الجزء الأول - باب الكلام على من قال أن للعالم خالقا لم يزل

وأن النفس والمكان المطلق هو الخلاء والزمان المطلق الذي هو المدة لم تزل موجودة وأنها غير محدثة

قال أبو محمد رضي الله عنه النفس عند هؤلاء جوهر قائم بنفسه حامل لأعراضه لا متحرك ولا منقسم ولا متمكن أي لا في مكان‏.‏

وقد ناظرني قوم من أهل الرأي ورأيته كالغالب على ملحدي أهل زماننا فألزمتهم إلزامات لم ينفكوا منها أظهرت بطلان قولهم بعون الله تعالى وقوته‏.‏

ولم نر أحداً ممن تكلم قبلنا ذكر هذه الفرقة فجمعت ما ناظرتهم به وأضفت إليه ما وجبت إضافته إليه مما فيه تزييف قولهم وما توفيقنا إلا بالله وهذا الزمان والمكان عندهم هما غير المكان المعهود عندنا وغير الزمان المعهود عندنا‏.‏

لأن المكان المعهود عندنا هو المحيط بالمتمكن فيه من جهاته أو من بعضها وهو ينقسم قسمين إما مكان يتشكل المتمكن فيه بشكله كالبر أو الماء في الخابية وما أشبه ذلك وإما مكان يتشكل هو بشكل المتمكن فيه كالماء لما حل فيه من الأجسام وما أشبهه‏.‏

والزمان المعهود عندنا هو مدة وجود الجرم ساكناً أو متحركاً أو مدة وجود العرض في الجسم ويعمه أن نقول هو مدة وجود الفلك وما فيه من الحوامل والمحمولات‏.‏

وهم يقولون أن الزمان المطلق والمكان المطلق هما غير ما حددنا آنفاً من الزمان والمكان ويقولون أنهما شيئان متغايران ولقد كان يكفي من بطلان قولهم إقرارهم بمكان غير ما يعهد وزمان غير ما يعهد بلا دليل على ذلك ولكن لابد من إيراد البراهين على إبطال دعواهم في ذلك بحول الله وقوته فيقال لهم وبالله تعالى التوفيق أخبرونا عن هذا الخلاء الذي أثبتم وقلتم أنه كان موجوداً قبل حدوث الفلك وما فيه هل بطل بحدوث الفلك ما كان منه في مكان الفلك قبل أن يحدث الفلك أو لم يبطل‏.‏

فإن قالوا لم يبطل وبذلك أجابني بعضهم فيقال لهم فإن كان لم يبطل فهو انتقل عن ذلك المكان بحدوث الفلك في ذلك المكان أو لم ينتقل فإن قالوا لم ينتقل وهو قولهم قيل لهم فإذ لم يبطل ولا انتقل فأين حدث الفلك وقد كان في موضعه قبل حدوثه عندكم معنى ثابت قائم بنفسه موجود وهل حدث الفلك في ذلك المكان المطلق الذي هو الخلاء أم في غيره فإن كان حدث في غيره فههنا إذاً مكان آخر غير الذي سميتموه خلاء وهو إما مع الذي ذكرتم في حيز واحد أم هو في حيز آخر فإن كان معه في حيز واحد فالفلك فيه حدث ضرورة وقد قلتم أنه لم يحدث فيه فهو إذاً حادث فيه غير حادث فيه وهذا تناقض ومحال‏.‏

وإن كان في حيز آخر فقد أثبتم النهاية للخلاء إذ الحيز الآخر الذي حدث فيه الفلك ليس هو في ذلك الخلاء وهذا ينطوي فيه بالضرورة نهاية الخلاء الذي ذكرتم فهو متناهٍ لا متناهٍ وهذا تناقض وتخليط وإذا بطل أن يكون غير متناهٍ وثبت أنه متناه فهو المكان المعهود المضاف إلى المتمكن فيه وهذا هو المكان الذي لا يعرف ذو عقل سواه‏.‏

وإن كان الفلك حدث فيه والفلك ملاء بلا شك ولم ينتقل الخلاء عندكم ولا بطل فالفلك إذاً خلاءٌ وملاءٌ معاً في مكان واحد وهذا محال وتخليط‏.‏

فإن قالوا بطل بحدوث الفلك ما كان منه في موضع الفلك قبل حدوث الفلك أو قالوا انتقل فقد أوجبوا له النهاية ضرورة إما من طريق الوجود بالبطلان إذ لا يفسد ويبطل إلا ما كان حادثاً لا ما لم يزل وإما من طريق المساحة بالنقلة إذ لو لم يجد أين ينتقل لم تكن له نقلة إذ معنى النقلة إنما هو تصيير الجرم إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك أو إلى صفة لم يكن عليها قبل ذلك ووجوده مكاناً ينتقل غليه موجب أنه لم يكن في ذلك المكان الذي انتقل إليه قبل انتقاله إليه وهذا هو إثبات النهاية ضرورة فهذا هو الذي أبطلوا‏.‏

ويلزمهم في ذلك أيضاً أن يكون متحيزاً ضرورة لأن الذي بطل منه هو غير الذي لم يبطل والذي انتقل هو غير الذي لم ينتقل وهو إذا كان ذلك فإما هو جسم ذو أجزاء وإما هو محمول في جسم فهو ينقسم بانقسام الجسم وقد أثبتنا النهاية للجسم في غير هذا المكان من كتابنا هذا بما فيه البيان الضروري والحمد لله رب العالمين وأيضاً فإن كان لم يبطل فالذي كان منه في موضع الفلك ثم لم يبطل ولا انتقل لحدوث الفلك فيه فهو والفلك إذاً موجودان في حيز واحد معاً فهو إذاً ليس مكاناً للفلك لأن المكان لا يكون مع المتمكن فيه في مكان واحد وهذا يعرف بأولية العقل ولو كان ذلك لكان المكان مكاناً لنفسه ولما كان واحد منهما أولى بأن يكون مكاناً للآخر من الآخر بذلك ولا كان أحدهما أولى أيضاً بأن يكون متمكناً في الآخر من الآخر فيه وكل هذا فاسد ومحال بالضرورة وأيضاً فإن الخلاء عندهم مكان لا متمكن فيه والفلك عندهم موجود في الخلاء إذ لا نهاية للبخلاء عندهم من طريق المساحة فإذا كان الفلك متمكناً في الخلاء عندهم والخلاء عندهم مكان لا متمكن فيه فالخلاء إذاً مكان فيه متمكن ليس فيه متمكن وهذا محال وتخليط وهذا بعينه لازم في قولهم إن ذلك الجزء من الخلاء لم ينتقل لحدوث الفلك فيه‏.‏

فإن قالوا انتقل فإنما صار إلى مكان لم يكن فيه قبل ذلك خلاء ولا ملاء فقد ثبت عدم الخلاء والملاء فيما فوق الفلك ضرورة وهذا خلاف قولهم‏.‏

وإن قالوا بطل لزمهم أيضاً أنه قد عدته المدد ضرورة فإذا عدته المدد فقد تناهى من أوله بالمبدأ ضرورة فإن قالوا بل لم يحدث الفلك في شيء من ذلك المكان الذي هو الخلاء فقد أثبتوا حيزاً آخر ومكاناً للفلك غير الخلاء الشامل عندهم وإذا كان ذلك فقد تناهى كلا المكانين من جهة تلاقيهما ضرورة وإذا تناهيا من جهة تلاقيهما لزمتهما المساحة ووجب تناهيهما التناهي ذرعهما ضرورة ويسألون أيضاً عن هذا الخلاء الذي هو عندهم مكان لا متمكن فيه هل له مبدأ متصل بصفحات الفلك الأعلى أم لا مبدأ له من هنالك ولابد من أحد الأمرين ضرورة فإن قالوا لا مبدأ له وهو قولهم قيل لهم إن قول القائل مكان إنما يفهم منه ما يتمثل في النفس من المقصود بهذه اللفظة وموضعها في اللغة لتكون عبارة للتفاهم عن المراد بها أنها ساحة ولابد للساحة من الذرع ضرورة ولابد للذرع من مبدأ لأنه كمية والكمية أعداد مركبة من الآحاد فإن لم يكن له مبدأ من واحد اثنين ثلاثة لم يكن عدد وإذا لم يكن عدد لم يكن ذرع أصلاً وإذا لم يكن ذرع لم تكن مساحة ولا انفساح ولا مسافة وكل هذه ألفاظ واقعة إما على ذرع المذروع وإما على مذروع بالذرع ضرورة‏.‏

فإن قالوا له مبدأ من هنالك وجبت له النهاية ضرورة لحصر العدد لمساحته بوجود المبدأ له ويسألون أيضاً أمماس هذا الفلك أم غير مماس وبائن عنه أم غير بائن فإن قالوا لا مماس ولا بائن فهذا أمر لا يعقل بالحس ولا يتشكل في النفس ولا يقوم على صحته برهان أبداً إلا في الأعراض المحمولة في الأجسام وهم لا يقولون أن الخلاء عرض محمول في جسم وكل دعوى لم يقم عليها دليل فهي باطلة مردودة وإن أثبتوا المماسة أو المباينة وجب عليهم ضرورة إثبات النهاية له كما لزم بإثبات المبدأ إذ النهاية منطوية في ذكر المبدأ والمماسة والمباينة ضرورة لاشك فيها وبالله التوفيق ويسألون أيضاً عن هذا الخلاء الذي يذكرون والزمان الذي يثبتون أمحمولان هما أم حاملان أم أحدهما محمول والثاني حامل أم كلاهما لا حامل ولا محمول فأيهما أجابوا فيه فإنه حامل بلا شك في أن محموله غيره إذ لا يكون الشيء حاملاً لنفسه فله إذاً محمول لم يزل وهو غير الزمان فإن قالوا ذلك كلموا بما قدمنا قبل على أهل الدهر القائلين بأزلية العالم‏.‏

وأيضاً فإن كان المكان حاملاً فلا يخلو ضرورة من أحد وجهين إما أن يكون حاملاً لجرم متمكن فيه وهذا يوجب النهاية له لوجوب نهاية الجرم المتمكن فيه بالدلالة التي قدمنا في إثبات نهايات الأجرام وإما أن يكون حاملاً لكيفياته فإن كان حاملاً لكيفياته فهو مركب من هيولاه وأعراضه وجنسه وفصوله وبالضرورة يعلم كل ذي حسن سليم أن كل مركب فهو متناه بالجرم والزمان بالدلائل التي قدمنا ولا سبيل إلى حمل ثالث وأيهما قالوا فيه أنه محمول فإنه يقتضي حاملاً ويعكس الدليل الذي ذكرنا آنفاً سواءً بسواءٍ وأيهما قالوا فيه أنه حامل محمول وجب كل ما ذكرنا فيه أيضاً بعكسه وأيهما قالوا فيه لا حامل ولا محمول فلا يخلو من أن يكون باقياً أو يكون بقاءً فإن كان باقياً فهو مفتقر إلى بقاءٍ وهو مدته إذ لا باقي إلا ببقاء وإن كان بقاء فلا بد له من باق به وهو من باب الإضافة والمدة وهي البقاء إنما هي محمولة وناعتة للباقي بها ضرورة هذا الذي لا يقوم في العقل سواه ولا يقوم برهان إلا عليه ويسألون أيضاً عن هذا الزمان الذي يذكرون هل زاد في مدة اتصاله مذ حدث الفلك إلى يومنا هذا أو لم يزد ذلك في أمده فإن قالوا لم يزد ذلك في أمده كانت مكابرة لأنها مدة متصلة بها مضافة إليها وعدد زائد على عدد فإن قالوا زاد ذلك في أمده سئلوا متى كانت تلك المدة أطول أقبل الزيادة أم هي وهذه الزيادة معاً فإن قالوا هي والزيادة معاً فقد أثبتوا النهاية ضرورة إذ ما لا نهاية له فلا يقع فيه زيادة ولا نقص ولا يكون شيء مساوياً له ولا أكثر منه ولا أنقص منه ولا يكون هو أيضاً مفصلاً أصلاً فلا يكون مساوياً لنفسه كما هو ولا أكثر من نفسه ولا أقل منها فإن قالوا ليست هي والزيادة معها أطول منها قبل الزيادة فقد أثبتوا أن الشيء وغيره معه ليس أكثر منه وحده وهذا باطل وهم يقولون أن الخلاء والزمان المطلق شيآن متغايران فيقال لهم فإذا هما كذلك فبأي شيء انفصل بعضهما من بعض فإن قالوا انفصل بشيء ما وذكروا في ذلك أي شيء ذكروه فقد أثبتوا لهما التركيب من جنسهما وفصلهما وأيضاً فجعلهم لهما شيئين إيقاع منهم للعدد عليهما وكل عدد فهو متناه محصور وكل محصور فقد سلكته الطبيعة وكل ما سلكته الطبيعة فهو متناه ضرورة‏.‏

فإن أرادوا ألزامنا في الباري تعالى مثل ما ألزمناهم في هذا السؤال فقالوا أيما أكثر الباري تعالى وحده أم الباري وخلقه معاً قلنا هذا سؤال فاسد بالبرهان الضروري لأن هذا البرهان إنما هو على وجوب حدوث الزمان وما لم ينفك من الزمان وعلى حدوث النوامي وأيضاً فإن الباري تعالى ليس عدداً ولا بعض عدد وليس هو أيضاً معدوداً ولا بعضاً لمعدود لأن واحداً ليس عدداً بالبرهان الذي نورده في الباب الذي يتلو هذا الباب إن شاء الله تعالى ولا واحد على الحقيقة إلا الله عز وجل فقط فهو الذي لا يتكثر البتة ولا ينضاف إلى سواه إذ لا يجمعه مع شيء سواه عدد ولا صفة البتة لأن كل ما وقع عليه اسم واحد مما دونه تعالى فإنما هو مجاز لا حقيقة لأنه إذا قسم استبان أنه كان كثيراً لا واحداً فلذلك وقع العدد على الأجرام والأعداد المسماة آحاداً في العالم وأما الواحد في الحقيقة فهو الذي ليس كثيراً أصلاً ولا يتكثر بوجه من الوجوه فلا يقع عليه عدد بوجه من الوجوه لأنه يكون حينئذ واحداً لا واحداً كثيراً لا كثيراً وهذا تخليط ومحال وممتنع لا سبيل إليه فلا يجوز أن يضاف الواحد الأول إلى شيء مما دونه لا في عدد ولا كمية ولا في جنس ولا في صفة ولا في معنى من المعاني أصلاً وبالله تعالى التوفيق‏.‏

فإن ذكر ذاكر قول الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا فمعنى قوله تعالى هو رابعهم وهو سادسهم إنما هو فعل فعله فيهم وهو أن ربعهم بإحاطته بهم لا بذاته وسدسهم بإحاطته لا بذاته أو قد يربعهم بملك يشرف عليهم ويسدسهم كذلك وبرهان هذا القول أن الله تبارك وتعالى إنما عنى بهذه الآية بلا خلاف بل بضرورة العقل من كل سامع أنه لا تخفى عليه نجواهم وهذا نص الآية لأنه تعالى افتتحها بذكر نجوى المتناجين وإنما أراد عز وجل علمه بنجواهم لا أنه معدود معهم بذاته إلى ذواتهم حاشى لله من ذلك إذ من المحال الممتنع الخارج عن رتبة الأعداد والمعدودين أن يكون الله عز وجل معدوداً بذاته مع ثلاثة بالهند ومع ثلاثة بالسند ومع ثلاثة بالعراق ومع ثلاثة بالصين في وقت واحد لأنه لو كان ذلك لكان الذين هو رابعهم بالهند مع الثلاثة الذين هو رابعهم بالصين ثمانية كلهم لأنهم أربعة وأربعة بلا شك فكأن تعالى حينئذ يكون اثنين وأكثر وهذا محال وكذلك إذا كان بذاته سادساً لخمسة ههنا فهم ستة ورابعاً لثلاثة هنالك فهم أربعة فهم كلهم بلا شك عشرة فهو إذاً اثنان وكذلك قوله تعالى في الآية نفسها إلا هو معهم أينما كانوا إنما أضاف تعالى الأينية إليهم لا إلى نفسه تعالى معناه أينما كانوا فهو تعالى معهم بإحاطته إذ محال أن يكون بذاته في مكانين فبطل اعتراضهم والحمد لله رب العالمين كثيراً وليس قول القائل الله ورسوله والله وعمرو مما يعترض به علينا لأننا لم نمنع من ضم اسمه تعالى إلى اسم غيره معه لأن الاسم كلمة مركبة من حروف الهجاء وإنما منعنا من أن تعد ذاته تعالى مع شيء غيره إذ العدد إنما هو جمع شيء إلى غيره في قضية ما والله تعالى لا يجمعه وخلقه شيء أصلاً فصح انتفاء العدد عنه تعالى وإذا صح انتفاء العدد عنه صح أنه ليس معدوداً البتة والحمد لله رب العالمين ويسألون أيضاً هذا الزمان والمكان اللذان يذكران أهما واقعان تحت الأجناس والأنواع أم لا وهل هما واقعان تحت المقولات العشر أم لا فإن قالوا لا فقد نفوهما أصلاً وأعدموهما البتة إذ لا مقول من الموجودات إلا هو واقع تحتها وتحت الأجناس والأنواع حاشى الحق الأول الواحد الخالق عز وجل الذي علم بضرورة الدلائل ووجب بها خروجه عن الأجناس والأنواع والمقولات وبالجمة شاؤا أو أبوا فالخلاء والزمان المطلق اللذان يذكران إن كانا موجودين فهما واقعان تحت جنس الكمية والعدد ضرورة فإذا كان ذلك كذلك فهذا الزمان الذي ندريه نحن وهم وذلك الزمان الذي يدعونه هما واقعان جميعاً تحت جنس متى وكذلك المكان الذي يدعونه واقع مع المكان الذي نعرفه نحن وهم تحت جنس أين وبالضرورة يجب أن ما لزم بعض ما تحت الجنس مما يوجبه له الجنس فإنه لازم لكل ما تحت ذلك الجنس وإذ لا شك في هذا فهما مركبان والنهاية فيهما موجودة ضرورة إذ المقولات كلها كذلك‏.‏

وأيضاً فإن المكان لابد له من مدة يوجد فيها ضرورة فنسألهم هل تلك المدة هي الزمان الذي يدعونه أم هي غيره فإن كانت هي هو فهو زمان للمكان فهو محمول في المكان فهو ككل زمان لذي الزمان فلا فرق وإن كانت غيره فههنا إذن زمان ثالث غير مدة ذلك المكان وغير الزمان الذي ندريه نحن وهم وهذه وساوس لا يعجز عن ادعائها كل من لم يبال بما يقول ولا استحيا من فضيحة ويقال لهم إذ ليس المكان الذي تدعونه والزمان الذي تدعونه واقعين مع المكان المعهود والزمان المعهود تحت جنس وحدٍ واحد فلم سميتموه مكاناً وزماناً وهلا سميتموهما باسمين مفردين لهما ليبعدا بذلك عن الإشكال والتلبيس والسفسطة بالتخليط بالأسماء المشتركة فإن كانا مع الزمان والمكان المعهودين تحت حد واحد فقد بطلت دعواكم زماناً ومكاناً غير الزمان والمكان المعهودين بالضرورة وبالله التوفيق ويسألون أيضاً عن هذا الزمان والمكان غير المعهودين أهما داخل الفلك أم خارجه فإن قالوا هما داخل الفلك فالخلاء إذاً هو الملاء والمكان إذاً في المتمكن يعني في داخله وهذا محال والزمان إذن هو الذي لا يعرف غيره وإن قالوا هما خارج الفلك أوجبوا لهما نهاية ابتداء مما هو خارج الفلك وإن قالوا لا خارج ولا داخل فهذه دعوى مفتقرة إلى برهان ولا برهان على صحتها فهي باطل فإن قالوا أنتم تقولون هذا في الباري تعالى قلنا لهم نعم لأن البرهان قد قام على وجوده فلما صح وجوده تعالى قام البرهان بوجوب خلافه لكل ما في العالم على أنه لا داخل ولا خارج وأنتم لم يصح لكم برهان على وجود الخلاء والزمان الذي تدعونه فصار كلامكم كله دعوى وبالله التوفيق‏.‏

قال أبو محمد رضي الله عنه ولم نجد لهم سؤالاً أصلاً ولا أتونا قط بدليل فنورده عنهم ولا وجدنا لهم شيئاً يمكن الشغب به في أزلية الخلاء والمدة فنورده عنهم وإن لم ينتبهوا وإنما هو قال أبو محمد رضي الله عنه ومما يبطل به الخلاء الذي سموه مكاناً مطلقاً وذكروا أنه لا يتناهى وأنه مكان لا متمكن فيه برهان ضروري لا انفكاك منه وأطرف شيء أنه برهانهم الذي موهوا به وشغبوا بإيراده وأرادوا به إثبات الخلاء وهو أننا نرى الأرض والماء والأجسام الترابية من الصخور والزئبق ونحو ذلك طباعها السفل أبداً وطلب الوسط والمركز وأنها لا تفارق هذا الطبع فتصعد إلا بقسر يغلبها ويدخل عليها كرفعنا الماء والحجر قهراً فإذا رفعناهما ارتفعا فإذا تركناهما عادا إلى طبعهما بالرسوب ونجد النار والهواء طبعهما الصعود والبعد عن المركز والوسط ولا يفارقان هذا الطبع إلا بحركة قسراً تدخل عليهما يرى ذلك عياناً كالزق المنفوخ والإناء المجوف المصوب في الماء فإذا زالت تلك الحركة القسرية رجعا إلى طبعهما ثم نجد الإناء المسمى سارقة الماء يبقي الماء فيها صعداً ولا ينسفك وتجد الزراقة ترفع التراب والزئبق والماء ونجد إذا حفرنا بئراً امتلأ هواء وسفل الهواء حينئذ ونجد المحجمة تمص الجسم الأرضي إلى نفسها فليس كل كل هذا إلا لأحد وجهين لا ثالث لهما إما عدم الخلاء جملة كما نقول نحن وإما لأن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فنظرنا في قولهم أن طبع الخلاء يجتذب هذه الأجسام إلى نفسه كما يقول من يثبت الخلاء فوجدناه دعوى بلا دليل فسقط ثم تأملناه أخرى فوجدناه عائداً عليهم لأنه إذا اجتذبت الأجسام ولابد فقد صار ملأً فالملأ حاضر موجود والخلاء دعوى لا برهان عليها فسقطت وثبت عدم الخلاء‏.‏

ثم نظرنا في قولنا فوجدناه يعلم بالمشاهدة وذلك أننا لم نجد لا بالحس ولا بتوهم العقل بالإمكان مكاناً يبقى خالياً قط دون متمكن فصح الملأ بالضرورة وبطل الخلاء إذ لم يقم عليه دليل ولا وجد قط وبالله تعالى التوفيق‏.‏

ثم نقول لهم إن كان خارج الفلك خلاء على قولكم فلا يخلو من أن يكون من جنس هذا الخلاء الذي تدعون أنه يجتذب الأجسام بطبعه أو يكون من غير جنسه ولابد من أحد هذين الوجهين ضرورة ولا سبيل إلى ثالث البتة فإن قالوا هو من جنسه وهو قولهم فقد أقروا بأن طبع هذا الخلاء الغالب بجميع الطبائع هو أن يجذب المتمكنات إلى نفسه فيمتلىء بها حتى أنه يحيل قوى العناصر عن طباعها فوجب أن يكون ذلك الخلاء الخارج عن الفلك لذلك أيضاً ضرورة لأن هذه صفة طبعه وجنسه فوجب بذلك ضرورة أن يكون متمكناً فيه ولابد وإذا كان هذا وذلك الخلاء عندهم لا نهاية له فالجسم الماليء له أيضاً لا نهاية له وقد قدمنا البراهين الضرورية أنه لا يجوز وجود جسم لا نهاية له فالخلاء باطل ولو كان ذلك أيضاً لكان ملأ لا خلاء وهذا خلاف قولهم‏.‏

فإن قالوا بل ذلك الخلاء هو من غير جنس هذا الخلاء‏.‏

يقال لهم فبأي شيء عرفتموه وبما استدللتم عليه وكيف وجب أن تسموه خلاء وهو ليس خلاء وهذا مخلص منه وبالله تعالى التوفيق وهم في هذا سواء ومن قال أن في مكان خارج من العالم ناساً لا يحدون بحد الناس ولا هم كهؤلاء الناس أو من قال أن في خارج الفلك ناراً غير محرقة ليست من جنس هذه النار وكل هذا حمق وهوس‏.‏