الجزء الأول - الكلام على من يقول أن البارىء خلق العالم جملة

كما هو بجميع أحواله بلا زمان قال أبو محمد رضي الله عنه رأينا من يقر بالخالق تعالى ولا يقر بالنبوة ومن يذهب إلى ذلك وناظرناه على ذلك فقلت إن الذي تقول ممكن في قوة الله تعالى والذي نقول نحن من أنه تعالى خلق من النوع الإنساني ذكراً واحداً وأنثى واحدة تناسل الناس كلهم منهما ممكن أيضاً فمن أين ملت إلى تلك الحيثية دون هذه فتردد ساعة فلما لم يجد دليلاً قال فمن أين ملتم أنتم أيضاً إلى هذه الحيثية دون تلك فقلت لبراهين ضرورية توجب ما قلنا وتنفي ما قلتم منها أنه لو كان ما قلت لكان كل من أخرجه الله تعالى حينئذ من العدم إلى الوجود من الشبان والشيوخ يعلمون ذلك ويحسونه من أنفسهم ويوقنون أنهم الآن به حدثوا وأنهم لم يكونوا قبل ذلك لكن حدثوا الآن في حال توليهم لصناعاتهم وتجاراتهم وأعمالهم من حرث وحصاد ونسج وخياطة وخبز وطبخ وغير ذلك ولو كان هذا لنقلوه إلى أولادهم نقلاً يقتضي لهم العلم الضروري بذلك ولابد كما يقتضي العلم الضروري كل نقل جاء بأقل من هذا المجيء مما كان قبلنا من الملوك والدول والوقائع وليبلغ الأمر إلينا كذلك ولعلمه جميع الناس علماً ضرورياً لأن شيئاً ينقله جميع أهل الأرض عن مشاهدتهم له لا يمكن التشكك فيه أبداً كما نقل طلوع الشمس وغروبها والموت والولاد وغير ذلك ونحن نجد الأمر بخلاف هذا لأنا نجد جميع أهل الأرض # قاطبة لا يعرفون هذا بل لا يدريه أحد منهم وإنما قلته أنت ومن وافقته أو من وافقك برأي وظن لا بخبر ونقل أصلاً هذا ما لا تخالفنا فيه أنت ولا أحد من الناس فمن المحال الممتنع أن يكون خبرٌ نقله جميع سكان العالم أولهم عن آخرهم إلى كل من حدث بعدهم عن ما شاهدوه يخفي حتى لا يعرفه أحد من سكان الأرض هذا أمرٌ يعرف كذبه بأول العقل وبديهته‏.‏

فقال والذي تحكونه أنتم أيضاً قد وجدنا جماعات ينكرونه فينيبغي أن يبطل بما عارضتنا به‏.‏

فقلت بين النقلين فرق لا خفاء به لأن نقلنا نحن لما قلناه إنما يرجع إلى خبر رجل واحد وامرأة واحدة فقط وهما أول من أحدثهم الله تعالى من النوع الإنساني وما كان هكذا فإنه لا يوجب العلم الضروري إذ التواطؤ ممكن في ذلك ولولا أن الأنبياء والذين جاؤا بالمعجزات أخبروا بتصحيح ذلك ما صح قولنا من جهة النقل وحده بل كان ممكناً أن يكون الله تعالى ابتدأ خلق جماعة تناسل الخلق منهم لكن لما أخبر من صححت المعجزة قوله بأن الله تعالى لم يبتدىء من النوع الإنساني إلا رجلاً واحداً وامرأة واحدة وجب تصديق قولهم وبرهان آخر وهو ا كم قد أثبتم ضرورة صحة قولنا من أن الله ابتدأ النوع الإنسان بأن خلق ذكراً وأنثى ثم ادعيتم زيادة أن الله تعالى خلق سواهما جماعات ولم تأتوا على ذلك ببرهان أصلاً ولا بدليل إقناعي فضلاً عن برهاني وقد صحت البراهين التي قدمنا قيل أنه لابد من مبدأ ضرورة فوجب ولابد حدوث ذكر وأنثى وكان من ادعى حدوث أكثر من ذلك مدعياً لما لا دليل له عليه أصلاً وما كان هكذا فهو باطل بيقين لا مرية فيه وكل ما ذكرت عنه نبوةٌ في الهند والمجوس والصابئين واليهود والنصارى والمسلمين فلم يختلفوا في أن الله تعالى إنما أحدث الناس من ذكر وأنثى وما جاء هذا المجيء فلا يجوز الاعتراض عليه بالدعوى وإنما اختلف عنهم في الأسماء فقط وليس في هذا معترض لأنه قد يكون للمرء أسماءً كثيرة فلم يمنع من هذا مانع وبالله تعالى التوفيق قال أبو محمد رضي الله عنه فلم نجد عندهم في ذلك معارضة أصلاً وما علمنا أحداً من المتكلمين ذكر هذه الفرقة أصلاً وقلت له في خلال كلامي معه أترى العالم إذا خرج دفعة أخرج فيه الحوامل يطلقن والطباقون قعوداً على أطباقهم يبيعون التين والسرقين فضحك وعلم أني سلكت به مسلك السخرية في قوله لفساده وقال لي نعم فقلت ينبغي أن يكونوا كلهم أنبياء يوحى إليهم أولهم عن آخرهم بما هم عليه من العلوم والصناعات أو يلهمون ذلك وفي هذا من بطلان الدعوى ما لا خافاء به وكان مما اعترض به أن ذكر الجزائر المنقطعة في البحار وأنه يوجد فيها النمل والحشرات وكثير من الطير وكثير من حشرات الأرض فقلت إن كان ذلك لا ينكر ذو حس دخوله في جملة رحالات المسافرين الداخلين إلى تلك البلاد فقد شاهدنا دخول الفيران في جملة الرحل كذلك وليس في ذلك ما يوجب ما ذكرت أصلاً مع أن الحيوان نوعان‏.‏

نوع متولد يخلقه الله تعالى من عفونات الأبدان وعفونات الأرض فهذا لا ينكر تولده بإحداث الله تعالى له في كل حين‏.‏

وقسم آخر متوالد قد رتب الله تعالى في بنية العالم أنه لا يخلقه إلا عن مني ذكر وأنثى فهذا هو الذي صار في تلك الجزائر عن دخول إليها بلا شك وبالله تعالى التوفيق‏.‏

وما ننكر في كل نوع ماعدا الإنسان أن يخلق الله منه أكثر من اثنين فهذا ممكن في قدرة الله تعالى ولم يأت خبر صادق بخلافه لأن الله تعالى قد قال في أمر نوح عليه السلام وسفينته حين الطوفان واحمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومع هذا فقد يمكن أن يكون نوح عليه السلام مأموراً بأن يحمل من كل زوجين اثنين ولا يمنع ذلك من بقاء بعض أنواع نبات الماء وحيوانه في غير السفينة والله أعلم وإنما نقول فيما لا يخرجه العقل إلى الوجوب والامتناع بما جاءت به النبوة فقط وبرهان آخر وهو أنه لو كان إخراج الله تعالى لكل ما في العالم من المعلوم والعلماء بها والصناعات والصانعين لها دفعة واحدة لكان ذلك بضرورة العقل وأوله لا يخلو من أحد وجهين لا ثالث لهما إما أن يكون ذلك بوحي إعلام وتوقيف منه تعالى وإما بطبع مركب فيهم يقتضي لهم ما علموا من ذلك وما صنعوا فإن كان بوحي إعلام وتوقيف فقد صحت النبوة لجميعهم إذ ليست النبوة معنى غير هذا وهذه دعوى ممن قال بهذا القول بلا دليل وما لا دليل عليه فهو باطل لا يجوز القول به لاسيما والقائلون بها منكرون للنبوة فلاح تناقض قولهم وإن كان كل ذلك عن طبيعة تقتضي لهم كونهم عالمين بالعلوم متكلمين باللغة متصرفين في الصناعات بلا تعليم ولا توقيف فهذا محال ضرورة وممتنع في العقل وفي الطبيعة إذ لو كان ذلك لوجدوا أبداً كذلك إذ الطبيعة واحدة لا تختلف وبالضرورة ندري أنه لا يوجد أحد أبداً في شيء من الأزمان ولا في مكان أصلاً يأتي بعلم من العلوم لم يعلمه إياه أحد ولا يتكلم بلغة لم يعلمه إياها أحد ولا بصناعة من الصناعات لم يوقفه عليها أحد‏.‏

وبرهان ذلك ما قدمنا قبل من أن البلاد التي ليست فيها العلوم وأكثر الصناعات كأرض الصقالبة والسودان والبوادي التي في خلال المدن ليس يوجد فيها أبداً أحد يدري شيئاً من العلوم ولا من الصناعات حتى يعلمه ذلك معلم وأنه لا ينطق أحد حتى يعلمه معلم فظهر فساد هذا القول ببرهان وقبل البرهان بتعريه من البرهان