الجزء الأول - باب مختصر جامع في ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة الحق

في كل ما اختلف فيه الناس وكيفية إقامتها

قال أبو محمد رضي الله عنه هذا باب قد أحكمناه في كتابنا الموسوم بالتقريب في حدود الكلام وتقصيناه هنالك غاية التقصي والحمد لله رب العالمين إلا أننا نذكر ههنا جملة كافية فيه لتكون مقدمة لما يأتي بعده مما اختلف الناس فيه يرجع إليها إن شاء الله تعالى‏.‏

فنقول وبالله التوفيق إن الإنسان يخرج إلى هذا العالم ونفسه قد ذهب ذكرها جملة في قول من يقول أنها كانت قبل ذلك ذاكرة أولاً ذكر لها البتة في قول من يقول أنها حدثت حينئذ أو أنها مزاج عرض إلا أنه قد حصل أنه لا ذكر للطفل حين ولادته ولا تمييز إلا ما لسائر الحيوان من الحس والحركة الإرادية فقط فتراه يقبض رجليه ويمدهما ويقلب أعضاءه حسب طاقته ويألم إذا أحس البرد أو الحر أو الجوع وإذا ضرب أو قرص وله سوى ذلك مما يشاركه فيه الحيوان والنوامي مما ليس حيواناً من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه ولنمائه فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه من سائر الأعضاء بفمه دون سائر أعضائه كما تأخذ عروق الشجر والنبات رطوبات الأرض والماء لبقاء أجسامها على ما هي عليه ولنمائها‏.‏

فإذا قويت النفس على قول من يقول أنها مزاج أو أنها حدثت حينئذ أو أخذت يعاودها ذكرها وتمييزها في قول من يقول أنها كانت ذاكرة قبل ذلك وأنها كالمفيق من مرض فأول ما يحدث لها من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان فهم ما أدركت بحواسها الخمس‏.‏

كعلمها أن الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها والرائحة الرديئة منافرة لطبعها‏.‏

وكعلمها أن الأحمر مخالف للأخضر والأصفر والأبيض والأسود‏.‏

وكالفرق بين الخشن والأملس المكتنز والمتهيل واللزج والحار والبارد والدفي‏.‏

وكالفرق بين الحلو والحامض والمر والمالح والعفص والزاعق والتفه والعذب والحريف‏.‏

وكالفرق بين الصوت الحاد والغليظ والرقيق والمطرب والمفزع‏.‏

قال أبو محمد فهذه إدراكات الحواس لمحسوساتها والإدراك السادس علمها بالبديهيات‏.‏

فمن ذلك علمها بأن الجزء أقل من الكل فإن الصبي الصغير في أول تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى وإذا زدته ثالثة سر وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء وإن كان لا ينتبه لتحديد ما يعرف من ذلك ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادان فإنك إذا وقفته قسراً بكى ونزع إلى القعود علماً منه بأنه لا يكون قائماً قاعداً معاً‏.‏

ومن ذلك علمه بأن لا يكون جسم واحد في مكانين فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسراً بكى وقال كلاماً معناه دعني أذهب علماً منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد‏.‏

ومن ذلك علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد فإنك تراه ينازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه علماً منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه إذ يعلم أن مادام في المكان ما يشغله فإنه لا يسعه وهو فيه‏.‏

وإذا قلت له ناولني ما في هذا الحائط وكان لا يدركه قال لست أدركه وهذا علم منه بأن الطويل زائد على مقدار ما هو أقصر منه وتراه يمشي إلى الشيء الذي يريد ليصل إليه وهذا علم منه بأن ذا النهاية يحصر ويقطع بالعدو وإن لم يحسن العبارة بتحديد ما يدري من ذلك‏.‏
ومنها علمه بأنه لا يعلم الغيب أحد وذلك أنه إذا سألته عن شيءٍ لا يعرفه أنكر ذلك وقال لا أدري‏.‏

ومنها فرقة بين الحق والباطل فإنه إذا أخبر بخبر تجده في بعض الأوقات لا يصدقه حتى إذا تظاهر عنده بمخبر آخر وآخر صدقه وسكن إلى ذلك‏.‏

ومنها علمه بأنه لا يكون شيءٌ إلا في زمان فإنك إذا ذكرت له أمراً ما قال متى كان وإذا قلت له لم تفعل كذا وكذا قال ما كنت أفعله وهذا علم منه بأنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في زمان‏.‏

ويعرف أن للأشياء طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها فتراه إذا رأى شيئاً لا يعرفه قال أي شيء هذا فإذا شرح له سكت‏.‏
ومنها علمه بأنه لا يكون فعل إلا لفاعل فإنه إذا رأى شيئاً قال من عمل هذا ولا يقنع البتة بأنه انعمل دون عامل وإذا رأى بيد آخر شيئاً قال من أعطاك هذا‏.‏

ومنها معرفته بأنه في الخبر صدقاً وكذباً فتراه يكذب بعض ما يخبر به ويصدق بعضه ويتوقف في بعضه هذا كله مشاهد من جميع الناس في مبدأ نشأتهم‏.‏

قال أبو محمد فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل وههنا أيضاً أشياء غير ما ذكرنا إذا فتشت وجدت وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره وليس يدري أحد كيف وقع العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه ولا يشك ذو تمييز صحيح في أن هذه الأشياء كلها صحيحة لا امتراء فيها وإنما يشك فيها بعد صحة علمه بها من دخلت عقله آفة وفسد تمييزه أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضاً آفة دخلت على تمييزه‏.‏

كالآفة الداخلة على من به هيجان الصفراء فيجد العسل مراً‏.‏

ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها‏.‏

وكسائر الآفات الداخلة على الحواس‏.‏

قال أبو محمد فهذه المقدمات التي ذكرناها هي الصحيحة التي لاشك فيها ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلاً إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه‏.‏

وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم وصغارهم في أقطار الأرض إلا من غالط حسه وكابر عقله فيلحق بالمجانين لأن الاستدلال على الشيء لا يكون إلا في زمان ولابد ضرورة يعلم ذلك بأول العقل لأنه قد علم بضرورة العقل أنه لا يكون شيء مما في العالم إلا في وقت وليس بين أول أوقات تمييز النفس في هذا العالم وبين إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة لا دقيقة ولا جليلة ولا سبيل على ذلك فصح أنها ضرورات أوقعها الله في النفس ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلا من هذه المقدمات ولا يصح شيءٌ إلا بالرد إليها فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقن وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط‏.‏

إلا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ومن بعد فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس وأمكن للفهم وكلما بعدت المقدمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفهم القوي الفهم والتمييز‏.‏

وليس ذلك مما يقدح في أن ما رجع إلى مقدمة من المقدمات التي ذكرنا حق كما أن تلك المقدمة حق لا فرق بينهما في أنهما حق وهذا مثل الأعداد فكلما قلت الأعداد سهل جمعها ولم يقع فيها غلط حتى إذا كثرت الأعداد وكثر العمل في جمعها صعب ذلك حتى يقع فيها الغلط إلا مع الحاسب الكافي المجيد وكلما قرب من ذلك وبعد فهو كله حق ولا تفاضل في شيء من ذلك ولا تعارض مقدمة مما ذكرنا مقدمة أخرى منها ولا يعارض ما يرجع إلى مقدمة أخرى منها رجوعاً صحيحاً وهذا كله يعلم بالضرورة‏.‏

ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعارض صح ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبراً كاذباً طويلاً فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر عالماً بالغيب لأن هذا هو علم الغيب نفسه وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه وذلك كذلك بلا شك فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعداً مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا فلم يختلفا فيه فبالضرورة يعلم أنه حق متيقن مقطوع به على غيبه وبهذا علمنا صحة موت من مات وولادة من ولد وعزل من عزل وولاية من ولي مرض من مرض وأفاق من أفاق ونكبة من نكب والبلاد الغائبة عنا والوقائع والملوك والأنبياء عليهم السلام ودياناتهم والعلماء وأقوالهم والفلاسفة وحكمهم لاشك عند أحمد يوفي عقله حقه في شيء مما نقل من ذلك كما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق‏.‏