الباب الثلاثون: فضـل التعفف

ومن أفضل ما يأتيه الإنسان في حبه التعفف، وترك ركوب المعصية والفاحشة، وألا يرغب عن مجازاة خالقه له بالنعيم في دار المقامة، وألا يعصي مولاه المتفضل عليه الذي جعل له مكاناً وأهلا لأمره ونهيه: وأرسل إليه رسله وجعل كلامه ثابتاً لديه، عناية منه بنا وإحساناً إلينا. وإن من هام قلبه وشغل باله واشتد شوقه وعظم وجده ثم ظفر فرام هواه أن يغلب عقله وشهوته، وأن يقهر دينه، ثم أقام العدل لنفسه حصناً، وعلم أنها النفس الأمارة بالسوء، وذكرها بعقاب الله تعالى وفكر في اجترائه على خالقه وهو يراه، وحذرها من يوم المعاذ والوقوف بين يدي الملك العزيز الشديد العقاب الرحمن الرحيم الذي لا يحتاج إلى بينة، ونظر بعين ضميره إلى انفراده عن كل مدافع بحضرة علام الغيوب (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات). (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً). يوم (وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خال من حمل ظلماً). يوم (ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً). يوم الطامة الكبرى، (يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى. وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى). واليوم الذي قال الله تعالى فيه: (وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً). عندها يقول العاصي: يا ويلتي! ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. فكيف بمن طوى قلبه على أحر من جمر الغضى. وطوى كشحه على أحد من السيف، وتجرع غصصاً أمر من الحنظل، وصرف نفسه كرهاً عما طمعت فيه وتيقنت ببلوغه وتهيأت له ولم يحل دونها حائل، لحرى أن يسر غداً يوم البعث ويكون من المقربين في دار الجزاء وعالم الخلود، وأن يأمن روعات القيامة وهول المطلع، وأن يعوضه الله من هذه القرحة الأمن يوم الحشر. حدثني أبو موسى هارون بن موسى الطبيب قال: رأيت شاباً حسن الوجه من أهل قرطبة قد تعبد ورفض الدنيا، وكان له أخ في الله قد سقطت بينهما مؤونة التحفظ، فزاره ذات ليلة وعزم على المبيت عنده، فعرضت لصاحب المنزل حاجة إلى بعض معارفه بالبعد عن منزله. فنهض لها على أن ينصرف مسرعاً. ونزل الشاب في داره مع امرأته، وكنت غاية الحسن وترباً للضيف في الصبى فأطال رب المنزل المقام إلى أن مشى العسس ولم يمكنه الانصراف إلى منزله، فلما علمت المرأة بفوات الوقت وأن زوجها لا يمكنه المجيء تلك الليلة تاقت نفسها إلى ذلك الفتى فبرزت إليه ودعته إلى نفسها، ولا ثالث لهما إلا الله عز وجل، فهم بها ثم ثاب إليه عقله وفكر في الله عز وجل فوضع إصبعه على السراج فتفقع ثم قال: يا نفس، ذوقي هذا وأين هذا من نار جهنم. فهال المرأة ما رأت، ثم عاودته فعاودته الشهوة المركبة في الإنسان فعاد إلى الفعلة الأولى. فانبلج الصباح وسبابته قد اصطمتها النار.

أفتظن بلغ هذا من نفسه هذا المبلغ إلا لفرط شهوة قد كلبت عليه؟ أو ترى أن الله تعالى يضيع له المقام؟ كلا إنه لأكرم من ذلك وأعلم.

ولقد حدثتني امرأة أثق بها أنها علقها فتى مثلها من الحسن وعلقته وشاع القول عليهما، فاجتمعا يوما خاليين فقال: هلمي نحقق ما يقال فينا. فقالت: لا والله لا كان هذا أبداً. وأنا أقرأ قول الله: (الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين). قالت: فما مضى قليل حتى اجتمعا حلال.

ولقد حدثني ثقة من إخواني أنه خلا يوماً بجارية كانت له مفاركة في الصبى، فتعرضت لبعض تلك المعاني، فقال لها: كلا. إن من شكر نعمة الله فيما منحى من وصالك الذي كان أقصى آمالي أن أجتنب هواي لأمره ولعمري إن هذا لغريب فيما خلا من الأزمان، فكيف في مثل هذا الزمان الذي قد ذهب خيره وأتى شره.

وما أقدر في هذه الأخبار - وهي صحيحة - إلا أحد وجهين لا شك فيهما: إما طبع قد مال إلى غير هذا الشأن واستحكمت معرفته بفضل سواه عليه فهو لا يجيب دواعي الغزل في كلمة ولا كلمتين ولا في يوم ولا يومين، ولو طال على هؤلاء الممتحنين ما امتحنوا به لجادت طباعهم وأجابوا هاتف الفتنة، ولكن الله عصمهم بانقطاع السبب المحرك نظراً لهم وعلماً بما في ضمائرهم من الاستعاذة به من القبائح، واستدعاء الرشد. لا إله إلا هو.

وإما بصيرة حضرت في ذلك الوقت، وخاطر تجرد أن قمعت به طوالع الشهوة في ذلك الحين، لخير أراد الله عز وجل لصاحبه. جعلنا الله ممن يخافه ويرجوه. آمين.

وحدثني أبو عبد الله محمد بن عمر وبن مضائ عن رجال من بني مروان ثقات يسندون الحديث إلى أبي العباس الوليد بن غانم أه ذكر أن الإمام عبد الرحمن ابن الحكم غاب في بعض غزواته شهوراً وثقف القصر بابنه محمد الذي ولى الخلافة بعده ورتبه في السطح وجعل مبيته ليلاً وقعوده نهاراً فيه، ولم يأذن له في الخروج البتة. ورتب معه في كل ليلة وزيراً من الوزراء وفتى من أكابر الفتيان يبيتان معه في السطح. قال أبو العباس: فأقام على ذلك مدة طويلة وبعد عهده بأهله وهو في سن العشرين أو نحوها، إلى أن وافق مبيتي في ليلتي نوبة فتى من أكابر الفتيان، وكان صغيراً في سنه وغاية في حسن وجهه. قال أبو العباس: فقلت في نفسي: إني أخشى الليلة على محمد بن عبد الرحمن الهلاك بمواقعه المعصية وتزين إبليس وأتباعه له قال: ثم أخذت مضجعي في السطح الخارج ومحمد في السطح الداخل المطل على حرم أمير المؤمنين، والفتى في الطرف الثاني القريب من المطلع فظلت أرقبه ولا أغفل وهو يظن أني قد نمت ولا يشعر باطلاعي عليه. قال: فلما مضى هزيع من الليل رأيته قد قام واستوى قاعداً ساعة لطيفة ثم تعوذ من الشيطان ورجع إلى منامه. ثم قام بعد حين ولبس قميصه واستوفز ثم نزعه عن نفسه وعاد إلى منامه. ثم قام الثالثة ولبس قميصه ودلى رجليه من السرير وبقي كذلك ساعة ثم نادى الفتى باسمه فأجابه، فقال له: انزل عن السطح وابق في الفصيل الذي تحته. فقام الفتى مؤتمراً له. فلما نزل قام محمد وأغلق الباب من داخله وعاد إلى سريره. قال أبو العباس: فعلمت من ذلك الوقت ن الله فيه مراد خير. حدثنا أحمد بن محمد بن الجسور عن أحمد بن مطرف عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه عن مالك عن حبيب بن عبد الرحمن الأنصاري عن حفص بن عاصم عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل؛ وشاب نشأ في عبادة الله عز وجل؛ ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه؛ ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا، ورجل ذكر اله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق صدقة فأخفى حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).

وإني أذكر أني دعيت إلى مجلس فيه بعض من تستحسن الأبصار صورته وتألف القلوب أخلاقه، للحديث والمجالسة دون منكر ولا مكروه، فسارعت إليه وكان هذا سحراً. فبعد أن صليت الصبح وأخذت زيي طرقني فكر فسنحت لي أبيات، ومعي رجل من إخواني فقال لي: ما هذا الإطراق؟ فلم أجبه حتى أكملتها، ثم كتبتها ودفعتها إليه وأمسكت عن المسير حيث كنت نويت. ومن الأبيات:

أراقك حسن غيبـه لـك تـأريق

 

وتبريد توصل سره فيك تحريق

وقرب مزار يقتضي لك فـرقة

 

وشكا ولولا القرب لم يك تفريق

ولذة طعم معقب لك علـقـمـاً

 

وصاباً وفسح في تضاعيفه ضيق

 

ولو لم يكن جزاء ولا عقاب ولا ثواب لوجب علينا إفناء الأعمار وإتعاب الأبدان وإجهاد الطاقة واستناد الوسع واستفراغ القوة في شكر الخالق الذي ابتدأنا بالنعم قبل استئقالها، وأمتن علينا بالعقل الذي به عرفناه، ووهبنا الحواس والعلم والمعرفة ودقائق الصناعات، وصرف لنا السموات جارية بمنافعها، ودبرنا التدبير الذي لو ملكنا خلقنا لم نهتد إليه، ولا نظرنا لأنفسنا نظره لنا، وفضلنا على أكثر المخلوقات، وجعلنا مستودع كلامه ومستقر دينه، وخلق لنا الجنة دون أن نستحقها، ثم لم يرضى لعباده أن يدخلوها إلا بأعمالهم لتكون واجبة لهم: قال الله تعالى: (جزاء بما كانوا يعملون). رشدنا إلى سبيلها وكصرنا وجه ظلها، وجعل غاية إحسانه إلينا وامتنانه علينا حقاً من حقوقنا قبله، وديناً لازماً له، وشكرنا على ما أعطانا من الطاعة التي رزقنا قواها، وأثابنا بفضله على تفضله.


وهذا كرم لا تهتدي إليه العقول، ولا يمكن أن تكيفه الألباب. ومن عرف ربه ومقدار رضاه وسخطه هانت عنده اللذات الذاهية والحطام الفاني، فكيف وقد أتى من وعيده ما تقشعر اسماعه الأجساد، وتذوب له النفوس، وأورد علينا من عذابه ما لم ينته إليه أمل فأين المذهب عن طاعة هذا الملك الكريم، وما الرغبة في لذة ذاهية لا تذهب الندامة عنها، ولا تفنى التباعة منها، ولا يزول الخزي عن راكبها، وإلى كم هذا التمادي وقد أسمعنا المتادى، وكأن قد حدا بنا الحادي إلى دار القرار، فإما إلى جنة وإما إلى نار، ألا إن التثبط في هذا المكان لهو الضلال المبين، وفي ذلك أقول:

 

أقصر عن لهوه وعن طربـه

 

وعف في حبه وفي عربـه

فليس شرب المدام هـمـتـه

 

ولا اقتناص الظباء من أربـه

قد آن للقلـب أن يفـيق وأن

 

يزيل ما قد علاه من حجبـه

ألهاه عما عهدت يعـجـبـه

 

خيفة يوم تبلى السـرائر بـه

يا نفس جدي وشمري ودعـي

 

عنك ابتاع الهوى على لغبـه

وسارعي في النجاة واجتهدي

 

ساعية في الخلاص من كربه

علي أحظى بالفوز فـيه وأن

 

أنجو من ضيقه ومن لهـبـه

يأبها اللاعب المجـد بـه ال

 

دهر أما تتقي شبا نـكـبـه

كفاك من كل ما وعظت بـه

 

ما قد أراك الزمان من عجبه

دع عنك داراً نفنى غضارتهـا

 

ومكسباً لا عباً بمكتـسـبـه

لم يضطرب في محلها أحـد

 

إلا نبا حدها بمضـطـربـه

من عرف الله حق مـعـرفة

 

لوى وحل الفؤاد في رهبـه

ما منقضى الملك مثل خالـده

 

ولا صحيح التقى كمؤتشبـه

ولا تقي الورى كفاسـقـهـم

 

وليس صدق الكلام من كذبه

فلو أمنا من العـقـاب ولـم

 

نخشى من الله متقى غضبـه

ولم نخف ناره التي خلـقـت

 

لكل جاني الكلام محتقـبـه

لكان فرضا لـزوم طـاعـتـه

 

ورد وفد الهوى على عقـبـه

وصحة الزهد في البـقـاء وأن

 

يلحق تفنيدنـا بـمـرتـقـبـه

فقد رأينا فعـل الـزمـان بـأه

 

له كفعل الشواظ في حطـبـه

كم متعب في الإله مهـجـتـه

 

راحته في الكريه من تعـبـه

وطالب باجتـهـاده زهـر ال

 

دنيا عداه المنون عن طـلـبـه

ومدرك ما ابتـغـاه ذي جـدل

 

حل به ما يخاف من سـبـبـه

وباحث جـاهـد لـبـغـيتـه

 

فإنما بحثه عـلـى عـطـبـه

بينا ترى المرء سامياً مـلـكـا

 

صار إلى السفل من ذرى رتبه

كالزرع للرجل فوقـه عـمـل

 

أن ينم حسن النمو في قصبـه

كم قاطع نفسه أسـى وشـجـاً

 

في إثر جد يجد فـي هـربـه

أليس في ذاك زاجـر عـجـب

 

يزيد ذا اللب في حلـى أدبـه

فكيف والنار لـلـمـسـيء إذا

 

عاج عن المستقيم من عقـبـه

ويوم عرض الحساب يفضحه ال

 

له ويبدي الخفـى مـن ريبـه

من قد حباه الإلـه رحـمـتـه

 

موصولة بالمزيد من نـشـبـه

فصار من جهله يصـرفـهـا

 

فيما نهى الله عنه في كتـبـه

أليس هذا أحرى العـبـاد غـداً

 

بالوقع في ويله وفي حـربـه

شكراً لرب لـطـيف قـدرتـه

 

فينا كحبل الوريد في كـثـبـه

رازق أهل الزمان أجمعـهـم

 

من كان من عجمه ومن عربه

والحمد لله فـي تـفـضـلـه

 

وقمعه للزمـان فـي نـوبـه

أخدمنا الأرض والسمـاء ومـن

 

في الجو من مائه ومن شهبـه

فاسمع ودع من عصاه نـاحـية

 

لا يحمل الحمل غير محتطبـه

وأقول أيضاً:

أعارتك دنيا مـسـتـرد مـعـارهـا

 

غضارة عيش سوف يذوي اخضرارها

وهل يتمنى المحـكـم الـرأي عـيشة

 

وقد حان من دهم المنـايا مـزارهـا

وكيف تلذ الـعـين هـجـعة سـاعة

 

وقد طال فيما عاينته اعـتـبـارهـا

وكيف تقر النفـس فـي دار ثـقـلة

 

قد استيقنت أن ليس فيهـا قـرارهـا

وأتى له في الأرض خاطـر فـكـرة

 

ولم تدر بعد الموت أين مـحـارهـا

أليس لها في السعي للفـوز شـاغـل

 

أما في توفيها العـذاب ازدجـارهـا

فخابت نفوس قـادهـا لـهـو سـاعة

 

إلى حر نار ليس يطـفـي أوارهـا

لهـا سـائق حـاد حـثـيث مـبـادر

 

إلى غير ما أضحى إلـيه مـدارهـا

تراد لأمر وهـي تـطـلـب غـيره

 

وتقصد وجهاً في سـواه سـفـارهـا

أمسـرعة فـيمـا يسـوء قـيامـهـا

 

وقد أيقنت أ، العـذاب قـصـارهـا

تعطل مفروضاً وتعـنـي بـفـضـلة

 

لقد شفها طغيانـهـا واغـتـرارهـا

إلى ما لها منه البـلاء سـكـونـهـا

 

وعما لها منه النـجـاح نـفـارهـا

وتعرض عن رب دعاها لـرشـدهـا

 

وتتبع دنيا جـد عـنـهـا مـرارهـا

فيأيها الـمـغـرور بـادر بـرجـعة

 

فلله دار لـيس تـخـمـد نـارهـا

ولا تـتـخـير فـانـياً دون خـالـد

 

دليل على محض العقول اختـيارهـا

أتعلم أن الـحـق فـيمـا تـركـتـه

 

وتسلك سبلاً ليس يخفـى عـوارهـا

وتترك بيضـاء الـمـنـاهـج ضـلة

 

لبهماء يؤذي الرجل فيها عـثـارهـا

تسر بـلـهـو مـعـقـب بـنـدامة

 

إذا ما انقضى لا ينقص مستثـارهـا

وتفنى الليالي والمـسـرات كـلـهـا

 

وتبقى تباعات الـذنـوب وعـارهـا

فهل أنت يا مغبون مستـيقـظ فـقـد

 

تبين من سر الخطوب استـتـارهـا

فعجل إلى رضوان ربك واجـتـنـب

 

نواهيه إذ قد تـجـلـي مـنـارهـا

يجد مرور الدهر عـنـك بـلاعـب

 

وتغرى بدنيا سـاء فـيك سـرارهـا

فكم أمة قد غرها الدهـر قـبـلـنـا

 

وهاتيك منهـا مـقـفـرات ديارهـا

تذكر على ما قد مضى واعتـبـر بـه

 

فإن المذكي للعقـول اعـتـبـارهـا

تحامى ذرها كـل بـاغ وطـالـب

 

وكان ضماناً في الأعادي انتصارها

توافت ببطن الأرض وانشت شملهـا

 

وعاد إلى ذي ملكه اسـتـعـارهـا

وكم راقد في غفـلة عـن مـنـية

 

مشمرة في القصد وهو سعـارهـا

ومظلمة قد نـالـهـا مـتـسـلـط

 

مدلي بأيد عند ذي العرش ثـارهـا

أراك إذا حاولـت دنـياك سـاعـياً

 

على أنـهـا بـاد إلـيك أزوارهـا

وفي طاعة الرحمن يقعدك الـونـى

 

وتبدي أناة لا يصـح اعـتـذارهـا

تحاذر إخواناً ستفنى وتـنـقـضـي

 

وتنسى التي فرض عليك حذارهـا

كأني أرى منك التـبـرم ظـاهـراً

 

مبيناً إذا الأقدار حل اضطـرارهـا

هناك يقول المرء من لي بأعـصـر

 

مضت كان ملكاً في يدي خـيارهـا

تنـبـه لـيوم قـد أظـلــك ورده

 

عصيب يوافي النفس فيها احتضارها

تبرأ فيه مـنـك كـل مـخـالـط

 

وإن من الآمال فـيه انـهـيارهـا

فأودعت في ظلماء ضنك مقـرهـا

 

يلوح عليها للعـيون إغـبـرارهـا

تنادي فلا تدري المنـادي مـفـرداً

 

وقد حط عن وجه الحياة خمـارهـا

تنـادي إلـى يوم شـديد مـفــزع

 

وساعة حشر ليس يخفى اشتهارهـا

إذا حشرت فيه الوحوش وجمـعـت

 

صحائفنا وإنثال فينا انـتـثـارهـا

وزينت الجـنـات فـيه وأزلـفـت

 

وأذكى من نار الجحيم استعـارهـا

وكورت الشمس المنيرة بالضـحـى

 

وأسرع من زهر النجوم إنكدارهـا

لقد جل أمر كان منه انتـظـامـهـا

 

وقد حل أمر كان منه انتـثـارهـا

وسيرت الأجبـال والأرض بـدلـت

 

وقد عطلت من مالكيها عشـارهـا

فإما لدار ليس يفنـى نـعـيمـهـا

 

وإمـا لـدار لا يفـك إسـارهــا

بحضرة جبـار رفـيق مـعـاقـب

 

فتحصى المعاصي كبرها وصغارها

ويندم يوم البعث جاني صـغـارهـا

 

وتهلك أهليها هـنـاك كـبـارهـا

ستغبط أجساد وتحـيا نـفـوسـهـا

 

إذا ما ستوى إسرارها وجهـارهـا

إذا حفهم عفـو الإلـه وفـضـلـه

 

وأسكنهم داراً حـلالاً عـقـارهـا

سيلحقهم أهل الفسوق إذا اسـتـوى

 

بجلبة سبق طرفهـا وحـمـارهـا

يفر بنو الدنـيا بـدنـياهـم الـتـي

 

يظن على أهل الحظوظ اقتصارهـا

هي الأم خير البر فيها عقـوقـهـا

 

وليس بغير البذل يحمى ذمـارهـا

فما نال منها الحظ إلا مـهـينـهـا

 

وما الهلك إلا قربها واعتـمـارهـا

تهافت فيها طامع بـعـد طـامـع

 

وقد بان للب الذكي اخـتـبـارهـا

تطامن لغمر الحادثـات ولا تـكـن

 

لها ذا اعتمار يجتنبك غـمـارهـا

وإياك أن تغتر منهـا بـمـا تـرى

 

فقد صح في العقل الجلي عيارهـا

رأيت ملوك الأرض يبـغـون هـدة

 

ولذة نفس يستطـاب اجـتـرارهـا

وخلوا طريق القصد في مبتغاتـهـم

 

لمتبعه الصفار جـم صـغـارهـا

وإن التي يبـغـون نـهـج بـقـية

 

مكين لطلاب الخلاص اختصارهـا

هل العز إلا همة صح صـونـهـا

 

إذا صان همات الرجال انكسارهـا

وهـل رايح إلا امـرؤ مـتـوكـل

 

قنوع غني النفـس بـاد وقـارهـا

ويلقى ولاة الملك خوفـاً وفـكـرة

 

تضيق بها ذرعاً ويفنى اصطبارهـا

عياناً ترى هـذا ولـكـن سـكـرة

 

أحاطت بنا ما إن يفيق خـمـارهـا

قد برهن الباني على الأرض سقفهـا

 

وفي علمه معمورها وقـفـارهـا

ومن يمسك الأجرام والأرض أمـره

 

بلا عمد يبنـي عـلـيه قـرارهـا

ومن قدر التدبير فيهـا بـحـكـمة

 

فصح لديها لـيلـهـا ونـهـارهـا

ومن فتق الأمواه في صفح وجههـا

 

فمنها يغذي حبـهـا وثـمـارهـا

ومن صير الألوان في نور نبـتـهـا

 

فأشرق فيها وردهـا وبـهـارهـا

فمنهن مخضر يروق بـصـيصـه

 

ومنهن ما يغشى اللحاظ احمرارها

 

ومن حفر الأنهار دون تـكـلـف

 

فصار من الصم الصلاب انفجارها

 

ومن رتب الشمس المنير أبيضاضها

 

غدوا ويبدو بالعشي اصفـرارهـا

 

ومن خلق الأفلاك فامند جـريهـا

 

وأحكمها حتى استقـام مـدارهـا

 

ومن إن ألمت بالـعـقـول رزية

 

فلس إلى حي سواه افتـقـارهـا

 

تجد كل هذا راجع نحـو خـالـق

 

له ملكها منقـادة وائتـمـارهـا

 

أبـان لـنـا الآيات فـي أنـبـيائه

 

فأمكن بعد العجز فيها اقـتـداهـا

 

فأنطق أفواهاً بألـفـاظ حـكـمة

 

وما حلها إثغارهـا وأتـغـارهـا

 

وأبرز من صم الحـجـارة نـاقة

 

وأسمعهم في الحين منها حوارهـا

 

ليوقن أقوام وتـكـفـر عـصـبة

 

أتاها بأسباب الهـلاك قـدارهـا

 

بوشق لموسى البحر دون تكـلـف

 

وبان من الأمواج فيه انحسارهـا

 

وسلم من نار الأونـوق خـلـيلـه

 

فلم يؤذه إحراقها واعـتـرارهـا

 

ونجى من الطوفان نوحاً وقد هدت

 

به أمة أبدى الفسـوق شـرارهـا

 

ومـكـن داوداً بـأيد وابـنـــه

 

فتعسيرها ملقـى لـه وبـدارهـا

 

وذلـل جـبـار الـبـلاد لأمـره

 

وعلم من طير السماء حـوارهـا

 

وفضل بـالـقـرآن أمة أحـمـد

 

ومكن في أقصى البلاد مغارهـا

 

وشق له بدر السـمـاء وخـصـه

 

بآيات حق لا يخـل مـعـارهـا

 

وأنقذنا من كفـر أربـابـنـا بـه

 

وكان على قطب الهلاك منارهـا

 

فما بالنا لا نترك الـجـل ويحـنـا

 

لنسلم من نار ترامـى شـرارهـا

 

             

 

هنا أعزك الله انتهى ما تذكرته إيجاباً لك، وتقمناً لمسرتك، ووقوفاً عند أمرك. ولم أمتنع أن أورد لك في هذه الرسالة أشياء يذكرها الشعراء ويكثرون القول فيها، موفيات على وجوهها، ومفردات في أبوابها، ومنعمات التفسير، مثل الإفراط في صفة النحول وتشبيه الدموع بالأمطار وأنها تروي السفار وعدم النوم البتة، وانقطاع الغذاء جملة، إلا أنها أشياء لا حقيقة لها، وكذب لا وجه له ولكل شيء حد، وقد جعل الله لكل شيء قدراً. والنحول قد يعظم ولو صار حيث يصفونه لكان تفي قوام الذرة أو دونها، ولخرج عن حد المعقول. والسهر قد يتصل ليالي، ولكن لو عدم الغذاء أسبوعين لهلك. وإنما قلنا أن الصبر عن النوم أقل من الصبر عن الطعام؛ لإن النوم غذاء الروح والطعام غذاء الجسد، وإن كانا يشتركان في كليهما ولكنا حكينا على الأغلب. وأما الماء فقد رأيت أن ميسوراً البناء جارنا بقرطبة يصبر عن الماء أسبوعين في حمارة القيظ ويكتفي بما في غذائه من رطوبة.


وحدثني القاضي أبو عبد الرحمن بن جحاف أنه كان يعرف من كان لا يشرب الماء شهراً.


وإنما اقتصرت في رسالتي على الحقائق المعلومة التي لا يمكن وجود سواها أصلا، وعلى أني قد أوردت من هذه الوجوه المذكورة أشياء كثيرة يكتفى بها لئلا أخرج عن طريقة أهل الشعر ومذهبهم، وسيرى كثير من إخوننا أخباراً لهم في هذه الرسالة مكنياً فيها من أسمائهم على ما شرطنا في ابتدائها. وأنا أستغفر الله تعالى مما يكتب الملكان ويحصيه الرقيبان من هذا وشبهه، استغفار من يعلم أن كلامه من عمله. ولكنه إن لم يكن من اللغو الذي لا يؤاخذ به المرء فهو إن شاء الله من اللمم المعفو، وإلا فليس من السيئات والفواحش التي يتوقع عليها العذاب. وعلى كل حال فليس من الكبائر التي ورد النص فيها.


وأنا أعلم أنه سينكر على بعض المتعصبين على تأليفي لمثل هذا ويقول: إنه خالف طريقته، وتجافى عن وجهته، وما أحل لأحد أن يظن في غير ما قصدته، قال الله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم).


وحدثني أحمد بن محمد بن الجسوري، ثنا ابن أبي دليم، ثنا ابن وضاح عن يحيى ابن مالك بن أبي أنس عن أبي الزبير المكي عن أبي شريح الكعبي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والظن فإنه أكذب الكذب). وبه إلى مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).


وحدثني صاحبي أبو بكر محمد بن إسحاق، ثنا عبد اله بن يوسف الأزدي، ثنا يحيى بن عائذ، ثنا أبو عدي عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحاق بن الفرج الإمام بمصر، ثنا أبو علي الحسن بن قاسم بن دحيم المصري، ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا أبو العباس، ثنا أبو بكر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس ثماني عشر كلمة من الحكمة منها: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك على ما يغلبك عليه.


ولا تظن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً: فهذا أعزك الله أدب الله وأدب رسوله صلى الله عليه وسلم وأدب أمير المؤمنين وبالجملة فإني لا أقول بالمراياة ولا أنسك نسكاً أعجمياً. ومن أدى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهى عنها، ولم ينسى الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله.


والكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب، وإن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت لمثل خاطري لعجب على ما مضى ودهمني. فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار. والخلاء عن الأوطان وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا. وإن الذي أبقى لأكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم من الذي تحيف. ومواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا لا تحد. ولا يؤدي شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه، وإليه منقلبنا، وكل عارية فراجعة إلى معيرها. وله الحمد أولا وآخراً وعوداً وبدءا وأنا أقول:

 

جعلت اليأس لي حصناً ودرعاً

 

فلم أليس ثياب المستـضـام

وأكثر من جميع الناس عندي

 

يسير صـائنـي دون الأنـام

إذا ما صح لي ديني وعرضي

 

فلست لما تولى ذا اهتـمـام

تولى الأمس والغد لست أدري

 

أأدركه ففيما ذا اغـتـمـام

 

جعلنا الله وإياك من الصابرين الشكرين الحامدين الذاكرين. آمين آمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً. وبه إلى مالك عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن الأعرج عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت).


وحدثني صاحبي أبو بكر محمد بن إسحاق، ثنا عبد اله بن يوسف الأزدي، ثنا يحيى بن عائذ، ثنا أبو عدي عبد العزيز بن علي بن محمد بن إسحاق بن الفرج الإمام بمصر، ثنا أبو علي الحسن بن قاسم بن دحيم المصري، ثنا محمد بن زكريا الغلابي، ثنا أبو العباس، ثنا أبو بكر عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه قال: وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه للناس ثماني عشر كلمة من الحكمة منها: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك على ما يغلبك عليه.


ولا تظن بكلمة خرجت من في امرئ مسلم شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً: فهذا أعزك الله أدب الله وأدب رسوله صلى الله عليه وسلم وأدب أمير المؤمنين وبالجملة فإني لا أقول بالمراياة ولا أنسك نسكاً أعجمياً. ومن أدى الفرائض المأمور بها، واجتنب المحارم المنهى عنها، ولم ينسى الفضل فيما بينه وبين الناس فقد وقع عليه اسم الإحسان، ودعني مما سوى ذلك وحسبي الله.


والكلام في مثل هذا إنما هو مع خلاء الذرع وفراغ القلب، وإن حفظ شيء وبقاء رسم وتذكر فائت لمثل خاطري لعجب على ما مضى ودهمني. فأنت تعلم أن ذهني متقلب وبالي مهصر بما نحن فيه من نبو الديار. والخلاء عن الأوطان وتغير الزمان، ونكبات السلطان، وتغير الإخوان، وفساد الأحوال، وتبدل الأيام، وذهاب الوفر، والخروج عن الطارف والتالد، واقتطاع مكاسب الآباء والأجداد، والغربة في البلاد، وذهاب المال والجاه، والفكر في صيانة الأهل والولد واليأس عن الرجوع إلى موضع الأهل، ومدافعة الدهر، وانتظار الأقدار لا جعلنا الله من الشاكين إلا إليه، وأعادنا إلى أفضل ما عودنا. وإن الذي أبقى لأكثر مما أخذ، والذي ترك أعظم من الذي تحيف. ومواهبه المحيطة بنا ونعمه التي غمرتنا لا تحد. ولا يؤدي شكرها، والكل منحه وعطاياه، ولا حكم لنا في أنفسنا ونحن منه، وإليه منقلبنا، وكل عارية فراجعة إلى معيرها. وله الحمد أولا وآخراً وعوداً وبدءا وأنا أقول:

 

جعلت اليأس لي حصناً ودرعاً

 

فلم أليس ثياب المستـضـام

وأكثر من جميع الناس عندي

 

يسير صـائنـي دون الأنـام

إذا ما صح لي ديني وعرضي

 

فلست لما تولى ذا اهتـمـام

تولى الأمس والغد لست أدري

 

أأدركه ففيما ذا اغـتـمـام

جعلنا الله وإياك من الصابرين الشكرين الحامدين الذاكرين. آمين آمين والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً.