الجزء الأول - باب الكلام على من قال بأن العالم لم يزل وأنه لا مدبر له

قال أبو محمد رضي الله عنه لا يخلو العالم من أحد وجهين إما أن يكون لم يزل أو أن يكون محدثاً لم يكن ثم كان فذهبت طائفة إلى أنه لم يزل وهم الدهرية وذهب سائر الناس إلى أنه محدث فنبتدىء بحول الله تعالى وقوته بإيراد كل حجة شغب بها القائلون بأن العالم لم يزل وتوفية اعتراضهم بها ثم نبين بحوله تعالى نقضها وفسادها فإذا بطل القول بأن العالم لم يزل وجب القول بالحدوث وصح إذ لا سبيل إلى وجه ثالث لكنا لا نقنع بذلك حتى نأتي بالبراهين الظاهرة والنتائج الموجبة والقضايا الضرورية على إثبات حدوث العالم ولا قوة إلا بالله العلي العظيم‏.‏

فمما اعترضوا به أن قالوا لم نر شيئاً حدث إلا من شيء أو في شيء فمن ادعى غير ذلك فقد ادعى ما لا يشاهد ولم يشاهد وقالوا أيضاً لا يخلو محدث الأجسام الجواهر والأعراض وهي كل ما في العالم إن كان العالم محدثاً من أن يكون إحداثه لأنه أو إحداثه لعلة‏.‏

فإن كان لأنه فالعالم لم يزل لأن محدثه لم يزل وإذ هو علة خلقه فالعلة لا تفارق المعلول وما لم يفارق من لم يزل فهو أيضاً لم يزل إذ هو مثله بلا شك فالعالم لم يزل‏.‏

وإن كان أحدثه لعلة فتلك العلة لا تخلو من أحد وجهين إما أن تكون لم تزل وإما أن تكون محدثة فإن كانت لم تزل فمعلولها لم يزل فالعالم لم يزل وإن كانت تلك العلة محدثة لزم في حدوثها ما لزم في حدوث سائر الأشياء من أنه أحدثها لأنه أو لعلة فإن كان لعلة لزم ذلك أيضاً علة العلة وهكذا أبداً وهذا يوجب وجود محدثات لا أوائل لها قالوا وهذا قولنا قالوا وإن كان أحدثها لأنه فهذا يوجب أن العلة لم تزل كما بينا آنفاً‏.‏

وقالوا أيضاً إن كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه وإما أن يكون خلافها من جميع الوجوه وإما أن يكون مثلها من بعض الوجوه وخلافها من بعض الوجوه‏.‏

قالوا فإن كان مثلها من جميع الوجوه لزم أن يكون محدثاً مثلها وهكذا في محدثة أيضاً ابداً‏.‏

وإن كان مثلها في بعض الوجوه لزمه أيضاً من مماثلتها في ذلك البعض ما يلزمه من مماثلته لها في جميع الوجوه من الحدوث إذ الحدوث اللازم للبعض كلزومه للكل ولا فرق‏.‏

وإن كان خلافها من جميع الوجوه فمحال أن يفعلها لأن هذا هو حقيقة الضد والمناقض إذ لا سبيل إلى أن يفعل الشيء خلافه من جميع الوجوه كما لا تفعل النار التبريد وقالوا أيضاً لا يخلو إن كان للعالم فاعل من أن يكون فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعاً أو لا لشيء من ذلك‏.‏

قالوا فإن كان فعله لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فهو محل للمنافع والمضار وهذه صفة المحدثات عندكم فهو محدث مثلها‏.‏

قالوا وإن كان فعله طباعاً فالطباع موجبة لما حدث بها ففعله لم يزل معه‏.‏

قالوا وإن كان فعله لا لشيء من ذلك فهذا لا يعقل وما خرج عن المعقول فمحال وقالوا أيضاً لو كانت الأجسام محدثة لكان محدثها قبل أن يحدثها فاعلاً لتركها قالوا وتركها لا يخلو من أن يكون جسماً أو عرضاً وهذا يوجب أن الأجسام والأعراض لم تزل موجودة‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه فهذه المشاغب الخمس هي كل ما عول عليه القائلون بالدهر قد تقصيناها لهم ونحن إن شاء الله نبدأ بحول الله وقوته في مناظرتهم فننقضها واحداً واحداً‏.‏

إفساد الاعتراض الأول

قال أبو محمد رضي الله عنه يقال وبالله التوفيق والعون لمن قال لم نر شيئاً حدث إلا من شيء أو في شيء هل تدرك حقيقة شيء عندكم من غير طريق الرؤية والمشاهدة أو لا يدرك شيء من الحقائق إلا من طريق الرؤية فقط فإن قالوا إنه قد تدرك الحقائق من غير طريق الرؤية والمشاهدة تركوا استدلالهم وأفسدوه إذ قد أوجبوا وجود أشياء من غير طريق الرؤية والمشاهدة وقد نفوا ذلك قبل هذا فإذا صاروا إلى الاستدلال نوظروا في ذلك إلا أن دليلهم هذا على كل حال قد بطل بحمد الله تعالى‏.‏

فإن قالوا لا بل لا يدرك شيء إلا من طريق المشاهدة قيل لهم فهل شاهدتم شيئاً قط لم يزل فلابد من نعم أو لا فإن قالوا لا صدقوا وأبطلوا استدلالهم وإن قالوا نعم كابروا وادعوا ما لا سبيل إلى مشاهدته إذ مشاهدة قائل هذا القول للأشياء هي ذات أول بلا شك وذو الأول هو غير الذي لم يزل لأن الذي لم يزل هو الذي لا أول له ولا سبيل إلى أن يشاهد ما له أول ما لا أول له مشاهدة متصلة فبطل هذا الاستدلال على كل وجه والحمد لله رب العالمين‏.‏

إفساد الاعتراض الثاني

قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال لا يخلو من أن يفعل لأنه أو لعلة هذه قسمة ناقصة وينقص منها القسم الثالث وهو لأنه فعل لا لأنه ولا لعلة أصلاً لكن كما شاء لأن كلا القسمين المذكورين أولاً وهما أنه فعل لأنه أو لعلة قد بطلا بما قدمنا هنالك إذ العلة توجب إما الفعل أو الترك وهو تعالى يفعل ولا يفعل فصح بذلك أنه لا علة لفعله أصلاً ولا لتركه البتة فبطل هذا الشغب والحمد لله رب العالمين‏.‏

فإن قالوا إن ترك الباري تعالى في الأزل فعل منه للترك ففعله الذي هو الترك لم يزل قلنا وبالله تعالى التوفيق إن ترك الباري تعالى الفعل ليس فعلاً أصلاً على ما نبين في فساد الاعتراض الخامس إن شاء الله تعالى‏.‏

إفساد الاعتراض الثالث

قال أبو محمد رضي الله عنه يقال لمن قال لو كان للأجسام محدث لم يخل من أحد ثلاثة أوجه إما أن يكون مثلها من جميع الوجوه أو من بعض الوجوه لا من كلها أو خلافها من جميع الوجوه إلى انقضاء كلامهم بل هو تعالى خلافها من جميع الوجوه وإدخالكم على هذا الوجه أنه حقيقة الضد والنقيض والضد لا يفعل ضده كما لا تفعل النار التبريد إدخال فاسد لأن الباري تعالى لا يوصف بأنه ضد لخلقه لأن الضد هو ما حمل حمل التضاد والتضاد هو اقتسام الشيئين طرفي البعد تحت جنس واحد فإذا وقع أحد الضدين ارتفع الآخر وهذا الوصف بعيد عن الباري تعالى وإنما التضاد كالخضرة والبياض اللذين يجمعهما اللون أو الفضيلة والرذيلة اللتين يجمعهما الكيفية والخلق ولا يكون الضدان إلا عرضين تحت جنس واحد ولابد وكل هذا منفي عن الخالق عز وجل فبطل بالضرورة أن يكون عز وجل ضداً لخلقه‏.‏

وأيضاً فإن قولهم لو كان خلافاً لخلقه من جميع الوجوه لكان ضداً لهم فاسد إذ ليس كل خلاف ضداً فالجوهر خلاف العرض من كل وجه حاشا الحدوث فقط وليس ضداً له ويقال أيضاً لمن قال هذا القول هل تثبت فاعلاً وفعلاً على وجه من الوجوه أو تنفي أن يوجد فاعل وفعل البتة فإن نفي الفاعل والفعل البتة كابر العيان لإنكاره الماشي والقائم والقاعد والمتحرك والساكن ومن دفع بهذا كان في نصاب من لا يكلم وإن أثبت الفعل والفاعل فيما بينا قيل له هل يفعل الجسم إلا الحركة والسكون فلابد من نعم والحركة والسكون خلاف الجسم وليسا ضداً له إذ ليسا معه تحت جنس واحد أصلاً وإنما يجمعها وإياه الحدوث فقط فلو كان كل خلاف ضداً لكان الجسم فاعلاً لضده وهو الحركة أو السكون وهذا هو نفس ما أبطلوا فصح بالضرورة أنه ليس كل خلاف ضداً وصح أن الفاعل يفعل خلافه ولابد من ذلك فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين‏.‏

إفساد الاعتراض الرابع

قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال لا يخلو من أن يكون محدث الأجسام أحدثها لإحراز منفعة أو لدفع مضرة أو طباعاً أو لا لشيءٍ من ذلك إلى انقضاء كلامهم‏.‏

أما الفعل لإحراز منفعة أو لدفع مضرة فإنما يوصف به المخلوقون المختارون‏.‏

وأما فعل الطباع فإنما يوصف به المخلوقون غير المختارين وكل صفات المخلوقين فهي منفية عن الله تعالى الذي هو الخالق لكل ما دونه‏.‏
وأما القسم الثاني وهو أنه فعل لا لشيءٍ من ذلك فهذا هو قولنا ثم نقول لمن قال إن الفعل لا لشيءٍ من ذلك أمر غير معقول ماذا تعني بقولك غير معقول أتريد أنه لا يعقل حساً أو مشاهدة أم تقول أنه لا يعقل استدلالاً فإن قلت إنه لا يعقل حساً ومشاهدة قلنا لك صدقت كما أن أزلية الأشياء لا تعقل حساً ومشاهدة وإن قلت إنه لا يعقل استدلالاً كان ذلك دعوى منك مفتقرة إلى دليل والدعوى إذا كانت هكذا فهي ساقطة فالاستدلال بها ساقط فكيف والفعل لا لشيءٍ من ذلك متوهم ممكن غير داخل في الممتنع وما كان هكذا فالمانع منه مبطل والقول به يعقل فسقط هذا الاعتراض ثم نقول لما كان الباري تعالى بالبراهين الضرورية خلافاً لجميع خلقه من جميع الوجوه كان فعله خلافاً لجميع أفعال خلقه من جميع الوجوه وجميع خلقه لا تفعل إلا طباعاً أو لاجتلاب منفعة أو لدفع مضرة فوجب أن يكون فعله تعالى بخلاف ذلك وبالله التوفيق‏.‏

إفساد الاعتراض الخامس

قال أبو محمد رضي الله عنه ويقال لمن قال إن ترك الفاعل أن يفعل الأجسام لا يخلو أن يكون جسماً أو عرضاً إلى منتهى كلامهم إن هذه قسمة فاسدة بينة العوار وذلك أن الجسم هو الطويل العريض العميق وترك الفعل ليس طويلاً ولا عريضاً ولا عميقاً فترك الفعل من الله تعالى للجسم والعرض ليس جسماً والعرض هو المحمول في الجسم وترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس محمولاً فليس عرضاً فترك فعل الله تعالى للجسم والعرض ليس هو جسماً ولا عرضاً وإنما هو عدم والعدم ليس معنى ولا هو شيئاً وترك الله تعالى للفعل ليس فعلاً البتة بخلاف صفة خلقه لأن الترك من المخلوق للفعل فعل برهان ذلك إن ترك المخلوق للفعل لا يكون إلا بفعل آخر منه ضرورة كتارك الحركة لا يكون إلا بفعل السكون وتارك الأكل لا يكون إلا باستعمال آلات الأكل في مقاربة بعضها بعضاً أو في مباعدة بعضها بعضاً وبتعويض الهواء وغيره من الشيء المأكول وكتارك القيام لا يكون إلا باشتغاله بفعل آخر من قعود أو غيره فصح أن فعل الباري تعالى بخلاف فعل خلقه وإن تركه للفعل ليس فعلاً أصلاً فبطل استدلالهم وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه فإذ قد بطل جميع ما تعلقوا به ولم يبق لهم شغب أصلاً بعون الله وتأييده فنحن مبتدئون بتأييده عز وجل في إيراد البراهين الضرورية على إثبات حدوث العالم بعد أن لم يكن وتحقيق أن له محدثاً لم يزل لا إله إلا هو‏.‏

برهان أول

قال أبو محمد رضي الله عنه فنقول وبالله التوفيق إن كل شخص في العالم وكل عرض في شخص وكل زمان فكل ذلك متناه ذو أول نشاهد ذلك حساً وعياناً لأن تناهي الشخص ظاهر بمساحته بأول جرمه وآخره وأيضاً بزمان وجوده وتناهي العرض المحمول ظاهر بين بتناهي الشخص الحامل له وتناهي الزمان موجود باستئناف ما يأتي منه بعد الماضي وفناء كل وقت بعد وجوده واستئناف آخر يأتي بعده إذ كل زمان فنهايته الآن وهو حد الزمانين فهو نهاية الماضي وما بعده ابتداء للمستقبل وهكذا أبداً يفنى زمان ويبتدىء آخر وكل جملة من جمل الزمان فهي مركبة من أزمنة متناهية ذات أوائل كما قدمنا وكل جملة أشخاص فهي مركبة من أجزاءٍ متناهية بعددها وذوات أوائل كما قدمنا وكل مركب من أجزاءٍ متناهية ذات أوائل فليس هو شيئاً غير أجزائه إذ الكل ليس هو شيئاً غير الأجزاء التي ينحل إليها وأجزاؤه متناهية كما بينا ذات أوائل فالجمل كلها بلا شك متناهية ذات أوائل والعالم كله إنما هو أشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولاتها ليس العالم كله شيئاً غير ما ذكرنا وأشخاصه ومكانه وأزمانها ومحمولاتها ذوات أوائل كما ذكرنا فالعالم كله متناه ذو أول ولا بد فغن كانت أجزاؤه كلها متناهية ذات أو بالمشاهدة والحس وكان هو غير ذي أول وقد أثبتنا بالضرورة والعقل والحس أنه ليس هو شيئاً غير أجزائه فهو ذو أول لا ذو أول وهذا عين المحال ويجب من ذلك أيضاً أن لأجزائه أوائل محسوسة وأجزاؤه ليست غيره وهو غير ذي أول فأجزاؤه إذن لها أول ليس لها أول وهذا محال وتخليط فصح بالضرورة أن للعالم أولاً إذ كل أجزائه لها أول وليس هو شيئاً غير أجزائه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

برهان ثان

قال أبو محمد رضي الله عنه فنقول كل موجود بالفعل فقد حصره العدد وأحصته طبيعته ومعنى الطبيعة وحدها هو أن تقول الطبيعة هي القوة التي في الشيء فتجري بها كيفيات ذلك الشيء على ما هي عليه وإن أوجزت قلت هي قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه وحصر العدد وإحصاء الطبيعة نهاية صحيحة إذ ما لا نهاية له فلا إحصاء له ولا حصر له إذ ليس معنى الحصر والإحصاء إلا ضم ما بين طرفي المحصي المحصور والعالم موجود بالفعل وكل محصور بالعدد محصي بالطبيعة فهو ذو نهاية فالعالم كله ذو نهاية وسواء في ذلك ما وجد في مدة واحدة أو مدد كثيرة إذ ليست تلك المدد إلا مدة محصاة إلى جنب مدة محصاة فهي مركبة من مدد محصاة وكل مركب من أشياء فهو تلك الأشثياء التي ركب منها فهي كلها مدد محصاة كما قدمنا في الدليل الأول فصح من كل ذلك أن ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده بالفعل وما لم يوجد إلا بعد ما لا نهاية له فلا سبيل إلى وجوده أبداً لأن وقوع البعدية فيه هو وجود نهاية له وما لا نهاية له فلا بعد له فعلى هذا لا يوجد شيءٌ بعد شيءٍ أبد الأبد والأشياء كلها موجودة بعضها بعد بعض فالأشياء كلها ذات نهاية وهذان الدليلان قد نبه الله تعالى عليهما وحصرهما بحجته البالغة إذ يقول وكل شيءٍ عنده بمقدار‏.‏

برهان ثالث

قال أبو محمد رضي الله عنه ما لا نهاية له فلا سبيل إلى الزيادة فيه إذ معنى الزيادة إنما هو أن تضيف إلى ذي النهاية شيئاً من جنسه يزيد ذلك في عدده أو في مساحته فإن كان الزمان لا أول له يكون به متناهياً في عدده الآن فإذن كل ما زاد فيه ويزيد مما يأتي من الأزمنة منه فإنه لا يزيد ذلك في عدد الزمان شيئاً وفي شهادة الحس أن كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى زماننا هذا الذي هو وقت ولاية هشام المعتمد بالله هو أكثر من كل ما وجد من الأعوام على الأبد إلى وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يكن هذا صحيحاً فيجب إذن أنه إذا دار زحل دورة واحدة في كل ثلاثين سنة وزحل لم يزل يدور دار الفلك الأكبر في تلك الثلاثين سنة إحدى عشرة ألف دورة غيرة خمسين دورة والفلك لم يزل يدور وإحدى عشرة ألف غير خمسين دورة أكثر من دورة واحدة بلا شك فإذن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له بنحو إحدى عشرة ألف مرة وهذا محال لما قدمنا ولأن ما لا نهاية له فلا يمكن البتة أن يكون عدد أكثر منه بوجه من الوجوه فوجبت في الزمان من قبل ابتدائه ضرورة ولا مخلص منها‏.‏

ويجب أيضاً من ذلك أن الحس يوجب ضرورة أن أشخاص الإنس مضافة إلى أشخاص الخيل أكثر من أشخاص الإنس مفردة عن أشخاص الخيل ولو كانت الأشخاص لا نهاية لها لوجب أن ما لا نهاية له أكثر مما لا نهاية له وهذا محال ممتنع لا يتشكل في العقل ولا يمكن وأيضاً فلا شك في أن الزمان مذ كان إلى وقت الهجرة جزء للزمان مذ كان إلى وقتنا هذا وبلا شك أيضاً في أن الزمان مذ كان إلى وقتنا هذا كل للزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ولما بعده إلى وقتنا أفلا يخلو الحكم في هذه القضية من أحد ثلاثة أوج لا رابع لها أما أن يكون الزمان مذ كان موجوداً إلى وقتنا هذا أكثر من الزمان مذ كان إلى عصر الهجرة فالكل أقل من الجزء والجزء أكثر من الكل وهذا هو الاختلاط وعين المحال إذ لا يخيل على أحد أن الكل أكثر من الجزء وهذا ما لا شك فيه ببديهة العقل وضرورة الحس وإن كان مساوياً له فالكل مساو للجزء وهذا عين المحال والتخليط وإن كان أكثر منه وهذا هو الذي لا شك فيه فالزمان مذ كان إلى وقت الهجرة ذو نهاية ومعنى الجزء إنما هو إبعاض الشيء ومعنى الكل إنما هو جملة تلك الأبعاض فالكل والجزء واقعان في كل ذي أبعاض والعالم ذو أبعاض هكذا توجد حاملاته ومحمولاته وأزمانها فالعالم كل لإبعاضه وإبعاضه أجزاء له والنهاية كما قدمنا لازمة لكل ذي كل وذي أجزاء والزمان إنما هو مدة بقاء الجرم ساكناً أو متحركاً ولو فارقه لم يكن الجرم موجوداً ولا كان الزمان أيضاً موجوداً والجزء والزمان موجودان فكلاهما لم يفارق صاحبه والزمان ذو أول والجرم ذو أول وهذا مما لا انفكاك له البتة وأما ما لم يأت بعد من زمان أو شخص أو عرض فليس كل ذلك شيئاً فلا يقع على شيء من ذلك عدد ولا نهاية ولا يوصف بشيء أصلاً لأنه لا وجود له بعد فإذا وجد لزمه حينئذ مالزم سائر ما قد وجد من أجناسه وأنواعه من النهاية والعدد وغير ذلك من الصفات‏.‏

وأيضاً فلا شك في أن ما وقع من الزمان ووجد من الزماان إلى يومنا هذا مساو لما من يومنا هذا إلى ما وقع من الزمان معكوساً وواجب فيه الزيادة بما يأتي من الزمان والمساوى لا يقع إلا في ذي نهاية فالزمان متناه ضرورة وقد ألزمت بعض الملحدين وهو ثابت بن محمد الجرجاني في هذا البرهان فأراد أن يعكسه علي في بقاء الباري عز وجل ووجودنا إياه فأخبرته بأن هذا شغب ضعيف مضمحل ساقط لأن الباري تعالى ليس في زمان ولا له مدة لأن الزمان إنما هو حركة كل ذي الزمان وانتقاله من مكان إلى مكان أو مدة بقائه ساكناً في مكان واحد والباري تعالى ليس متحركاً ولا ساكناً ولاشك أنه ليس في زمان ولا له مدة ولا هو في مكان أصلاً وليس هو جرماً ولا جوهراً ولا عرضاً ولا عدداً ولا جنساً ولا نوعاً ولا فصلاً ولا متحركاً ولا ساكناً وإنما هو تعالى حق في ذاته وجود مطلق بمعنى أنه معلوم لا إله غيره واحد لا واحد في العالم سواه مخترع للموجودات كلها دونه لا يشبه شيئاً من خلقه بوجه من الوجوه وبالله تعالى التوفيق‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه وقد نبه الله على هذا الدليل وحصره في قوله تعالى‏.‏

يزيد في الخلق ما يشاء‏.‏

برهان رابع

قال أبو محمد رضي الله عنه إن كان العالم لا أول له ولا نهاية له فالإحصاء منا له بالعدد والطبيعة إلى ما لا نهاية له من أوائل العالم الماضية محال لا سبيل إليه إذ لو أحصى ذلك كله لكان له نهاية ضرورة فإذا لا سبيل إليه فكذلك أيضاً هو محال أن تكون الطبيعة والعدد أحصيا ما لا نهاية له من أوائل العالم الخالية حتى يبلغا إلينا وإذا كان ذلك محالاً فالعدد والطبيعة إذاً لم يبلغا إلينا وقد تيقنا وقوع العدد والطبيعة في كل ما خلا من العالم حتى بلغا إلينا بلا شك فإذاً قد أحصى العدد والطبيعة كل ما خلا من أوائل العالم إلى أن بلغا إلينا فكذلك الإحصاء منا إلى أولية العالم صحيح موجود ضرورة بلا شك وإذ ذلك كذلك فللعالم أول ضرورة وبالله تعالى التوفيق‏.‏

برهان خامس

قال أبو محمد لا سبيل إلى وجود ثان إلا بعد أول ولا إلى وجود ثالث إلا بعد ثان وهكذا أبداً ولو لم يكن لأجزاء العالم أول لم يكن ثان ولو لم يكن ثان لم يكن ثالث ولو كان الأمر هكذا لم يكن عدد ولا معدود وفي وجودنا جميع الأشياء التي في العالم معدودة إيجاب أنها ثالث بعد ثان وثان بعد أول وفي صحة هذا وجوب أول ضرورة وقد نبه الله تعالى على هذا الدليل وعلى الذي قبله وحصرهما في قوله تعالى وأحصى كل شيء عدداً وأيضاً فالآخر والأول من باب المضاف فالآخر آخر للأول والأول أول للآخر ولو لم يكن أول لم يكن آخر ويومنا هذا بما فيه آخر لكل موجود قبله إذ ما لم يأت بعد فليس شيئاً ولا وقع عليه بعد شيء من الأوصاف فله أول ضرورة‏.‏

قال أبو محمد وقد أخبرني بعض أصدقائنا وهو محمد بن عبد الرحمن بن عقبة رحمه الله تعالى أنه عارض بهذا البرهان بعض الملحدين وهو عبد الله بن عبد الله بن شنيف فعارضه الملحد في قوله بخلود الجنة والنار وأهلهما فقال له ابن عقبة إنما أخذنا خلود داري الجزاء وخلود أهلهما بلا نهاية على غير هذا الوجه لكن على أن الله تعالى ينشىء لكل ذلك بقاء محدوداً وحركات حادثة ولذات مترادفة أبداً وقتاً بعد وقت إلا أن الأول والآخر جاريان حادثان في كل موجود من ذلك وإذا ثبت الأول فغير ممتنع تمادي الزمان حيناً بعد حين أبداً بلا نهاية وهذا مثل العدد فإنه لو لم يكن له أول لم يقدر أحد على عد أي شيء أبداً فالعدد له أول ضرورة يعرف ذلك بالحس والمشاهدة وهو قولنا واحد فإن هذا مبدأ العدد الذي لا عدد قبله ثم الأعداد يمكن فيها لزيادة أبداً لا بد لا إلى غاية لكن كلما خرج منه جزء إلى حد الوجود وحد الفعل فله نهاية وهكذا أبداً سرمداً وبالله تعالى التوفيق فانقطع الشنيفي ولم يكن عنده إلا الشغب‏.‏

قال أبو محمد وقد قال بعض اهل الإلحاد في هذه البراهين التي أوجبنا بها استحالة وجود موجودات لا أوائل لها أتقولون أن الله تعالى يوف أهل الجنة ما وعدهم من النعيم الذي لا آخر له ولا نهاية أم لا يوفيهم ما وعدهم من ذلك‏.‏

فإن قلتم أنه تعالى يوفيهم إياه دخل عليكم كل ما أدخلتموه علينا في هذه البراهين ولا فرق‏.‏

وإن قلتم أنه تعالى لا يوفيهم ذلك ألزمتموه خلف الوعد وهو كفر عندكم‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه هذه شغيبة قد طال ما حذرنا من مثلها في كتبنا التي جمعناها في حدود المنطق وهي منفسخة من وجهين أحدها أن تعلق المرء بما يقول خصمه ضعف وإنما يلزم المرء أن يخلص قوله مجرداً ولا أسوة له في تناقض خصمه بل لعل خصمه لا يقول ذلك الثاني إن المسؤل بها إن كان جهمياً سقط عنه هذا السؤال المذكور‏.‏

وأما نحن فعلينا بحول الله تعالى بيان فساد هذا الاعتراض وتمويهه فنقول وبالله التوفيق إن من شغب أهل السفسطة إدخال كلمة لا يوبه لها يجعلونها مقدمة وهي كذب فيموهون بها على الجهال وما يبنون عليها وهذا الاعتراض من هذا الباب وذلك أنهم أرادوا إلزامنا بأن الله عز وجل وعد أهل الجنة أن يوفيهم نعيماً لا نهاية له وهذا خطأ وكذب وما وعدهم الله عز وجل قط بأن يوفيهم نعيماً لا نهاية له وهذا خطأ وكذب وما وعدهم الله عز وجل قط بأن يوفيهم ذلك النعيم ولو وعدهم بذلك لكان ذلك النعيم إذا استوفي بطل وفني وانقضى وإنما وعدهم تعالى بنعيم لا نهاية له وكل ما ظهر ووجد من ذلك النعيم فهو محصور ذو نهاية وما لم يخرج إلى حد الفعل فهو عدمٌ يعد ولا يقع عليه عدد ولا صفة وهكذا أبداً فقد ظهر أن لفظة يوفيهم هي الشغيبة الفاسدة التي موهوا بها فإذا أسقطها المعترض من كلامه سقط اعتراضه جملة وصحت القضية وبالله تعالى التوفيق فإن قال قائل إن الله تعالى يقول وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص قلنا هذا لا يخلوا من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون أراد بذلك نصيبهم من الجزاء أو يكون أراد نصيبهم من مساحة الجنة‏.‏

فإن كان عنى عز وجل بذلك نصيبهم من الجزاء بالعقاب والنعيم فهو صحيح لأن كل ما خرج من ذلك إلى حد الوجود فهو مستوفى بيقين وهكذا أبداً وإن كان تعالى عنى بذلك نصيب كل واحد من الجنة والنار فهذا صحيح لأن كل مكان منها متناه من جهة المساحة وإنما نفينا التوفية التي توجب الانقضاء بلا زيادة فيها وقد قال عز وجل فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وقال تعالى إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب وهاتان الآيتان تبينان أن الأجر المستوفي هو ما يعطونه من مساحة الجنة وكل ما خرج إلى الوجود من النعيم لا يزال تعالى يزيدهم من فضلهه كما قال تعالى بغير حساب فهذا لا يستوفي أبداً لأنه لا نهاية له ولا كل ولو استوفي لم يمكن أن تكون فيه زيادة إذ بالضرورة يعلم أن ما استوفى فلا زيادة فيه وما تمكن الزيادة فيه فلم يستوف بعد والله تعالى قد نص على أن بعد تلك التوفية زيادة فصح أنها توفية لشيء محدود متناه وأن ما لا نهاية له فلا يستوفى أبداً فقد ثبت بكل ما ذكرنا أن العالم ذو أول‏.‏
وإذا كان ذو أول فلا بد ضرورة من أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وإما أن يكون حدث بغير أن يحدثه غيره وبغير أن يحدث هو نفسه وإما أن يكون أحدثه غيره فإن كان هو أحدث ذاته فلا يخلو من أحد أربعة أوجه لا خامس لها وهي إما أن يكون أحدث ذاته وهو معدوم وهي موجودة أو أحدث ذاته وهو موجود وهي معدومة أو أحدثها وكلاهما موجود أو أحدثها وكلاهما معدوم وكل هذه الأربعة الأوجه محال ممتنع لا سبيل إلى شيء منها لأن الشيء وذاته هي وهو هي وكل ما ذكرنا من الوجوه يوجب أن يكون الشيء غير ذاته وهذا محال وباطل بالمشاهدة والحس فهذا وجه قد بطل ثم نقول وإن كان خرج عن العدم إلى الوجود بغير أن يخرج هو ذاته أو يخرجه غيره فهو أيضاً محال لأنه لا حال أولى بخروجه إلى الوجود من حال أخرى ولا حال أصلاً هنالك فإذاً لا سبيل إلى خروجه وخروجه مشاهد متيقن فحال الخروج غير حال اللا خروج وحال الخروج هي علة كونه وهذا لازم في تلك الحال أعني إن حال الخروج يلزم في حدوثها مثل ما لزم في حدوث العالم من أن تكون أخرجت أنفسها أو أخرجها غيرها أو أخرجت بغير هذين الوجهين وهكذا في كل حال فإن تمادي الكلام وجب بما قدمناه إلا نهاية واللا نهاية في العالم من مبدأه باطل ممتنع محال فإذاً قد بطل أن يخرج العالم بنفسه وبطل أن يخرج دون أن يخرجه غيره فقد ثبت‏.‏

الوجه الثالث ضرورة إذ لم يبق غيره البتة فلابد من صحته وهو أن العالم أخرجه غيره من العدم إلى الوجود وبالله تعالى التوفيق وأيضاً فإن الفلك بكل ما فيه ذو آثار محمولة فيه من نقلة زمانية وحركة دورية في كون كل جزء من أجزائه في مكان الذي يليه والأثر مع المؤثر من باب المضاف فإن لم يكن أثرٌ لم يكن مؤثرٌ وإن لم يكن مؤثرٌ أثرها ولا سبيل إلى أن يكون الفلك أو شيء مما فيه هو المؤثر لأنه يصير هو المؤثر والمؤثر فيه مع أن المؤثر والأثر من باب المضاف أيضاً ومعنى قولنا إن المؤثر والأثر والمؤثر فيه من باب المضاف إنما هو أن الأثر والمؤثر فيه يقتضيان مؤثراً ولابد ولم يرد أن الباري تعالى يقع تحت الإضافة فلابد ضرورة من مرثر ليس مؤثراً فيه وليس هو شيئاً مما في العلام فهو بالضرورة الخالق الأول الواحد تبارك وتعالى فصح بهذا أن العالم كله محدث وإن له محدثاً هو غيره هذا إلى ما نراه ويشاهد بالحواس من آثار الصنعة التي لا يشكل فيها ذو عقل‏.‏

ومن بعض ذلك تراكيب الأفلاك وتداخلها ودوام دورانها على اختلاف مراكزها ثم أفلاك تداويرها والبون بين حركة أفلاك التداوير والأفلاك الحاملة لها ودوران الأفلاك كلها من غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب إلى شرق ودوران الفلك التاسع الكلي بخلاف ذلك من شرق إلى غرب وإدارته لجميع الأفلاك مع نفسه كذلك فحدث من ذلك حركتان متعارضتان في حركة واحدة فبالضرورة نعلم أن لها محركاً على هذه الوجوه المختلفة‏.‏

ثم تراكيب أعضاء الإنسان والحيوان من إدخال العظام المحدبة في المقعرة وتركيب العضل على تلك المداخل والشد على ذلك بالعصب والعروق صناعة ظاهرة لاشك فيها لا ينقصها إلا رؤية الصانع فقط‏.‏

ومن ذلك ما يظهر في الأصباغ الموضوعة في جلود كثير من الحيوان وريشه ووبره وشعره وظفره وقشره على رتبة واحدة ووضع واحد لا تخالف فيه كإصباغ الحجل والشفانين اليمام والسمان والبزاة وكثير من الطير والسلاحف والحشرات والسمك لا يختلف تنقيطه البتة ولا تكون أصباغه موضوعة إلا وضعاً واحداً كأذناب الطواويس وفي السمك والجراد والحشرات نوعاً واحداً كالذي يصوره المصور بيننا‏.‏

منها ما يأتي مختلفاً كأصباغ الدجاج والحمام والبط وكثير من الحيوان فبالضرورة والحس نعلم أن لذلك صانعاً مختاراً يفعل ذلك كله كما شاء ويحصيه إحصاء لا يضطرب أبداً عما شاء من ذلك وليس يمكن البتة في حس العقل أن تكون هذه المختلفات المضبوطة ضبطاً لا تفاوت فيه من فعل طبيعة ولابد لها من صانع قاصد إلى صنعة كل ذلك ومن دري ما الطبيعة علم أنها قوة موضوعة في الشيء تجري بها صفاته على ما هي عليه فقط وبالضرورة يعلم أن لها واضعاً ومرتباً وصانعاً لأنها لا تقوم بنفسها وإنما هي محمولة على ذي الطبيعة‏.‏

ومنها ما نرى في ليف النخل والدوم من النسج المصنوع يقيناً بنيرين وسدى كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط يقيناً بنيرين وسدى كالذي يصنعه النساج ما تنقصنا إلا رؤية الصانع فقط وليس هذا البتة من فعل طبيعة ولا بنسج ناسج ولا بناء ولا صانع أصباغ مرتبة بل هو صنعة صانع مختار قاصد إلى ذلك غير ذي طبيعة لكنه قادر على ما يشاء هذا أمر معلوم بضرورة العقل وأوله يقيناً كما نعلم أن الثلاثة أكثر من الاثنين فصح أنه خالق أول واحد حق لا يشبه شيئاً من خلقه البتة لا إله إلا هو الواحد الأول الخالق عز وجل .