلك أقول زارياً على بعض المسامحين في هذا الفصل:

 

رأيتك رحب الصدر ترضى بمـا أتـى

 

وأفضل شيء أن تلين وتـسـمـحـا

فحظك من بعض السواني مـفـضـل

 

على أن يحوز الملك من أصلها الرحى

وعضو بعير فيه في الوزن ضعف مـا

 

تقدره في الجدي فاعص الذي لـحـا

ولعب الذي تهوى بسيفين مـعـجـب

 

فكن ناحياً في نحوه كـيفـمـا نـحـا